وهذا هو ذا صاحبنا الوزير يطوي البراري والقفار، وينتقل من دار إلى دار، وها هو ذا صاحبنا الآخر، النديم، يذرع شواطئ النيل في أعاليه، ويفتش في أقاصي السودان وأدانيه. وينقضي زمن غير قليل وجميع أقطاب القصة (بما فيهم أنا التي أقرا لألخص) في مثل تيه بني إسرائيل يعمهون! وليس من سبيل يتبع في «نتائج الأحوال» سوى اشتباك القصة الصغيرة بالقصة الصغيرة، وارتباك هذه بقصة غيرها، على نحو حكايات «ألف ليلة وليلة» و«كليلة ودمنة»، وإذ كنت أنا وأصدقائي أشخاص الرواية نجوب الكتاب لنعثر بعضنا على بعض فلا نفوز بغير التطوح والتنائي، كم ذا سألت الله أن يأخذ بيدنا فيجمع شملنا ويرد لهفتنا! لا سيما الفتاة العروس بوران التي ما علمت بما جرى لخطيبها حتى طلبت الانفراد في عزلة عن الناس. وأراد والدها أن يزفها إلى ابن أخيه ليتدارك الحال ويحول مجرى أفكارها قبل الاستفحال في الجوى. ولكنها أبت، وفرت إلى حيث لا يعثر عليها! لأنها على نحو ما ينشد الشيخ سلامة حجازي في الجراموفون:
عرفت هواكم قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبا خاليا فتمكنا
وكم كان يغيظني أننا بينا نحن «أي أنا والصلاح من أهل الرواية» تعبث بنا الأقدار وتجد بنا النوى فنتقلى على مثل جمر الغضى ؛ إذ بالغاصبين الخائنين يسرحان في بغداد ويمرحان، لهما تضرب المدافع وتنتشر الألوية، ولهما تقدم الرعية فروض العبودية والإكرام!
بيد أن للأيام دورتها، وأخذت تتحول الأمور على ما يرام. فتلاقى بديا الأمير والنديم فعجلا بالذهاب إلى إيران، حيث تسوق الفتى أشواقه، فهو كعروسه. قد وقع الهوى من نفسه مكانا بعيدا. وظل في مصائبه ويأسه يلازمه خيال الفتاة التي وعدوه بها دون أن يعرفها. وكان للأمير والنديم في إيران رحلات عديدة غير موفقة. إلى أن أقبلا أخيرا على جبل شاهق فإذا هناك إشارة تركها لهما الوزير تدعوهما، فيما لو اهتديا إليها، إلى العراق مباشرة.
فعادا مباشرة إلى العراق واجتمعا بالوزير وهو في زي ناسك، ولك أن تطلق هنا العنان لمخيلتك فتتصور ما شاء لك التصور من سرور وحبور، من بكاء وإغماء، يتلوه يقظة، فسلام، فكلام يناسب المقام. وانضم إلى هؤلاء الثلاثة العبدان اللذان أبقيا على الأمير، وكان القيمان الغاصبان قد أرادا الإيقاع بهما لانكشاف فعلتهما، فأخفق الخائنان ونجا العبدان الوفيان. وكان هذا التلاقي مبعثا لمؤامرة طويلة، وقد آل كل من المتآمرين على نفسه ليصرعن الآفة بالآفة، ويفلن الحديد بحديد مثله، وآزرهم طبيب الملك، ودبر لهم الحيل، فكان الفوز حليفه في كل ما دبر. فأوفد إلى أصحابه المتآمرين عددا من الرجال، وحفروا نفقا يمتد إلى قلب المدينة ويفضي إلى خزينة الدولة! وأبى السعد إلا أن يكلل مساعيهم بالنجاح وإلا أن يهيئ لهم الأفراح والليالي الملاح، فلم شملهم بالعروس بوران! لست بواصفة لك مشهد اجتماع العاشقين السعيدين بعد طوال الفراق! حسبي أن أتمنى لك مثل هذه الساعة مع من تهوى ... وعندما آن الأوان ليثوب كل من الحبيبين إلى رشده، جاهرت الفتاة برغبتها في العودة إلى الوطن ليزفها أبوها إلى خطيبها بالأبهة اللائقة بالملوك. «لا بد لي أن أتوصل إلى بلادي بشرفي - تقول بوران: وأدخل قلعة أبي بصيانتي ثم يبعثني هو إلى هذا العزيز بالصيانة.» وكذلك كان.
وعاد الأصحاب بعدئذ إلى إتمام أعمالهم ففاجأوا البلاد بدخول الأمير منصورا وقبضوا على الخائنين. وتتابعت الحوادث والمشاهد بمثل سرعة الصور المتحركة، منها: موكب الملك، المدافع تقصف والطبول تدوي، هيجان بغداد وأفراحها، فوز الحق والصلاح وانهيار الغدر والطلاح، مجيء العروس في موكب بديع، المناداة بالممدوح خليفة وإجلاسه على «التخت»، أفراح، أنوار، أهازيج، زينات، شموس مجلوة، بدور منيرة، وفوق كل ذلك خطب وأشعار! وبات العروسان يديران كئوس المواد السكرية ويتداولان أقداح الوداد العبقرية.
وفي القصر أقيمت بالطبع حفلة «تشريفات» لمناسبة الجلوس المجيد والزفاف السعيد. فتقاطر المهنئون، وتليت رقاع التهاني، ووزعت الهدايا من العروس على أرباب الدولة. وجادت قريحة الملك فانبرى يخطب في الجموع شاعرا ناثرا، ويمتدح النوائب التي هذبته وعلمته الصبر والحكمة. وهاكم أبياتا من نظمه:
واشتاقني عزي كشوقي للمنى
مذ كنت ألقى لاعج اللوعات
نامعلوم صفحہ