إهداء
تنبيه
الباب الأول: الحوادث في الهند
1 - جزيرة العذارى
2 - الببغاء الأسود
3 - الاستعداد في الهند لاستقدام الأميرة
4 - عود للصاحبين في الغابة
5 - فيما كان من أمر الأسطول
6 - الشقي «طوس» في جزيرة العذارى
7 - تلاق ولا تلاق
الباب الثاني: الحوادث في منفيس
1 - عذراء الهند في قصر الأمير
2 - الأمير «آشيم»
3 - ما كان يجري في طريق الخفاء
4 - الأمير في الطريق
5 - عذراء الهند في الطريق
6 - حزب الأحرار
7 - حادث باغت
8 - بيداء الذئاب
9 - «هاموس» في القفار يهيم
10 - ظهور النمر حارس بعد الخفاء
11 - أفراح منفيس
الباب الثالث: الحوادث في طيبة
1 - «رادريس» في السجن
2 - ليلة أنس في قصر الملك
3 - الأحرار في طيبة
4 - الوفد الهندي في قصر الملك
5 - محاكمة «رادريس»
6 - طيبات طيبة
7 - ليلة القران
إهداء
تنبيه
الباب الأول: الحوادث في الهند
1 - جزيرة العذارى
2 - الببغاء الأسود
3 - الاستعداد في الهند لاستقدام الأميرة
4 - عود للصاحبين في الغابة
5 - فيما كان من أمر الأسطول
6 - الشقي «طوس» في جزيرة العذارى
7 - تلاق ولا تلاق
الباب الثاني: الحوادث في منفيس
1 - عذراء الهند في قصر الأمير
2 - الأمير «آشيم»
3 - ما كان يجري في طريق الخفاء
4 - الأمير في الطريق
5 - عذراء الهند في الطريق
6 - حزب الأحرار
7 - حادث باغت
8 - بيداء الذئاب
9 - «هاموس» في القفار يهيم
10 - ظهور النمر حارس بعد الخفاء
11 - أفراح منفيس
الباب الثالث: الحوادث في طيبة
1 - «رادريس» في السجن
2 - ليلة أنس في قصر الملك
3 - الأحرار في طيبة
4 - الوفد الهندي في قصر الملك
5 - محاكمة «رادريس»
6 - طيبات طيبة
7 - ليلة القران
عذراء الهند
عذراء الهند
تأليف
أحمد شوقي
إهداء
إلى سدة سيدنا ومولانا ولي النعم الأكرم، الجناب الخديوي المعظم.
مولاي ...
الكاتب وما كتب غراس نعمائك، وجنى ظلك ومائك، فإذا وفق ليرفع إليك عملا، فقد أسند أفعالك في الفضل إلى أسمائك.
بقي القبول يا مولاي، وهو عندك مأمول، فتفضل زاد الله في فضلك، واجعل هذا القليل الحقير في ذراك وفي ظلك، كرامة لما تناول من سيرة رب طيبة ومنفيس، «رمسيس الثاني أمون رع سيزوستريس»، خير ملك لخير جيل رأى وادي النيل.
خادم السدة
شوقي
تنبيه
أشخاص الحقيقة في هذه الرواية أربعة، وما سواهم فمن وضع الخيال؛ «رمسيس الثاني سيزوستريس» ملك مصر، وهو أكبر ملوك الزمن الأول نصيبا من مدحة الأحاديث، وقد كان معظم اعتمادي فيما وصفت من مفاخر أيامه، وعرفت من أحوال البلاد تحت أحكامه على كتاب نفيس، مرصد لسيرة «رمسيس» عنوانه: «رمسيس الأكبر»، أو «مصر منذ 3300 سنة»، لجامعه العالم المحقق «فرديناند دي لانوا»، وعلى مؤلف ظهر في هذه الأيام هو خير المصادر في هذا المقام، أريد «الأثر الجليل» لواضعه الأستاذ الفاضل والعالم العامل «أحمد نجيب بك» مفتش عموم الآثار المصرية. - والأمير كميوم أو شميوم المحرف اسمه في الرواية «آشيم» أكبر أولاد هذا الملك، ومبلغ العلم في أمره أنه كان حاكم منفيس، وولي عهد «رمسيس»، وأنه مات في السنة الخامسة والخمسين من حكم والده، عن ثلاثين سنة، كان في أواخرها أحب إخوته الكثيرين إلى الأمم والشعوب، وأجذبهم بأزمة الرأي العام، وأمتنهم أعلاقا في القلوب، وأن لهذا الموت المعجل أسبابا لا يزال علمها في جانب الغيوب. - والأميرة «آثرت» كريمة الملك، وجملة الخبر عنها أنها كانت ساحرة ماهرة، وأن الملك مدين لنصحها الثمين بفتوحاته الأربعين. - و«بنتؤر» ونصيبنا من أنبائه أنه كان صاحب الملك وشاعره، وأن له فيه مدائح وأشعارا، قالها على لسانه في خطاب الآلهة والضراعة إليهم عند كل أزمة.
وجملة القول: إن التأريخ المصري القديم لا يزال في عهد الطفولية الأولى، إذا نحن قسناه بمعاصرات العلوم والفنون، وما صارت إليه من تمام الوضوح وكمال الثبوت، وإن الحقيقة معه لا يستقر بها خبر؛ فهي عين تارة وأثر، تحيا بحجر وتموت بحجر، فالمستند إليه فيما هو قائل، إنما يستند إلى ظلام زائل، أو جدار مائل، وهذا ما أنبه إليه المؤرخ الذي أعوذ بالله بين يديه أن أكون من الجاهلين.
شوقي
الباب الأول
الحوادث في الهند
الفصل الأول
جزيرة العذارى
كم لنا من عجيبة
طي هذي البسيطة
أمم قد تغيرت
وبلاد تولت
وبحار تحولت
من مكان لبقعة
ثم نابت جزيرة
عندها عن جزيرة
أيها الأرض خبري
عن شباب الخليقة
حدثينا حديثهم
وصفي القوم وانعتي
دول قد تصرمت
دولة إثر دولة
وقرون تلاحقت
وعصور تقضت
ذهب الدهر كله
بين يوم وليلة
مجزوء الخفيف
كانت إلى جنوب الهند الشرقية، وعلى مسيرة أيام من تلك الشواطئ القديمة الأزلية، جزائر شتى صغار منتشرة ها هنا وهناك، كما عامت اللآلئ أو طفت على الماء الشباك، تنهض بالجلال والجمال خلال زرق الماء، نهوض نجوم الجوزاء في القبة الزرقاء.
وكانت كلها أبكارا، لم تئو من قبل نزيلا ولا ديارا، إلا واحدة كان يقال لها جزيرة العذارى، وكانت يتيمة ذلك العقد المأنوس، المنتثر بالمنظر الضاحي على لبات الأقيانوس، وهي التي نلقي عليها المراسي الآن، في ابتداء قصتنا التي وقعت حوادثها من نحو خمسين قرنا من الزمان.
وكان يسكن هذه الجزيرة مائة فتاة وفتاة، كلهن ملك كريم، ومثال عال غال لنعيم الجمال، وجمال النعيم.
وكن كلهن أبكارا، بين الرابعة عشرة والخامسة عشرة أعمارا، إذا رأيتهن حسبتهن أقمارا، طالعة ليلا ونهارا، تملأ المكان والزمان أنوارا، وكن يأوين جمعاء إلى قصر هنالك مشيد على الماء، يضمهن مثلما ضمت نجومها الجوزاء، وذاك القصر مبني بالبلور والمرمر، مفرش بصنوف الجوهر، مترب بالند والعنبر، وكان يحمل مفاتيحه ويحرس أشياءه رجل شيخ كاهن، لا عمل له إلا تطبيب البنات، إن مرضت واحدة منهن، والصلاة بهن في الميقات، وتعليمهن ما تجب معرفته من أصول العبادات.
وكان الزاد يحمل إلى البنات في كل ثلاثة أشهر مرة، فتأتي سفينة كبيرة مملوءة من الذخيرة، فتودع ذلك كله في الجزيرة، بدون أن ينزل أحد من رجالها إلى البر، ثم تنثني آخذة عريض البحر.
أما حراسة الجزيرة شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، فكان يقوم بها مائة نمر ونمر، من أندر ما أخرجت هاتيك الأصقاع، من هذا النوع من السباع، كلها من حجم واحد، وشكل واحد، كأنما دفعها رحم واحد، صفر الأحداق بازرقاق، صفر الجلود بيسير بياض، فيما دون الأطواق، مخططة الظهور بمخطاط قدرة الخلاق، خفاف رشاق، مطلقة الوثاق، لها هنالك على سائر الحيوان الحكم ذو الإطلاق.
وكان في عنق كل واحد منها طوق من الذهب، منقوش عليه بالمينا اسم الفتاة التي هو لها خاصة دون سائر البنات.
وكان بين هاته النمورة واحد، وكان أبيض نقي البياض، ياقوتي الحدقتين، عقيقي حواشي الفكين، دقيق الرأس مستديره، غليظ العنق قصيره، رشيق القامة النضيرة، له سيقان الغزال، وأخفاف الجمال، وإلى مجموع خلقته ينتهي الجلال والجمال، وكانت في عنقه قلادة من الياقوت الأحمر بقفل من ذهب منقوش عليه بالجواهر هذه العبارة، وهي: «ذو الفك العقيقي، خادم عذراء الهند.»
وعذراء الهند هذه، هي إحدى الفتيات، ولكنها في الحقيقة مولاتهن، والسبب في وجودهن في الجزيرة على تلك الحال، وهي بنت الملك «دهنش» ملك ملوك الهند الشرقية، جعلها أبوها هنالك في مائة عذراء من أترابها كريمات الملوك والأمراء، وبنات الوزراء والكبراء. وضرب لإقامة الجميع بالجزيرة أجلا سبع سنوات كوامل، مضى منها ست وبقيت السابعة التي نحن بصدد حوادثها الآن، وكان فعل الملك هذا صادرا عن نصيحة أحد كبار المنجمين له وإشارته عليه؛ ولذلك حديث عجيب نسوقه للقارئ مجملا في هذا الفصل، ليعلم أسباب الغرام المبنية عليه الرواية؛ كيف نشأت وأسرار حوادثه، كيف بدأت فنقول: كان ل «دهنش» ملك الهندين يسوسه وينهض به جميعا، وكانت أعلام سيادته منشورة على ملوك القطرين أجمعين، إلى أن ارتاح «رمسيس الثاني سيزوستريس» ملك مصر، فيما كانت ترتاح إليه همته العلية من كبار المشروعات الفتحية إلى الاستيلاء على هاتيك الأقاليم، واتخاذها أسواقا لتجارات وطنه الفخيم، ومستعمرة جسيمة يعز بها آية ملكه الجسيم، فغشيها بالجحافل برا والأساطيل بحرا، حتى تملكها قسرا، وأخذ «دهنش» في جملة الأسرى.
غير أن فرعون لم يلبث أن شاور في الأمر عقله، ونظر في العواقب نظر حكمته، فرأى أن ملكا كملك الهندين محتاج إلى ملك يتفرغ لتدبيره، أو يكون سريره على الأقل قريبا من سريره، وأن بقاء الهندين في قبضة مصر واستمرار تبعيتهما لملوكها العالين أمران لا يمكن أن يكونا إلا إلى حين؛ فانتهج تلقاء هذه التأملات سياسة حسنة، بأن جعل الهند الغربية التي هي أقرب إلى البلاد المصرية، وأيسر منالا على سفنها حربية كانت أو تجارية، ممالك شتى صغيرة من نظام واحد، بملوك مستقلين بعضهم بإزاء بعض، ومستظلين تحت لوائه، يقدمون له الجزية، ويمهدون السبيل لمتاجر النيل، ثم أنعم على «دهنش» بالهند الشرقية جمعاء، يستقل بملكها ويحكم بلادها كيف شاء.
وكان «رمسيس» قد استصحب معه في تلك الحملة الكبرى ابنه وولي عهده الأمير «آشيم»، وكان في بداية صباه، وكانت مع «دهنش» فتاته عذراء الهند، وكانت طفلة كذلك، فلما رد فرعون عليه ملكه، وأعاد إليه بلاده، دخل عليه في آله ورجاله يؤدون شكر إحسانه الذي لا يؤدى. فكان أول من ابتدر لثم نعاله، عذراء الهند على صغر سنها، وقصور إدراكها؛ فأعجبه ذلك منها واستلطف روحها ومنظرها، فطلب إلى والدها أن تبقى مع «آشيم» تؤنسه ويؤنسها مدة إقامته القصيرة بالهند.
فكان من عواقب هذا الاجتماع، أن الطفلين انجذب أحدهما إلى الآخر انجذابا شديدا، وصادف الهوى فؤادين ناشئين خاليين، فدب، فدرج، فتمكن. فلما افترقا لم يفترق؛ بل وجد حافظا من مزاج الفتى والفتاة، فراح ينمو في فؤاديهما مع الحياة، وهكذا الحب بعضه من المهد إلى اللحد، ومنه ما يلبث يوما أو بعض يوم (الخفيف):
نظرة فابتسامة فسلام
فكلام فموعد فلقاء
ففراق يكون منه دواء
أو فراق يكون فيه الداء
نعم، كان من الفراق لذينك العاشقين داء، ومن ملحقاته ألف داء؛ خصوصا عذراء الهند، فلقد كان يزيدها ألف هم على همومها، أن والدها لما ذهبت السيئات عنه، وعاد فاطمأن بالملك والأحباب والوطن، بدأ يقتني ل «رمسيس» الموجدة والعداوة، ويذخر له الضغائن والأحقاد، فكان كلما تجدد تذكار ذلك العار، عار الهزيمة والانكسار، تجدد في نفسه الأمل بأخذ الثأر، ثم يدرك أنه يروم المستحيل، فيركن للحقد مطية غير الراكبين، وسلاح العزل المغلوبين (المتقارب):
رأيت الجنون جديرا به
حريا أخو المهجة الحاقدة
سلاح ثقيل بلا مضرب
وحمل ثقيل بلا فائدة
وكانت الفتاة تلحظ ذلك من أبيها، وكلما ألفته مملوءا من البغضاء نحو والد الحبيب، راحت مملوءة القلب من اليأس، تخفي في نفسها، وتكتم في صدرها، وتضغط على سرائرها في هوى الأمير أن تنهك، ولكن النفس البشرية وإن كان دونها في كثير من قواها الأدبية، تلك القوة الهائلة السارية بالوجود، المتدفقة بالبروق والرعود، فإنها تصطدم باليأس، فتنخذل، كما تصطدم بالمرض فتموت (الكامل):
شيئان فوق قوى النفوس كلاهما
ردع لها ووقى من الطغيان
اليأس وهو لهن موت أول
والداء وهو لها الحسام الثاني
وفي الحقيقة، فإن عذراء الهند لم تلبث أن غلبتها بوادر اليأس على كل ذلك الثبات، فذهب الصبر عنها وبان، والجلد المدخور ولى وخان، فمرضت فطالت أيام المرض وخفيت أسبابه، واشتكلت أعراضه، وشاع الخبر، وأراب الأمر وتكلم الناس.
وكانت الأميرة واحدة «دهنش»، التي لم يكن يعطى عنها صبرا، ولا يقبل فيها ولا ملك النيل مهرا؛ فكيف إذا علم أنه ابن عدوه الظافر، وخصمه القوي القاهر، الذي لا يدري إن هو خطبها لفتاه، أعطيها عفوا أم أخذها قسرا؟
فكانت كل هاته التأملات تملأ قلب الفتاة مهابة من الأمر، وتجسم بعينيها العواقب، فتستصعب الإقرار، وتشفق من تبعاته، ولا تقدم عليه تاركة والدها الأسيف يشقى ويعذب، ويذهب من مداواتها في غير مذهب، فكلما عرضها على أطباء الهندين حار الأطباء، وخانتهم العقاقير، فيلوي على السحرة فيستفتيهم، فيحيلون على أصحاب الجن، وهؤلاء يبرئون الجن ويتهمون الأفلاك، فيجاء بالمنجمين، فلا يزيدون الملك بالأمر علما.
ثم ما زالت الأيام تتعاقب، والليالي تختلف سودا على ذاك الوالد المحزون، والمرض ما زال، والبنت بحالتها غادية على خطرين، من موت وجنون، إلى أن أخطر بعض الناس على باب الملك شنو أكبر أطباء الصين، وإمام منجميها الراسخين، وكان مغضوبا عليه من ملكه مودعا في السجن من سنين، فتذكر «دهنش» أن شنو هذا كثر ما صدقه الرواية في جسيمات المسائل، وقام له في المهمات، بالخدمات الجلائل؛ فأنفذ إلى صاحبه ملك الصين رسالة يقول فيها:
من «دهنش» سلطان القطرين وملك ملوك الهندين ... إلى ابن السماء وسلالة الخواقين العظماء، ذي الملك الواسع والعرش المكين، الملك تيتو ملك ملوك الصين: أما بعد؛ فإن الملوك بالملوك، وإن العلماء نجوم الإشراق، التي لا تختص بها آفاق دون آفاق، وقد علمت أن شنو إمام منجمي الصين، مغضوب عليه منك مودع في السجن من سنين، فجئتك شافعا له، وطالبا أن تسيره إلي، فإني مستفتيه في علة عذراء الهند التي تشتد بها، وتتهدد أيامها. والسلام.
التوقيع «دهنش» ملك ملوك الهندين
فحين وردت هذه الرسالة على ملك الصين، عفا عن طبيبه ومنجمه شنو، ثم حمله الجواب على ذلك الكتاب، ورحله معززا مكرما إلى عاصمة المملكة الهندية؛ حيث بولغ له في الحفاوة، وقوبل بمجالي الاحتفال اللائق بمقام العلماء، وأنزل في قصر الملك ضيفا كريما عليه، فعكف أياما يخبر أحوال الداء، ويسبر أغوار تلك العلة العسراء، بدون أن يدرك غايتها علمه، أو يصل إلى كنهها فهمه، وهو كلما خلا إلى الأميرة احتال، وأكثر السؤال، عسى أن تقر أو لعلها تبوح بالسر، والفتاة لا تزداد إلا تماديا في الجحود، وتصميما على الكتمان.
فلم يجد شنو بدا من الركون للتنويم الذي كان أبرع أهل آسيا في معرفته، وأخذ سرائر الأميرة غصبا، فلم يزل بها ينومها المرة بعد المرة، وهو يجدها أشد عنادا في حال النوم منها في حال اليقظة، حتى كلت روحها وخارت أعصابها، وأذعن للقوة عصي العنان، فتحركت الشفتان، وانطلق اللسان، وصادف دخول «دهنش» في تلك اللحظة المكان، ففاجأ ابنته؛ إذ هي منومة؛ إذ تقول بأفصح بيان (المنسرح):
آشيم يا من بحبه نعلو
ومن أديم السهى له نعل
عزت مع الشوق نحوك السبل
وبات صعبا لقاؤك السهل
يا ليت شعري والبعد مجلبة
للترك والعيش كله شغل
أذاكر أنت أم نسيت لنا
إذ نحن طفلان والهوى طفل
إذ تعجب الهند والديار بنا
ويعجب الناظرون والأهل
وإذ يدب الغرام مجتهدا
ونحن لا فكرة ولا عقل
ما نحن قلنا فالحب قائله
وما فعلنا فللهوى الفعل
وإن نقلنا لبقعة قدما
فللهوى لا البقعة النقل
فإن تكن يا أمير ناسينا
فنحن ما ننسى وما نسلو
تلك سماء الهند شاهدة
وأرضها والجبال والسهل
وأنجم الهند ما طلعن لنا
وما رعتنا عيونها النجل
إني على العهد ما حييت فإن
خلوت تبقى العهود لا تخلو
فكان الملك يسمع هذا الإقرار الصريح، وهو حنق هائج، لذكر اسم «آشيم» ابن الخصم الأشد، والعدو الألد، الذي ما من صداقته بد، وكلما هم أن يقطع على النائمة كلامها، أو يكدر عليها أحلامها، منعه الطبيب مخافة أن يعجل ذلك للفتاة حمامها، إلى أن باحت بسرائرها من أولها إلى آخرها، ولم يبق سوى تنبيهها ورد الإرادة إليها، فالتفت شنو إلى الملك قائلا: إن كنت يا مولاي تريد حياة الأميرة، ولا تريد قتلها في هذا الشباب الغض، والعمر النضير، فاكتم عنها خبر ما رأيت وما سمعت؛ لأنها إن علمت أن أحدا وقف على سيرتها، أو اطلع في الغرام على سريرتها، راحت بشر حالة، ثم هلكت لا محالة. قال: ولكنني يا شنو لا أطيق أن تعيش ابنتي على عشق ابن عدوي، ولا أن تموت عليه، فصف لي بحقك حيلة، فحيلتي اليوم قليلة. قال: إن الغرام المتمكن يا مولاي لا ينفع فيه إلا العزلة وجوار البحر. قال: إذن فاختر لي مكانا أجعلها فيه، ينفع صحتها ويعصمها من يد «آشيم» إلى حين. فأطرق المنجم برهة، ثم قال: قد وجدت يا مولاي المكان الذي تكون فيه كالشمس في سماء الوجود، ولا تستطيع إلى معشوقها النزول، ولا يستطيع معشوقها إليها الصعود. قال: أين؟ وكيف؟ قال: يوجد يا مولاي على مسيرة أيام من الساحل الجنوبي الشرقي لهذه المملكة، أرخبيل منعزل خشن اللمس من جميع الجهات لكثرة الحجر في مياهه، عزيزة منال المداخل على السفن، ولو أنها من حديد، فلتنقل الأميرة إلى إحدى جزره، ولتقم هناك سبعة أعوام كاملة، وليرافقها في كل هذه المدة طبيب ماهر ممن تعهد فيهم العلم، وتعرف لهم الإخلاص؛ لأني أرى الداء متمكنا من هذا الجسم الناعم، محتاجا إلى عناية فائقة، وسهر من طبيب حكيم. فأطرق الملك برهة ثم قال: وأنا يا شنو لا أجد من أتكل عليه في هذه المهمة سواك. قال: أعفني يا مولاي بفضلك، وانظر في أمري بعين عدلك. إنني خرجت من السجن إلى بلادك، لم ألو على أهلي وأولادي، ولم أتمتع من شميم نسيم بلادي. قال: كل هذا مضمون لك في المستقبل، مأمون ميسور، مع الزمن يهون، وأما الآن فلن يكون إلا ما شئت أن يكون. قال الطبيب واحتد بالغضب: إن مولاي وسيدي تيتو أولى بي منك أيها الملك، وإنه سوف يعوزه منجمه وطبيبه، فيسأل عن أمري فبماذا أنت مجيبه؟ قال: ولكنه سامح بك يا شنو؛ إذ وهب لي عقوبة ذنبك، وإن كنت في ريب مما أقول؛ فهذه رسالته اقرأها تخرج من ريبك. فلما اطلع الطبيب على الرسالة أطرق امتثالا، وانحنى خشوعا وإجلالا. ثم قال: الآن أنا لك وإليك، ووقف يا مولاي عليك. قال: إذن فإني ناظر في أمر السفر وتهيئتكم له، تارك لك أنت تدبير الخروج من مياه المملكة، وقيادة الأسطول الذي يسير بكم، واختيار الجزيرة الصالحة للمقام.
