فقالت وعيناها تبرقان: إليك ما أفكر فيه أيها الكائن الأكبر، آمون سيد آلهة مصر، وهو يقوم أمام رعايانا في الإمبراطورية رمزا للسلطة وربما للهزيمة، أما آتون إله الشمس فإنه يشرق في كل مكان، وبوسع أي مخلوق أن ينتمي إليه دون غضاضة!
ترى أهذا حقا ما تفكر فيه أم إنه حجة جديدة تداري بها رغبتها الحقيقية في تقليم أظافرنا؟ على أن الفكرة نفسها لم تفز بإقناعي، وقلت: مولاتي، أولئك المتوحشون يحكمون بالقوة لا بالمودة!
فقالت باسمة: وبالمودة أيضا، ما يصلح لمعاملة الوحوش لا يصلح لمعاملة الحيوان المستأنس ...
وآمنت بأنها رؤية أنثوية عقيمة، وقد تثمر عواقب وخيمة، وهذا ما أثبتته الأحداث الأليمة فيما بعد.
وسكت الكاهن الأكبر كأنما ليتأمل أو ليتذكر، ثم واصل حديثه: ومما يذكر أنه صادفتها في مطلع حياتها الزوجية متاعب، فلبثت مدة غير قصيرة لا تنجب، تعاني المخاوف من شبح العقم، ويضاعف من مخاوفها أصلها الشعبي. وبفضل آمون وكهنته، وبفضل الدعوات الصالحات والسحر القوي، حملت الملكة، ولكنها أنجبت بنتا! وكلما التقينا في القصر أو المعبد رمقتني بنظرة حذرة مترعة بسوء الظن كأنني المسئول عن سوء حظها. وما كنا نفكر في تعكير صفو العرش أبدا، ولكنها كانت قليلة الثقة في الناس لفساد طويتها.
وسكت مرة أخرى كالمتردد ثم قال: وبطريقة غامضة أنجبت ذكرين!
وتريث الرجل حتى اشتعلت تساؤلاتي الخفية، ثم قال: مات أكبرهما وأصلحهما، وبقي الآخر ليمارس شذوذه في تخريب مصر.
وقرأ الكاهن تساؤلاتي المحرقة، فقال: نحن نعرف كيف نصيد الحقيقة وإن امتنعت عن الكثيرين، لنا من السحر قوة، ولنا من العيون قوة ... فالمارق مجهول الأب، فاقد الرجولة، مؤنث الصورة، متنافر القسمات ... وعلى مثال أبيه تزوج من فتاة من الشعب، جمعت في شخصها مثل أمه بين الأصل الشعبي والطموح الجنوني والفسق، جميلة عنيدة متحدية؛ فاندفعت معه في سياسته المدمرة، وأنجبت له ست بنات من رجال آخرين. ورغم حبه الظاهر لها فلعله لم يحب في الواقع إلا أمه، أعطته الحياة والأفكار. ولشدة التصاقه بها شعر بوحدتها وآلامها، فحنق على أبيه حنقا دعاه إلى الانتقام منه بعد موته، فمحا اسمه من الآثار بحجة اقترانه باسم آمون، أما الحقيقة فهي أنه أعدمه بعد موته بعد أن عجز عن قتله في حياته. وقد لقنته أمه دين آتون الذي آمنت به لأهداف سياسية، ولكنه آمن به إيمانا حقيقيا نابذا السياسة التي لم توافق طبيعته الأنثوية، ومنه مرق إلى الكفر، وهو ما لم تتوقعه أمه نفسها. ما زلت للأسف أتذكر صورته الكريهة ... ما كان رجلا وما كان امرأة، وكان ضعيفا لحد الحقد على الأقوياء جميعا من رجال وكهنة وآلهة. وقد اخترع إلها على مثاله في الضعف والأنوثة، تصوره أبا وأما في وقت واحد، وتصور له وظيفة وحيدة هي الحب! فكانت عبادته رقصا وغناء وشرابا، وغرق في مستنقع الحماقة معرضا عن واجباته الملكية، على حين كان رجالنا المخلصون في الإمبراطورية وأحلافنا الأوفياء يتساقطون تحت ضربات العدو، يستغيثون ولا يغاثون، حتى ضاعت الإمبراطورية، وخربت مصر، وخوت المعابد، وجاع الناس. هذا هو المارق الذي سمى نفسه إخناتون!
وصمت الكاهن الأكبر تحت وطأة الانفعال وحدة الذكريات، ثم شبك أصابع يديه في قبضة واحدة، وراح يقول: ومنذ نشأته الأولى جاءتني الأخبار عنه بلسان رجال لي في القصر ممن نذروا أنفسهم لآمون والوطن، وعنهم عرفت أن ولي العهد ينجذب نحو آتون ويهمل آمون، وأنه رغم حداثة سنه يلوذ بخلوة على شاطئ النيل يستقبل فيها الشروق بالأغاني. أدركت لتوي أنه صبي غريب ينذر بالمتاعب. وسعيت إلى مقابلة العرش، وأفضيت هناك للملك والملكة بمخاوفي. وابتسم أمنحتب الثالث وقال: ما زال ابني طفلا.
فقلت: ولكن الطفل يكبر ويحتفظ في أعماقه بأفكار طفولته.
نامعلوم صفحہ