العدل الإلهی اور اس کا اثر مخلوقات میں
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات
اصناف
مقدمة
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات؟
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات
اعتراضات وتأملات
أين السعادة؟
في الروح
الخير والشر
حقائق الأشياء
الأرض بالنسبة للوجود الكلي
حول الكون
نامعلوم صفحہ
عظمة الكون (1)
في السدم
في المجرة
النجوم
مسألة الأرواح
في العالم
عظمة الكون (2)
فضل العرب على الغرب
فيما بعد الطبيعة (1)
فيما بعد الطبيعة (2)
نامعلوم صفحہ
في الأرواح
المذهب الروحاني (1)
المذهب الروحاني (2)
من العالم غير المنظور
خاتمة
مقدمة
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات؟
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات
اعتراضات وتأملات
أين السعادة؟
نامعلوم صفحہ
في الروح
الخير والشر
حقائق الأشياء
الأرض بالنسبة للوجود الكلي
حول الكون
عظمة الكون (1)
في السدم
في المجرة
النجوم
مسألة الأرواح
نامعلوم صفحہ
في العالم
عظمة الكون (2)
فضل العرب على الغرب
فيما بعد الطبيعة (1)
فيما بعد الطبيعة (2)
في الأرواح
المذهب الروحاني (1)
المذهب الروحاني (2)
من العالم غير المنظور
خاتمة
نامعلوم صفحہ
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات
تأليف
حسن حسين
مقدمة
ما كل ما يعرف يقال، ولا كل ما يقال جاء أوانه، ولا كل ما جاء أوانه حضر أهله.
الإمام علي
ليس في العالم شيء هو خير بذاته، ولا شيء هو شر بذاته، بل بالوضع، وقد ينقلب الخير شرا والشر خيرا، فلا تكون هنالك حقيقته.
أرسطو )
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ( (قرآن كريم)
نامعلوم صفحہ
مثل هذا الوجود - كما يتصوره الملاحدة والماديون - أصحاب الرأي القائل: «إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع.» كمثل كتاب نفيس لمؤلف عبقري جليل، قدم له بمقدمة غاية في الإبداع والإمتاع، فإذا ما قرأتها وفرغت منها، ثم حاولت الاستئناس بما في الكتاب من قيم الفكر وصائب الآراء؛ لم تجد شيئا، أجل لو كانت الحياة تنتهي بإبدال ظلمة الرمس، بنور الشمس، وتنقضي بانقضاء مرحلة الشقاء التي يقضيها المخلوق على هذه الأرض جبرا، فلا رأي له ولا اختيار في وجوده وحياته وأجله ورزقه، لو كانت هذه هي كل ما من أجله نظم هذا الكون بهذا النظام البديع، حتى أصبح وليس في الإمكان أبدع مما كان، إذن لكان هذا الوجود - على ما يتصوره هؤلاء القوم - ليس مساغا ولا معقولا، وإذن لاستعصى على الأفهام أن تسيغه، وعلى العقول أن تستمرئه، فكان هباء في هباء.
البله - بله العلماء - لا يقدمون على إذاعة مصنف، ونشر مؤلف، في الناس، كله مقدمة بلا نتيجة، إذن فالمفهوم والمعقول أن تكون النتيجة لا على قدر المقدمة فحسب، بل أهم وأعظم، وإذن فما نراه، وما نسمع به، وما يقع عليه نظرنا في هذا الوجود العجيب المدهش - إذن فكل ذلك - ليس شيئا مذكورا إلى جانب النتيجة وهي كل ما في الموضوع، وإذن فالذي يصح في الأفهام أن تكون هناك حياة أرقى وأعظم وأهم وأبقى من هذه الحياة الدنيا.
وإذا كانت العلل لوغارتمات المعلولات، وكان كل ما في المصنوع من إقناع، وإبداع، وإتقان وتفوق - إنما يدل على ما في الصانع من حكمة وتفوق ومقدرة وعلم - كان لا بد لهذا الوجود العظيم، المنظم المتقن، من صانع حكيم عليم يفوق عقول البشر ومقدراتهم فئوقا لا حد له.
إثبات وجود الله
وما نحن بقادرين على أن نبلغ غاية نشداننا في هذا الموضوع - وإنما نحن نحاول محاولة أن نقرب إلى أفهام بعض الراغبين - صورة قد يأنسون لها، وينتفعون بها، في جدلهم وردهم على المبطلين، نقول: وإنه ليستحيل على المرء إدراك «الذات» الإلهية بعقله الضعيف الكليل الذي غره، فصار يزعم أنه يهيمن به على كل ما في الوجود، وعتا عتوا كبيرا.
والحق: أننا بحاجة إلى حاسة أخرى ليست لنا الآن، ولا نبلغها إلا بعد أن يبلغ روحنا درجة النقاء من غواشي المادة، وما علق بها من خلق وصفات مكتسبة.
نقول: وإنما نحن نستطيع أن نستدل على صفات ضرورية في الله - جل شأنه - من مقدمة برهان وجود - الواجب الوجود - مطلقا، ويجب أن تكون هذه الصفات القدسية أو الكمالات محور الدائرة في كل دين من الأديان.
اعرف نفسك بنفسك.
جملة سطرت على هيكل دلفيس، فلاكتها ألسنة حكماء اليونان قديما، فهل عرفنا أنفسنا؟ ومن عرف نفسه فقد عرف كل شيء.
وماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟
نامعلوم صفحہ
هذا ما يقوله الإنجيل، ونحن نقبل على كل شيء، ونلهو بذلك عن أنفسنا، فنضيع كل شيء. )
وفي أنفسكم أفلا تبصرون (
الآية القرآنية الشريفة، ولكننا لم نفكر في أنفسنا، ولا نزعنا إلى تعرف ما في خلقنا من غرائب وعجائب، أنا لا أريد تدليلا، ولا أبغي برهنة على وجود «الواجب الوجود» ولكني أدل الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر على طريقة سهلة نافعة قد تؤدي بهم إلى الإيمان من غير عناء ولا كد.
اندمج في حسك، وأنس إلى نفسك، بعيدا عن كل ضوضاء أو خيلاء، في وحدة وسكون، هناك وأنت منسجم مستسلم تشعر بميل غريزي يجتذبك نحو الحق، وتحس بأنه يحقق لك وجوده دون حاجة إلى تدليل أو برهنة.
أمثال نضربها (1) هبك سائرا في صحراء قحلاء، فصادفت ساعة منمقة مضبوطة تعينك على معرفة الوقت وضبط مواعيدك، ألا تستدل من وجود الساعة على أنه لا بد أن يكون قد مر بهذه الصحراء إنسان من غير سكانها وأنه متمدين؟ ألا تحكم على التو بأن هذه الساعة من صنع صانع لم تره ولم تعرفه، وأن هذا الصانع عاقل ومدبر وذو دراية بصنعته؟! (2) إذا رأيت طائرا يحلق في الجو أصابته رمية فجندلته وألقته صريعا وهو على حاله هذه، ألا تحكم للحال بأنه لا بد أن يكون هناك صياد ماهر عاقل ذو قدرة وعلم، ألا تحكم بكل هذا ولو لم تر ذلك الصياد؟! (3) إذا رأيت آلة بديعة الصنع، متقنة محكمة غاية في الإبداع، هل يقع بخاطرك وأنت تراها على هذه الصورة أنها إنما صنعت مصادفة، وأبدعتها الظروف الطارئة؟! (4) إذا آنست طرفة صناعية بديعة الصنع متقنة الوضع، ألا تحكم على التو بأنها لم تكن هكذا إلا بصنع صانع، وأن هذا الصانع عالم وحكيم وماهر في صنعته؟!
إنهم يستدلون على وجود الإنسان من وجود أعماله، ولقد استدل العلماء أصحاب التاريخ البشري على وجود الإنسان الغابر - السابق للطوفان العام - من وجود مصنوعات غليظة استكشفوها في طبقات الأرض الخاصة بذلك العهد؛ كحطمة من إناء خزفي، أو حجارة منحوتة، أو سلاح من حجر.