ثم إن الملك أخذ في العمل بكل خفاء وتستر، ومداراة وتنكر، بحيث لم يمض أسبوع حتى صار الأسطول على قدم الاستعداد التام، لا ينتظر إلا الإشارة بالقيام، حتى إذا صدرت إليه خفية، خرج فأدى المأمورية ثم رجع بسلام.
الفصل الثاني
الببغاء الأسود
كان الفصل شتاء، وكانت أقطار الهند تقطر ماء، أرضا وسماء، وأكنافا وأرجاء، وقد تملك الضباب الآفاق فأدجت إدجاء، وتلاه الليل فأضفى عليها من ظلامه رداء.
وكانت على بعض النواحي الشمالية من أطراف الهند الشرقية غابة عذراء، ممدة شماء، يضيق عن دائرتها الفضاء، وهي مظلمة الأرجاء أبدية الأدجاء، لا تغشاها الشمس بصبح، ولا يزورها النجم في مساء.
وكان عند مدخل هذه الغابة رجلان، ليس ثم غيرهما إنسان، أحدهما عظيم كتلة الجسد، في صورة الأسد، ذي الأظفار واللبد، مكشوف الرأس والصدر، غائبهما في الشعر، وعليه سربال من كتان بال، ممسك بحبال، وفي خاصرته اليمنى خزانة سلاح، مستكملة أدوات الكفاح، وفي اليسرى خزانة أخرى فيها عدد وآلات، ومواد للاستعمال وأدوات، وهو كأنه سارية من اعتدال قامته الوافية، وكان شيخا يناهز الستين، وإن يكن يراه الرائي فلا يزيده على الأربعين، والآخر فتى شاب في الثلاثين، له أجمل صور الإنسان، وعليه كذلك ثوب من كتان، وهو قد تقلد سلاحه، وحمل جرابا مملوءا طعاما وشرابا، وكانا يتمشيان على المكان، والشيخ يقول للفتى: ها نحن قد بلغنا الغابة يا «هاموس»؛ غابة الببغاء الأسود، الذي يحج إليه ويعبد فصفحا للسفر عن إساءاته؛ إذ كان هذا اليوم من حسناته. قال: يا مولاي، إن كان كنز لا يفنى فالسفر، أو كتاب لا يفرغ من قراءته في هذه الأرض، وإني لأعجب للإنسان كيف يخلق كل هذا الملك لأجله، ويعيش فيه بعقله ثم يموت، وهو لم يجس أديمه برجله، ولم يعرف وعره من سهله. قال: هذا يا بني أكبر عيوب الأنام، أو هو نقص القادرين على التمام، فإن أكثرهم يفنون أيامهم بالحضر، ثم يتهمون الأعمار بالقصر. وهيهات هيهات ما سدى قدرت أيام الحياة، وإنما نتوهمها قليلة من سوء استعمال الأوقات، وإنهم يا بني ثلاثة، لا تجتمع المفاخر لأمة؛ حتى يجتمعوا لها: الكرام، والعلماء، ورجال الأسفار. قال: وأنت هي جملة يا مولاي، فأنت إذن أمة في المفاخر وحدك، فأجاب الشيخ متبسما: ولكني الشقي «طوس». قال: إنه من كيد الكهنة يا مولاي، إن كيدهم عظيم. قال: خلنا الآن من هذا يا «هاموس»، وانظر هل تطلع النجم بعد، فارتجل الفتى نظرة في الأفلاك، ثم قال: نعم، ظهر يا مولاي وبان. قال: إذن فهلم على اسمه وببركة مطلعه السعيد. ثم تقدم نحو المدخل فتبعه الفتى يحمل شريطا من المعدن مشعل الذبال، حثيث الاشتعال يضيء لهم خلال الثرى، ويكشف من الغابة الجوانب والذرى، وكان يديره للشيخ حيث دار، ويسير به بين يديه أينما سار، وقد أمسك هذا ورقة صفراء من البلى مخرقة وهو منهمك يقرأ فيها، فلما فرغ منها طواها بصيانة، وألقاها في الخزانة، ثم أخذ في سيره اليمين، والتفت إلى الفتى يقول: سندخل من حيث دخل يوقو الصيني يا «هاموس». قال: وهل لذلك أثر حي على المكان، أم أنت يا مولاي تعتمد على الورقة لا غير؟ قال: تأدب يا «هاموس»؛ إن يوقو كان عالما، وإن الزمن الذي يفشو فيه الكذب بين العلماء لم يأت بعد. وإن كنت في ريب مما أقول؛ فانظر إلى هذا الجذع وهذا الساق كيف يتفاوتان لدى السنين، فهذا له آلاف من السنين، وهذا لا يتجاوز عمره المئين، فهنا لا شك نزل يوقو بالبلط وهشم وقطع وحطم؛ ليفتح له طريقا بين الأشجار. قال: وكم كانت أيامه في غابة الببغاء الأسود يا مولاي؟ قال: تسعون شهرا وشهرا. قال: إنها لمدة طويلة يا مولاي، ونحن لنا شأن غير هذا الشأن، يضطرنا إلى أن نختصر من الزمان. قال: ليطمئن قلبك يا بني فورأس «آشيم» لا يكونن الشهر عندي إلا يوما، فنلبث ثلاثة أشهر في هذه الغابة التي لو كانت واحدة لسهل الأمر وهان، ولكنها غابات ثمان، فيها من كل موبقة زوجان، وبعد ذلك لنا إلى مياه الشمال طريق مختصر بين الرمال نقطعه في سبعة أيام بليال، حتى نبلغ البحر؛ حيث المركب والصيادون على الشاطئ ينتظرون، ثم نقلع قاصدين جزيرة العذارى؛ مطلبنا الصعب الذي سوف يهون.
ثم إنه ابتدر الدخول من ذلك الموضع، فتبعه الفتى يحمل الشريط، واندفعا يصلان السرى حثيثا بين شجر ألفافا، وأعشاب تختلف أشكالها وألوانها اختلافا، إلى أن مضت تلك الليلة، وانقضت بدون أن يعتري تعويق، أو يعترض شيء في الطريق.
فلما أقبل النهار ولم تكن ظهرت له في الغابة آثار، غير تحول النبات من السواد الشديد إلى الاخضرار، التفت الشيخ إلى «هاموس»، فقال: أطفئ يا بني الشريط، وخذ هذا السائل فادهن به أطرافك. واعلم أننا قادمان بعد لحظة على موطن الثعبان الأخضر، وستصادفه في الطريق جماعات على أبعاد، منتصبا على أطراف ذنبه في صورة أمهات الموز. فإياك أن تحتك به في مسيرك، فتقيم علينا قيامة لا طاقة لنا بها. قال: وهل لأجله صنع هذا العطر؟ قال: نعم، وإن نكهته تحدث به من الطرب ما يشغله عن أمرنا.
وفي الحقيقة لم يكن غير يسير زمان، حتى قدم الرجلان على أمثال جماعات الموز، وكانت في أتم سكون، فلما تخللاها وسرى في جوها طيب ما كانا يحملان، راحت تموج بالمنظر العجب، كأنما أخذها من تلك الروائح طرب، فاستمرا في سيرهما آمنين قريرين ببدائع ما يجتليان، والشيخ يقول لتلميذه: تمتع يا «هاموس» من رؤية هذه المناظر، التي لم يشهد الأوائل لها نظائر، ولا أظن أن سيرى الأواخر، ومد معي لقدمك الخطو، واحتمل للسفر، واحمل مشاقه، واعلم أن المروءة منه، والصبر منه، والشجاعة منه، وهي الثلاثة القائمة بمكارم الأخلاق.
فتشجع الفتى بهذا الكلام، وازداد إقداما على إقدام، إلا أنه استأذن أستاذه في تناول بعض الطعام فأذن له، وطلب هو أيضا شيئا من الزاد فأكل، ثم عاودا السير يوغلان فيه إلى أن أخذ النهار في الإدبار، وكانا قد بدآ يبتعدان عن أماكن الثعبان، فأشعل الفتى الشريط واندفعا يتبعان السير سرى موصولا، فلم يكن نصف الليل، إلا وهما بعيدان كل البعد عنها وبأمان تام منها، ثم إذا هما بأرض خضراء نقية العشب، كأنما أمطرت أمطارا أو غسلت مرارا، فلما غشياها أعجب الشيخ مرآها، فنظر إلى الفتى قائلا: توسد يا بني هذا المهاد الوطيء وخذ لبدنك حصته من النوم، وأنا ساهر عليك أحميك وأشتغل بمطالعاتي. قال: سمعا وطاعة، ثم اضطجع فأخذه النوم فنام. وجلس الشيخ عند رأسه ساهرا ينظر في بعض أوراقه على ضوء الشريط، حتى طلع النهار، فانتبه الفتى من رقاده ناشطا خفيفا، وقام الشيخ فمشيا يومهما كله بين أكل وشرب وحديث، يسيران في أرض كبسط الخز تأخذ القدم منها ولا تأخذ من القدم.
فلما كان المساء، عادت الأشجار فتنكرت دلالة على زوال النهار، فأراد الفتى أن يشعل الشريط ليسريا بهداه وفي سناه، فمنعه الشيخ ونهاه قائلا: لقد أوشكنا أن نلج الغابة الثانية، غابة الثعبان الوضاء. قال: وهل في الثعابين كما في الدود ذو النور المشهود؟ قال: ولم لا وليست هذه إلا أصغر عجائب الوجود؟ قال: وما ذلك الثعبان ذو اللمعان؟ قال: شيء يا بني في حجم الثعبان الأخضر أو هو أكبر، وأما لونه فأصفر، ويقول يوقو الصيني: إنه بالنهار جهنمي ثوار، وثاب صفار، جواره شر جوار، وإلى لقائه تنتهي الأخطار، حتى إذا بدا له الليل عانق الأشجار، يتدفق خلالها بالأنوار، ثم نام نومة العاشق الممتع بالأسحار ، فلو قامت القيامة عند رأسه ما انتبه حتى مطلع النهار.
وما استتم الشيخ حتى قدم الصاحبان على منازل ذلك الثعبان، فإذا نوره التام المحيط، خير من ألف شريط، وهو على الأشجار، يرتجل الأنوار، مختلف الصور والأشكال، آخذ من كل فلك في السماء بمثال، وقد انجلت الغابة في رواء فتان، لم ير مثله حالم ولا يقظان، فاندفع الرجلان يسريان في كلاءة الليل، وبذمة من ساكن الغاب وأمان، والشيخ يقول للفتى: انظر يا بني إلى هذا المكان، كيف يتغير من شأن إلى شان، فبينما هو النهار مسبعة بغير قرار أو كمساكن الجان، إذا هو كما تجتليه الآن، أفق منير الأهلة مزدان، يجتازه الطفل على قدم السكينة والاطمئنان. قال: وهل سرى ليلة يا مولاي يكفي للابتعاد عن موطن هذا الثعبان؟ قال: لا بل هما ليلة ونهار لمن سرى وسار. قال: فما عندنا له من عدد التوقي، فتبسم الشيخ ضاحكا ثم قال: سر يا بني ولا تخف، فمن كان مليك الوجود لن تغلبه هذه الدود، وقد أعددت لذلك مسحوقا يشمه الثعبان، فلا يستطيع إلينا دنوا ولا يملك سببا.
حتى إذا مضى الليل هب ساكن الغاب من نومته فسمعت لذلك ضجة، راحت بها الأرض مرتجة، وماج الجو واضطرب الغاب، وسالت بالمزاحف الأعشاب، فالتفت الفتى إلى شيخه كالمذعور فوجده ينثر من ذلك المسحوق في الطريق، والثعابين تنفر عنه نفارا، وتولي من تلك الرائحة فرارا، إلا أنها كانت تجتمع من بعيد عن اليمين وعن الشمال، وتسايرهما هائجة حنقة، وهي تموج كالجبال، فجد بالفتى القلق، وزاد به الفرق، ورأى الشيخ عليه ذلك فزجره قائلا: ما هذا الجزع يا «هاموس»؟ أتشفق من هذه الديدان، وأنت لو فتشت عن أفئدتها لوجدت أن بها منك فوق ما بك منها، فمهلا رويدا بعض هذا الخوف، واعلم أن بالعقل قام هذا الوجود، فمهابته منذ البداية سارية في الأشياء، ممتزجة بالغرائز عند سباع الأرض والسماء، يحملها الحي الذي يرزق، وتتشربها النطف التي لم تخلق، فلما سمع الفتى هذا الكلام تقوى جنانه وثبتت الأقدام على الأقدام، ومسخت الثعابين بعينيه حبالا وكانت جبالا، فراح متنشطا في السير لا يلقي لجمعها بالا.
واستمر الرجلان كذلك يسيران إلى أن ولى النهار وبان، وهجر أكوانا إلى أكوان، وعندئذ انقلبت الثعابين على الأعقاب، آيبة إلى مساكنها من الغاب، فكف الشيخ عن إلقاء المسحوق ووقف متبسما يقول لفتاه: الآن لا خوف علينا، ولا نحن نضجر يا «هاموس»، فأشعل شريطك وسر بنا في ظلام الغابة الثالثة؛ غابة الفيل الكسلان. قال: وما ذلك الكسلان أيضا يا مولاي؟ قال: إنها يا بني أفيال عراض طوال في أجرام الجبال، ولكن الكسل منها بمكان، فتراها تقضي الأشهر والأيام في مراكزها، ثابتة لا تتحرك؛ بل قد تتخذ الطير في آذانها وظهورها أوكارا، فلا تحرك خرطومها لتذودها، أو لتمنع الحشرات أن تدمي جلودها. قال: إذن فتلك غابة سهلة المجاز، مأمونة المذاهب على السالكين. قال: نعم، كذلك هي، إلا أنها طويلة مظلمة ثقيلة. قال: ذلك لنا فيه يا مولاي ألف حيلة. أما في جبال الثعابين فالحيلة قليلة، فتبسم الشيخ ضاحكا ثم قال: صدقت يا «هاموس»، إن الأمان ألزم حوائج الإنسان، وأطيب المكان حيث كان، فإن بان لا أهل ولا أوطان، ولا حياة ولا وجدان، وهو في الحضر منة، وفي السفر منة وإحسان.
وما هي إلا برهة زمان حتى بدت لهما أشباح الفيلة من بعد، تموج بها قباب الظلماء، فهزت رؤية ذلك من الشيخ فقال: ألا تبصره يا «هاموس»؟ قال: بلى يا مولاي، وإنه لعلى جرم كما تقول عظيم. قال: إذن فعجل بنا فورأس «آشيم» لا بتنا ليلتنا هذه إلا على ظهر هذا الكسلان. قال: وما لنا وله يا مولاي، وهذا وجه الأرض يغنينا عن متون السباع. قال: إنه يا بني جبان، والجبان مضيع الجانب، ومطية كل راكب، فلا تنظر إليه عن صفة السباع، وعد هذه الكتلة الهائلة من سقط المتاع، فلما قابلا بعضها وكان في معزل تأملاه في ضوء الشريط فإذا شيء كالجبل، في الضخامة والثقل، تزدحم الحشرات عليه وتحوم صغار الوحش حواليه، مما لم يريا له أثرا في الغابة الأولى ولا الثانية. فنظر إليه الشيخ نظرة المستزري الحاقر، وهو يقول: يا ضيعة الغابة التي أنت حاميها، يا جبل الشحم! ثم إنه أخرج ذلك المسحوق، فنثر منه في الأرض، فطارت كتائب الحشرات عن جلد الفيل، وانفضت جموع الوحش من حوله فرارا من كريهات الروائح، وعمد الشيخ بعد ذلك للخرطوم فتعلق، ثم ما زال يتسلق، حتى بلغ ذروة الرأس، فانحدر منها إلى العريض الطويل، من ظهر الفيل، وهناك نادى صاحبه، فلبى يصعد على عجل ويفعل مثلما فعل، حتى إذا اطمأن بهما المرتقى، جلسا فشعرا بذلك الجبل يميد، فسأل «هاموس» شيخه: ألا تحس بحركة يا مولاي؟ قال: بلى يا بني، ولكنها حركة الجسم بعد الموت، فإني لا أحسب هذا الكسلان إلا أغضبه سوء صنيعنا به فخطا خطوة.
ولما كان النهار، نزل الرجلان من حيث صعدا، فانطلقا يجدان في المسير والفيلة تبدو لهما من كل جانب، كتائب دونها كتائب، إلى أن وافى الظلام، فقابلاه بمثل ما فعلا في الليلة الماضية، واستمرا على هذا الحال ثلاثة أيام بليال، حتى خرجا من غابة الأفيال، ودخلا الغابة الرابعة؛ غابة النمال، فالتفت الشيخ عندئذ إلى «هاموس»، وقال: الآن نحن يا بني في غابة النمل، فلا تنظر إليه عن صغر، فما كل صغير يحتقر، وانظر إليه كيف يأخذ القوت، ويحمي البيوت، ويثبت أمام العدو، حتى يتم له الظفر أو يموت. قال: وهل هو يا مولاي من النوع المعتاد المألوف في سائر البلاد؟ قال: لا بل هو الأبيض ذو المنشار الذي لو سلطت كتائبه على جبل لأصبح هباء منثورا، وهو في حجم الخنفساء، ويذكر يوقو الصيني أن فيلا عظيما مما خلفنا وراءنا طوح به أجله إلى هذه الغابة، وكان يوقو على شجرة ينظر. قال: فلم أشعر إلا بالملايين من هذا النمل قد خرجت إلى لقاء العدو، ثم لم أدر إلا بالفيل قد قضم قضما لحما وعظما، وانصرف النمل من حيث أتى، فنزلت لأنظر فلم أجد للحيوان أثرا على المكان. قال الفتى: وما عندنا يا مولاي من السلاح لهذا الأبيض ذي المنشار؟ قال: النار ذات الدخان، وإن يوقو الصيني لم يلق في غابة من الغابات، عشر معشار ما لقي في هذه الغابة من الصعوبات، فلقد عمل تجارب شتى أخفق في جميعها.
ولو لم تساعفه الصدفة بإخطار ذكر النار على باله، لأقام بهذه الأرض عمرا متنقلا من شجرة إلى شجرة، أو منحبسا في صندوقه الحديدي من خشية الأبيض ذي المنشار. قال: إذن ففيم التأخير الآن؟ وهذا الحطب بين أيدينا حاضر وواف بالحاجة. قال: إننا لم ندن بعد من معسكرات النمل، ولا نبلغها إلا قبيل المساء، أما الحطب ففوق حاجة الطلب، وسنجده أين التمسناه.
وفي الحقيقة لم تكن أواخر النهار حتى أبصر الشيخ عشرات من النمل تعدو فارة أمامه، فصاح بالفتى قائلا: أوقد يا «هاموس»، أوقد؛ فهذا المخبر قد سبقنا لينذر، فشرع الفتى في الإيقاد، وما هو إلا أن أشعل الحطب أو كاد، حتى أحدق بهما ذلك البلاء الأبيض من كل جانب كتائب تنهال، غير مكترث بالنار ذات الاشتعال، ولا مبال بضوء لهيبها المتعال. فأدرك الشيخ من فوره أن النمل لا يرهب النار، ولكن يكره الدخان، فأخرج المسحوق بسرعة، وألقى بشيء منه في النار، فذهب دخانا كثيفا يتدجى، فلما شمت النمل منه ولت الأدبار، واختفت في مثل لمح البصر عن الأنظار.
