فاستغرب الحضور ترحيبه بها وهم لا يعرفونها، ولبثوا ينتظرون ما يبدو منها. أما هي فوقفت بين أيديهم غير هيابة أو وجلة وقالت: «هل تأذنون لفتاة بكلمة في خير المسلمين، تكشف لكم القناع عن كنه ما نحن فيه وقد خبرته بنفسي؟» قال علي: «تكلمي يا بنية»، قالت: «أغلقوا هذا الباب حتى لا يسمع من هم خارج الدار.»
فأمر علي بإغلاق الباب، ودعاها إلى الجلوس فأبت إلا الوقوف بين يديه، ثم قالت: «يا معشر المهاجرين وخيرة أصحاب الرسول، إنكم - والله شاهد - إذا أردتم بأمير المؤمنين شرا لظالموه، وهو بريء لا يستوجب قتلا أو خلعا، وما أظنكم إذا قتلتموه أو خلعتموه إلا نادمين، ولا ينفع الندم.»
فأصغى الجميع وهم معجبون لتلك الجرأة من فتاة صغيرة بين يدي كبار الصحابة، ولبثوا صامتين فاستأنفت حديثها وقالت: «أما إذا شئتم إخماد الفتنة فاقلعوا أصل الشر، اقتلوا مروان بن الحكم فإنه سبب ذلك البلاء العظيم. إن الخليفة أيها الأمراء بريء مما يتقوله الناس عليه، وهو كما تعلمون من خيرة الصحابة شفوق رءوف، وقد أذعن واعتذر جهارا على مسمع من المسلمين، ولكن ابن عمه مروان ذلك الغلام الغر هو الذي يفعل ما يفعل من عند نفسه. فلا تقتلوا البريء بالمذنب، اقتلوا مروان بن الحكم فيستقيم الأمر، أما إذا أصاب الخليفة ضيم فستسألون أمام الديان العظيم. قد كفاكم أنكم منعتم عنه الماء أربعين يوما، ولا يعلم ما يقاسيه من جراء ذلك إلا الذين يعاشرونه.»
فبهت الجميع لفصاحة أسماء ورباطة جأشها وجرأتها، ونظر بعضهم إلى بعض متسائلين فالتفت علي إليهم وقال: «هذا ما أراه يا أصحاب رسول الله، إن عثمان أذعن واستغفر، ولولا ابن عمه لنامت الفتنة. وأرى كلام هذه الفتاة صوتا من أصوات أهل السماء.»
فقال طلحة: «ولكننا لم نأل جهدا في نصحه ليرجع عن مشورة ابن عمه، وهو يصغي إليه ويعمل بقوله. أما سمعت ما قاله مروان على مشهد من المسلمين؟»
فقال علي: «وما أدراكم أن كلامه لم يكن من عند نفسه؟ يكفينا تأنيبا أن تقف البنات العذارى موقف الواعظين يحرضننا على العمل بسنة المسلمين! ومهما يكن من صبركم ونصحكم فإني أكثركم صبرا عليه، ولقد نصحت له مرارا وخرجت من مجلسه آخر مرة وقد عاهدت نفسي ألا أتوسط في أمره. ولكني لما علمت بمنع الماء عنه ركبت مغلسا إلى محاصريه وهم وقوف ببابه وقلت لهم: «يا أيها الناس، إن هذا العمل لا يشبه أمر المؤمنين ولا الكافرين، وإنما الأسير عند فارس والروم يطعم ويسقى.» فلم ألق منهم مصغيا.» ثم وجه كلامه إلى أسماء وقال: «والله إن كلا من هؤلاء الأصحاب قد دافع عن عثمان وسعى في حقن الدماء، حتى إن أم حبيبة زوج الرسول
صلى الله عليه وسلم
ركبت إليه بغلتها وحملت عليها وعاء فيه ماء، وادعت أنها تريد أن تكلمه عن وصايا عنده لبني أمية أو تهلك أموال أيتامهم وأراملهم، فقالوا: «لا والله». وضربوا بغلتها فنفرت وكادت تسقط عنها، فذهب بها الناس إلى بيتها. أما أنت فبورك فيك يا بنية! والله إنك إنما جئت لخير.» ثم نظر إلى من حوله ونادى الحسن والحسين ابنيه فقال: «اذهبا إلى بيت أمير المؤمنين وادفعا عنه وأرجعا الناس عن بابه. وأنت يا طلحة أرسل ابنك، وأنت يا زبير أرسل ابنك أيضا.» فنادى كل منهما ابنه. ثم قال علي: «وأين محمد؟» فقالوا: «وأي محمد تعني؟» قال: «محمد بن أبي بكر، أين هو؟» فجعلوا يتساءلون عنه فلم يعثر عليه أحد، فتأفف وهز رأسه وقال: «والله إني خائف مما في نفس محمد على الخليفة!» فعلمت أسماء أن محمدا حاقد على الخليفة انتقاما من مروان، فلبثت تنتظر ما يقال عنه لعلها تعرف مقره. فلما لم يعثر عليه أحد قال علي لابنيه ولسائر أبناء الصحابة: «سيروا في حراسة الله، ولا تألوا جهدا في الدفاع عن حياة أمير المؤمنين ورد الناس عن بابه. وإذا رأيتم ابن أبي بكر فأنفذوه إلي، إني والله خائف مما يضمره.»
فقال طلحة: «أتظنه ينقم عليه عزله عن ولاية مصر؟»
فنظر علي إلى طلحة ولم يجب. فسار أبناء الصحابة وقد هاج الناس وماجوا، وكلهم يلتفت إلى أسماء. أما هي فسارت بين الجموع وخرجت ولم يعد يراها أحد. •••
نامعلوم صفحہ