وما بنا من حاجة إلى الاستزادة من ضرب الأمثال، وهذه الطبيعة حولنا ناطقة بوجود القدير الحكيم المتعال. انظر إلى ما في هذه الطبيعة من إتقان وإبداع، وحسن وإحكام، ونظام وتدبير، ثم احكم بعد ذلك مجردا عن هوى الشيطان وزيغ القلب.
على حين أننا لا نزال خاضعين لناموس النمو والارتقاء، ولا نزال في حالة انحطاط عقلي وأدبي، إذن فليس يمكننا ونحن في هذه الحالة أن ندرك عدم تناهي المولى جل وعلا، ولقد تصوروه كائنا محدودا، وتمثلوه بأشباه تعالى الله عما يصفون علوا كبيرا.
ومن الناس من يجادل بالباطل في عدل المولى )
وكان الإنسان أكثر شيء جدلا (
نامعلوم صفحہ
قالوا: إذا كان الله عادلا فلماذا هذا التناحر القائم ليل نهار بين الوحوش في الفيافي؟
نقول: والرأي السائد أن هذا الناموس الطبيعي يظهر بادي الرأي أنه مناف لجوده وعدله سبحانه وتعالى، وإنما يعتقد الإتلاف المذكور نقصا أولئك الذين يعيشون في جلودهم، فلا ترتفع أبصارهم إلى ما فوقهم، ولا تقوى شاعرياتهم على الوصول إلى الحقائق، ولا عقولهم على إدراك الحقيقة، أولئك الذين يقيسون كمالات الله - جل وعلا - على قدود أفهامهم ومستوى مداركهم، وما فيهم من ماهية إدراكية، وكان فوت أفهامهم أنهم إنما يزعمون الخلل والنقص في عين الحكمة، وما دروا كيف يمكن لخير حقيقي أن ينتج من شر ظاهر، ولو أنهم ولوا وجوههم شطر المظهر الروحي، ووحدة نظام الكون؛ لزال من أنفسهم هذا الوهم، أو انتفى الشك، وتحققوا أنه الصواب في ما ظنوه نقصا وشذوذا، وأن الحياة الجسدية إن هي إلا كساء وقتي، أما الحياة الحقة الصحيحة - في الحيوان والإنسان - فهي في العنصر الروحي.
بين مذهبين
لا نبالغ إذا قلنا إننا نعيش في عصر المادة، وقد ملك المذهب المادي على الناس جماع حواسهم ومشاعرهم، فصاروا ماديين في كل شيء، في كل مظهر من مظاهر حياتهم، لا يهتمون إلا بالمادة، ولا يأنسون إلا لها، ولا يفكرون إلا فيها، فانتصر المذهب المادي على المذهب الأدبي، ولكن إلى حين، أما المذهب الروحاني فالرأي عندنا أنه مذهب المستقبل، ولقد مل الناس هذه المادية بعد أن قطعوا فيها من عامة عمرهم شطرا كبيرا، وما في هذا المذهب (المادي) من فضل إلا في تكييف وتسهيل سبل الحياة الدنيا، وحسبنا أن نعلم أن النهليست والفوضويين والشيوعيين، حسبنا أن نعلم أن هؤلاء - وهم أخطر ما يكونون على المجتمع الإنساني وأضر ما ظهر على الإنسانية - من الذين ارتشفوا المادية البحتة، هنالك يحق لنا أن نمقت الاندماج في المادة بكل حواسنا، وهنالك يحق لنا أن نعمل على إحياء المذهب الروحاني وقد أذن مؤذن البشرى، ودقت ساعة الانتعاش، وبدأ نجم هذا المذهب في الظهور، بعد أن اعتنقه كثيرون، وأقبل عليه عظماء جليلون من عمد العلم وزعماء الفلسفة، وأقطاب المذهب المادي، وحسبك أن تعلم أن أمثال: إديسون المخترع الأمريكي الأشهر، وأولفر لودج رئيس المجمع العلمي البريطاني وأكبر مظهر في جو العلم وزعيم في حلبة المادة، ووليم جيمس ومكانته مكانته في العلم الحديث، وكونان دويل، وستيد، وأمثال هؤلاء النوابغ؛ قد هجروا المادية بعد أن عافوها واعتنقوا «المذهب الروحاني» وعالجوا كثيرا من موضوعاته عمليا. •••
من منا يستطيع أن يقف حركة تفكيره والناس مفطورون على التفكير، شغفون بتعرف ما خفي وعمي عليهم، كلفون بالنظر في ماضيهم ومستقبلهم، فأول ما يهم الإنسان التفكير فيه هو أن يعرف ويسأل نفسه في: من هو؟ من أين أتى؟ إلى أين هو ذاهب؟ وما هي الغاية من وجوده في هذا العالم؟
ولما لم يأنس الإنسان في نفسه قدرة على تعرف الصواب من هذه الأمور ولى وجهه شطر العالم غير المنظور، فعالج مسائل المذهب الروحاني وانتفع بها: انظر كيف قصد شاوول الملك إلى عرافة عين دور، ثم طلب إليها أن تستحضر له روح صموئيل، فحضر روح صموئيل، واستطلع منه نتائج الحرب كما جاء في التوراة.
إن كثيرا من اليهود كانوا يتناقلون تعليما سريا يدعى القبالة، موضوعه مناجاة الأرواح، ولم يكونوا يقبلون في شركتهم إلا من قيد نفسه بالأيمان المغلظة على الأمانة وحفظ السر، وهاك ما جاء في التلمود بهذا المعنى: كل من تعلم هذا السر «استنباء الأرواح» وحرص على كتمانه في قلب نقي؛ يحظى بمحبة الله، ومودة البشر، ويكون اسمه مبجلا، وعلمه لا يشوبه النسيان، ويكون وريثا للعالمين رأي الحاضر والعتيد.
وأنت تعلم من تتبع سير الأقدمين أن الشعوب جميعها كانت تؤمن قديما بإمكان مخاطبة الأرواح، وإنما كانت طائفة معينة في كل أمة، وبين كل جيل من الخلق تحتكر هذا الموضوع، وتجعله سرا مكتوما، وتخفيه على الكافة من الشعب.
ولقد يحدثنا التاريخ أن كهنة الهنود كانوا يعالجون تعويد بعض أناس على استحضار الأرواح، وعلى معالجة حوادث أخرى مدهشة بالمغناطيسية الحيوية، على أن هذا السر - سر استحضار الأرواح - لم يكن يعلمه إلا من قضى أربعين سنة في التجربة والطاعة العمياء، أما المتمرنون فكانوا على ثلاث طبقات: (1) البراهمة: ووظيفتهم العناية بالطقوس الخارجية، وخدمة هياكل الأصنام، وإرشاد الشعب وتعليمه. (2) هم المقسمون والعرافون، ومستحضرو الأرواح: ووظيفتهم الإبهام على عقول الشعب بحوادث خارقة، وكانوا يقرءون ويفسرون كتاب «الإطار فافيدا». (3) هم البراهمة المتقدمون المعتزلون عن الشعب: وكانوا يعالجون دراسة قوى الكون والعلل الطبيعية، ولم يكونوا يظهرون خارج الصوامع إلا نادرا وبهيئة مخوفة.
وكذا أجمع المؤرخون على أن كهنة المصريين كانوا يأتون أعمالا خارقة للعادة، منها تلك الأشياء التي تحدثنا عنها التوراة في سحرة فرعون.
نامعلوم صفحہ
أما سيدنا موسى - عليه السلام - فقد نهى قومه عن ممارسة استحضار الأرواح؛ حيث جاء في سفر التثنية:
لا يستعملن أحد منكم السحر والرفاء، ولا يستحضرن الأموات لاستطلاع الحقيقة.
ولا يزال النزاع قائما بين الروحيين والماديين في مسألة وجود نفس مدركة عاقلة في الإنسان، فأصحاب الدين يقولون بالروح، وهي مصدر الذات العاقلة، والماديون يكفرون بذلك، ويقولون بأن الدماغ مصدر القوى العاقلة في الإنسان، وأن نسبة الدماغ للفكر كنسبة البول للكلى، أو الصفراء للكبد، فهم يجحدون كل ما هو غير «هيولاني»؛ أي كل ما هو غير مادي، ويقولون بأن الإنسان إن هو إلا آلة مادية، تتلاعب به التأثيرات الخارجية، حتى إذا جاء أجله انطفأ نور الفكر، وانعدم كل شيء.