فخلا الطريق للشيخ وتبعه الفتى يحمل في كلتا يديه النار، واستمرا كذلك يسريان إلى أن بدا لهما النهار، فأتبعا السرى سيرا غير ذي قرار، حتى تقضى ذلك اليوم أيضا، وكان آخر العهد بالأبيض ذي المنشار، فألقيا عندئذ العصا وعمدا لمكان فجلسا يستريحان من عناء ما كان، وهنالك خاطب الشيخ الفتى، فقال: اعلم يا «هاموس» أنني ناوأت الحكومات والممالك، وقطعت على الجحافل الطرق والمسالك، ودبرت للملوك كما دبروا لي المهالك، ودخلت على الأسود غابها، ولقيت سباع الأرض وكلابها، وحملت الأمراض لم أحسب حسابها، وجبت وحيدا كل قفر، ورفعت شراع كل بحر، فلا أذكر أنني عرفت لشيء مهابة، قبل عرفاني هذه الغابة، وذلك لا لأن النمل سلطان الحيوانات، أو أقوى كل هاتيك المخلوقات، ولكن لكونه أمة التعاون، والاتحاد، والثبات، وكل واحدة من هاته الثلاث كافية لتهز الأرض، وتقيم قيامة السموات.
ثم إنهما رقدا على ذلك المكان، فلم ينتبها إلا وقد ظهر الصبح وبان، فتناولا بعض الزاد ثم خفا يسيران، والشيخ يقول للفتى: اليوم نفد يا «هاموس» على الغاب الأسعد، غاب الببغاء الأسود، فاستعد لذلك، فكل العجائب هنالك. قال: وهل بلغناه بعد يا مولاي؟ قال: بل ندخله والضحى. قال: وما عليه من الحيوان؟ قال: بل قل: من الإنسان؟ فالتفت الفتى كالمستغرب الدهش، فعاد الشيخ فقال: نعم يا بني، من الإنسان، فإن غابة الببغاء الأسود تأويها من عهد مجهول للعلم، عائلة بشرية متوحشة أورثها أبواها الأولان عبادة الببغاء، ويذكر يوقو الصيني أنها كانت من ستمائة سنة؛ أي على عهد نحو ألف، ولكنها كانت مبتلاة في زمن وجوده في الغابة، بنوع من الأوبئة خاص بالقردة، وكان يفتك فيها مسرفا وهذا أغرب ما سمعت للآن، حتى لقد حرت فما أدري هل الإنسان من القرد أم القرد من الإنسان؟ قال: لعلها يا مولاي خطرة من وساوس ذلك العالم؟ قال: إن العلماء لا ينطقون عن الهوى، ولا ينبغي لهم، ولا لك أن تتهجم على مقاماتهم يا «هاموس».
وما هي إلا ساعتان من الزمان، حتى غشي الرجلان المكان، فإذا هما بقبة واحدة عظيمة من الشجر المتشعب الأغصان، المتكاثف الأفنان، عائبة الجوانب في الأفلاك، لاحقة الذرى بالسماك، فلما صارا تحتها واطمأن بهما فضاؤها، سأل الفتى شيخه قائلا: أين يا مولاي ذلك الإنسان؟ إني لا أجد ريحه على المكان. قال: لعله يا بني لم يحفظ من خلائقه الأولى سوى الجبن، فلما تنشق نسيما غريبا أخذ لنفسه الحذر، فتوارى خلف هذا الشجر. قال: والآن كيف السبيل إلى الببغاء الأسود، ونحن بين خلق من الطير لا يحصى، ومساكن في هذه الذرى الشم لا ترام؟ قال: لقد سألت يا بني عن الأمر العظيم، فاعلم أن أول من وصل إلى هذه القبة واقتنص الببغاء، هو أبو السياح العالم الشهير تيحو المصري المنفيسي المتوفى من نحو عشرين قرنا، وقد فصل رحلته الفاخرة، وبين علمه العظيم في كراسة من ورق البردي، فوقع النصف الأول منها في قبضة يوقو الصيني، وكان كذلك عالما مولعا بالأسفار، فسافر خلف دليل من ذلك السفر الجليل، حتى بلغ هذه الغابة التي كان من شقاء يوقو أن الكلام ينتهي إليها فيما بيده من الكراسة، فاضطر إلى الرجوع خائبا بعد أن كاد يأتي بالمستحيل، لاستنزال الببغاء من أيكه المنيع فلم ينجح فيما حاول.
أما النصف الأخير من الكراسة، فقد عثرت أنا عليه في مكتبة معبد طيبة الأكبر أيام قيامي بتوكيل هذا المعبد، فأخذته لنفسي وشرعت من ذلك العهد في البحث عن النصف الأول، ولكن بحث اليائس العارف أنه يروم المستحيل، إلى أن كان ما هو معلوم مشهور، من شرائي لتركة يوقو الصيني التي نقدت فيها ملك الصين الجاهل ثلاثين ألف حلقة من الذهب، دفعتها من مالي الخاص. فكان من تمام سعدي أنني وجدت بين أشيائها النصف الأول من الكراسة، ومعه كراسة أخرى كاملة من قلم يوقو يشرح فيها رحلته ويذكر خيبته، ويودع الحياة ويزعم أنه لما وصل الصين آيبا من سفره ذاك، شعر على الأثر بانحطاط القوى، ودبيب الفناء، ويختم بالدعاء لمن يقصد بعده غابة الببغاء الأسود أن ينقلب أسعد منه حالا، وأحسن منه مآلا.
فلما صار ذلك كله في يدي، ودون بعضه يا بني ملك الدنيا، رحت أحلم ليلي والنهار، بالرحلة إلى هذه الأقطار، واقتفاء آثار أولئك الرجال الكبار، إلا أن الفرص لم تكن تسنح، ولا الصدف كانت تسمح، إلى أن كان ما كان من اعتزالي الكهانة، وانفصالي عن خدمة الديانة، ودفعت بي الحماسة في ولاء الأمير «آشيم»، ولي عهد بلادنا المحبوبة إلى أن آتي هذه الديار لأسرق عشيقته الأميرة عذراء الهند، ثم أحملها إليه هدية من عبده «طوس»، مصحوبة بالثناء عليه. فرأيت أن نغتنم فرصة استظلالنا بسموات الهند، لنقتنص ذلك الأسود الذي يلقبه تيحو الصيني بالمغني عن سؤال الأفلاك.
وما فرغ الشيخ من عبارته حتى أخذ أولئك البشر المتوحشون ينهالون عليهما من كل ناحية ومكان، وهم في صورة القردة، ولهم خفة المردة. فلما رآهم الفتى تفزع لرؤيتهم، واهتز إشفاقا من كثرتهم، فالتفت إليه الشيخ قائلا: تشجع يا «هاموس»، وألصق ظهرك بظهري، ثم در معي كيفما أدور، فإنني منيمهم جميعا في لحظة، فأسند الفتى ظهره إلى ظهر الشيخ وجعل هذا يدور، ويكثر الصراخ كالليث الزءور، وكلما وقعت عيناه على جماعة من ذلك الإنسان المتوحش راحت نائمة، وهي قائمة، كأنما سمرت في الهوى، أو كأن بها سحرا، فلم تكن لحظة حتى صار أكثرهم في أسر الشيخ وفتاه، وفر الباقون مختفين في جوانب الغاب وزواياه.
وبعد ذلك عمد الشيخ لثلاثة من الأسرى، فأطار أعناقهم بضربة واحدة من سيفه المسلول، ثم التفت إلى الفتى يقول: الآن ينزل ساكن السماء يا «هاموس». قال: وما ينزله يا مولاي؟ قال: رؤية الدماء؛ دماء البشر، فإن له بها من الكلف والغرام، فوق ما بالفراش من النار ذات الضرام، وفي الحقيقة ما أتم الشيخ هذا الكلام، حتى نزل طائر صغير، كأضأل العصافير، أسود بإنارة، كفحم الحجارة، فجعل يدنو طورا وينأى تارة، ثم غمس في الدماء منقاره، فشرب ما شرب، حتى انتشى وطرب، فتقدم الشيخ عندئذ نحوه، وهو لا يكاد يملك من السرور خطوه، فقبض على الأسود متلبسا بالنشوة، وكان قد أعد لذلك سلسلة من الذهب طويلة خفيفة، محكمة ظريفة، فشد بأحد طرفيها لحم ساعده، وقيد بالآخر الببغاء، ثم حمله على كفه، وجعل يتأمله ويخاطبه قائلا:
أهلا بعاشق الدماء، المغني عن استشارة السماء، الطويل البقاء، المنبئ بالرياح والأنواء، المشير أبدا نحو المشرق بجبهته السوداء، الزاجر عن نزول الدأماء، إذا كان في ركوبها بلاء، الحافظ الكلم المعيدها لمن شاء، متى شاء، المبشر بالضحك، المنذر بالبكاء، الناتف ريشه إذا أحس من أجل حامله الانقضاء.
الفصل الثالث
الاستعداد في الهند لاستقدام الأميرة
لقد مضى على إقامة الأميرة في الجزيرة ستة أعوام وبعض عام، قضاها الملك في أسر القلق والأوهام، لا يعرف الراحة ولا يهنأ المنام، من الفكر فيها وفي أحوال ذلك الغرام، وتوقعا أن يتم بأخذها لعدوه المرام.
وكأنما كان شنو يتمثل مكان الأسى من الوالد، ويرى جيئة الهوادس، وذهابها في فؤاده المشوق الواجد، فلم يكن يدع سفينة الزاد تعود إلا ويحملها من البريد إلى الملك ما يخفف من كربه، ويعيد السكينة إلى ربوعها من قلبه، حتى ولت السنة السادسة، وهلت السابعة، فبلغ مسامع الملك أن رجلين غريبين متنكري الزي مريبين، قد رئيا على نقط من المملكة، ثم في العاصمة؛ حيث كانا يجتمعان بأحد بحارة الأساطيل، فلما بلغ «دهنش» الخبر قام له وقعد، وأحدق به الوسواس بعدما كان ابتعد، فأقام حكومة العاصمة وسائر قوات الأقاليم في طلب ذينك الرجلين، طلب قوي قادر مطلق في الأحكام، حتى تفرغ الأهالي وضاقت البلاد بالعيون والأرصاد بدون أن يقبض على الغريبين، أو يبلغ «دهنش» منهما المراد، فتحول عندئذ غضب الملك كله نحو ذلك البحار المسكين، فلم يغادر صنفا من العذاب إلا عذبه به، فلما فتش فيه وجد نحو ألف حلقة ذهبية من العملة المصرية، وعدد كثير من أواني النبيذ بين ملأى وفوارغ، وكانت كذلك من صناعة المصريين، فجلت عندئذ التهمة وهالت وبولغ للرجل في التعذيب، ولكنه كان خائنا شريفا، فلم يزل مصرا على الجحود حتى قتل كخائن مرتش، وهكذا اشتريت ذمة الإنسان في الزمان الأول بالمال محمولا من أحد طرفي الأرض إلى الطرف الآخر.
إلا أن بريد الجزيرة كان لا يزال يرد كالعادة منبئا باستمرار استقامة الأحوال هنالك، ومبشرا بمصير صحة الأميرة من حسن إلى أحسن، فكان الملك يطمئن بهذه الأخبار بعض الاطمئنان، ويتكل فيما سوى ذلك على السفن العديدة التي كان بادر من تخوفه فبثها في مداخل المحيط ومخارجه، لتحمي الموارد والمصادر، وتكون بالمرصاد لكل فلك عابر، قادم أو مسافر. ثم على مستيقظة الجنود الساهرة، كذلك للمراقبة على الحدود بين مملكته وبين الهند الغربية من جهة، وبين الأولى والصين من جهة أخرى، حتى إذا كان ما بعد النصف من العام السابع موعد الإياب، وأوان تشريف ذاك الركاب، أسرع الملك يستعد لاستقدام الأميرة، ويهتم لها بأمر ترحيلها من الجزيرة ، فاختار لهذا الشأن الجليل، أسطولا من أحسن الأساطيل، ثم انتقى له أخاير الرجال، من بين صفوف البحارة الأبطال، وشحنه بعد ذلك بالذخائر والمهمات، وما يستلزمه حسن الدفاع من العدد والآلات، حتى تم أمره واكتمل، وصار صالحا للعمل، ولم يبق غير انتخاب القائد الذي يحقق الأمل.
وكان لعذراء الهند قريب من خيرة أمراء العائلة يدعى ثرثر، وكان ابن أحد الملوك المستظلين تحت لواء «دهنش»، وكان ثرثر يحب الأميرة حبا شديدا، ويؤانس من والدها الملك الارتياح لمصاهرته، ويطمع منه بالقبول التام إن هو خطبها إليه، نظرا من جهة لما كان له من المكانة الخاصة في الحب عند الملك، ومن جهة أخرى لكون نسبه العالي يرشحه لهذا الشرف الرفيع، ويجعل له التفضيل على الجميع.
وكان حب ثرثر لعذراء الهند صادقا ثابتا جنونيا إلى حد أنه لم يتأثر مثقال ذرة بسوء حال الفتاة، ولا بما شاع وذاع وطرق جميع الأسماع من غرامها الهوسي ب «آشيم»، وغضب الملك عليها بسبب ذلك، ونفيه إياها إلى مكان بعيد، كما أنه لم يسله بعد الأميرة عن عينه كل هاتيك السنين بجزيرة العذارى.
وإذا كان الملك مطلعا على سرائر الفتى في الحب من أول يوم، واقفا تمام الوقوف على حركات هذا الغرام وسكناته في كل تلك المدة، فقد رأى أن يغتنم فرصة قرب عود الأميرة، ليظهر له ما طالما عقد عليه النية من تشريفه بالمصاهرة، فطلبه من أبيه ثم سلمه أزمة الأسطول، ووعده أنه إن عاد بعذراء الهند سالمة، زوجه بها قادمة، بحيث تكون الليلة الأربعون، من عودها الميمون، ليلة الزفاف والمهرجان، التي يتم له فيها بالحبيبة القران، فقبل ثرثر الأرض وبالغ للملك في الخطاب حامدا شاكرا، ومحدثا بالنعمة وذاكرا، واستأذن بعد ذلك في السفر، فأذن له فخرج فقبض من فوره على أزمة الأسطول، وكان مؤلفا من سبع سفن كبار، ومن ثامنة فيها المهمات والذخائر، وعليها الأدلاء العارفون بمداخل هاتيك الجزائر، ثم صدرت الإشارة للأسطول بالإقلاع، فتحرك فاندفع يشق العباب والتيار، وهو يقف بالليل وينساب بالنهار، إلى أن شارف في اليوم العاشر أرخبيل الجزر الأبكار، وكان الظلام قد هجم يحول دون الاستمرار، فلم تجد السفن بدا من الإرساء والانتظار، فلوت على أول جزيرة منه فألقت عصا التسيار.
الفصل الرابع
عود للصاحبين في الغابة
لما فرغ الشيخ من خطاب الببغاء، التفت إلى الفتى فقال: لم يبق إلا أن ننظر في الخروج يا «هاموس». قال: فليكن ذا يا مولاي. قال: ولكني لا أحب أن نكون لتيحو وبوقو كلبي صيد نصبر على فضلاتهما، ولا نخرج عن مدى خطواتهما، بل أحب أن نبني مثل بنائهما، فإن المجد في الدنيا اجتهاد، وإن الكريم إذا ورث شيئا أضاف عليه من عنده وزاد. قال: وما وراء هذه المقدمات يا مولاي؟ فتبسم الشيخ ضاحكا ثم قال: أريد يا بني أننا نحذو حذو ذينك البطلين، فكما أن الأول أنشأ طريقا؛ تلك التي جئنا منها، وكما أن الثاني اكتشف لرجوعه طريق الغابات الثلاث نحو الشمال، فخرج منه آيبا إلى وطنه الصين، كذلك أصبح دينا علينا نحن المقتفين لآثارهما أن نبحث لنا عن طريق نخرج منه لا يكون هذا ولا ذاك، ليبقى أثرا طيبا بعدنا، وبرهانا ساطعا على إقدام المصريين. قال: وإني لا أكره يا مولاي أن أكون من العاملين النافعين. قال: إذن فاتبعني. ثم إنه نظر إلى اتجاه منقار الببغاء، وكان موليه شطر المشرق، فتعين عنده الشمال الشرقي، فسار والفتى يتبعه حتى خرجا من غابة الببغاء الأسود، فإذا هما على أرض ذات شجر ونبات، لا تخرج عن صفات ما مر عليهما من الغابات، إلا أنها عطل من الحيوانات نقية من الحشرات، فمشيا فيها بقية نهارهما حتى جاء الليل، فأبرز الفتى الشريط ليوقده كالعادة، فمنعه الشيخ قائلا: إن النور كما يهديك يهدي إليك، وإن الخمول خير ما ارتدى الجاهل المجهول، فلا تظهر يا بني الساكن الغاب قبل أن يظهر لك، واحتجب فإن تسعة أعشار الهيبة في الحجاب.
وفي الحقيقة ما أتم الشيخ كلامه حتى أخذت سماء الغاب تتنكر لناظرها، وتتدجى قليلا قليلا، فإذا هي كتلة هائلة سوداء قائمة في الهواء ، ثم إذا بهذه الكتلة تهبط بمقدار حتى انكفأت على الأرض فتركتها بغير قرار، فقال الشيخ عندئذ للفتى همسا: لا يلبث هذا الصخر الهابط أن ينام النومة التي ما بعدها قيام. قال: لعلك تريد قتله يا مولاي؟ قال: ولم لا وليس هو - إن صدق زعمي - إلا غواص المحيط الأكبر فبطنه المحيط الأصغر، الحامل لمدهشات الجوهر، وإن لنا لجولة فيه نعلم بها ما يخفيه. وكان الطائر في أثناء ذلك قد نام وعلا له شخير شديد كادت له الغابة أن تميد.
فبادر الشيخ إليه بآنية صغيرة فيها شيء من السوائل، فلم يزل يصب منها في منقاره المنفغر، حتى مال رأسه وانطبق فمه وارتخى جناحاه، ثم انقض يخب على الأرض، فالتفت الشيخ إلى «هاموس» وكان خلفه قائما ينظر. فقال له: الآن نشرع في العمل، فخذ لك سكينا وساعدني على فتح هذا البطن الجسام، فجرد الفتى سكينه وانكبا على العمل، فما زالا يعالجان ذاك البطن حتى انفتح، فإذا هو كالشكول أو كبطن النعام يحتوي على المعدن وغير المعدن، ويحمل ما يهضم من الأشياء وما لا يهضم، فأنزلا كل ذلك إلى الأرض ثم ابتدراه بالأيدي يقلبان ويفتشان، فعثرا بين تلك المواد على شيء كثير من الحجارة المختلفة المقامات، المتفاوتة الدرجات.
وكان الفتى يغسل والشيخ ينقد فإما إلى الخزانة وإما إلى الأرض حتى حصلا على كنز من أنفس الكنوز، ولم يكن بقي سوى الفضلات، فنهضا للرواح، ولكنهما ما هما حتى عادت السماء فتنكرت ثانية، وشوهدت تلك الظواهر بعينها، فصاح الشيخ حينئذ بالفتى قائلا: هذا الذكر يتنزل يا «هاموس» فاستل أكبر خناجرك وأمضاها، وقف بجانبي، فإذا رأيته وقد مست مخالبه الأرض وجناحاه مبسوطان من قوة الهبوط يخفقان، فاطعنه تحت أحدهما، وخل الآخر، فإني ممكن منه خنجري قبل أن يتمكن من النظر إلى رفيقه، ورؤية ما حل به، فيهيج فنقع معه في حرب وكرب.
وما فاه الشيخ بهذه الكلمات حتى بلغ الطائر الأرض، فما كاد يطمئن بحيزه العظيم منها حتى سأل الشيخ الفتى: كيف طعنتك يا «هاموس»؟ قال: من المذيبات الحديد يا مولاي. قال: إذن فتقدم؛ فقد هلك هذا الآخر أيضا وآل إلينا كنز جديد، ثم إنهما انبريا يفعلان به كفعلهما بالأول، فبينما الفتى يلتقط وينقي ثم يناول الشيخ وهذا يأخذ، أو ينبذ، دفع إليه «هاموس» بلؤلؤة صفراء بلمعان الذهب، ولها شكل البيضة الصغيرة وحجمها، فحين وقع نظره عليها لم يتمالك من فرحه أن صرخ قائلا: أتدري قدر ما ناولتني يا «هاموس»؟ قال: وما عساي ناولتك مما فات التفاتي قدره يا مولاي. قال: يتيمة الصين المحتجبة منذ آلاف السنين. قال: وأين كانت قبل طول احتجابها؟ قال: في صدور الملوك والسلاطين، يحملونها فتكسو وجوههم أزين اللون وأجمله. كما أنها تكسب الثياب لمعانا لطيفا، فإذا رأيتها حسبتها مزرة على النجم الساطع، وكذلك هي تداوي من عشق الحسان، فإذا حملها إنسان، وكان مصابا بهذا الداء القتال، انصرف عنه مع الزمن وزال، فكأنما يتسلى بجمال، عن جمال، ويتعوض باشتغال، عن اشتغال، ويزعمون أيضا أنها كانت حجاب هيبة وجلال، وسعادة وإقبال، لبيت من البيوت المالكة في الصين قديم خال، فلما فقدت أخذ ملك الصين في الاضمحلال، ووقعت البلاد من ذلك الحين في شر حال. فأنا لو حملتها اليوم إلى ملك الصين لأعطاني بها الجبال الشم من المال. فإن استزدت شاطرني ملكه الواسع مرتاحا غير قال. فمرحبا بك يا يتيمة الصين، وأهلا وسهلا بهذا الحباء السماوي الثمين، ثم إنه لف الدرة بصيانة، ووضعها في جانب خاص من الخزانة، ونهض بعد ذلك فسار، ومشى الفتى يحمد مع شيخه الأسفار، وقد ثبت عنده أنها خير الحبائل لصيد محاسن الصدف، واقتناص عجائب الأقدار، إلى أن راح الليل وجاء النهار، وإذا الغابة خالية الجو لهما صفر من الوحوش والأطيار. فاستمرا في سيرهما آمنين ناشطي الأقدام، فقضيا نهارهما ذاك في طعام ومدام، ومشي وكلام، حتى وافى الظلام، فقابلاه على ذلك الغاب الأمين بطيب المنام.
