بيد أن الاندفاع الأكبر جاء في عهد إسماعيل فعاد إلى معالجة مشروعات محمد علي مرسلا البعثات إلى أوروبا، موجدا المكتبة الأهلية ومتحف الآثار المصرية، حافرا الترع للري ومجملا المدن الكبيرة.
وأصدر أمرا في أواخر عهده يعلن رغبته في أن يحكم بواسطة مجلس نظار، بعد أن كان أصدر أمرا بتشكيل مجلس نواب تأخذ الحكومة رأيه فيما تسن وتحور من النظم والقوانين وكان كاهل مصر قد أثقل بالديون مما أدى إلى قبول الرقابة الأجنبية على المالية المصرية. فقام يوما ينكر على الموظفين الأوروبيين حق التدخل في شئون بلاده. فحملته الدول أثر ذلك على التنازل لولده توفيق تحت الرقابة الفرنساوية الإنجليزية فيما يتعلق بالمالية.
وقامت الثورة العرابية مطالبة - فيما طالبت به - بإلغاء الرقابة الأجنبية على المالية المصرية. وكان ما كان من احتلال إنجلترا وتفويضها إلى لورد دوفرن درس مختلف المشاريع وتنفيذها في مصر. وبعد توقف القطر عامين استطرد فيه التنظيم والتقدم بحيث تمكن القاضي المفكر قاسم أمين أن يقول في رده الفرنسوي على الدوق داركور:
إن الحرية التامة سواء في التفكر والكتابة أصبحت مباحة، وإن المصري يتمتع الآن بكل ما ضمنه الإعلان الشهير من «حقوق الإنسان» وإن الجميع يتوقون إلى العلم ويتعلمون معتبرين أن هذا هو السبيل الوحيد للنهوض. منذ ثورة عرابي انتبه الشعب المصري لمكانته وكرامته. استنار ذهنه فجعل يهتم بنظام الحكم وبالشئون العامة يقدرها ويحكم لها أو عليها. وبالجملة فإن مصر تيقظت بالفعل.
1
نشر قاسم هذا الكتاب سنة 1894. ولما توفيت عائشة بعد ثمانية أعوام كانت حركة التطور في ازدياد وقد أضيفت إليها عناصر فنية متنوعة. •••
أهي يقظة الفكر عند الأفراد تهيئ اليقظة القومية أم هي يقظة الجمهور ومطالبه والأحوال المحيطة به التي تخلق الأفراد وتحبوهم بالمواهب الضرورية ليتكلموا بصوت الجماعة؟
أظن أن التفاعل هنا محتم كما هو في كل أمر آخر. فالأفراد يخلقون الجمهور والجمهور يخلق الأفراد؛ لأن القوى البشرية محكمة الترابط فيما بينها، فإذا انتبهت إحداها تأثرت بذلك الانتباه جميع القوى وهبت متجددة نابضة ، مبدعة. كأنها الصوت الواحد يحدث هزة في مكان من الهواء فتتناقله الموجات المسارعة حتى يرن في أقطاب الفلك جميعا.
ولكن يخيل أنه قبل تنفيذ أي عمل يقتضي رسم خريطة خيالية جلية في الذهن الناضج الصافي، خريطة من الخرائط التي يسمونها المتهكمون «نظريات» وهذه النظريات التي تثني لذكرها شفاه العلميين هي من الأهمية بحيث إن الطبيعة لا تجمع عادة (وإن فعلت نادرا بشذوذ جميل) بين مقدرتي النظر والعمل في شخص واحد؛ إذ إن لكل منهما صفات تنافي صفات الأخرى. يهيئ النظريون الخرائط الذهنية، فينظر فيها سواهم بعين النقد والتمحيص مستخرجين منها ما لاءم حاجة الوقت، وينفذها آخرون فتصير شيئا محسوسا يستخدم ويخدم. كأنما هي «المثل الأفلاطونية» التي بموجب نظريتها لا تكون المحسوسات إلا انعكاس أفكار كائنة في ذهن الإله الأعظم. تلك هي حكاية التلغراف اللاسلكي التي ابتدأت مع مكسويل وهرتز وبرنلي نظريات وتعديلات علمية، فصارت مع ماركوني عاملا آليا تعنو له مجاري الجواء في نقل الأفكار. وتلك هي حكاية الغواصات التي كانت في كتب جول فرن الفرنسوي رؤى وأخيلة علمية. فبسط أديسن الأمريكاني لوزارة بحرية بلاده إمكان إنشائها في تقرير نسخه الألمان سرا، وسيروها خلال الحرب مدنا متحركة تخفر البحار وتصادر سفن الأعداء وسفن من كان لهم مواليا وظهيرا. وتلك هي حكاية الثورة الفرنساوية أعدها الكتاب والمفكرون، والثورة الروسية التي مهد لها الروائيون والشعراء سبيلا. •••
وانتحت الحياة الجديدة في مصر هذا النحو. فإنه إلى جانب التحسين الزراعي والحربي والميكانيكي والمدرسي، ظهرت حركة أخرى راودها الغموض في البدء، إنما جعلت تتسع وتنجلي مع الأيام. نشأت عن تواصل الاحتكاك بمدنية الغرب سواء بواسطة النزلاء المقيمين في هذه الديار، وبعوث الشبان العائدين من أوروبا وقد تطعمت نفوسهم بجديد النزعات وحديث الآراء، وجماعات خريجي المدارس المصرية وقد سرت إليهم عدوى الفكر العصري خلال ما تلقنوا من الدروس الأوروباوية. وقدم مصر جماعة من نوابغ السوريين وأحرارهم النازحين أثر النكبات فكان صدم أفكارهم بأفكار المصريين جزيل النفع للفريقين وللفكر العربي عموما.
نامعلوم صفحہ