نقول: «فإذا نظرنا إلى ما جاءنا به العلم سيما علم الفزيولجية على لسان علمائه الطبيعيين؛ نجد أنهم يقولون بأن كل حركة تصدر من إنسان أو حيوان إنما يصحبها احتراق جزء من المادة العضلية، وكل فعل من الحس أو الإرادة ينشأ عنه فناء في الأعصاب، وكذا كل تفكير ينشأ عنه إتلاف في الدماغ، ومعنى هذا أنه ليس يمكن أبدا لذرة واحدة من المادة أن تصلح مرتين للحياة، فإذا ما بدأ عمل عقلي أو عضلي فالجزء من المادة الحية الذي يصرف لصدور هذا إنما ينعدم تماما، فإذا عاد العمل وتكرر فمادة جديدة تصلح لصدوره ثانية، وكذلك دواليك، والقاعدة أن النسبة محفوظة في الإتلاف، أي إنه كلما اشتد ظهور الحياة ازداد تلف المادة الحية، وإنما المادة المستجدة الداخلة في الدم بواسطة الهواء والمواد الغذائية تعوض من هذا التلف باستمرار، وإنما يرتبط هذان العاملان الواحد بالآخر، فعامل الإتلاف وعامل التجديد يتصل الواحد بالآخر في الكائن الحي، وعامل التجديد سري خفي، أما عامل الإتلاف فيبدو للعيان، والحاصل من هذا عند العقل أن جسمنا يتجدد مرات كثيرة في مرحلة الحياة.
يقول الماديون: إن الذاكرة عبارة عن اهتزازات فسفورية، تتخزن في القلية العصبية من الدماغ بعد أن تصل إليها التأثيرات الخارجية، فإن صح ذلك، وإذا تقرر أن كل ما فينا من قلالي عصبية، وأنسجة عضلية، وعظام تنعدم وتتجدد في فترة معلومة لا تزيد على السبع السنين؛ لاقتضى لقوة الذاكرة أن تنقص فينا بالتدريج إلى أن تتلاشى في سبع سنين، وأن نضطر في كل سبع سنين إلى تجديد كل ما تعلمناه سابقا، على أنا نشعر بأن الأمر على العكس؛ ذلك بأن تيار المادة المتجددة فينا لم يحدث أقل تغيير في ذاكرتنا، وأنا في إبان الهرم نذكر أمورا وقعت في حداثتنا، وعليه فالواقع ينطق بأنه برغم استبدال ذرات كياننا، فإن كل ما فينا يؤيد ثبات شخصيتنا، وهو ما يدل على أن هناك غير «الهيولي» نفسا أو روحا، يقيها جوهرها اللطيف من كل ما يطرأ من تحول أو تقلب ينتاب المادة، على حين أن هذا لا يمنع من انطباع صور الحوادث والذكريات فيها وكذا المعارف والعلوم انطباعا يدوم زمانا طويلا، وهو عمل القدرة الإلهية.»
أولم يروا إلى التنويم المغنطيسي، ويشاهدوا كيف يكون اتصال النفس بالجسد؟ وكيف تقوم بأعمال غريبة مدهشة؟ وكيف تظهر في النفس قدرات تخفى في غير هذا الموقف؟ إنهم إن لم يؤمنوا بما أظهرتهم عليه الطبيعة أمهم كانوا من الضالين المتعنتين، ومعلوم أن مرجع الانفعالات والتأثيرات الدماغ، ومعلوم أن الانفعالات والتأثيرات الخارجية تهتز الألياف الدقيقة التي تحمل هذه التأثيرات إلى المجموع العصبي؛ لينقذها ويجري حكمه فيها، ومعلوم أن الأعصاب قد اختصت كل منها بوظيفة خاصة تقوم بها، فلا أعصاب السمع تؤثر في أعصاب البصر، ولا هذه تؤثر في غيرها، وإنما يقوم كل عصب بما خلق له. ونحن إذا بحثنا مثلا حاسة البصر نجد أن الحركة التموجية في الأثير - بتأثيرها في شبكة العين - تحدث في العصب البصري اهتزازا، ونجد أن هذا الاهتزاز يمتد إلى الطبقة البصرية المستقرة في وسط الدماغ، قال: ومن هنا يندفع إلى مركز الحواس، حيث ينتشر في القلالي الدقيقة، ويوقظ العناصر التي وظيفتها نقل التأثيرات البصرية. إذن فكل هذه التأثيرات الحسية تتفرق ثم تجتمع في مكان خاص من الدماغ، وقد أثبت التشريح وجود أماكن معينة في الدماغ لتجمع وتكييف هذه التأثيرات، ولقد أثبت العلماء الفزيولوجيون بالتجربة أنهم إذا قطعوا من المادة المخية قطعة أصولية؛ يفقد الحيوان قوة إدراك التأثيرات السمعية أو البصرية.
فإذا سألت أحد الماديين: كيف تتحول هذه الحركات الاهتزازية بعد وصولها إلى مراكزها النسبية من الدماغ إلى أفكار فهمية؟ قال: إنها حينما تبلغ القلالي الحسية يحدث فيها من رد الفعل ما يحدث في قلالي النخاع الشوكي.
قال: وهذا يحدث في ضفدعة قطع رأسها، ومع ذلك تتشنج رجلها لدى مسيسها بحامض مهيج، قال: فالأمر نفسه يحدث في مؤثرات القلالي الحسية من الدماغ؛ أي إن القلية القشرية عندما يبلغها الاهتزاز الخارجي تنتبه، وتفزع القوة الكامنة فيها، وتمتد الحركة حتى تبلغ القلالي الغليظة، وهذه تنقلها إلى المادة الرمادية ذات الأخاديد فيها من الدماغ التي تقوي الاهتزازات، وتدفعها إلى الأعضاء على شكل تأثير أو أمر أو محرك.
إنا نسلم مع ناكري النفس بكيفية مجرى الحس المعبر عنه بالاهتزاز العصبي، بيد أن هؤلاء فاتهم أمر خطير بين بلوغ الحادثات إلى الدماغ ورد الفعل، هو حادث الإدراك، أي دراية الشخصية الإنسانية بما حدث من الأمور الخارجية، ذلك أن الاهتزازات والتهيجات العصبية إن هي إلا حركات مادية، تولد حركاتها مثلها ولكنها لا تحدث إدراكا، وما نتيجتها سوى تنبيه القوة العاقلة لإدراك مصدر هذا التنبيه وعلته وغايته.
قال: إن القلية العصبية المركبة من كميات متناسبة من الكوليسترين والماء والفوسفور وحامض الأوميك إلخ ... ليست بذاتها قوة مدركة، والحركة الاهتزازية هي بذاتها حركة مادية محضة، فكيف يعقل أن اهتزاز هذه القلية العصبية وانتصابها يولد إدراكا؟ وهنا ما يعجز الماديون عن تبيانه، أما الروحيون فيعلموننا وجود شخصية عاقلة فينا تسمى نفسا، تنتبه بهذا الاهتزاز إلى ما طرأ من الحوادث الخارجية، وعندما يتم انتباهها هذا يحدث الإدراك.
نامعلوم صفحہ
قال: ويؤيد هذا بأجلى بيان حادث الذهول ... مثلا عندما نكون مستغرقين داخل حجرتنا في أي عمل من الأعمال، إنا نغفل عن تكتكة الساعة، بل عن طرق ناقوسها أيضا، مع أن اهتزازات الصوت أثرت في عصب سمعنا، وبلغت حتى الدماغ دون أن ننتبه لها، وما ذلك إلا لأن نفسنا المشتغلة بأفكار أخرى لم تنتبه، ولا أثرت فيها اهتزازات القلالي الدماغية، فلم يحصل الإدراك السمعي، والحاصل أن المادة ذاتها عديمة الاختيار لا تولد شيئا من نفسها، والمادة الدماغية آلة لتبيان إحساسات النفس العاقلة وأفكارها، فلا تعقل لما تصدر بواسطتها من التعبيرات الفكرية، كما أن آلة الساعة مثلا لا تدرك حركة الأوقات التي تشير إليها، ولا قراطيس الكتاب الأفكار المسطرة عليها، ومن زعم أن الدماغ يدرك الفكر كمن يزعم أن الساعة تدرك حركة الوقت، والقرطاس معاني الكتابة.