فلما أصبح الصبح انتبها من رقادهما، وكانت الغابة قد أخذت تتبدى لهما في مظاهر غير تلك المظاهر، وتتبدل أمامهما مناظر من مناظر؛ فأدرك الشيخ حينئذ أنهما يفدان على غابة جديدة، فنبه الفتى لذلك ثم قال: لم يبق ما لم نصادف غير النمر، مع كونه حيوان الناحية، وطامة الهند والداهية. قال: لعل هذه غابته يا مولاي؟ قال: لعلها يا «هاموس». وإني أكاد أحس سره في المكان. قال: وهب أنها غابته، وأنه خرج إلينا، فبماذا نحن ملاقوه يا مولاي؟ قال: بالخناجر الماضية يا «هاموس».
وبينما هما كذلك في ذكر النمر يتوقعان ظهوره، تقضى الشيخ نظره الحديد، فرأى حيوانين صغيري الحجم أسودين يقبلان من جوف الغابة؛ فأشار للفتى أن يستعد قائلا: هذا هو النمر الرهيب يا «هاموس»، لقب بذلك لأن النمورة على اختلاف أنواعها وأجرامها ترهبه على قلة حجمه، وتجفل عن لقائه، ولا تملك لمفاصلها شدا أمام نظراته الجاذبة المؤثرة، ولا أحسب هذين إلا ذكرا وأنثى فتكفل أنت بأصغرهما. وهي الأنثى، وخل لي الآخر، والآن دعني أطعنهما بالرعب قبل طعن الخناجر.
ثم إنه انبرى هائلا كالصخرة فجعل يهدر يمنة مرة ويسرة، ويبعث الزائرة، بعد الزائرة، والخنجر بيمينه يتوقد كالجمرة، حتى إذا ظهر الأسودان، وبان كلاهما للعيان، صرخ الشيخ قائلا: الق كلبتك يا «هاموس»، فطار الفتى نحو الأنثى، وابتدر هو لقاء الذكر فبلغه في وثبة، وكان كأنه الثعبان النافر، استجماعا وقياما يلحظ الشيخ شررا بعينيه تتدفقان جمرا، وبين فكيه جهنم الحمرا، وهو حنق ثائر يزأر زأرا، فما زال الشيخ به يزائره ويشابه ويداوره، حتى تمكن من ظهره، فأنشب فيه خنجره، فخر الحيوان على الأرض هدا، فتركه كذلك شيئا، ليس بالحي، ومشى سريعا نحو «هاموس» لينظر كيف حاله مع الأنثى، فإذا هو لا يزال معها في عنيف قتال. وقد ظهر على ساعديه الكلال، فأومأ إليه أن يكف فكف، وأخذ هو محله في الصف، وكانت الخبيثة قد وهنت قواها، وأوشكت أن يخذلها ساعداها، فلم يقتلها الشيخ، ولكن أسرها، فاستغرب «هاموس» فعله وسأله قائلا: ما نفعها يا مولاي حتى تكلفنا عناء سحبها وحبسها؟ قال: إننا سنطلقها يا «هاموس» إذا حققنا أن لها صغارا ينتظرون أوبتها انتظارا. قال: ومتى رئي أو سمع أن السباع تؤسر ثم تطلق؟ قال: ليس الجبن مني بهذا المكان حتى أرهب فريستي أو أهاب أسيري، وليست المروءة بضائعة عندي إلى هذا الحد حتى أظلم صغار هذا الحيوان (الخفيف):
إن تكن ظافرا فكنه برفق
فشجاع بغير رفق جبان
إن عندي لكل شيء تماما
وتمام الشجاعة الإحسان
ثم إنه سار يسوق أسيره بين يديه و«هاموس» خلفهما يكثر التعجب من الأمر حتى إذا قطعا مسافة عظيمة من الطريق شعر الشيخ بالنمرة تجاذبه الحبل بقوة نحو اليمين، فنبه «هاموس» لذلك ثم أطلقها، فإذا هي قد أخذت اليسار تعدو عدوا حتى توارت عن نظريهما فتركاها وشأنها واستمرا في سيرهما. فسأل «هاموس» عندئذ شيخه قائلا: ما بالها يا مولاي أخذت اليسار وقد كانت تجاذبك الحبل نحو اليمين؟ قال: إنها كانت تصرفنا عن مناخ صغارها، وهذا يا بني من غريب الحنان عند الحيوان؛ فالشفقة عنده مبصرة بقدر ما هي عمياء عند الإنسان.
وكان النهار قد فني أو كاد، ووجوه الغاب قد أخذت تتصور صورا جديدة، فصارت الأرض رملية صفراء، وكانت طينة سوداء، وتحول الشجر من الطول للقصر، وظهر في الصغر بعد مظهر الكبر، وأخذ يقل بعد الكثرة، ويتعوض عن لون الأخضر بالصفرة، وانكشفت لناظرها السماء، وسرى نسيم الدنيا في ذلك الفضاء، فالتفت الشيخ عندئذ يقول للفتى: لقد أوشكنا نستقبل سماء الدنيا يا «هاموس». ولو شئت وشاءت لك القوى فوافقتني على متابعة التقدم لأصبحنا وليس قدامنا إلا فضاء البحر طويله وعريضه. قال: هذا ما أبغي يا مولاي، فسر بنا على اسم السلامة.
ثم إنه أشعل الشريط وسار يتبع مولاه، ولكنهما ما كادا يحوزهما الفضاء حتى سمعا زئيرا يردد من بعيد، فتفرغ الفتى والتفت الشيخ فأجهد أذنيه، ورمى في فحمة الظلماء بشرر حدقتيه. ثم قال: تلك أسيرتنا التي مننا عليها بالإطلاق، قد زكا عندها المعروف، فأتت تحذرنا من محذور، وتنبئنا أن الطريق معمور. قال: وما عسى يا ترى أن يكون على هذه الأرض العراء؟ قال: ليكن ما هو كائن يا «هاموس»، فورأس «آشيم» لا تزعزعنا ولا تزحزحنا ولا امتنعنا عن السرى، ولا استرحنا أو نرى النهار طالعا. ثم إنه مد لقدمه الخطو يصل السرى، وتبعه «هاموس» مطيعا ممتثلا، فما زال يعتسفان في بوادي الظلام وبين جيوشه والخيام، حتى انتصف الليل فلم يدريا إلا بشيء هائل كالتل قد أقبل من بعد يسعى. فقال الشيخ عندئذ للفتى: عجل يا «هاموس» فأنل بطنك ظهر الأرض واعتنقها ثم لا تتحرك، وأنا أيضا فاعل ذلك، حتى نرى لنا مع هذا التل الزاحف أمرا.
وما هو إلا أن انطرح الرجلان بتلك الصورة على الأرض حتى مر بهما حيوان هائل الجثة في عرض الفيل الكبير وطول أربعة من الفيلة مقطورات، وهو يمر مر الريح، فيسيل بمزاحفه الغاب، وعلى بشرته الحجرية خلق لا يحصى من حشرات البر والبحر، وهو لا يحس منها بشيء ولا يستشعر لحملها ثقلا، حتى إذا صار بعيدا عنهما نهضا. فقال الشيخ ل «هاموس»: إن هذا الوحش بحري بري في آن، وهو لا شك قادم من البحر، ولعل له بيضا على هذا المكان، فهو يغشاه ليتعهد بيضه، ثم يعود إلى عالم الماء.
والآن إذ قد صرنا ولا مقصد لنا إلا البحر، فهذه خير فرصة تغتنم للاختصار من الزمن وتقريب المسافات؛ لأن ما نسيره نحن منها في أيام، يقطعه هذا الفلك البري في ساعات. قال: لعلك ترى لنا يا مولاي أن نمتطي ذاك الجبل المتحرك؟ قال: ولم لا وقد ساقته لنا السعادة مطية لم يركبها قبلنا أحد؟ قال: أنت يا مولاي كالقائد الجريء السعيد يراه الجند أولى بالطاعة، وإن ضرت منه بالمخالفة، وإن نفعت فاقض ما أنت قاض. فإشارتك مطاعة في كل مقترح. قال: إذن فاستعد لما أشرت به، فإذا رأيت الوحش وقد دنا منا عائدا من مبيته فثب فتعلق فاركب، ثم يكون لنا نظر في الطريق التي يأخذها نحو البحر، فإن كانت شمالية غربية بقينا على ظهره، وإلا نزلنا نمشي ولم نكن خاسرين.
وفي الواقع لم يكن الفجر حتى ظهر الوحش آيبا من مبيته، وكأنما يقصد إلى البحر، فابتدر الرجلان لقاءه، فنالا ظهره في وثبة، فاستمر يجري بهما في رمال حالية بلألاء الفجر وضاءة الخلال منحدرا في جريه نحو الشمال، حتى إذا كان الصبح فالضحى فالظهر، لم يشعر إلا بموج المحيط يتعالى من بعد كالجبال، فترجل عندئذ الشيخ، ونزل «هاموس» على أثره. وهنالك افترقا فأخذ أحدهما بين الساحل وذهب الآخر يسرة، وكلاهما غاد يجد في طلب المركب والصيادين، ولكنهما ما اندفعا يسيران حتى أبصرا معا شبحا يتقدم تحت سماء البحر، فوقفا كلاهما يجهدان النظر، حتى إذا حققا أنها ذات شراع تنشطت الماء ووافت تحتال على الإرساء، انثنيا عائدين أحدهما للآخر، فأقاما ينتظران ما يكون من أمرها إلى أن نالت الشاطئ، فنزل منها رجل أسمر اللون أجرودي، ضيق العينين بحياة فيهما، عظيم الرأس قصير القامة، عبل الساعد، ممتلئ الأكتاف، وعليه ثوب من الكتان يبتدئ من مرفقيه وينتهي إلى ركبتيه.
فلما رآه الشيخ يتقدم تبسم ضاحكا، ثم قال ل «هاموس»: هذا صاحبنا بلباص يسعى إلينا، فدعنا نلقاه بشيء من المزح، وكان الرجل قد دنا فخاطبه الشيخ قائلا: ما هذا الإبطاء يا بلباص؟ قال: لم أبطئ، ولكن تعجل حضوركما يا مولاي. قال: وكيف حالك وما يصنع رجالك؟ قال: لا أكاتمك الحقيقة يا مولاي، لقد لقيت من سفري نصبا، وأقسم لولا أنني أخافك حتى في أعماق هذا البحر، لفضلت الهلاك بتياره، والثواء بقراره، على البقاء ساعة واحدة في هذا الفلك، وبين هؤلاء الهنود. قال: وما صنعوا بك مما أغضبك إلى هذا الحد؟ قال: بل أنا أشكو من قذارتهم لا غير يا مولاي، فإنهم كالسمك المنتن البائت الذي يصبح فوق ما يمسي، فراح الشيخ مغربا في الضحك. ثم قال: أنزل أولئك المقاذر إلى البر، فإني مداويهم لك يا بلباص. قال: سمعا وطاعة يا مولاي. ثم نفخ في بوقه فأقبل أربعة من المصريين أعوانه الخصوصيين، واثنا عشر آخرون من هنود الشمال لهم جسوم الأطفال، وعليهم ثياب واسعة بأكمام طوال، وهم يثبون كالعفاريت ويضطربون كالظلال، فمشى الشيخ حينئذ نحو الماء والجميع يتبعونه، ثم تجرد عن ثيابه ونزل فنزل «هاموس» وبلباص والهنود على أثره لبثوا برهة يغتسلون، ثم خرجوا من الماء فتردوا ثيابهم.
وسار الشيخ بعد ذلك بهم إلى السفينة، فاندفع يأخذ من الماء ويغسل، وأيدي القوم إلى يده بالمساعدة، حتى نظفت تمام النظافة، فالتفت الشيخ عندئذ إلى بلباص قائلا: ها قد أرحتك من تلك الروائح يا بلباص، فهل أنت مجازيني بشيء تطبخه لنا يلذ طعمه ويسهل هضمه؟ فإن عهدي بالطيبات من طبخ يدك عهد طويل. قال: قريبا وسهلا يا مولاي. ثم أسرع إلى مخزن السفينة، فأخرج منه سلة سمك من صيده، فشوى منه شيئا، وسلق شيئا، وأخرج كذلك شيئا من النبيذ، ثم قدم ذلك كله للشيخ، فدعا هذا أصحابه وجلس الجميع يتعشون حتى إذا فرغوا من أكلهم وشربهم وتوسدوا الرمال، فباتوا ليلتهم تلك ناعمي البال، وقد ضربوا الفجر موعدا للإقلاع على كل حال.
الفصل الخامس
فيما كان من أمر الأسطول
تركنا الأسطول وقد ألقى المراسي ينتظر النهار على الجزيرة الأولى من أرخبيل الجزر الأبكار، والآن نذكر ما كان من أمره فنقول: كان قد مضى من الليل نحو ثلثه فأخذ النوم يطمئن بمقاعده من الأجفان، ولم يبق من ناس الأسطول من لم ينم إلا جماعة الأدلاء. وكانوا في السحر على ظهر السفينة؛ سفينة الذخائر، وكانت في معزل، فاتفق أن أحدهم ارتجل نظرة في الأفق، فلاح له ضوء نار يخفق من بعد على فضاء الجزيرة، فاستلفت أنظار أصحابه إلى ذلك، فلم يهزهم الأمر بادئ بدء، بل استمروا في مجلسهم يتسامرون إلا أن كبيرهم ما لبث أن استحوذ عليه القلق، فخاطبهم قائلا: ماذا علينا يا قوم إن نحن مشينا إلى هذا الضوء لنكشف ما وراءه؟ فإن كان خيرا كانت رياضة لا بأس بها، وإن كان شرا نبهنا إخواننا رجال الأسطول لموضعه فنكون قد أدينا واجبا من ألزم واجبات الجند بعضهم نحو بعض. قالوا: حسنا، ثم بدروا إلى البر من لوح مدوه للنزول عليه، وكانوا أربعة، فمشوا قاصدين وجهة الضوء، حتى إذا صاروا على قريب مسافة منه، سمعوا غناء ورأوا على المكان ناسا في لهو وطرب وشرب راح، فأكثروا التعجب لذلك، واستأخروا يتهامسون. فقال أحدهم: لا أرى هؤلاء إلا صيادين أضلهم البحر. فقال آخر: نعم، من متوحشة الصيادين الشماليين، فهذا الزي زيهم وأنا أعرفه. قال الثالث: ولكنهم سكارى لا يؤذون. فقال الرابع: إذن فلنتقدم إليهم لننظر، فتقدم البحارة الأربعة حتى شارفوا حلقة القوم فحيوهم، فردوا التحية هادئين مطمئنين لا نافرين ولا وجلين.
فسألهم أحد البحارة: من القوم؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ قالوا: صيادون أضلنا الليل، فاتخذنا هذا الساحل مبيتا، وسنقلع والصبح قاصدين الشمال. قال: إذن فواصلوا أنسكم، وتمتعوا مما أنتم فيه من اللذات. قالوا: وهل لك وإخوانك في مشاطرتنا صفو ما نحن فيه؟ فالتفت البحار إلى أصحابه، فآنس من لحظاتهم الموافقة، فلبى الدعوة عن نفسه وعنهم، ففسح لهم الصيادون من مجلسهم فجلسوا، وجعلت بين أيديهم قدور ملأى من النبيذ المصري، وكان في بلادهم يسوى وزنه ذهبا، فلا يقتنيه إلا الملوك والأمراء، ولا يسرف في شربه إلا الخليعون من كبار الأغنياء، فلا تسل عن فرح البحارة بما أوتوا، ومهد عذرهم إذا هم باعوا الوظيفة والأسطول ومن فيه بلذيذ ما في القدور.
وطفق الصيادون يجزلون للإدلاء من بنت العنب، وما يقتضيه مجلسها من اللهو والطرب، حتى ارتفع الحجاب من نفسه وزالت الكلفة، وذهب الوقار وغلبت الخمر البحارة على شعورهم، فباحوا للصيادين بسر المأمورية بعد أن حدثوهم حديث عذراء الهند من أوله إلى آخره، وعرفوهم بوظيفتهم في الأسطول، وأنهم أدلاؤه الذين بهم في البحر اهتداؤه، وأن بأيديهم وحدهم مفاتيح الأرخبيل، وعندهم دون سواهم أسرار مداخله التي فيها من الصخر الغائص في البحر الغائب، تحت صفحات الماء ما يجعل جزيرة العذارى أبعد منالا من الشمس في كبد السماء.
فلما أخذ الصيادون السر جميعه انفصل اثنان منهم فابتعدا قليلا يتماران. فقال أحدهما للآخر: ما بال الرئيس أبطأ في العود؟ فإن له يوما وليلة متغيب يكشف المواقع وينظر له طريقة نحو الجزيرة. قال: وما عسى أن يكشف أو ينظر، وقد سمعت ما قال الأدلاء؟ وهو لو حضر الآن لتركنا الأسطول في نومة تكون طويلة، ثم سرنا مهتدين بهؤلاء البحارة، فلا يمضي يومان إلا ونكون في الجزيرة. قال: نعم، حضوره الليلة ضروري لنجاح المشروع؛ لأن قدوم هذا الأسطول لم يكن منتظرا، ويخشى أن يسبقنا إلى الجزيرة، فيفسد علينا أمرنا وتذهب كل هاتيك المشاق أدراج الرياح.
وبينما الرجلان في الكلام أبصرا شبحا يتقدم تحت سماء الليل، ثم سمعا حركة فلك تمخر، فقالا: هذا لا شك الرئيس. فلنبادر إليه بالبشرى، ثم توجها اتجاه الفلك من الساحل. وكان أصحابها قد لحظوهما من بعد. فما هي إلا هنيهة حتى جمع البر الجميع، وكان أول من نزل إليه الرئيس، فأقبل على الرجلين حنقا هائجا. يقول: ما خطب هذه السفن يا بلباص؟ وهل خطر ببالك أن تكشف حالها؟ أم أنت لا تدري من الأمر سوى الغناء وشرب الخمر ولا تأتي من العمل غير النوم الطويل والكسل؟ فأجابه: عفوا يا مولاي، فإننا ما خففنا إليك إلا لنكلمك في هذا، ولنبشرك بقرب الحصول على المأمول. قال: وما ذاك؟ فأخذ يقص عليه الخبر، وما كان من أمر الأدلاء ومجيئهم من تلقاء أنفسهم، وشربهم معهم وإذاعتهم بعد ذلك سر المأمورية القادم من أجلها الأسطول.
فحين سمع الرئيس هذا الكلام تحول عبوسه بشرا وبشاشة. وقال: الآن نجحنا فيما نحاول. فلقد كنت أختبر المواقع وأنظر في كيفية اجتياز الأرخبيل، فوجدت أن لا غنى لنا عن الدليل، وإلا لزمنا أن نطوف حول هذه الجزائر كلها، وأن نأخذ في مسيرنا عريض البحر، فلا ندنو من الأرض تجنبا للأخطار، والتقاء كامنة الصخور والأحجار، وهذا سفر طويل شاق، يستغرق نصف عام على الأقل، أما الآن وقد وقع هؤلاء الأدلاء في قبضتنا، فقد فسد الأمر على رجال الأسطول، وخابت مساعيهم، فاذهبا توا فأوعزا إلى إخوانكم بالقبض على البحارة قبل أن يميتهم السكر، وشد وثاقهم وحملهم إلى هذه السفينة، وليركب فيها جماعة منكم معي. أما الباقون فتذهب بهم أنت يا بلباص إلى السفينة التي كان فيها الأدلاء؛ لأن فيها عادة تكون المؤن والذخائر. وإن نحن أخذناها أيضا تركنا الأسطول بغير قوت، فلا يجد حينئذ بدا من الإسراع في الرجوع، فخذوها فاسحبوها سحبا بطيئا خفيفا بدون أن تسمع لها حركة تنبه ناس الأسطول لما نحن فيه من العمل، ثم نبتعد بالسفينتين حتى نجيء بعض الصخور العالية مما كشف اليوم فنتوارى منتظرين النهار، ولا نبرح مكاننا حتى نرى الأسطول، وقد سار منقلبا على أعقابه بالخيبة والخسار.
قال: سمعا وطاعة يا مولاي، وأخذ بيد صاحبه فذهبا فأبلغا أوامر الرئيس إلى سائر الجماعة، فقبض للحين على الأدلاء وشد وثاقهم وسيقوا إلى سفينة الرئيس، ثم جيء بسفينة المؤن والذخائر مسحوبة، فركب الجميع وسارت السفينتان حتى بلغتا صخرة صالحة للكمون، فكمنتا ترقبان الصبح أن يطلع لتكشفا ما سيكون من أمر الأسطول.