وما لنا نعنت أنفسنا ونكد عقولنا في نقد المذهب المادي، ونقض ما قام عليه من أسس، ولدينا من آراء فحول المادية، ومشهوري الطبيعيين ما يغنينا عن ذلك، ويبين للملأ أن قدرة الخالق ظاهرة في كل الموجودات، وينطق بعظمتها وحكمتها حتى أصحاب الجحود ممن عاشوا في جلودهم، وعبروا عامة عمرهم بين معامل الكيمياء لا يخنعون إلا للظاهر المحسوس، ولا هم يؤمنون إلا بما هو طبيعي ذو أثر بين.
وإنا موردون طائفة من هذه الآراء يستعرضها القارئ الكريم؛ ليجري من بعد ذلك حكمه غير خاضع لمؤثر، أو متنكب سبيل الصواب، وهاك هي:
الأستاذ ميلن:
في جامعة السربون يقول إن الحيوان المسمى إكسيلوكوب من المحيرات للفكر، قال: إن هذا الحيوان يرى طائرا في الربيع، ويعيش منفردا، ويموت بعد أن يبيض مباشرة، فلا يرى صغاره، ويعيش في مكان محكم، حتى إذا حان وقت البيض عمدت الأنثى إلى قطعة من الخشب فحفرت فيها سردابا طويلا، ثم عمرته بذخيرة تكفي صغارها سنة كاملة، وهي طلع الأزهار، وبعض الأوراق السكرية، وتأتي بنشارة الخشب تجعلها سقفا على تلك البيضة، ثم تجيء بذخيرة جديدة تضعها فوق ذلك السقف، ثم تضع بيضة أخرى، وهكذا فتبني بيتها مكونا من جملة أدوار، فإذا تم لها ذلك، ودعته وهلكت، قال الأستاذ: إن الإنسان ليدهش إذ يرى هذه العجائب، ويرى من الناس من لا يزال يقول: إنها كلها نتيجة المصادفة.
باستور:
صاحب التجاريب في الاختمار، سأله سائل: كيف يا دكتور نستطيع أن نوفق بين استكشافاتك العلمية والتعاليم الدينية؟ فأجابه قائلا: اعلم بأن دروسي بدلا من أن تزعزع اعتقادي جعلتني في إيماني كالفلاح البريطاني (وهو مثل فرنسي يضرب لشدة الاستمساك).
هارفي:
مستكشف دوران الدم في البدن قال ما شرحت حيوانا إلا رأيت فيه شيئا جديدا يدل على العناية الإلهية.
الأستاذ جولييه:
نامعلوم صفحہ
يقول إن مذهب لامارك ومذهب دروين يستويان في القصور؛ فإنهما لا يفسران إلا التحول من الحياة المائية إلى الحياة الأرضية، ولا التحول من هذه إلى الهوائية، قال: فكيف استطاع الحيوان الزاحف - وهو سلف العصفور - أن يناسب البيئة التي ليست ولا يمكن أن تكون له إلا بعد أن يتحول من صورة حيوان زاحف إلى صورة عصفور؟ وكيف يستطيع أن تكون له حياة هوائية قبل أن تكون له أجنحة نافعة؟ أما مسألة الحشرة فإنها أشد استحالة من ذلك، فهل هناك أية علاقة من جهة علم الحياة بين الدودة وبين الحشرة الكاملة التي تنقلب إليها؟ لأن الحشرة التي اعتادت الحياة الدودية تحت الأرض وفي الماء، فكيف تصل شيئا فشيئا إلى إيجاد أجنحة لجسمها تصلح لحياة هوائية بعيدة عنها بل مجهولة لها؟!
نيوتن:
دحض آراء الماديين في أربع رسائل كتبها، ثم بعث بها إلى الدكتور «تنبلي».
فون باير:
من أقطاب الفيزيولوجية ومؤسس علم الأجنة قال: إن الرأي القائل بأن النوع الإنساني متولد من القردة السيمائية هو - بلا شك - أدخل رأي في الجنون قاله رجل على تاريخ الإنسان.
دوفري:
يقول إن التحولات الفجائية هي القاعدة في عالمي الحيوان والنبات، وقد أعلن هذه الحقيقة «جوفر» و«سان هيلر» و«كوب» وثبت أن الظهور الفجائي للأنواع الكبيرة الرئيسية كالزواحف والطيور، وذوات الثدي؛ كان في الأرض الجيولوجية، ومتى ظهرت حصلت على صفاتها.
هكسلي:
يعترف في كتابه «داروينا» بأنه يستحيل نقض الألوهية بحسب مذهب الارتقاء، ويقول في مقال آخر: إن من ينكر وجود الإله كما تصوره «سبينوزا» لأحمق، وهو يعترف أخيرا بالقوة الفاعلة القادرة.
دكتور جوستاف جوليه:
نامعلوم صفحہ
يقول يكفي لإبطال النظريات الدروينية أن يتأمل الإنسان الحشرة؛ فإنها ظهرت في أقدم عصور الحياة الأرضية، وثبتت أنواعها في جميع الأحوال، فهي تناقض ما ذهبوا إليه من التحولات المستمرة البطيئة، وتناقض التطور بفعل الفواعل الخارجية، فإنها تنقلب داخل الشرنقة من حال الدودية إلى حشرة طائرة، ولا تأثير عليها من الخارج، كما أن الهوة عميقة بين الحال الأولى - وهي الدودية - والحال الثانية وهي حال الحشرة، وهي هوة تضيع فيها - ولا كرامة - جميع النظريات الدارونية واللامركية، فالحشرة أدت شهادة حسية لبطلان مذهب دروين، كما أثبت عجزه في تفسير غرائزها الأولية العجيبة المحيرة للعقل.
ولاس:
شيخ علماء الطبيعة، وشريك دروين في كتابه عالم الأحياء يقول: إن وجود هذه الأحياء يستلزم وجود قوة مرشدة مدبرة، فيستلزم وجود قوة خالقة، أوجدت المادة على أسلوب يجعل حصول هذه التنوعات من الممكنات ، وثانيا وجود عقل مرشد؛ لأنه لا بد من الإرشاد في كل درجة من درجات النشوء، وثالثا لا بد لهذه القوة الخالقة من غاية ترمي إليها فيما خلقته ودبرته في هذا الكون الوسيع، طوال هذه العصور الجيولوجية الغابرة والحاضرة، وعندي أن هذه الغاية هي الإنسان، هو المخلوق الذي يفهم شيئا من نواميس الطبيعة، ويستقصي أفعالها، ويدرك قيمة القوى التي فيها، ويستنتج منها وجود العقل المتسلط عليها.
دوكلتر فاج:
يقول إن القرابة في التاريخ الطبيعي للإنسان من القردة طبيعية، أن الإنسان في العهد الحفري الرابع وجد مشابها لنا في الصورة (مع أنه كان يجب أن يكون أقرب إلى أسلافه القردة) ثم قال: إننا لا نستطيع أن نعتبر ولادة الإنسان من القرد - أو من أي حيوان آخر - من الأمور العلمية.
جسندي:
سنة 1592 قال: ليس عندي شك في أن الله خلق العالم، إلا أنه لا بأس من معرفة كيف كان يمكن العالم أن يتكون من نفسه.
لامارك:
يسلم بوجود الله، وينسب إليه وجود الهيولي المركب منها الكون، ولكنه يقول: إنه تعالى بعد أن خلق الهيولي بخصائصها لم يفعل شيئا، وإن الحياة والأجسام الإلهية والعقل كلها نتائج الهيولي، ونتائج قواها، فهذا الرجل لا يخالف أهل الدين في وجود الخالق، بل يخالفهم في كيفية الخلق، والرأي عندي أن مذهبه هذا يتفق مع بعض المتكلمين من أهل المذاهب، ويسير مع القدرية أو المعتزلة الذين يقولون: إن الخالق وضع للكون نظاما تنطبق أصوله على مصالح المخلوقين في أفعالهم، قوى وقدرا، تصدر عنها آثارها بطريق التوليد والسببية، أو بطريق الإرادة والاختيار، وهم من هذه الناحية لا يخالفون الفلاسفة في قولهم بلزوم الآثار لمصادرها، أو تأثير قدرة المخلوقين في أفعالهم، باق منهم إلى اليوم طائفة الشيعة الإمامية الزيدية.
سبنسر:
نامعلوم صفحہ
سائلا نفسه: ما هي القوة التي يتحتم بقاؤها؟ أهي القوة التي تؤثر في عضلاتنا، والتي تشعر بها حواسنا؟ كلا بل هي تلك القوة المطلقة المجهولة المستقرة وراء الصور والمشاهدات، ونحن مع عدم إمكاننا أن ندركها فإننا نتأكد من أنها أبدية، لم تتغير ولن تتغير، كل شيء زائل أما هي فباقية أبد الآبدين، وهي علة العلل.
ولقد سئل عالم فيلسوف مؤمن:
ما قولك في مذهب دروين، وماذا نصنع معه؟ فقال: إذا كان من يصنع ساعة يعد عظيما، فالذي يصنع ساعة تصنع ساعة يعد أعظم.
تمحل الأستاذ الزرقاوي لموضوع «العدل الإلهي» فنشر في «جريدة الأهرام» سؤالا عاما وجهه إلى كل من يهمه هذا الأمر، ولما كان هذا السؤال كالزلاقة التي ينحدر عليها كل متورط، وكان أخطر الخطر أن يلقي في روع الناس مثل هذه الريب والشكوك؛ لذلك آثرت الرد على الأستاذ في تريث وهوادة، عسى أن أصل إلى ما ينقع غلة، أو يشفي علة، فنشرت رسائل في «الأهرام» ردا على هذا السؤال، هي بعض هذا الكتاب، وهي جماع آراء وعنعنة أفكار، أكثرها لغيري، وأقلها لي، وفقنا الله وهدانا إلى ما فيه الخير والبر.
وهاك سؤال الأستاذ ...
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات؟
صورة السؤال الذي نشره الأستاذ الزرقاوي
ألا يرى الباحثون من العلماء والمفكرين أن العدل الإلهي يقضي بأن يكون الناس سواء في السعادة والشقاء؛ أي لا يوجد فارق بين المخلوقات العاقلة بأن تكون المماثلة بين أفراد هذه الأحياء العاقلة على أتمها في التغييرات التي تتعاقب عليها من صحة وسقم، وعلم وجهل، وغنى وفقر، وما أشبه ذلك مما يسمونه سعادة أو شقاء؟
إن الله قادر عادل، ظهرت قدرته في صنعته الباهرة، وتجلى عدله في نظام الكون البديع، وإن العدل الإلهي لمن أبين صفات الله تعالى القدسية، التي ثبتت بالأدلة التفصيلية اليقينية، وإن آثار تلك الصفات لواضحة في جميع الكائنات. فأين هو أثر تلك الصفة العظيمة - صفة العدل - في المخلوقات العاقلة؟ أين أثرها في هذه المخلوقات وقد جعلها الله فريقين؛ فريقا شقيا وآخر سعيدا، جعل الله زيدا ملكا ولم يجعل عمرا كذلك، وأعطى بكرا سعة وحرم خالدا منها، وجعل خالدا أهنأ بالا من هذا الفلاح الذي يكد ويشقى في حرثه وزرعه، ولا ينتج ما يقوم بحاجته من سداد أو عوز، وهو - أي الفلاح - مع ذلك أرغد عيشا من المتسول الذي يمد يده للسؤال، وإن هذا المتسول الصحيح الجسم لأحسن حالا من الأعمى المقعد الذي يستجدي الناس في قارعة الطريق وحر الهجير وبرد الزمهرير، ولم ينل من نصيبه إلا الإيذاء والاستهزاء؟ لماذا سلب نعمة العقل من البعض وأنعم بها على الكثيرين ممن اصطفاهم؟ ولماذا جعل هذا عالما يملأ طباق الأرض علما، أو فيلسوفا يرد الأشياء إلى حقائقها، وجعل الآخر جاهلا لا يعرف الأرض وما طحاها، أو أحمق يزج بنفسه إلى حيث الموارد المهلكة؟ لماذا كل هذا التفاوت في المخلوقات العاقلة وهي صنعة واحدة والصانع واحد، ومن صفاته القدسية الحكمة والعقل؟
ستقولون إنه سبحانه وتعالى - جل اسمه وتقدست ذاته - مقسم الحظوظ، مطلق التصرف في ملكه، يعطي من يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فأقول: نعم، وأنا مؤمن بذلك كل الإيمان، ولهذا فإني لا أسأل عن شيء فعله لماذا فعله؛ اعتقادا بأنه سبحانه فعله عن حكمة، كما لا أسأله عن تصرفه المطلق سبحانه وتعالى لماذا كان هكذا؛ فإني موقن بأنه صادر عن حكمة أيضا، وإنما أنا أسأل العلماء والحكماء والفلاسفة عن الحكمة نفسها؛ ما هي تلك الحكمة؟ أي لماذا اختص الله سبحانه فريقا بالسعادة وفريقا بالشقاء، هذا هو سؤالي، وهو ما أطلب الإجابة عليه من الفلاسفة والحكماء عامة ومن علماء الإسلام خاصة. لا تقولوا إن نظام الكون يقضي بأن يكون هذا غنيا وهذا فقيرا، وهذا عالما وهذا جاهلا، وهذا مبصرا وهذا أعمى ... إلى آخره؛ فإني أقول وما ذنب الفقير؟ وما ذنب الجاهل؟ وما ذنب الأعمى؟ ولماذا كان هؤلاء الضعفاء هم الذين يبنى عليهم نظام الكون، ويحملون عبأه وهو ثقيل جدا؟ الحق أن ما تجيبون به عن هذا السؤال لا يشفي غليلا، ولا يهدي حائرا، فهل من إجابة تشفي الصدور وتهدي الحائرين؟
نامعلوم صفحہ
الزرقاوي الفلكي
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات
ما كل ما يعرف يقال، ولا كل ما يقال جاء أوانه، ولا كل ما جاء أوانه حضر أهله.
الإمام علي
الشك أول خطوة من خطوات اليقين، وليس من يقين ثابت صحيح إلا بعد أن يخطو صاحبه هذه الخطوة الأولى، ويقطع مرحلة صعبة مدرجة، عامرة بالريب والشكوك، وما من مخلوق إلا ساوره الشك، وانتابته الريب؛ في تفكيراته، وتأملاته، ومناجاة نفسه، بيد أن هناك فرقا بينا بين شك وشك، وعمى وعور، ذلك بأن بعض الذين ضلوا والذين في قلوبهم مرض يعميهم الشيطان، فيحول بينهم وبين نور الحق.
على حين أن طائفة من أهل التفكير تقطع مرحلة الشك هاته سراعا، وتمر بها على عجل، ثم تعود إلى الطمأنينة الأبدية والسعادة التامة، ولقد نعت المولى - جل وعلا - في القرآن الكريم النفس بنعوت ثلاثة: (1) فوصفها بأنها أمارة بالسوء. (2) ثم بالنفس اللوامة. (3) ثم: )
يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي ( . وهو دليل ما تقطعه النفس في سبيل تدرجها من حال إلى حال، حتى تبلغ الكمال، هنالك الولاية لله.
أنا أفهم أن إنسانا من مخلوقات الله عبر عامة عمره بين جدران المعامل، يحلل ويركب في المادة، فيستظهر قواها، ويتعرف أشكالها وحالاتها، ويهتك مساتير الطبيعة، فيكثر علمه، ويزيد على عقله، ويضعف عقله، ويصبح لا يقوى على تحمل هذا العبء الثقيل، فيضل ويتخبط خبط عشواء، فيكون له من ذلك شبه عذر، ويقال: معذور لأن عضل عقله لم يستحمل ثقل مسائله العلمية.