فلما أقبل الصباح استيقظ رجال السفن الهندية، فلم يجدوا لسفينة الأدلاء ولا لهؤلاء أثرا على الماء، فهالهم الأمر وتنكر لهم الموقف، وتمثل لهم اليأس بكل سبيل، ولم ير الأمير ثرثر بدا من العود لعرض الأمر على مسامع الملك، فأصدر إشارته للسفن بالإقلاع، فأقلعت راجعة من حيث جاءت بالذل والصغار.
فلما رآها الصيادون وقد انقلبت آيبة خرجوا من مكمنهم، وكان الأدلاء قد اندمجوا في سلكهم وآثروا البقاء معهم بتلك الصفة على الهلاك، فمخرت السفينتان تؤمان جزيرة العذارى من أقصر الطرق إليها بفضل صحبة الأربعة البحارة الأدلاء.
الفصل السادس
الشقي «طوس» في جزيرة العذارى
كان من عادة الكاهن منذ قدوم الأميرة في أترابها إلى الجزيرة أن يخرج بالبنات مرات في اليوم إلى الصلاة على مكان هنالك مألوف، خالص الجهات مكشوف، وكان البنات إذا فرغن من هذه الصخرة تركن الكاهن عاكفا على عبادته، مشغولا بأدعيته، ثم ينثنين لاهيات ناعمات رابعات في ذلك الفضاء، لاعبات حتى مغيب الشمس، وعندئذ يدعوهن للمبيت صوت مزمار يترنم به الكاهن، روحاني التحنان، هندي الألحان، موزون المقادير، مقدور الأوزان. فترى الفتيات ينهلن من كل مكان، والنمور في أقدامهن هائمة على الوجوه، تثير الغبار منجذبة كذلك مأخوذة بنغمات المزمار.
فبينما البنات ذات يوم في العبادة، على مألوف تلك العادة، يقمن مع الكاهن صلاة الأصيل ، ويقلن هذا الدعاء بترتيل:
بودا يا سماء هذه الأقطار، ويا سورها المغني عن الأسوار، ندعوك بوادي الأنوار، الذي كرمته بالنمورة السبعة الكبار، الظاهرة الأنياب والأظفار المحجوبة عن الأبصار، السارية بالليل، الكامنة بالنهار، كما نتوسل إليك بغابة الأسرار، الخالدة الأشجار، المشرفة بثعبان الديار، الأصفر الصفار، الوثاب الثوار، أن تقي الأميرة ما وقيت، وأن تسهر عليها وعلى بناتك العذارى الأبكار.
سمعن صيحة عظيمة آخذة كادت لها كتلة الجزيرة أن تتمزق فتهوي أجزاؤها في أسفل أعماق البحر، فالتفتت البنات متفزعات، وإذا هي النمور تزأر جملة، وقد انحدرت كذلك جملة، تترامى جانبا واحدا من الساحل، فكأنما تجري هنالك أمور مما لا يستطيع الحارس الأمين المسكوت عنه، فأخذ البنات القلق، ونالهن من ذلك فرق، لا سيما إذ كانت تلك أولى نفرة للنمور في المدة الطويلة، التي أقامتها بالجزيرة، حتى لقد كانت عرفت سفينة الزاد توهما فاعتادتها فلم تكن تنبحها لا قادمة ولا آيبة.
فلم يكن من حيلة البنات ساعتئذ إلا أن تهافتن على الكاهن يجاذبنه ثيابه من الفزع، ولو استطعن لدخلن فيها، فإذا هو كإحداهن طيران فؤاد وارتخاء مفاصل، لا يملك لهن ولا لنفسه عصمة من الخوف، فنحن تاركوه والبنات على هاته الحال، لننظر فيما كان يجري مما أطار طائر النمورة، فنقول: كانت السفينتان قد وصلتا الجزيرة بعد يومي مسير، وبعد عناء كبير وجهد كثير، تقلان جماعة الصيادين، وأصحابهم الأربعة الملاحين. فلما رستا وكان زئير النمور قد دوى في آذان القوم، وغبار هجومها قد سد الفضاء في وجوههم، لم يتمالك الهنود من صيادين وبحارة أن وقعوا في مثل ما تركنا البنات عليه، من خوف مانع للفكاك، ورعب مفقد للحراك، وبالجملة وقعوا من الفزع في أضيق من الشراك.
وإذا رأى الرئيس ما حل برجاله، إلا أصحابه المصريين الذين ثبتوا حافظين لوعيهم أمام هذا البلاء المحدق، عمد لجرابه فأخرج منه ست بيضات من الحجر من طبخ يده، شديدة التوقد، قوية اللمعان، تحسبها نارا وليست من النار في شيء، فمسك اثنتين منها في يديه، وجعل ينقلهما من يد إلى أخرى بسرعة غريبة، بحيث كانتا تتعددان في رأي العين. ثم قال لصاحبيه «هاموس» وبلباص: خذا هذه البيضات الأربع فاصنعا بها كما أصنع، وانزلا بنا إلى البر غير حاسبين لكلاب الهند هذه حسابا. فبدر الثلاثة إلى البر يلعبون بالبيضات في وجوه الوحوش وهي تستأخر بين أيديهم، وتتقهقر أمامهم. وكان الرئيس كلما قابل واحدا منها نظر إليه نظرة منوم مقتدر، فتركه مكانه مأخوذا مسحورا، وهكذا حتى أتى على النمور جميعا فكنت إذا رأيتها حسبتها لوحا متقنا بديعا.
ثم صاح بالهنود انزلوا أيها الأصحاب فانظروا ما أصاب هذه الكلاب، فنزل الهنود في الحال مكثري التعجب مما يرون، خصوصا بحارة الأسطول؛ إذ كانوا يستغربون الحادثة، ويكلمون فيها الصيادين فيقول هؤلاء لهم: ليس ما ترون إلا من لعب الرئيس، وإلا فإن له في حال الجد جراب سحر لا ينفد، وكنز علم لا يفنى. كيف لا وهو الشقي «طوس» الذي لا يعرف الغنى من لا يخدمه، ولا يدري السعد من لا يلزمه، والجواد الغني الذي فوق أنعم الملوك أنعمه، وحسبكم أنه استخدمنا نحن صعاليك الصيادين في هذه المهمة التي لا تستغرق أكثر من سنة وفقدنا سلفا جزاء إتمام هذه الخدمة خمسمائة ألف حلقة ذهبية من العملة المصرية، هذا عدا الزاد والثياب والنبيذ الغالي الذي نشربه بغير حساب، وإنه لمال لا يتسنى لملك من ملوك العصر دفعه، ولو أنه «رمسيس الثاني سيزوستريس» ملك مصر.
ثم إن الرئيس تقدم بين رجاله متوغلا في الجزيرة يفتش عن مسكن الأميرة بها، إلا أن الظلام كان يعاكس بصره ويقف له بجداره الأسود دون المعالم والأشباح، فلم يكن منه إلا أن أخرج من الجراب أربعة عيدان صغيرة فأشعل أطرافها، ثم رمى بها في جوانب الفضاء الأربعة، ووقف بعد ذلك ينظر فبدا له من الجانب الأيسر شيء عال كالبنيان، فحول إليه مشيه موغلا في السير، وهو من وقت إلى آخر يقذف بواحد من العيدان المعهودة، فيضيء له دجى الليل حتى انكشف له القصر تماما، ولكنه لم يكد يبلغه حتى عاد فاحتجب تحت قبة من شبه الضباب الكثيف، فالتفت الرئيس عندئذ إلى رجاله متبسما يقول: لا يهلكم الأمر يا قوم؛ فإن عندي ما أمزق به هذه القبة الخيالية التي لا أحسبها إلا من عمل بعض كهنة الصين الدخيلين في العلم.
وفي الحال تناول من الجراب ربطة عصي كانت فيه، فدهنها بدهان من عنده وتربها بتراب أصفر من تركيبه أيضا، ثم أدناها من النار فاتقدت أطرافها فقذف بها تلك القبة الوهمية فتبددت للحين. واستمر القوم سائرين حتى وصلوا إلى القصر، وهنالك استقبل الرئيس الباب وقال بصوت عال تميد له الجبال: «يا من حاول أن يعمينا بسحره، عن قصره، فغلبناه على أمره. إن كنت كاهنا فانزل إلينا آمنا إني أنا «طوس»، ولي السعود والنحوس، المنتقم للنفوس، من طائفة القسوس، ولكني أكرمك لأجل من معك، فأطعني عسى الطاعة أن تنفعك.» فلم يكد «طوس» يستتم حتى فتح الباب، وأقبل الكاهن يمشي على عجل من الوجل انسياقا بجاذبية ذلك الاسم، كما تنساق الحملان بجاذبية بعض الثعابين الكبيرة، حتى صار بين يديه فانحنى، ثم خاطبه قائلا: الأمان يا أبا «هاموس» الأمان، فسأله الشيخ مستغربا: من أين لك أيها الكاهن عرفان كنيتي حتى دعوتني بهما، فاندفع الكاهن يقول (الرمل):
عرفتني بك يا «طوس» النجوم
مثلما أعلمتني هذا القدوم
إنما أنت قضاء واقع
قصرت عن رده مني العلوم
هذه الأفلاك سعدا جريها
لك مقضيا لديها ما تروم
فلك البحر سلاما تحتها
ولك البلدان تطوى والتخوم
ولك الغابات دانت كلها
وعليك الببغا حط يحوم
فابلغ القصد وما تسعى له
واحمل العذراء في الفلك المشوم
ليس في مسعاك من بأس سوى
أن ما تسعى إليه لن يدوم
قال الشيخ وانذهل انذهالا: وأنا أيضا تحدثني خواطري أنك شنو الصيني. قال: وهي صادقة فيما تحدث. فمد الشيخ حينئذ يده إلى محاوره فصافحه. ثم قال: كيف تصف الفلك بالمشئوم أيها الأستاذ، وهو الذي يجمع بين الشتيتين ويداني بين العاشقين، ويحمل بنت رب آسيا إلى ابن رب أفريقيا برغم هذين الملكين. قال: مهلا رويدا يا «طوس»، ولا تجن على عذراء الهند، كما جنيت أنا عليها. فلقد ركبني التسرع والطيش حتى هدمت ركنا من هرم حياتها، وأنت بهذه النقلة تهدم الركن الثاني. ثم يعيش الهرم بركن واحد معرضا للخطر وشيك الزوال، وإن كنت في ريب مما أقول: فهذا نجم الفتاة، وهذه غلالتها الأولى، غلالة الولادة. فاجمع بينهما، وانظر، فأخذ الشيخ الغلالة وجعل يقلبها ويتأملها والنجم معا، وقد أخذ بشر وجهه يغيض، وصفو حاله يتكدر، فأطرق برهة، وجبينه يفيض من العرق، ثم التفت إلى شنو فقال: صدقت أيها الأستاذ، ولكني سأغلب هذا النجم على أمره وأرد كيده في نحره (الخفيف):
أنا «طوس» محصي الكواكب عدا
أنا فوق النجوم أخذا وردا
أنا إن شئت بدل السعد نحسا
وإذا شئت بدل النحس سعدا
ثم إنه دخل في مثل الجنون من التحمس، فاستقبل القصر، واندفع يشيد بصوت كادت له الجزيرة تميد. فدان للأميرة أن تبرح الجزيرة إلى فضاء النيل، البلسم الجميل؛ حيث ابن مولى الأرض، في طولها والعرض، من الوجود عبده، والهند طرا هنده، ومن على الأيدي يده، ومن غد الدنيا غده، السيد ابن السيد «آشيم» «رمسيس» الغد.
وما فرغ الشيخ من إنشاده حتى نزلت الأميرة هائمة على وجهها والبنات ينهلن على أثرها، ولسان حالها ينشد (الكامل):
يا حامل البشرى إلي بقربهم
من لي إليك بريشة فأطير
كيما أرى في طيب لفظك شخصهم
فهم على فمك الكريم حضور
ثم وقعت على صدر الشيخ فحملها، ومشى والملأ يسيرون خلفه، حتى جاء إلى حيث ترك السفينتين راسيتين. وكانت النمور ما برحت في أسر النوم، فجدد لها التنويم، إلا النمر الأبيض الذي ميزه بطوقه فنبهه، ثم ساقه مشدود الوثاق إلى سفينة الصيادين، وركب هو ورجاله والأميرة فيها، ثم أشار إلى سائر القوم أن ينزلوا في سفينة الذخائر، فنزلوا وكان الفجر قد بدا ملتمع الضياء يضيء لراكبها الدأماء، فبوشر عندئذ بنشر القلوع، فخفقت فيها الرياح تملأها وتحركت بعد ذلك السفينتان فاندفعتا تشقان العباب.
الفصل السابع
تلاق ولا تلاق
أنا في تطلابه وهو لدي
مطلب مر ولم يلو علي
قد تركت الهند أطويها له
وهو يطويها وما يدري إلي
والتقينا ما خطا لي خطوة
لا ولم أنقل إليه قدمي
يا لملك راح عني نائيا
كان لو فتشت عنه في يدي
الرمل
كانت مياه الهند من يوم رجع الأمير الغائب بأسطوله الخاسر الخائب محشرا للسفن من كل طراز ولكل صاحب، فمن حربية بثتها المملكة للمراقبة، وأهلية جمعت كذلك لهذه المناسبة، وبين قديمة بلا عدد، وجدد منشأة لهذا الصدد، وكانت كلها منتشرة منتبهة حذرة، وعلى الأخص الأسطول المنقاد للأمير ثرثر، فلقد ظل جوالا في ذلك المجال الفسيح، وهو كالريشة الساقطة في مهب الريح، لا يعرف له مرسى ولا يستريح، وبالجملة كانت قيامة أقامها الملك في البحار، كاد العبب لها أن يقوم، وأن يسكن التيار.
واستمرت السفن كذلك أياما طويلة، لا تهمل في البحث وسيلة، ولا تغفل في التفتيش حيلة، بدون أن تأتي بخبر، أو تقف للأميرة على أثر، ولم تكن رأت في كل تلك المدة شيئا يذكر، سوى حوتين عظيمين كانا يتطاردان، فكانت تتنحى لهما بكل مكان، فيمران في ذمة وأمان، حتى خرجا من المياه الهندية، ودخلا في المياه العربية، المشرفة يومئذ بالتبعية للدولة المصرية. وهناك افترقا فانقلب أحدهما آيبا إلى بلاد الهند، ولكن بعدما مسخ فلكا يحمل الكاهن والأدلاء، ويقل المائة عذراء، واستمر الآخر سائرا، وكان أيضا قد عاد فتصور سفينة صيد فيها «طوس» و«هاموس» والركاب المحروس.
فبينما هذا الفلك ذات يوم سائر يؤم مصر بالقوم، مر به أسطول فاخر لا أول له ولا آخر، وهو يجري زاخرا في زاخر، وكان قادما من مصر، وحاملا لرايتها الخفاقة بالنصر. فلما استعرضه «طوس» قال لفتاه: ويل للهنود من هذه الأبراج! التي ليست سفنهم بجنبها إلا أقفاص الدجاج، فأنا لا أظنهم إلا ثائرين، وهذا الأسطول خارج إليهم ليعيدهم إلى الطاعة صاغرين. قال: ومن يا ترى الماسك لدفته، القابض على أزمته؟ قال: إن أمراء البحر في مصر بغير حصر، وكلهم أبطال مكللون بالنصر. قال: وهل يبعد يا مولاي أن يكون الأمير هو قائد الحال، الخارج إلى الهنود بهذه الجبال؟
قال: إن الأمير مطمئن بالولاية في منفيس، وأخوته كثيرون حول عرش أبيهم الملك، فلو أحب هذا أن يجعل على السفن أحد بنيه، لما عدم من يوليه.
ثم إن السفينة استمرت سائرة حتى شارفت سماء النيل، فألقت المراسي وانقضى ذلك السفر الطويل.
الباب الثاني
الحوادث في منفيس
الفصل الأول
عذراء الهند في قصر الأمير
ألا هل لي بلقياه يدان
حبيب شأنه عجب وشاني
إذا دنت الديار به فناء
وإن نأت الديار به فداني
يود الليل لو ندنو كلانا
ويدخر النهار لنا التهاني
وتأبى شقوتي فالذنب عندي
لها لا للزمان ولا المكان
الوافر
كان الليل في أخرياته، وكان سكون الجو عند غاياته، والوجود لم ينتبه بعد من عميق سباته، وكانت منفيس لم تزل في أسر الليل وتحت رق أحكامه، ساهرة المحارس والمخافر، مغلقة المداخل والأبواب، لا يخرج منها خارج ولا يدخلها داخل إلا بإذن، وهي كأنها الهالة المستقلة المنيرة الأهلة، أضواء ولا ضوضاء، وسنا للناظر وسناء، وسكون في الأرض وسكينة في السماء، وكانت الطرق إليها شتى وقد أخذت مع ذلك تزدحم بناقلي الأقدام، الآتين من أقاصي القرى تحت مدارع الظلام، وفي كلاءة الحي الذي لا ينام، ينهالون على المدينة من فوق الجسور وتحتها وعابري الأنهار، ومن بين المزارع والديار وحوالي المحارس والأسوار، متنافسين في الرزق متسابقين إلى الكسب مسارعين إلى المغنم، كما ينبغي للأمم في أيام حياتها وأزمنة مجدها وتمدنها.
فكانت هاته الجماعات والزمر تموج وتزحف سيرا نحو منفيس، وبين أيديها ما لا يعلم عدده إلا الله من محصولات القرى ومتاجر البلاد، وعلى الأخص الدواب حيث كان لأسواقها الشأن الأعظم في المدينة، وكانت هي زخرف أغنيائها والزينة، وهم قد ملئوا الدروب وملكوا جميع الطرق، إلا واحدة كان يقال لها طريق الخفاء، وكان الأهالي يجتنبونها لأجل ذلك، ويذكرونها فيتفزعون لذكرى المهالك، وقد أكثروا في أمرها الكلام، وذهبوا المذاهب مع الأوهام.
وكان يجتاز طريق الخفاء في تلك الساعة شرذمة من الفرسان لهم زي غير مألوف، وكانوا ملتثمين متدارين في السلاح، متمكنين من صهوات الجياد وأعنتها المستوصية الشداد، وقد جعلوا فيما بينهم هودجا محجبا محمولا لا يعلم إلا الله بما فيه، وهو يسير حيث يسيرون، وهم به دائرون، حتى إذا صاروا في آخر الطريق من جهة المدينة، انفصل عنهم أربعة فظهروا للوجود، وخرجوا إلى العالم المشهود، تاركين رفاقهم والهودج ومن أقل في الطريق الخفاء، ينتظرون.
ثم ساروا يقصدون منفيس وكأنما عرف الأهالي من هم، فغضوا الطرف عنهم لا يدنون منهم ولا ينظرون، وكانوا كلما مروا على محرس ميزهم خفراء النقطة بزيهم فلا يتعرضون لهم ولا يسألون، إلى أن بلغوا باب الشمس (أكبر أبواب المدينة يومئذ) وهنالك أخرج أحدهم جرسا فضرب به ثلاثا فلم يكد صدى الضربات ينقطع حتى انفتح لهم الباب فدخلوا، وكان الحراس قد عرفوهم بجرسهم فلبثوا في مراكزهم لا يتعرضون لهم ولا يسألون.
واستمر الفرسان الأربعة كذلك سائرين، لا يخشون من تعويق ولا يقف لهم واقف في طريق، حتى لاحت لهم دار الأمير وجهتهم التي كانوا يقصدون.
وكان الفجر قد لاحت تباشيره تهز الوجود، كما هز من والديه المولود، وهي الساعة التي يكاد صالحو الملوك والأمراء أن يسبقوا بها إلى العمل النساك والعلماء. فخرج الأمير إلى حديقته الخاصة يلتمس لنفسه كعادتها نزهة الصبح، ويتمتع من رؤية الطبيعة وروائها، في خير ساعات انجلائها، وأطيب أوقات بهجتها وازدهائها.
أما الحديقة فكانت مثالا لصنعة الصانع أجل مثال، طرازا بديعا فردا في البهاء والرونق والجمال. ظل، وماء، وطبيعة سمحاء، وسكينة في السماء، كما تحب الطير ويهوى العاشقون والشعراء.
وكان مع الأمير فيها ساعتئذ الأستاذ «بنتؤر» شاعر البيت حكيم المملكة ومؤدب ولي العهد في الصغر، ومشيره الأمين في الكبر، والبطل «رادريس» الملقب بعفريت الحبشة حارسه الأول، وأمين سلاحه الذي عليه المعول، ثم العالم الكبير تيحو طبيبه الخاص. وهؤلاء الثلاثة من أصحاب «رمسيس» الثاني وكانوا في معيته، فلما استعمل ابنه الأمير على منفيس والأقاليم الوسطى، سيرهم في ركابه حاشية جديرا بها ولي عهد المملكة الرمسيسية فكان الأمير يتمشى متريضا، وليس البدر بين نجومه بأجل منه بين رجاله، وقد جعل يده في يد «بنتؤر» وهو يقول له: كتبت إلي سيبا تنبئني أن ضغط الكهنة على الملك غير، وأن الحملة على تزويج أخي ب «آرا»، وأن كبير الحرس قد استمال إليه المؤثرين من رجال الحاشية حتى أصبحوا يجدون مع الكهنة في إتمام أمله الذي يحاول أن يرفع بنته إلى مقام تحسدها عليه كريمات الملوك والخواقين، وأن الملك أوشك أن يتأثر بمساعي القوم، وأن أختي «آثرت»، وهي كما تعلم لسان الكهنة في القصر، متكلفة لهم ولصاحبتها «آرا» باجتذاب والدتنا العزيزة. فكيف العمل الآن يا «بنتؤر»؟ وما الحيلة في الخلاص إذا الملك والوالدة انقادا بقوة ذلك التيار فأصبحا علينا مع جماعة المتحالفين؟ قال: نعم يا مولاي، ضغط الجنادل والقبور، ولا ضغط الوالدين في أمثال هذه الأمور. وإن الذي أعلم أنا من الأمر لأعظم. قال: وما ذلك؟ قال: إن أبويك الفخيمين لم يوشكا فقط أن يذعنا لاقتراح الكهنة، بل هما من بضعة أيام نصال تلك السهام، وساعد الأقوام، والمساعد على تحقيق ذاك المرام، فإن كنت في ريب مما أقول فهذا كتاب من أبيك الملك إلي فاقرأه ففيه الكفاية، ثم دفع إليه كتابا من قلم «رمسيس» يقول فيه ما معناه:
عزيزي الأستاذ، لقد آن ل «آشيم» أن يعدل عن غرامه الهوسي بعذراء الهند، لا سيما بعد ما ثبت لديه من أخبار رسلي ورسله العديدين من اختفاء الفتاة واستحالة بقائها على قيد الحياة. هذا والأمير اليوم يناهز الثلاثين، وأنا شيخ ضعيف وقد مر لي في الملك خمسون عاما، فلا أحب أن أفارقه قبل أن أرى ولي عهد أبا، وهذا أمل حلال، طاهر الخلال، لا أحسبك إلا موافقي عليه، فإن امتثل «آشيم» إرادتي زوجته بربيبتي وبنت كبير حرسي السيدة «آرا» التي لم يقع اختياري، ولن يقع إلا عليها، وإلا عددت الإباء منه عقوقا بينا، وربما أفضى ذلك إلى انتقال العهد عنه إلى أخته البارة «آثرت»، والآن فانظر في مصلحة أميرك واختر لتلميذك ما يحلو. والسلام.
كتبه «رمسيس» الثاني
فما فرغ الأمير من قراءته إلا وقد ملكت الحيرة جهاته ووقف له اليأس في السبل والمذاهب؛ فأطرق برهة لا يملك كلاما، و«بنتؤر» يلاطفه ويسليه ويعلله ويمنيه، ويدعوه ليترك الأمر حتى ينظرا فيه، حتى إذا هب من إطراقه، قال: إن الموقف لحرج يا «بنتؤر». قال: نعم، شر موقف يا مولاي، ولكن (الخفيف):
غالب الأمر بالتوكل غالب
واطلب العون في جميع المطالب
رب أمر به تضيق المساعي
لك منه إلى الفضاء مذاهب
قال: ألا تذكر أن أخي وضع يده وهو في الخامسة عشرة في يد عذراء الهند، على أن لا يقترن بسواها ما داما كلاهما على قيد الحياة. قال: أذكر ذلك يا مولاي. قال: إذن فقبيح بابن «رمسيس» أن ينكث العهد. قال: قبيح، ثم قبيح. قال: وتذكر أيضا أننا كلانا وضعنا يدنا في يد هذا الشعب البائس المحتقر المملوك لفرقة الكهنة، أننا ننقذه من يدهم، ونرد عليه حقوقه المسلوبة. قال: أعرف ذلك حق المعرفة يا مولاي، وأعلم أن اقتران ولي العهد ب «آرا»، لو حصل، يثنيه لا محالة عن العمل، ويحل جميل نظام هذا الأمل. قال: إذن فعار على ابن «رمسيس» أن ينقض الميثاق. قال: نعم، عار عليه إذا فعل عظيم. قال: ولكنه الأب يقترح والملك يريد، وعار على ابن «رمسيس» أن يعق أباه، ثم عار عليه أن يعصي ملكه. قال: نعم، عاران لا ينمحيان. قال: فكيف العمل إذن؟ وما وجوه الحيل؟ وأخي فوق هذا وذاك عاشق، والعشق أكبر ملكا وأعز سلطانا من أبينا على فخامة عرشه، فلا بد ل «آشيم» أن يذعن لأحكامه، كما أذعن لها الأولون وسيذعن الآخرون. قال: كل هذا يا مولاي معقول، وأخوك وأنت كلاكما جدير بما تقول، ولكن الرأي عندي أن نبادر فنغتنم فرصة تغيب الأمير فنجيب الملك بأنه ما زال ولده البار، الخاضع المطيع في الإعلان والإسرار، وأنه أبوه أولى به، فليدبر له ما يشاء ويختار، حتى إذا خرج الملك من حالة الغضب وعادت عواطف الأبوة فاطمأنت بمكانها من فؤاده الرحيم، وما أسرع ما تعود هذه العواطف! شرعنا حينئذ نتلاطف له في الاستمهال ونذهب معه في كل مذهب من المطال، حتى نستقر والحوادث على حال. قال: قد رأيت في الأمر رأي حكمتك يا مؤدبنا العزيز، فاكتب إذن إلى الملك بهذا المعنى وعجل.
ثم إن الأمير التفت فوقع نظره على الحاجب، وكان قد حضر ليعرض أمرا فسأله: هل حاجة؟ قال: حاجة الجميع سلامة الأمير، بالباب يا مولاي أربعة من الفرسان، يزعمون أنهم رسل الشقي «طوس» إلى مولانا، في أمر ذي بال، فاستبشر الأمير لذكر هذا الاسم، وتهلل وقال: يا مرحبا ب «طوس»، وأهلا وسهلا برسله، فليدخلوا، ثم أقبل على «رادريس» يقول: ليس كذاك يا حارسي الهمام. قال: بلى يا مولاي، ونعم الصاحب على البعد «طوس». أما شخصه فلم نره، وأما أفعاله فلم نبل منها إلا الخير خصوصا مولاي «آشيم»، فإنه مدين له بالحياة مرتين، منذ قدومنا لمنفيس. قال: وأنا لأجل أخي أحبه ولا أحب أن يتعرض له ولا لرجاله أحد ما دمت مكان أخي في هذا البلد. قال: وهبك عاديته يا مولاي، فلن تجني إلا كما جنى الولاة من قبل أخيك، ثم تكون قد أرجعت البلاء للسكان، وأعدت الحال أسوأ مما كان.
وعند ذلك أقبل الحاجب وفي أثره الفرسان الأربعة، وقد تجردوا عن سلاحهم بالباب، وجعلوا يدهم اليمنى على الكتف الأيسر، وأرسلوا اليسرى خافضي الرأس منحنين، إشارة إلى الخشوع والإجلال، وعلامة على تمام الطاعة وكمال الامتثال. فلما رآهم الأمير أقبل عليهم وتلطف، وبالغ لهم في الخطاب، ثم شرع يسألهم عن «طوس» ويستخبرهم عن أحواله حتى إذا اطمأن بهم الموقف واستأنسوا، طلب إليهم أن يعرضوا حاجتهم، فأخرج أحدهم كتابا مختوما ودفعه إليه، فتناوله ففضه، ثم دفع به إلى «بنتؤر» ليقرأ فقرأ:
من الشقي «طوس» صاحب الشياطين، وحليف المردة الجهنميين، إلى سيده ومولاه سليل الشمس وجار الآلهة في مهده، ابن «رمسيس» الثاني وولي عهده، ووارث التاجين والعرش من بعده، الأمير «آشيم»، حاكم منفيس والأقاليم الوسطى.
مولاي، فتاة الهودج التي يتقدم بها رجالي بين يدي جنابك العالي، هي عذراء الهند . (فعند سماع هذا الاسم أجفل الأمير واضطرب وعلا وجهه الاصفرار، فدنا «بنتؤر» عندئذ منه وقال همسا: تجلد يا مولاي، وقم لأخيك في هذه الحادثة مقام شخصه، وصن له عشيقته فيما تصون من معالي هذا المركز الذي خصك بثقته يوم رحيله، فلم يأتمن سواك عليه، ثم عاد فقرأ):
بنت الملك «دهنش» ملك ملوك الهندين أوقعها الشقاء في قبضة عبدك، فاستكثرتها لنفسي، ولم أجدها تصلح لسواك، أو تليق إلا لعلاك، فآثرتك بها على نفسي وأولادي، مع علمي علما حقيقيا أنها أجمل كريمات الملوك، بل أفتن نساء الأرض، في الطول والعرض، وأن أربعين ملكا من ملوك آسيا ماتوا بوجدهم في سبيلها، كما يموت عشاق الدنيا بهم اليأس من تحصيلها. ولكن لعذراء الهند هذه يا مولاي سرا يختص بحياتها، ويتعلق بأيامها، وإني أستودعك إياه، وأسأل آلهتك أن يجعلوك منه أبدا على ذكر، وما ذاك إلا أن الفتاة محرم عليها أن تركب البحر في عمرها مرتين لا متتاليتين ولا متعاقبتين، وقد فعلت فصارت عرضة للغرق، بحكم نجمها النحيس، وإلا يسهر مولاي عليها يكن وحده المسئول عن حياتها النفيسة أمام فؤاده الطيب الرحيم.
كتبه «طوس»
وقد كان الأمير وأصحابه يصيخون لمدهش ما يتلو عليهم «بنتؤر»، وهم يشهدون أحوالا أعجب، ويبصرون أدهى مما يسمعون وأغرب. وذلك أن الفرسان الأربعة كانت أشخاصهم ترق وتنطوي، وتضمحل وتتلاشى، متوارية ثم تتوارى متلاشية. وهذا كله بدون أن تتحرك الأقدام أو تخرج عن مراكزها الأجسام إلى أن زالت تماما، وعندئذ سمع من جوف الحديقة صوت يقول: لتخل الطريق إلى قصر النزهة بالضواحي، وليخل القصر أيضا إلا من الأمير؛ حيث يقيم وحده في انتظار عذراء الهند، فإنها ستحمل إليه في منتصف الليل تماما.
الفصل الثاني
الأمير «آشيم»
عرف القارئ من «آشيم» وابن من في ملوك الزمن، وما ألقابه وشأنه وكيف منزلته، من باذخ المجد ومكانه، ولكن ربما تسرع فعامله كما أصبحنا نعامل المتوجين الجالسين، وسائر أبناء المالكين، فلا نعد وجودهم إلا ضربا من لعب السعادة، لا ينيل التفضيل الحقيقي، ولا يوجب السيادة، فنحن ندعوك أيها القارئ لتستثني معنا الملك وابنه. أما «رمسيس» الثاني؛ فلأنه «رمسيس» الثاني، وكفى، وأما ابنه الأمير فإن منفيس تشهد مزكاة بالذكر والأحاديث أنه كان فتى ولا كالفتيان، كامل أدوات الإمارة والسيادة، أهلا لما ترشحه له السعادة وزيادة، مخالطا للأمة سريعا إلى حاجاتها، آخذا بنصيب من جميع حالاتها يحبها وتحبه، ويتألف على الهوى قلبها وقلبه، حتى لكانت تكاد تتمنى أن تراه اليوم قبل الغد على العرش، عرش والده الذي أقام جدها، وأنشأ مجدها، وصير الوجود بأسره عبدها.
هنا يستغرب الأمر من لا يعرف السبب، ويعجب القارئ بحق، كيف أن ملكا كهلا خدم الأمة نحو نصف قرن لم يألها صبرا حتى أنالها أزمة الوجود برا وبحرا، وخلد لها في العالمين ذكرا، يفضله مع ذلك في اعتبارها، ويقدم عليه في اختيارها، أمير شاب لا يزال في ولاية العهد، وعلى أبواب العمل لم تر له البلاد خيرا ولا شرا، ولم تبل من ثمره حلوا ولا مرا. فالجواب أن للأمة ما دامت في الحياة، كرامة من الخلقة، وإباء من الوجدان، يذكرانها على الدوام حق المساواة، ويورثانها أبدا كراهية الطاعة لكل حكومة ينتفع بها فريق، من الشعب دون فريق، وتكون نعماء أيامها لطبقة من الأفراد دون طبقة، وتلك الكرامة وهذا الإباء لم يرعهما الفراعنة في دولة من دولهم، ولم يلقوا لهما بالا في زمن من الأزمان، فلما ولي «آشيم» الحكم على منفيس والأقاليم الوسطى، كان طرازا وحده في الفراعنة وأبنائهم، من حيث العناية بمصالح العامة، والسهر على حقوقها، وتسوية الرعاية بينها وبين الخاصة، وقد سار سيرته هذه من أول يوم حتى فزع الطبقات العليا من الشعب، وعلى الأخص الكهنة فباءوا له بالعداوة، وباتوا يرقبون من أمر فرعون الغد ما سيكون.
هذا ولم يكن «رمسيس» الثاني كغيره من محبي العظائم بين ملوك الأنام الذين يكاد حب الذات لا يجوزهم، وقسوة القلب أن لا تتعداهم، ويتولد من الطمع عندهم الحسد في غاية شدته، فتعم شروره البلاد والعباد، وتتناول غوائله حتى الأهل والأولاد؛ بل كان يرى في اهتمامه للمملكة بصاحب عهدها والسهر على عظيم مستقبله، الذي هو مستقبلها، تتويجا لحياته العالية الكبيرة، وإتماما لنعمته على الأمة والبلاد؛ حيث رباه التربية اللائقة بنسبته العالية، وبما له من الشأن المستقبل في سياسة دول الوجود، وكان كثيرا ما يستصحبه معه صغيرا في أسفاره المتعددة المتوالية إلى أفريقيا وآسيا، وفي هذه القارة اجتمع والد الفتى بوالد الفتاة على أثر صلح بعد قتال، كما تقدم لنا ذكره، وكان الولدان يومئذ ناعمين صغيرين يستقبلان الحياة، فكان أول ما وقعت عينهما من أشيائها على الحب.
فبينما الأمير ذات يوم مطمئن بالولاية في منفيس يسوس الأمور، وينظر في شئون الجمهور، وردت عليه أوامر والده الملك بتوليته قيادة الأسطول، الخارج إلى تأديب الهند الثائرة، وإعادة السكون إليها، وأن يتخذ له نائبا من مواضع ثقته يكل إليه حكومة منفيس إلى حين أوبته، فوقع اختيار الأمير على أخيه لأمه وأبيه، وكان في طيبة فاستقدمه منها وألقى إليه مقاليد الولاية، ثم برح منفيس إلى السواحل؛ حيث الأسطول بانتظار قائده الهمام، وكانت الأوامر قد صدرت له بالقيام، فقام إلى بلد فيه العدو والحبيب كلاهما، هذا ثائر العداوة والبغضاء، وهذا ثائر الوجد والغرام. (1) قصر النزهة بالضواحي
تركنا الأمير وأصحابه مأخوذين متأثرين بالمشهد السحري الذي جرى أمامهم، وكان موضوعه الفرسان الأربعة رسل «طوس»، وإن يكن السحر وعمله ومشاهده مما كان المصريون الأولون، يعرفون تمام المعرفة ويألفون.
أما ما كان من أمرهم بعد ذلك، فإن الأمير ما مكث أن استكتب «بنتؤر» كتابا إلى الملك بالمعنى المتفق عليه بينهما أولا، وبتفصيل الحادثة المفاجئة ثانيا، ثم استصدارا لأوامره بشأن عذراء الهند، وبعد ذلك جمع إليه رجاله فشاورهم في كيفية المسير إلى قصر النزهة بالضواحي الذي كان دار إقامة لعظماء الضيوف، فأجمعت الآراء أن الأمير يخرج في العصر إلى المعبد الأكبر فيقرب للآلهة القربانات الجديرة بهم شكرانا لنعمتهم على أخيه بقدوم حبيبته للديار المصرية، ثم يبرح المعبد قبيل الغروب فيخرج من باب الظلام (أحد أبواب المدينة كذلك، وكان خالصا بالكهنة بأيديهم مفاتيحه وعندهم أسراره وطلاسمه) ويأخذ جانب السور الغربي فيستمر سائرا حتى يبلغ باب طيبة، وهنالك يتنحى من يكون معه من الحاشية والحرس فيقفلون راجعين، وتكون الإشارة قد سبقت إلى ضباط النقط بإخلاء الطريق من باب طيبة، فقرية البشنين، فعزبة البقرة، فقصر النزهة بالضواحي، وهذا الطريق الطويل يقطعه الأمير وحيدا ليس معه إلا رجاء الآلهة ووفاؤه لأخيه النازح الدار.
فلما كان الأصيل هيئت الركائب واستعدت، فأقبل الأمير في حلته العسكرية، وعلى رأسه شعار الإمارة الرمسيسية، وهو يزهو بالحسام المجوهر ومنطقة الذهب والطيلسان.
وقد اتخذ لصدره زينة من أبيض الخز المحلى بالذهب المطرز بالياقوت والمرجان، وكان الفتى طويلا معتدل القامة، أشم ظاهر الشهامة، واسع الجبين أسود الشعر خفيفه، أسمر اللون باخضرار، أسود العينين وسيعهما، ممتلئ النظرات من الحياة، حلو اقتبال السنين، يراه الرائي فيستكثر له العشرين، وكان له جواد مارد من المراد، أدهم غائب في السواد، وكان سرجه من جلد النمر، فركب وسار و«بنتؤر» إلى اليمين و«رادريس» إلى اليسار، يدور بهم فيلق من الحرس جرار، وكان للأمير عبد أسود يقال إنه أحد أبناء ملوك النوبة، وأنه وقع ل «رمسيس» أسيرا، فبعث به إلى ابنه مقترحا عليه أن يسيره أمام فرسه، أينما سار فكان الأمير ينظر إلى الأسير إذ يسير. ويقول ل «بنتؤر»: أنت الذي علمت أبي الكبر بأشعارك يا مؤدبنا العزيز، حتى أصبح لا يحسب الملوك وأبناء الملوك خلقوا إلا ليركبهم أو يركبهم أولاده، كأن في أيماننا صكا من الدهر دوام الحال، وهيهات! دوامها من المحال، فما الواحد منا فوق عرش جلاله وعظمته إلا مثلي، فوق متن جوادي هذا، لا آمنه لحظة أن يكبو فأكبو معه، فيصيبني ما يصيب. قال: صدقت يا مولاي، ولكن هل تراني علمت والدك البخل، وهو الذي له خزائن الأرض في الطول والعرض، تمدها المستعمرات بالمال، فتنمو فإذا هي شم الجبال، فلا تلمني إذن ولا تظلم الشعر، وإنما هي طباع في أبيك يسرني أني لا أجدها في الأمير أخيك ولا فيك. قال: وهبها كانت أو لا تزال موجودة، أليس في صحبة مثلك ما يمزقها وأمثالها، من قبيح الطباع؟ قال: عشت يا مولاي، ولا زلت من يذكر الفضل فيشكره، فما نسي الفضل إلا غبي، ولا جحد الفضل إلا لئيم (مجزوء الكامل):
إن كنت ذا فضل فكن
ه على ذكي أو كريم
فالفضل ينساه الغبي
وليس يحفظه اللئيم
فعاد الأمير فقال: حقيقة إن أبي عجيب في بعض أحواله، وهذا منها، وإني لا أعلم له عطية عندي غير خمسين لؤلؤة من أعز اللؤلؤ، هي الآن في جيبي وسأقربها ل «آمون»، وإني لأرجو أن سينفعني القربان؛ لأنها أعظم ما جاد به بخيل إلى الآن، ثم إنه حول الحديث إلى «رادريس» فقال: لا أذكرك يا «رادريس» أن غدا فجرا تبتدئ حراسة قصر النزهة بالضواحي. قال: هذا ما كنت مشتغلا بتدبيره الساعة، وأنتما في الحديث يا مولاي، ولكن من أي الفرق تأمر أن نستعير الجند اللازم لذلك؟ فإن الحرس أصبح مشغولا كله؛ بحيث لم يعد الأخذ منه ممكنا. قال: فليكن من فرقة فتاح. قال: وكذلك مخفر القصر يا مولاي، فلقد مررت به من أيام فوجدت غالب أخشاب مربعه متكسرة، والأوتار بالية متغيرة، والمعالف متهدمة خربة، فإن أمرت كتبنا إلى ديوان الجيوش ندعوه لترميم ذلك كله بمعرفته وعلى نفقته. قال: ذلك من عمل وظيفتك، فتصرف كيف شئت، وليتكفل الديوان أيضا بمئونة الجند أربعين يوما ريثما تستريح الأميرة، ثم نشرع في ترحيلها إلى بلاد طيبة، ومنها إلى بلاد أبيها، لتخطب بالصورة اللائقة.