وأفهم أيضا أن فيلسوفا كبيرا عكف على تعرف حقائق الأشياء على ما هي عليه، فأطلق لنفسه العنان في تأملاته فشك أولا، ووقف ملاوة من الدهر بين الحالتين، حالة الشك وحالة اليقين، ثم عاودته الهداية فاهتدى وكان من المخلصين، وهذا معذور أيضا؛ لأن الشك أول خطوة من خطوات اليقين، ولأن الإيمان بالوراثة أو باللقاح غيره بعد شك وتأمل وتفكير.
ولكني لا أفهم معنى لهذه النغمة النكراء، ترسلها أقلام بعض المتبجحين، وتلوكها أفواه بعض المارقين المتشائمين؛ لمرض في أنفسهم أو ضعف في أعصابهم، أو غرض يسعون إليه، على أني أستنكر على هؤلاء أن أسميهم ملاحدة أو ماديين، والماديون ناس لهم تفكير، ولهم عقل، ولهم من بعد ذلك مذهب له قيمته من الخطأ أو الصواب، أما أصحابنا فمقلدون، عمي في تقليدهم، سمعوا أن جيلا من الخلق أو طائفة من الناس يقولون بكذا، فساقهم ذلك إلى أن يخالفوا فيعرفوا، وكان البلاء عاما وشاملا، أولئك يعيشون في جلودهم، فلا ترتفع أبصارهم إلى ما فوق الحس، ولا تتعرف بصائرهم غير المحسوس.
نامعلوم صفحہ
الله عظيم، وهو صانع حكيم، فإذا كنا لا ندرك عظمته المتجلية في مخلوقاته، وإذا كانت حكمته فوق عقولنا الهيولانية، فليس هذا يمنع من وجود هذه الحكمة، تريد أنت أيها المخلوق الضعيف أن تهيمن على كل شيء، وتتعرف حكمة كل شيء، ولكنك لو أدركت حكمة خالقك في كل شيء لما كان بينك وبين الخلاق من فارق. الله أكبر، فإذا كان المكتب الذي تجلس خلفه يدرك حكمة صانعه النجار، وهندسته، وما في عقل هذا الصانع من صور وأشكال، إذن لكان هذا المكتب والنجار سواسية، فنسبة المكتب للنجار كنسبتك للخلاق جلت قدرته (وهذه نسبة تقريبية؛ قياس مع الفارق).
قالوا: إن اللذة والألم خطان طويلان، ولم يعرف للآن الحد الفاصل بينهما، فاللذة نسبية والألم نسبي، والسعادة من بعد ذلك نسبية أيضا، وأنت ترى الغني وعلى مائدته ألوان الطعام والشراب، وترى داره عامرة بالأموال فتظنه سعيدا، على أنه قد يكون أتعس من متسول يتسكع في الطريق، تعلوه أثواب رثة خلقة، يملأ بطنه بفتات العيش وفضلات الآكلين، ثم يفترش الغبراء، ويلتحف الهواء والزرقاء، هادئ البال مطمئن الخاطر، غير مشغول بهبوط أسعار القطن، ولا هو مهموم من كدر الحياة، ومتاعب الدنيا.
تعب كلها الحياة فما أع
جب إلا من راغب في ازدياد
ولقد بحث الحكماء والفهماء والعلماء عن السعادة فلم يهتدوا إليها، وليست هي في المال ولا في الجاه، ولا في شأن من شئون هذه الحياة، أو عرض من أعراض هذه الدنيا، وإنما هي في الطمأنينة، هي مع النفس المطمئنة.
على أن عقولنا - على قدر ما تستطيع أن تدرك - لها أن تعلل الشقاء في هذا العالم - وهو نسبي أيضا - بعلل كثيرة، منها: أنهم قالوا إن المصائب في هذا العالم ترقي النفس وتصهرها، وإنه لا ارتقاء من غير ألم أو كدر ونكد.
ومنها باب تناسخ الأرواح، وقد لا يقره البعض، على أنه يفسر هذا الموضوع تفسيرا لا ريبة معه، ولا شك فيه، ذلك بأن النفس إنما تتدرج من مرتبة إلى مرتبة أرقى من الأولى، كما يتدرج الطفل من آلي الفصول الدراسية إلى عاليها، فإذا لم ينجح في امتحان عاد الكرة، وبقي في تعذيب وكروب، حتى يبلغ شأوه، ولمسألة التناسخ أقاويل كثيرة لا يتسع لها المقام، ومن له أذنان للسمع فليسمع!
ألا إن هذه النغمة النكراء لبدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اعتراضات وتأملات
لكل إنسان وجهة هو موليها، لا يحيد عنها يمنة ولا يسرة، وما نحن بقادرين على أن نغير أو نبدل من مبادئ الناس، ومعتقدات خلق الله، ولو طالت الأيام، وحفت الأقلام، بيد أنا مع ذلك نحاول أن نخفف ونلطف من وقع المصيبة التي قذف بها الزمن في وجوهنا، وفي هذا العصر، عصر الضلالة والبدع، عصر التبجح والاستهتار بالدين الحنيف، فلا كنا ولا كان وجودنا، ألا بئس ما يقرءون.
نامعلوم صفحہ
أما وقد ألمعنا إلماعا في ما أسلفنا من الكلام عن العدل الإلهي، وأثره في المخلوقات، فإنا نريد أن نتبسط في الحديث، ونسترسل في الكلام عن العدل الإلهي، فنجيء بلمعة من معترضات منكري الأديان، ثم نعقب عليها بما يعن لنا، أو بما يقع بخاطرنا، وما يصل إليه تأملنا فنقول: سيقول الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر والذين يقولون: «إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع.» نعم سيقول هؤلاء قول الفرية والبهتان: إن أعمال الطبيعة صادرة كلها عن قوى مادية تفعل فعلها، آليا (ميكانيكيا) ومن غير عقل ولا تدبر، تحت حكم وهيمنة ناموس التجاذب والتدافع، فتتجمع ذرات الجسم، وتنحل وتنشأ النباتات وتنمو وتتوالد، ويحدث نموها وأزهارها وأثمارها وتلوينها، كل ذلك يكون ويحدث بأثر مؤثرات فعالة، هي الحرارة والرطوبة، والنور والكهرباء، وهكذا قل عن أجسام الحيوانات وبني آدم. وأما الأجرام الفلكية فتتكون بفعل تجمع دقائق الأثير، وتنتقل في سيرها بقوة الجاذبية.
قالوا : فنظام كهذا لا يدل على علة عاقلة حرة؛ لأن الإنسان يحرك يده متى شاء وكيفما شاء، وأما من يحركها في ناحية واحدة من يوم أن يولد إلى أن يموت فإنما يكون آلة لا عقل لها ولا إرادة، ذلك هو شأن القوى الطبيعية، فإنها آلية محضة لا تتغير، تعمل على سنن واحدة ونسق واحد، عام شامل منذ الأزل.
نقول: هبك وجدت ساعة في صحراء أو بيداء، فإنك على التو تحكم بأنها ليست من عمل الصحراء، ولكنك تحكم بأنها مصنوعة، وأن صانعها مفكر، وله إلمام بالفن والصناعة، يريد ويعمل ... إلخ. ذلك بأنه لا يمكن عقلا أن توجد ساعة بدون «ساعاتي» فوجود الساعة وصناعتها بإحكام وحذق وتعقل إنما يدل على ما لصناعتها من هذه الصفات، وعلى مهارة وقدرة وإرادة الصانع، لقد دل الأثر على وجود المؤثر.
فكرة وجود الله
إنما يستدل على كل شيء بأثره، ولقد فصل الطوفان بيننا وبين الإنسان الغابر، ولم نعرف من أعماله وشئونه إلا ما حفظته لنا الكتب المقدسة، ولا تهيأ لنا أن نتعرف مدنيات تلك الأجيال إلا بعد أن استكشف العلماء مصنوعات غليظة، ألفوها في الطبقات المتعلقة بتلك العصور.
هنالك عرفنا مقدار ما وصل إليه عقل إنسان هذه العصور، وهنالك أمكننا أن نقدر مقدار ما بلغت إليه مدينة من الكمال النسبي، وهو ما نذهب إليه من القول بأن الصنعة دليل على الصانع، والأثر على المؤثر.
نقول: إن المقبول عقلا، والمألوف المعروف أنه لا بد لكل معلول من علة، ولكل مسبب من سبب، إنما عظمة العلة وقوتها وأهميتها تكون بمقدار عظمة وقوة وأهمية المعلول، ولو كانت العلة خفية غير ظاهرة، فما كان عدم ظهور العلة بمانع لوجودها، ولا حائل دون فعلها وأثرها، ولنضرب لذلك مثلا: إنك وأنت واقف تتطلع إلى الجو، آنست طيرا يحلق في الفضاء، فاستلفت نظرك واسترعى بصرك، وبينا أنت على هذه الحال إذ بالطير هذا يسقط من شاهق برمية رام لم تره.
هنالك لا بد وأنك تحكم بأن إنسانا يحمل «بندقية» أو مسدسا قد صوب هذا الطير، وأن هذا المصوب ماهر حاذق مبصر ذو دربة، والواقع أنك حكمت هذا الحكم عقلا وحسا، ولو لم تر الضارب؛ لأن حالة رأيتها لا بد أن تشغل حيزا في ذهنك، ولأن هذا الحكم هو المقبول عقلا.
وأنت حكمت على أن هناك فاعلا، وأنه ماهر أو مبصر؛ لأنك رأيت أثر ذلك في فعله، ولو لم تره، ذلك شأن العاقل الذي يريد أن يستدل على وجود الله - جل شأنه - بآثاره في مخلوقاته.
أين السعادة؟
نامعلوم صفحہ
كل من في هذا الوجود ينزع إلى غاية، ويسعى بكل ما فيه من حول وطول لتحقيق هذه الغاية، ولو أنك سألت الطفل في مهده، واليافع، والرجل الكامل، والكهل والشيخ: ماذا يحب؟ لقال لك على التو إنه يريد أن يكون سعيدا، فالناس في هذا الباب سواسية، ينتهون عند غرض واحد يتناضلون عليه، ومسعى واحد يسعون إليه.
ولئن كانت غايتهم واحدة، ومقصدهم واحدا فإنهم يختلفون في تحقيق هذه الغاية، وفي سلوك السبيل الموصلة إليها، تنوعت الوسائل والغاية واحدة، ألا وهي السعادة، واختلف سبيل الوصول إليها باختلاف ما في الناس من مزاج واستعداد ونظر.
فالمالي يجد سعادته في جمع المال، والسكير في كأس خمره، والمتدين في نسكه وصلواته، وهي كلها لذائذ نسبية، تختلف باختلاف الميول، وإن اتفقت الغاية.
ولقد عبر العلماء والحكماء عامة عمرهم يبحثون عن السعادة، فلم يلقها إلا القليل؛ إذ ليست السعادة في المال، ولا في الجاه، ولا في القوة، ولا في النفوذ، ولا في عرض من أعراض هذه الدنيا، وإنما هي في راحة الضمير، وطمأنينة القلب.
أجل، لقد ضل من يحاول البحث عن السعادة في كل مكان حوله، ولئن كان هذا عجبا فأعجب منه من يتطلبها في مظهر من مظاهر هذه الحياة، ويظن أنها بعيدة عنه.
وما هي إلا فيه، ولكنها نسبية، والسعادة الحقيقية ليست فيما تطلبه ولا خارجة عنه، وإنما هي فيما يرضي الله من عمل الخير، وقول الصدق، ونحن نسأل عنها في كل مكان، ونتفقدها كضالة منشودة هنا وهناك، وهي بمقدرتنا ومعنا، ولكن لا نراها ولا نحس بها، كم من سعيد بماله أو جاهه أو مكانته وهو شقي بنفسه! وماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟! وأنت تستطيع أن تكون سعيدا وما ينقصك شيء مما يلزم لذلك إلا أن تكون فيك نفس طيبة، تسعى للبر والخير، وتعمل لإدراك كمالاتها.
وإنما توارت هذه السعادة، وفاتت هذه اللذة كثيرا من خلائق الله، وما أدركها إلا الذين أخلصوا، وولوا وجوههم شطر الحقيقة، هنالك يتبين الوجدان الطاهر، وهنالك تكون النفس آمنة مطمئنة، قد رجعت إلى ربها راضية مرضية.
نجتزئ بما أسلفنا من قول في هذا الموضوع، ولعلنا نعذر إذا انتقلنا إلى اعتراض آخر من اعتراضات اللادينيين فنقول: ربما قال بعضهم: إذا كان الله موجودا فينا وفي كل مكان، فلم لا نراه ولا نحس به، وهل نراه بعد الموت؟ والجواب ...
في الروح
إنا نقول: والوجه في ذلك أننا بما فينا من حواس مألوفة معروفة، ليس يمكننا أن ندرك الخالق جل شأنه، ولكن حاسة أخرى نحن بحاجة لها لندرك ذلك، وهذه الحاسة لن تخلق فينا إلا بجهد وجهاد، وعناء وكدح؛ ولذلك سبل متعددة، فالعالم أو الفيلسوف يتبعها من طريق توسيع دائرة معارفه، فيعكف على البحث والتحصيل وإدراك خواص الطبيعة وماهياتها وكيفياتها، ثم هو من بعد ذلك يخلو بنفسه؛ ليطلق لها عنان البحث والتفكير والتأمل وهذه سبيله للوصول؛ أي إنه يريد أن يصل إلى الحقيقة من طريق العقل. وأما المتدين فإنه يريد أن يصل إلى ذلك من طريق الصلاة والصيام والاعتكاف على التنسك والتعبد. وهناك من يسعى إلى ذلك من طريق إدراك الوجدان، وهو عندي أقرب طريق موصلة إلى هذه الغاية، وأصحاب هؤلاء هم المتصوفة.
نامعلوم صفحہ
ومهما يكن من الأمر فإن حالة كهذه لا يدركها المرء إلا بعد أن يلقى صعوبات لا بد من تذليلها؛ حتى يصل إلى نشدانه، هنالك لا يبلغ هذه الدرجة مريد إلا بعد أن تبلغ روحه درجة النقاء.
إذن فلا يمكن لمخلوق - مهما كان - أن يصل إلا بعد بذل جهد شديد، وإنما من مقدمة برهان وجوده تعالى نستطيع أن نستدل على صفات ضرورية فيه لا يمكن بغيرها أن يكون إلها، وهذه مسألة من أعظم المسائل الدينية، نقول: وأهم هذه الصفات وألزمها أنه سبحانه وتعالى أحد أزلي، غير مادي، ممتنع التغير، ضابط الكل، غير متناه في الوجود والعدل وسائر الكمالات.
وإنما يقصر عقل الإنسان ويكون فوق قدرته أن يدرك عدم تناهي الله، وليس لذلك من سبب إلا تأخره العقلي والأدبي، فيتصور المولى - جلت قدرته - محدودا، ويتصور له صورا متشابهة له، ويتصوره جالسا على عرش رفيع في أعلى السماوات لا يليق به التدخل في أمور صغيرة حقيرة.
قالوا: فلنتصور سيالا في منتهى الدقة واللطافة ينفذ إلى الأجسام والكائنات بأسرها كما ينفذ الجسم الروحاني في الجسد الهيولاني في كل أجزائه، على أن الجسم الروحاني ليس في ذاته عاقلا، بل هو موصل لأفكار الروح والعامل الناقل لإحساسها وإدراكها، فمادته السيالة تتشرب على نوع القول فكر الروح، فتصير معه واحدا كما يصير الهواء مع الصوت واحدا، قالوا: فكما نقول مجازا: دوي الهواء، وهزيج الريح، هكذا يسوغ لنا بطريق المجاز أن ننسب للمعلول ما للعلة، فنقول عن السيال الروحاني: إنه عاقل، والسيال الروحاني هذا بذاته لا يعقل، وإنما يعقل بسبب وعلة أخرى.