وكان «بنتؤر» منصتا يسمع. فقال: ما هذا الكلام يا مولاي؟ وكيف تسمح ببراح الأميرة منفيس؟ قال: إن كريمات الملوك يا «بنتؤر» لا يؤخذن من أيدي اللصوص الأشقياء، ولكن من قصور عزهن وعن أيدي آبائهن الفخام. ولذا صار لا بد من ترحيل الفتاة إلى طيبة مبجلة معظمة معززة مكرمة، واستئناف الخطبة بعد ذلك على الوجه اللائق بنا وبها، وبمقتضى ما تقف عنده المخابرات بين حكومة جلالة الملك وبين حكومة الملك أبيها. قال: هذا ما كدت أسبقك إلى القول به، لولا أنني أخاف بغتات الأمور، وأخشى تقلبات الحوادث والأحوال. قال : ليحدث ما عساه حادث، ولتنصب المصائب جملة. فأما عن الشرف فلا يحول بنو «رمسيس». قال: ولكن لا تنس لأخيك إنه محب عاشق صب يا مولاي. قال: ليس الحب إلا قطعة من الشرف، ومن يضيع الكل ليحفظ الجزء فذلك عين السرف. قال: بنفسي أنتم يا أولاد «رمسيس» (مجزوء الكامل):
سير الكبار كبيرة
وأجلها هذا السلوك
إن الشهامة خير ما
حملت مع التاج الملوك
وكان المعبد قد لاح للقوم، فامتنعوا عن الكلام وخرجوا من مقام ليدخلوا في مقام. حتى إذا وصلوا استأخر الحرس ينتظر على بعد، وترجل الأمير وصاحباه، وكان رئيس الكهنة قد خف في جماعته لاستقباله، فبالغوا له في التحية ووفوه إكباره وإجلاله، ثم دخلوا به، فما زالوا يتنقلون بين أفنية المعبد وإيواناته وصحونه وطرقاته، ودهاليزه ورواقاته، ومقاصيره وحجره حتى جاءوا المحل الأقدس للمعبد، وهي الحجرة الخاصة بالأمير لا يطرقها سواه، ولا يدخلها على «آمون» إلاه، وهنالك استأخر الكهنة ينتظرون، ودخل الأمير فاستقبل مثال الإله «آمون»، ثم خر جاثيا ويقول في دعائه: «آمون» يا محبوب الرماسسة ومحبهم، ويا أباهم وربهم، ولواءهم وحزبهم، أنت العلوم والأسماء، وأنت الحقيقة الزهراء، الواحدة الشماء، منك الأرض، ومنك السماء، وإليك العوالم والأشياء. هذه خمسون من اللؤلؤ المكنون، الذي أخرج بحر علمك الزخار، قبل أن تخلق البحار، وجاورك قبل جوار الماء والتيار، فاستعار فاستنار واستدار، وصار إلى ما إليه صار. أزلفها لك قربانا، وأقربها شكرانا، ورضى وامتنانا، وأسألك القبول يا خير مسئول.
ثم لما فرغ من دعائه تقدم إلى المثال العالي، فوضع ذلك العقد الغالي على صدره الحالي، المتلألئ المغشي باليواقيت واللآلي. وبعد ذلك وقف كالمريب يجيل طرفه في جوانب الغرفة، وإذ أيقن أنه محجوب عن العيون، وأن لا رائي ثم إلا «آمون»، عمد إلى أحد الصناديق السرية، وكانت ثلاثة، وكانت خاصة بالأمير ففتحه ونظر، فإذا في درجه الأسفل ورقة، وكانت مكتوبة بقلم سري مصطلح عليه فأخذها فقرأ:
أخبار اليوم
ليأخذ الأهبة والعدة مائة من أبطال الحرس، وليكونوا من أول الليل في الصحراء، بالقرب من مدخل طريق الخفاء، وليقيموا هنا إلى ما بعد منتصف الليل، فإن سمعوا في هذه المدة ضرب نفير يردد من جانب الطريق، فليتحركوا من فورهم لنجدة رجال «طوس».
بعث الكهنة إلى إخوانهم في طيبة بالشكوى من استمرار بقاء «بنتؤر» و«رادريس» في معية الأميرين، وبخبر ظهور عذراء الهند، وبأنهم اتخذوا التدابير اللازمة، لمنع وصولها إلى الأمير، فلم يبق عندي شبه ريب في خيانة الحاجب والخادم الخصوصي، فليقبض على أوراقهما وليعدما الليلة.
أصبح من المحتم المستعجل أن يسعى الأمير في تغيير قائد الفرق الاستعمارية، فإن القوم أوشكوا أن يميلوا رأسه، ولا يخفى ما في ذلك من الخطر على حزبنا والسلام.
فأخفى الأمير الورقة في جيبه وخرج، وهو لا يكاد يملك حركاته من الغضب، فمشى والكهنة وأولادهم صفان له في الطريق عن اليمين وعن الشمال، حتى إذا صار خارج المعبد أمر أن يفتح له ولبعض رجاله باب الظلام، فقيل له إنه مفتوح، فزاده ذلك غضبا، وأيقن كل اليقين أن الحاجب والخادم هما السبب، فدنا عندئذ من «رادريس» وناوله الورقة خفية. وقال: هذه أخبار اليوم فانظر ما يتعلق منها بوظيفتك، فسارع إلى إنفاذه بالحرف الواحد، وعلى الأخص أمر الحاجب والخادم. قال: سمعا وطاعة يا مولاي. قال: والآن خذ الحرس فارجعا، وأنا يكفيني «بنتؤر» والعبد، وكان الليل قد دخل في ساعته الأولى، فركض الحرس خيلهم خلف قائدهم الهمام «رادريس» آيبين إلى المدينة، ومشى جماعة من الكهنة في ركاب الأمير حتى اجتاز باب الظلام، فانطلق يسير وليس معه إلا مؤدبه وعبده، وهناك استأذن الكهنة فأذن لهم فانثنوا راجعين.
الفصل الثالث
ما كان يجري في طريق الخفاء
كان الفصل نيلا، والليل خفيفا ثقيلا، جفيفا بليلا، صدئا ثقيلا، لا قصيرا ولا طويلا، وكان الليل في طفولته الأولى لا ينفع الضال، ولا يغني عن الساري فتيلا، والأرض يبدو عليها الزرع، ويتخللها الماء، فهي سوداء للناظر خضراء حمراء، وكان على الجانب المهجور من الصحراء، وهو المعروف بطريق الخفاء نحو عشرين فارسا من الخفاف الأقوياء متوسدين الثرى ينتظرون على الظلماء، وخيلهم على البعد بعضها رابض يجذب بالغبراء، ومنها الناهض المنيف بأنفه في السماء، وبين الخيل والفوارس، هودج معمور بربته آنس، وهي فتاة حلوة المحيا في مجموعة نضرة القوام الرشيق، سوداء العينين بقليل ضيق (الطويل):
إذا برزت أبدى النهار قميصها
يغير به شمس الضحى فتغار
وإن نهضت للمشي ود قوامها
نساء طوال حولها وقصار
وهي قد جلست خلف الهودج مطرقة أسيفة. تنظر تارة إلى السماء كالضارعة وطورا تنظر في يدها اللطيفة، وكان لدى الفتاة هنالك نمر بديع في شكله، عزيز في نوعه، وقد ربض بجنبها آنسا بها، مطمئنا بقربها، وحدقتاه الحمراوان لا تشتغلان لحظة عن شخصها الفتان، ولسان حاله يخاطبها بهذا المقال:
أنا يا مولاتي الخدم والحشم، وأنا الوطن والأهل والنعم، وأنا سيوف أبيك المجردة تحميك، وستبدي لك خطوب الزمان كيف يخلص ويفي الحيوان.
فبينما الفرسان في السمر ينتظرون على المكان، وكان الليل قد ذهب ثلثه الأول أو كاد، لم يدروا إلا بخيل تنهال من كل جانب، وتحوش عليهم السبل والمذاهب، فنفروا عن مجلسهم منذعرين ثائرين، كما أطلقت إبلا صعابا أو هيجت آسادا غضابا، يصيح بعضهم ببعض: إنهم يا قوم متطوعة المعبد، هاجمونا ليخطفوا عذراء الهند. فويل لنا من «طوس» إن هي أخذت منا! وما هو إلا كلمح البصر حتى تلاقى الرجال واشتبك القتال، وزاد اختلاف السلاح في الأهوال، فضربا بالسيوف، ورميا بالنبال، ونزلا بالبلط الثقال، وحملا بالمزاريق الدقاق الطوال.
ولم يمض يسير زمان حتى سقط ثمانية من رجال «طوس» بين قتيل وجريح، وأسر منهم ثلاثة، وأوشك الباقون أن تخونهم الأقدام وتخذلهم السواعد فيخروا حول الهودج - رايتهم - هالكين، وعندئذ سمع ضرب نفير يردد، ولم يشعر العدو الكثير العدد الفرح بالظفر، إلا ونحو مائة من ليوث الأبطال يتضاغطون عليه كما تضاغط الجبال، فلقيهم حق لقائهم حملا ووثبا وطعنا وضربا، كأنما يأبى إلا عذراء الهند يأخذها غصبا.
فعاد القتال أشد، وطال السيف وامتد، ولكن المتطوعين كانوا قد تمكنوا من أخذ الهودج ومن فيه، فسار به أربعة منهم خلف حصن حصين من ظهور إخوانهم المقاتلين، وعذراء الهند تستجير ولا مجير، وتستصرخ ولا نصير، وتصيح: حارس حارس، إلي يا حارس، أين وفاؤك؟ هذا وقته، أتخذل مولاتك وابنة مولاك وهي لم يبق لها من ملك الدنيا سواك؟ أما حارس فكان قد نفر بادئ بدء، كما هي طبيعة السباع، ثم زاده نفورا أنه كان خارج المعركة يرأرئ بحدقتيه كالمفتش عن مكان مولاته فلا يراها، فما صدق أن وصل صراخها إلى خروق المسامع، حتى طار إلى الصوت وثبا كأنه الأفعوان النافر، فرمى بكتلة جسمه الجهنمية في صدور الرجال الأربعة، فمزقها شر ممزق، ثم إنه وقف بجانب مولاته رافع الرأس بارز اللسان من شدة الخفقان، ولسان حاله يقول: هل من مزيد؟
هذا ما أصاب عذراء الهند، أما ما كان من أمر المتقاتلين، فإن استئناف القتال بينهم لم يلبث أن انجلى عن انتصار رجال «طوس» وأبطال الحرس، وقتل أكثر المتطوعين، غير أن هؤلاء لم يتقهقروا خطوة ولم ييأسوا، حتى كأن هناك سلاحا آخر. وعلى هذا السلاح كانوا يتكلون، وفي الحقيقة كان وراء صفهم كاهن، وكان كامنا يتربص ثم تبين أن السلاح قد خان، وأن الثبات أمام العدو لم يعد في الإمكان، أخرج آلة تقذف مسحوقا أبيض كريه الرائحة، فسلطها على الأعداء، فكان كل من علقت ثيابه شيئا من هذا المسحوق من القوم، يصفر لونه ويضطرب جسمه ويميل رأسه، ثم يسقط مغشيا عليه؛ فحين أبصر رجال «طوس» ذلك أخرج أحدهم صفارة فضرب بها ثلاثا فأقبل على القوم رجل جهنمي مهول، يهدر كأنه الأسد الأفريقي أو هو الغول، وكان كذلك كامنا خلف هضبة يتربص، فلما رأى ما حل برجاله وإخوانهم أبطال الحرس، أخرج من صدره شريطا طويلا من ورق أخضر، فأشعل طرفه فتصاعد منه دخان متكاثف طيب الرائحة، فكان من يتنشقه من المصابين بالمسحوق يستفيق في الحال، ثم يخف نشطا سريعا إلى القتال.
وإذ رأى الكاهن ذاك أبرز شبه مرآة صغيرة شديدة الضوء مستديرة ومد بها يده من بين الصف، ثم أدارها في وجوه المقاتلين، فكان من تأثيرها الوقتي في أعصابهم الارتعاش والارتعاد، واضطراب الأجساد ، حتى لقد كان السلاح يسقط من أيديهم فلا يملكون له من منع ولا استرداد، فلم يكن من الرجل الجهنمي إلا أنه صرخ صرخة تميد لها جبال الحديد، ويقصر عن مثلها الأسد الفتى الشديد، فزالت تلك الحالة الاضطرابية، ورجع القوم إلى حالتهم الطبيعية.
وبعد ذلك تقدم نحو الكاهن محتدا بالغضب، يقول: ما لي ولهؤلاء المساكين أعذبهم؟ فوربي الذي أعبد، لا أخذت سواك يا كاهن النفاق، ولا أخذتك إلا بنظرة، كما يؤخذ صغار السحرة. ثم نظر إليه نظرة فراح الكاهن مأخوذا مسحورا لا يملك لنفسه حسا ولا شعورا، وأسر من كان باقيا من المتطوعين، فخلا المكان للرجل الجهنمي، وحينئذ ارتجل نظرة إلى الأفلاك، ثم قال: لم يبق من النصف الأول من الليل إلا مسافة الذهاب إلى القصر، فليرجع إذن أبطال الحرس بسلام مشكورين، وليحملوا معهم أسرى المتطوعين إلا هذا الكاهن، فإن لي وله شغلا، ثم جعل رجاله قسمين، وكانوا اثني عشر، فسار ستة منهم بالهودج، قاصدين وجهة القصر، ورجع معه الباقون يسوقون أمامهم الكاهن إلى عذاب مستمر.
الفصل الرابع
الأمير في الطريق
تركنا الأمير ومؤدبه وعبده آخذين يمين السور الغربي، يسيرون في حماية السور وتحت مدارع الظلماء، آتين باب طيبة، ومنه إلى قصر النزهة بالضواحي، والآن نرجع إليهم، فنقول: كان الأمير يقول لصاحبه وهما في المسير يتحدثان: أرى يا «بنتؤر» أن في الوقت ما يكفي لنذهب فنؤدي الواجب نحو دعوتنا المقدسة، ثم ننثني فنستقبل الأميرة. قال: لعل مولاي يشير إلى الجمعية، فإنها تنعقد في هذا المساء؟ قال: نعم، إلى ذلك أشير. قال: وهب أن الوقت لم يمكنك من حضورها هذه الليلة، فإن الأحرار يعذرونك يا مولاي، وحاشاهم أن ينالوك بفكرة سوء، أو يظنوا بك إلا الخير فيما يظنون. قال: ولكني وأخي لم نعودهم التقصير من قبل. ولا أحب أن نعتاده معهم، فالنفس مع العادة بنت مرة. قال: ذلك أحب إلي يا مولاي، بل أنت إن فعلت زدت مكانة في نفوس القوم إلى مكانتك، وأصبحت منزلتك في القلوب منازل. قال: ولكن الوقت إن سامح بالذهاب إلى الجمعية، فهو لا يحتمل لنا أن نرجع إلى المدينة فنغير خيلنا ولباسنا. فما العمل إذن؟ وماذا ترى؟ قال: لا يفكر مولاي ولا يضجر؛ فإن «رادريس» لا يفوته في أمر الحزب صغيرة ولا كبيرة، وهو لا شك عالم أن الجمعية تلتئم في هذا المساء، فلا يقصر عن المبادرة إلينا بما نحتاج من خيل ولباس. قال: هذا إن وجد سعة في الوقت، وما أظنه واجدا. قال: بل سيجد يا مولاي؛ إذ حيث الأمر كما قدمت لك، يتناول مصلحة الحزب ويهم الأحرار. و«رادريس» هو ذلك الغيور، ألم يكن القائل للملك إذ هو في مقابلاته الرسمية إذ تحيط به حاشيته ووزراؤه:
أيها الملك
إن عفريت الحبشة ومدوخ أفريقيا لا يقبل أن يتقدم عليه صغار أولاد الكهنة في شرف الدخول عليك للتبريك، حتى نشأ عن ذلك تركه الأمور واعتزاله الخدمة حولين كاملين (مخلع البسيط):
رأيت ملكا بلا استقامة
لا صدق فيه ولا سلامة
فعفت باب الأمور حتى
خرجت بالعز والكرامة
والحر في حيثما تولى
يقوم للخلق بالخدامة
قال: نعم، هو ذاك الشهم بعينه، وإني ليعجبني له قوله في خطبته المشهورة التي ألقاها على جيوشنا المظفرة بالحبشة: «أيها الجند، أنتم منذ كنتم آباء التاريخ وأصحابه، وإليكم ينتهي كتابه، فإياكم أن تعطوا العدو منه سطرا واحدا، فما خلق الذل إلا لأمة ذات مجد غابر لا تستحيي من تاريخها.»
ثم ما زال الأمير وصاحبه يمجدان الحارس الأول في غيبته، ويتذكران الكثير الطيب من سيرته، وقد خدعهما الحديث كعادته، فلم يدريا إلا بباب طيبة يلوح لهما كأنه الطود الشامخ أو البرج المشيد الباذخ، وهنالك انتحيا طريقا مختصرا إلى قرية البشنين، فاندفعا يسيران، وكانت على ذلك المكان، شجرة ملتفة الأغصان، متكاثفة الأفنان، كأنما أرضعت الزمان، فلما صارا على خطوات منها ألفياها تموج، وآنسا عندها حركة فارتابا لأول وهلة، وارتاعا لما عسى يكون وراء الظلام، ولكن العبد كان قد بلغها قبلهما فوقف، ثم التفت وراءه ينادي: ليقبل مولاي في أمان، فإنهم رجاله ينتظرون قدومه، فأقبل الأمير، وإذا «رادريس» يتقدم للقائه، فقبل يده ثم دعاه و«بنتؤر» ليترجلا، ففعلا، وانثنى الأصحاب الثلاثة إلى الشجرة فلبثوا فيها برهة من الزمان، ثم برزوا في زي غير السابق المعتاد، وعلى جياد غير تلك الجياد، وعندئذ مشى العبد وسائر الرجال بالثياب والخيل، راجعين إلى المدينة، وسار الأمير وصاحباه لما هم إليه قاصدون.
الفصل الخامس
عذراء الهند في الطريق
تركنا عذراء الهند تسير إلى قصر النزهة المأنوس، في ستة من رجال «طوس»، والكل بالحارس محروس، والآن نعود فنلوي عليها بالحديث، فنقول: كان من أمر الفتاة أنها لما اجتازت طريق الخفاء، واستقبلت الآهل المسكون من الأرض لأول مرة في أيامها تحت سماء مصر، لم تلبث أن ثاب إليها بعض الأمل بالنجاة، والاستبشار بعودة أيام الحياة؛ إذ شعرت أنها تمشي على أرض الاطمئنان، وتحت سماء العمارة والأمان، وبمرأى ومسمع من بني الإنسان، حتى لقد شغلها الأنس بالمكان، وفرط السرور بما كان، عن حارسها العزيز الذي عاشت وعاش معها عمرا، لا هي تتلهى عنه لحظة، ولا هو يعطى عنها صبرا.
غير أنها ما لبثت أن مر خيال النمر بفكرها، وتمثلت لها صورته بكل سبيل، فأبصرت قدامها تتفقده، والتفتت حواليها تتعهده، ثم طالعت خلفها لعلها تجده، وإذا الحيوان، لا أثر له على المكان، فظنت بادئ بدء أن لا شيء وأنه ربما كان متغيبا في بولة، أو مبتعدا يجول له جولة، حتى إذا طال أمد الغياب، وأبطأ النمر في الإياب، أخذ الفتاة القلق، وحق لها أن ترتاب، فنظرت وإذا هي لم يبق معها إلا ثلاثة من الجماعة، وكانوا ستة من قبل ساعة، فزادها ذلك جزعا وقلقا، وامتلأت من الأمر فزعا وفرقا، لا سيما إذ كانت ترى الظلام يمتد كثيفا، وتشعر بالطريق كأنه يعود كما كان موحشا مخيفا، ثم لم يكن كلحظة عين حتى صار الثلاثة اثنين، ثم صار الاثنان رجلا واحدا فردا، وحينئذ أدركت الفتاة دخيلة الأمر، وعرفت من أين مأتى الشر، فتملكها اليأس، ومن ييأس لا يخف فقصرت لجوادها العنان فوقف.
ثم نظرت إلى الرجل عن ريبة فيه، وأمر تحت اللثام يخفيه. فقالت بصوت يقطعه الغضب: إن ما يجري من ساعة لم يدع بنفسي شكا، أيها الغلام، إنك ذاك الخاسر، الفاجر الوغد اللئيم الغادر، الشقي ابن الشقي، فإن حسبت أن قد أصابت المصيدة، وتمت لك المكيدة؛ لأنت إذن في وهم طويل، فإن الأماني والأحلام تضليل، وإن العنقاء ما إليها سبيل، فعند هذا الكلام، لم يكن من الغلام إلا أن نزع اللثام، وقد عيل صبره لعناد الفتاة كما طالما عيل لعناد الغرام. فقال: نعم يا مولاتي، أنا ذاك الخاسر في تأميلك فأسعفيه، الفاجر تهتكا بك فبرريه، الوغد ذلا لك فارفعيه، اللئيم الغادر اضطرارا فاعذريه، ولا تلوميه، قال هذا وتأوه واشتكى، ثم ما تمالك أن بكى، فقطع الدمع عليه الكلام فخر متراميا على الأقدام، ولسان حاله يقول في الاسترحام (كامل):
وسألتهم فتمنعوا استعطفتهم
فترفعوا فهويت للأقدام
طورا أقبلها وطورا أشتكي
فعرفت كيف إجابة الأصنام
وفي الواقع كانت الفتاة تتلقى هذه التضرعات، وهي معرضة نافرة، كأنها المقدور إذا ضرب، أو القضاء في حال الغضب. يرميان على الباكي دمعته فيعيدانها إلى القلب جمرة تتلظى، ثم إن الفتى رفع رأسه لينظر هل شفعت له الدموع، أم أهل نفعت الذلة والخضوع؟ فلما لم يجد لأمره نجاحا، ورأى الفتاة لا تزداد إلا نفرة وجماحا (السريع):
بثثت شكواي فذاب الجليد
واشقق الصخر ولان الحديد
وقلبك القاسي على حاله
هيهات بل قسوته لي تزيد
ثار الدم في رأسه، وغلبه جنون الغضب على حسه، فنفر كالأسد المجروح عند غايات يأسه، يصول كل مصال في الوعيد، ويجول في كل مجال من التهديد، وهي لا ترجو لغضبه وقارا، ولا تزيده إلا جفوة واحتقارا. فلم يكن منه حينئذ إلا أن جذب إليه الهودج بعنف، فمال ومالت معه الأميرة، فسقطت على وجهها، متعفرة مهانة، ونفر الجواد الذي كانت تركبه، فلم يكن أشد منها جماحا في وجه هذا المغتصب، ولا نفارا عن كفه، وهو قد انقض عليها مستلا خنجره يخيرها بين أن تبذل العرض، أو تسامح في الروح.