قالوا: إن أعيننا الجسدية محدودة في شعورها وكثير من العوامل المادية تفوتها، وإنا مثلا نرى مفاعيل الوباء، ولا يمكن لنا أن نبصر العامل الذي ينقله، مع أننا نؤمن بوجوده ونحس بفعله، ونشاهد الأجرام الفلكية تسير بقوة الجاذبية ولا نرى بأعيننا ولا بنظاراتنا المكبرة هذه القوة، أما الأشياء الروحية فلا يمكن أن نراها إلا بأعين النفس، هنالك الرقي الكمالي، وهنالك نرى الحقيقة. قالوا: مثل ذلك كإنسان مستقر في واد عميق، يكتنفه ضباب من كل جانب، فلا يرى الشمس، وإنما يتحقق وجودها من انتشار بعض النور حوله، فإذا طفق يصعد في الجبل ازداد النور حوله وضوحا على قدر ارتقائه، ومتى تعالى فوق الضباب الكثيف، وبلغ الهواء النقي أبصر الشمس في كل جلائها، هكذا فإن النفس كساؤها الروحاني ولئن كان خفيا عن نظرنا لتناهي لطافته إلا أنه في نظر النفس مادة غليظة، تعوقها عن شعور كثير، فهذا الكساء يزداد دقة ولطافة على قدر ترقي الروح الأدبي؛ لأن نقائص النفس كطبقات ضبابية تحجب نظرها عن رؤية النور. أما الأرواح الناقصة فلا تشاهد الله؛ لأنها محجوبة عن رؤيته بنقص الاستعداد فيها لذلك.
الخير والشر
يقول فيلسوف اليونان الكبير أرسطو: «ليس في العالم شيء هو خير بذاته، ولا شيء هو شر بذاته، بل بالوضع، وقد ينقلب الخير شرا، والشر خيرا، فلا تكون هنالك حقيقة.»
نقول: فالرأي عنده أن الخير والشر نسبيان، وأن كل واحد منهما إنما يعتبر خيرا أو شرا بالنسبة للمكان وللزمان والأحوال التي تحوطه، وليس هذا ببالغ بنا إلى ما نصبو إليه، وإنما نحن نريد أن نتمشى مع أصحاب المذهب المادي في القول بالخير والشر والثواب والعقاب، وفي الكلام على المسئولية وتوقيع العقوبة، فنقول إنهم يتساءلون: إذا كان الشر نتيجة نقائص في الإنسان، فلماذا خلقه الله ناقصا؟ أما كان في وسعه - جلت قدرته - أن يبدعه كاملا، فينتفي بذلك الشر، وينمحي وجوده من على الأرض؟
ونقول: ليس بغريب ولا بعيد أن نسمي الشر عدم الخير، فنقول إن عدم وجود الخير إنما هو وجود للشر، وامتناع الخير من مكان إنما هو إطلاق لدواعي الشر، كما نطلق مثلا البرد على عدم وجود الحرارة، فإذا وجدت الحرارة انعدمت البرودة.
والله هو الخير المحض، فهو لا يريد إلا الخير، أما الشر فمصدره الإنسان، قالوا: ولماذا لا يكون الشر أثرا من آثار الطبيعة، ونتيجة لازمة لها؟ قلنا: وهذا بعيد غير معقول ولا مقبول؛ لأنه لو كان الشر من نتائج الطبيعة لما أمكن الإنسان - مهما حاول - أن يتجنبه ونحن نعلم - علم اليقين - أن الإنسان بما فيه من مواهب واستعدادات يستطيع أن يحول الشر ويتفاداه ويقاومه، ويجد له مخرجا ومفازة للنجاة من هلكته.
نامعلوم صفحہ
وإنما الوجه في ذلك والصواب المعقول أن الإنسان هو الذي يخلق الشر، وأنه مبعث المفاسد، وموئل الرذائل، ومصدر الظلم بحسب اتصافه به وظهوره منه.
أما أن يخلق الله - جلت حكمته - الناس كاملين خيرين بعيدين عن كل نقيصة، فإنما هذا لا يكون مع الحكمة الإلهية العالية، وليس ما يساكن وجداننا، ويلازم أفكارنا من فكرات «وشطحات» ليس هذا من الحكمة في قليل ولا كثير، وإنما أراد الله بحكمته وعظمته وتدبيره أن لا يعطي المخلوق الكمال مجانا وجزافا، ولو فعل سبحانه وتعالى لما استطاع الإنسان أن يقدر هذه النعمة حق قدرها، ولا وجد فيها لذة صحيحة ممتعة.
فكما أنك لا تستطيع أن تقدر الصحة حق قدرها، وتعرف لها قيمتها - والصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى - فكذلك أيضا أنت غير قادر على تقدير قدر هذه النعمة - نعمة الكمال - إلا بالكد والجد والنشاط للعمل.
بل لو كان المولى - جل شأنه - قد وهبنا الكمال بادئ بدء، وتركنا في كمالنا على هذه الحال، إذن لتعطلت الحياة، ووقفت الحركة العامة الناتجة عن ترقي العوالم والكائنات، وأصبح هذا الكون خاثرا بائرا، لا حركة فيه ولا حياة.
وإنما أراد الله تعالى - بحكمته ولطفه - أن تكتسب النفس كمالها بجدها وعملها، وأطلق لها حرية مخيرة تميز بين الخير والشر، وتدرك غايتها بسعيها وجدها وكدها.
هذه حكمة المولى، ونحن ما زلنا في هذه الحياة نتلمس الحقيقة من منابع العلم ومناهله.
حقائق الأشياء
انتهى بنا الحديث في الكلمة السابقة عند حد القول بأن لله حكمة في خلق المخلوقات ناقصة أنفسهم، محتاجة أرواحهم إلى الكمال بالجد والعمل والكد، وقلنا: إن الله - جلت قدرته - لو كان قد خلق المخلوقات كاملة تامة لا يعوزها الجد والنشاط والعمل لإدراك كمالاتها؛ لما كنا نشعر بلذة الحياة الأبدية والسعادة الحقيقية. انظر كيف تعيش طوال حياتك والصحة تلابسك والعافية تحدوك، ولكنك لا تقدر هذه الصحة قدرها، ولا تحس بلذة هذه العافية إلا بعد أن تذوق ألم المرض.
ولقد يخامر بعض الناس الشك في حكمة الخالق - جل وعلا - إذ يولون وجوههم شطر عالم الحيوان، وما ينتابه من وحشية وفوضى، وتسلط القوي على الضعيف، واجتياح الشديد كل ما يقع عليه نظره من هزيل مسكين، هنالك حيث يقع ما يسمونه تنازع البقاء وبقاء الأنسب.
على أنا قد أسلفنا القول بأننا ننظر في حكمة المولى بعيوننا، ونريدها أن تكون على أقيسة أدمغتنا، ولكن عقولنا الهيولانية هذه ضئيلة ضعيفة، لا تقوى على إدراك كنه حكمة الخالق، وإننا بحاجة إلى حاسة أخرى غير الحواس التي ألفناها واعتدناها، حاسة روحانية عالية تساعدنا على الوصول إلى إدراك ذلك. فإذا نظر الإنسان بعقله الضعيف الضئيل هذا إلى ما في عالم الحيوان من تناحر للبقاء، وتنازع على العيش، وقتل القوي كل ضعيف تقذف به الظروف أمامه؛ ليقتات به، وليحفظ كيانه هو من فريسته هذه، قال في نفسه: وأين الحكمة الإلهية إذن في هذه الفوضى؟ وأين العدالة التي يدعونها ويترنمون بها؟ نقول: والرأي عندنا أننا نعيش مع الوهم في كل ما يعتورنا في هذه الحياة وفي أنظمتنا وأقيستنا ومعلوماتنا ومعارفنا، نقول: إننا في كل ذلك نعيش مع الوهم والوجدان أكثر مما نعيش بالتحقيق والعقل؛ فإن القوة الواهمة غالبة علينا، وإن تيار الوجدان متحكم فينا، يقع نظرنا على إنسان يذبح طيرا أو كبشا فيجسم لنا الخيال ما يكون لهذا الحيوان من شديد الألم، وبالغ الشقاء، والرأي عند بعض الفلاسفة أن الذبح لا يؤلم أبدا؛ لأن الذبيح يؤخذ فينسى نفسه.
نامعلوم صفحہ