فبينما الفتاة على هذا الحال الأنكد الأسوأ تحت أحد الخطرين العار أو الموت، وهي تستغيث وتضرع، وتسأل أن يسبق الثاني الأول، لم تشعر إلا بجواد قد وقف بغتة عند رأسها، ثم بفارس قد نزل عن الجواد، وهو يصرخ قائلا: من هذا المتهجم على الأمن المستبيح الحرمة تحت سماء منفيس، فاضطرب لصرخته الغلام وسقط الخنجر من يده، ثم خار لا يبدي حراكا، ولا يملك عن الأرض فكاكا، فتقدم الفارس عندئذ إليه يسأله: من أنت؟ تكلم يا فتى، لا تخف ثب إلى نفسك والغلام واقف وقفته لا يرفع العين، ولا يأتي جوابا، فتركه الفارس وتقدم نحو الفتاة يسألها قائلا: أنا الأمير فمن ربة الهودج التي أنقذناها من يد هذا الباغي؟ فنهضت الأميرة وقد تأثرت بسماع لفظة الأمير، ثم ضاعف تأثرها أنها عرفت الصوت الذي لم يكن تغير، ولكن شب كما شب صاحبه، فرفعت عينيها تنظر وكان الفارس قد زحزح اللثام، فإذا هي بأعطاف «آشيم» ومناكبه، فدنت تزيده نظرا، فإذا الوجه بعينه وصفاته ولونه، حتى إذا لم يبق في نفسها شك مريب، أنه الأمير وأنه الحبيب، هاج الموقف لها وجدها فمالت فألقت بغصن قوامها الناعم بين ذراعيه، فتلقاها الأمير ولكن ببطن راحتيه وهو مغض حياء يلعثم قائلا: لقد أخذتني أيتها الأميرة مكان شقيقي «آشيم» فغضي عليك قناع الحشمة، واعلمي أنني كما أمثل «آشيم» خلقة إلى هذا الحد، فقد أحكيه كرم أعراق، وعظم أخلاق، وأحفظ له في القلب كما تحفظين الأعلاق، وهو الآن غائب، ثم تكون له إليك أوبة مشتاق، ما بعدها بإذن الآلهة فراق.
فاستأخرت الأميرة عندئذ مجفلة، ثم قالت بصوت يقطعه البكاء، وترققه الاستغاثة والاشتكاء: يا للسماء لهذه الخالدة الشقاء الأبدية الإقصاء! وأين «آشيم» الآن أيها الأمير؟ وبأي مكان؟ قال: بالهند يا مولاتي، يطفئ نار الثورة فيها. قالت: لقد رأينا في مجيئنا سفنا تحمل أعلام جلالة الملك وهي تترامى بجنودها آفاق الهند فعسى «آشيم» فيها، ولعله هو حاميها. قال: نعم مولاتي، فإن الأسطول الذي عارضته قادمة هو أسطول فتاح الذي ليس على المياه الأجنبية في هذه الأيام غيره، و«آشيم» هو أميره الذي بيده زمامه، فعادت الفتاة حينئذ فبكت واستغاثت واشتكت، ثم رددت: يا للسماء لهذه الخالدة الشقاء الأبدية الإقصاء!
وفي هذه الأثناء أقبل ثلاثة من الفرسان متلثمون وعليهم أردية حمر وسلاح، فترجلوا دون الأمير، ثم تقدم أحدهم فقبل مواطئه، فسأله الأمير قائلا: من الرجال؟ وما حاجتكم؟ قال: من أصحاب الرئيس «طوس» يا مولاي، أرسلنا لنأخذ «هاموس» ابنه هذا المسحور. قال: ومن سحره ومتى؟ وأنا قد عهدته من لحظة خالصا سليما يشرع في الجناية وكنت أحسبه مأخوذا بهيبتي؟ قال: لا بل بإرادة من الرئيس خفية يا مولاي. ولعله كان ينظر إليه في تلك اللحظة بمنظار من روحانياته كشاف.
فلما رآه وقد هم بهذا الملك المطهر حبسه كما يرى مولاي، ثم أرسلنا لنأتي به. قال: ولكن «طوس» رجل قاس، وأخاف إن أنا أذنت لكم بأخذ غريمي أن يقتله، أو أن يسومه من العذاب ما هو أشد من القتل. قال: ليطمئن قلب مولاي من هذه الجهة، فليست عقوبة «هاموس» عند أبيه في كل مقترف إلا كلمة يقولها له همسا، هي أشد عليه مضضا من وقع الحسام المهند، فأطرق الأمير عندئذ برهة ثم رفع رأسه فسأل الرجل قائلا: ألهذا الفتى أم؟ قال: لا يا مولاي. قال: إذن فقد ماتت فمن كانت؟ قال: هذا ما أجهل يا مولاي، ويجهله سائر أصحاب «طوس». قال: إذن فخذوا ابن الزناء فقد فهمت.
الفصل السادس
حزب الأحرار
كان أول من ألقى أساس هذا البناء المعارض لبناء الكهانة، السور المناهض لأسوار الديانة، في أوائل حكم «رمسيس الثاني سيزوستريس» فرعون ملك مصر، وكان الملك نفسه هو روح ذلك العصر الجديد الذي قام به، ونظم عقد هاتيك المبادئ الحديثة، وهل عقد بغير نظام، وإن كان لم يصدر منه بدء بعمل أو اشتراك أو ارتياح لإتمام، وإنما أصاب به عقلاء الأمة يومئذ ملكا فتى ذكيا جريئا، مربى كما يربى أبناء الأفراد بين حياة الشعب العامة وبين الحوادث والأحوال، فاستقبلوا دولته حق استقبالها وعلقوا بأيامه الآمال.
وكان ضغط الكهنة على خاصة الأمة وعامتها، وبالأخص رجال الحكومة، على اختلاف درجاتهم، وتنوع وظائفهم، شديدا متواصلا، زائدا عن حده، فكان العقلاء الأحرار ينكرون عليهم كل هذا التوسع في النفوذ، وتناول حقوق الملك المقدسة والاختصاص بالأمر والنهي في البلاد. أما الملك فقد لحظ الأمر من أول يوم بعين مبصرة، وارتاح لنشأة هذا العدو المستتر المهدد للكهنة شركائه، في الملك بغير حق شركة، ولمنازعيه الحكم بغير حق نزاع، إلا أن ولعه الزائد بالحروب وشغفه الجم بالفتوحات كانا يمنعانه من تأليب عناصر الحكومة بعضها على بعض، وفتح حقبة للمشاكل الداخلية ربما تطول فتحول دون ما هو مشغوف به مشغول، فكان يتغابى عن أعداء الكهنة، ويواصل هؤلاء المعاملة الحسنة.
ولهذا بقيت النهضة أدبية محضة، لا تجوز النفوس ولا تتعدى الخواطر والأفهام، إلى أن أخذ «رادريس» و«بنتؤر»، كلاهما حقه في الترقي في خدمة المملكة، فعهدت إلى الأول قيادة الجيوش الاستعمارية العامة، وعين الثاني أستاذا عاما للأدب والفلسفة في العاصمة، ومؤدبا للأميرين الشقيقين «آشيم» وبسمتوس ابني الملك من الملكة زوجته الشرعية، وكان ذانك الرجلان من أكبر خصوم الكهنة في السر والجهر، وكانا واحدي عصرهما في عالمي السيف والقلم، نافذي السلطان الأدبي على أبناء طائفتيهما، فهذا تنجذب إليه الجيوش كما تنجذب إلى النصر، وهذا فعول بيانه بالألباب ما تفعل الخمر، فلما تقلدا منصبيهما الجديدين تقلداهما على الفور سلاحا ماضيا لمناهضة الكهنة والسعي في رفع نير ذلك الاستبداد عن العباد والبلاد.
ثم كان من سعدهما أن العدو مني بفقد دعامة من أرفع الدعائم وركن من أركان بنائه الجسام، ألا وهو «طوس» الكاهن الأعظم لطيبة؛ أي رئيس الديانة في القطر كله، ولم يكن مات، ولكن فر من خدمة الديانة، لأسباب سنوردها بعد، وعلى وجه كدر صفو القوم تكديرا، وانسحب على أثر «طوس» كثيرون من أذكياء الكهنة انضموا إليه، فتكون من جميعهم حزب مناوئ للديانة شديد على رجالها رهيب.
وكان الملك قد فرغ من فتح الأرض، ولكن بعد أن أصبح كهلا غير قادر المشيب، وكان لم يزل في موقف النظارة تلقاء هذه الحرب الخفية، وهو يشكو مع الشعب من عتو الكهنة وعبثهم بحقوقه، موروثها والمكسوب، ولكن كان يغدو على مداجاتهم مغلول اليد، قليل الحيلة، ليس له عن الأمر معاث إلى أن شب «آشيم»، وكان أذكى أولاده وأنبلهم وأشجعهم قلبا، فاغتنم الملك هذه الفرصة لينذر الكهنة، فقرع لهم بفتاه العصا لأول مرة؛ حيث استعمله على منفيس والأقاليم الوسطى، وجعل في خدمته «رادريس» و«بنتؤر» بالرغم من معارضة الكهنة وقيامهم في وجهه لمنع هذا التعيين.
ومن ذلك العهد بدا حزب الأحرار للوجود يمتد من منفيس إلى طيبة فأقصى أطراف المملكة، وظهر الأمير فوق الكهنة كرما وجودا وتواضعا ورحمة وإدناء للأمة، ومخالطة لها واشتغالا بها، إلى غير ذلك من الصفات التي كانت أضدادها في أبيه، فتهافتت القلوب على كلمته، وتسابقت الخواطر إلى تلبية دعوته، كل هذا والحزب خلف الحجاب، والعمل مستتر والنار كامنة في أغوار الرماد.
والآن إذ وقف القارئ على هذا البيان المجمل، عن سيرة الحزب، فلينتقل معنا إلى مركز قرية البشنين؛ حيث فيما وراء الجانب العامر الآهل منه، منزل متوسط بطبقة واحدة مبني بالآجر (الطوب الأحمر) مبيض بالجير، ظهره إلى المساكن، ووجهته خالصة إلى الخلاء، وله مدخل معتم حقير، وهذا المدخل عبارة عن خمارة فيها بعض أرائك للجلوس، وبها منصة عليها كثير من أدنان الخمر، وسلل الفاكهة.
وكان المنزل والخمارة لشاب من أهالي القرية، وكان عزبا منفردا، ليس معه إلا خادمان يصحبانه من قديم زمان، وكان لا يقبل في خمارته إلا طلاب الراحة من المسافرين أو الآيبين من الصيد والقنص التعبين، وقد جعل الأسعار فادحة حتى تجافت عن محله الأقدام، وصار كل من دخله مرة خرج مكويا بغلائه فلا يثني.
فكان أهل القرية، وعلى الأخص ألاف الخمر منهم، يرمقون الشاب بعين المقت ويسلقونه بألسنة حداد، فيزعمون أن والده ترك له ثروة واسعة كان قد أسسها من تجارته العظيمة في ورق البردي، فلم يحافظ الفتى عليها، بل بددها في أقصر زمان، ولم يستبق من العقار إلا ذلك المنزل، فاتخذ فيه حانة وراح يعيش ببيع الخمر، ثم كان السكيرون من بينهم يزيدون فيقولون: وليته ناجح في عمله فإنه يرفع الأسعار، ويعطي بمقدار، ويصرف الزوار، فلا الليل يبيع ولا النهار.
وكانت الخمارة في الليلة التي نحن بصدد حوادثها مفتوحة مشتغلة، وكان في جوفها مصباح ضعيف الضوء عنده أريكة، وعلى هذه الأريكة رجلان يتحادثان، وبين أيديهما شيء من الخمر والفاكهة، فكان أحدهما يقول للآخر: إن الأمير في شغل الليلة يدبر لعذراء الهند مبيتها في قصر النزهة، قال: نعم، وأي شغل! قال: فهل تظنه يشرف الجمعية بحضوره كالعادة؟ قال: ومتى عهدنا في الأمير قلة الوفاء حتى بدأنا نظن به الظنون؟ قال: حاشاه وتعالت مروءته، وإنما أنا أنظر إلى كثرة أشغاله وخطارة ما يباشر من الأمر، فالتفت الأول حينئذ إلى رب الحان، وكان عند منصته مشتغلا بترتيب الدنان، فسأله: أيها الرئيس، كم عندك الآن من الإخوان؟ قال: تموا خمسين، ولم يبق من لم يحضر ممن عليهم الحضور سوى الأمير وصاحبيه. قال: فهل اعتذر الأمير برسول أو رسالة. قال: لا، ولعله وصاحبيه في الطريق. قال: فكم بقي من الوقت لنبتدئ؟ قال: ضربة الجرس الثالثة، ثم ارتجل نظرة إلى الأفلاك. فقال: بل أرى الوقت قد جاء، ولم يبق إلا أن استعد، وانحدر من فوره إلى المخدع في الحان، فعالج بابه فانفتح فدخله، وخرج منه على أثر ذلك الخادمان. فدعوا الرجلين للحاق بالرئيس، ففعلا كما فعل، ثم عمدا إلى باب الخان ليغلقاه.
وعند ذلك أقبل الأمير وصاحباه، فتنحى لهما الخادمان، حتى إذا دخلوا أغلق الباب، وابتدر الجميع دخول المخدع، وكان خلف بابه مباشرة سلم من حبال فنزلوا منه إلى دهليز ضيق مظلم طويل، فمشوا فيه حتى إذا اجتازوه خرجوا إلى مكان مشيد الأركان وافي العظم والاتساع، لا يضيق بألفين من النفوس يجتمعون فيه، وكان منارا بمصابيح قوية الأشعة إن لم يكن ضوءها من الكهرباء، فهو لا ريب ما يلي ذلك مباشرة من الأضواء.
وكان على الجدار الذي يستقبله الوافد على هذه القاعة صورتان؛ إحداهما: أسد شاب بين الفتاء، بادي مخايل الحمية والقوة، وهو مطلق يهيم، ولكن على عينيه رباطا يحجب نورهما، وهو لا يملك للرباط فكا، وتحت هذه الصورة مكتوب: «الوطن محجوب مدى المستقبل بالكهنة.» والثانية: صورة ذلك الأسد وقد دنا منه طفل صغير، فنزع الرباط عن عينيه، فأبصر فربض عند قدمي الطفل رافعا رأسه يتأمله بهيئة الشاكر الممتن، وتحت هذه الصورة مكتوب: «شكر الوطن لحزب الأحرار.» وكانت على الجدار الأيمن أيضا صورتان؛ إحداهما: فرعون وقد جثا - على فخامة جاهه - أمام كاهن، وخلف فرعون فتاة وهو ينزع عنها بيده ما عليها من الحلي، والحلل، ثم يجعله على الكاهن الذي قد ناء بما حمل، وتحت هذه الصورة مكتوب: «فرعون يبذل أشياء الأمة للكهنة.» والثانية: صورة تلك الفتاة وقد وقف أمامها طفل صغير وهو يسمو إليها بيديه الناعمتين مملوءتين من أنواع الحلي، وصنوف الجواهر، وتحت هذه الصورة مكتوب: «حزب الأحرار يرد إلى الأمة أشياءها.»
أما الجدار الأيسر فكانت عليه صورة فتاة تحمل على رأسها تاجا، وقد جعلت في يدها اليسرى بضعة تيجان، وأمامها فتاة أيضا وهي تتوجها بيدها اليمنى، ووراء هذه الفتاة الثانية ملأ من الفتيات مزدحمات ينتظرن، وتحت هذه الصورة مكتوب: «منفيس تتوج مدائن النيل بتاج الحرية مبتدئة بطيبة.» وكان في صدر القاعة عرش، وكان الرئيس يستوي عليه فيملك بإشارته وأقواله إصغاء الحاضرين، أما سائر القوم فكانت لهم أرائك بعضها عند بعض، وكانت درجات للجالسين، فلما اطمأن بالأحرار المجلس قام الرئيس - صاحب الخان - وفي يده ورقة فقال: هذه أيها الإخوان رسالة وردت على كاتم الأسرار، من الكاهن «شاين» أحد أبناء الجمعية وجاسوسها ومراسلها في المعبد يقول فيها، ثم قرأ: وقف الكهنة على أمري معهم، فألقوني في سجن الخائنين، المارقين من الدين إلى أن يصدر مجلسهم الأعلى بطيبة حكمه، الذي لا يكون إلا الإعدام على أفظع وجوهه، وإني مستعد للقاء الموت، مدخر آخر أنفاسي في جو هذه الدنيا لأجود به قائلا: لتحي جمعية الأحرار.
فلما اطلعت الجمعية على هذه الرسالة الوداعية قامت لها وقعدت، وأبرقت وأرعدت، ولم تمكث أن اقترعت، فأصابت القرعة الأمير وحرين آخرين من كبار الضباط في منفيس، فنهض المندوبون الثلاثة على الفور يصيحون: نحن لها، ولنأتيكم ب «شاين» قبل أن ينفض مجلسكم هذا، وللحين لووا على خزانة السلاح فتسلحوا ثم خرجوا وهم لا يدرون أين يتوجهون، ولا كيف يصلون إلى صاحبهم المسجون؟
ومما زادهم حيرة، وأضعف أملهم بالنجاح أن الليل كان مقمرا مكشوف السماء يتهدد بالفضيحة كل دباب مريب. هذا فضلا عن منعة المعبد، واستحالة الوصول إليه، وزحمة الحراس والخفراء عليه؛ فكانت هذه الفكرة تتملك كلا من الرجال الثلاثة، وتسعى بقدمه فيوغل في السير إلى أن بلغوا باب طيبة، وهنالك وقفوا برهة يستريحون ويدبرون لهم أمرا. فقال أحد الضابطين: الآن أدركت خطارة المأمورية، وخطر المسعى. فقال الآخر: بل هي الخطوة الموبقة والمنية المحدقة. فقال الأمير: ولكنا حملنا هذا الأمر العظيم فلنصطبر له ولنقم فيه بما يوجب الشرف، وتقتضي الشهامة، غير ناسين أن بين ظلمات المعبد في هذه الساعة صاحبا لنا من أعز الأصحاب، يعاني عظيم الأسر ويسام أليم العذاب، مهددا بين لحظة وأخرى بأقصى العقاب. فعند سماع هذه العبارة امتلأ الضابطان حماسة من الرأس إلى القدم، وتنصلا مما كانا أبديا. فقالا: إنما قلنا ما قلنا من أجلك يا مولاي، وخوفا عليك، فأما وقد صممت على المخاطرة فيها، فنحن ساعداك، بل نحن وذوونا والعالمون بأسرهم فداك.
كانت اللصوصية عند المصريين الأقدمين حرفة من حرف الشعب، وكان اللصوص طائفة ولها رئيس، وكان كل من سرق شيئا يحمله إلى هذا الرئيس فيأتيه صاحب الشيء فيطلبه منه فيرده إليه بعد أن يحجز الربع، ولعل القوم كانوا يذهبون في تحليل هذا السلوك الغريب مع السراق؛ أولا: إلى أن اللصوصية مستحيل إفراغها من الدنيا، مهما كان من شدة المراقبة وصرامة القوانين. ثانيا: أن المسروق منه لا تنفعه معاقبة السارق إذا هو لم يسترد أشياءه؛ بل الذي ينفعه ويهمه رد الشيء المسروق على إهماله وعدم السهر على ماله.
وكان للصوص زي خاص بهم، ولكن لا يعرفه إلا الخبيرون بأحوالهم والأكثرون رؤية لهم واعتيادا للقائهم، وهم الحكام.
فبينما الأمير وصاحباه كما تركناهم يتفاوضون في ذلك الشأن كان بالقرب منهم على المكان، رجل ملتف بإزار من الكتان الأبيض، وعلى رأسه قلنسوة بيضاء كذلك، وهو منكمش في وضعه، ولكن قريب، بحيث يرى ويسمع. فاتفق أن الأمير التفت فوقعت عينه عليه، فطرده فانسل من المكان كما ينسل الثعبان من حضرة الإنسان، وعاد الأمير فقال لصاحبيه لا تلقيا له بالا؛ فإنه لص، وقد عرفته بثيابه البيض التي يلبسها مهرة اللصوص في ليالي القمر تخلصا من الظل النمام، وليتنا نقتدي بالقوم في ليلتنا هذه فنخفف من ثيابنا بحيث لا يبقى علينا منها إلا الأبيض، فاستحسن الضابطان هذا الاقتراح، وتجرد الرجال الثلاثة إلا عن أبيض اللباس، ثم استأنفوا السير آخذين جانب السور الغربي، وقد عقدوا العزم على أن يأتوا المعبد من باب الظلام، تسلقا كأن هذا الباب متروك بلا حراس، مباح لكل من شاء أن يتسلق من الناس، إلا أنهم ما نصفوا الطريق الطويل الذي بين البابين طيبة والظلام، حتى لمحوا لصا يتسنم السور من نقطة سهلة المصعد، وهو يراهم ولا يواري عنهم عيانه، كأنما لا يعنيه أن يعلموا شأنه فحدثتهم أنفسهم بالصعود على آثاره واقتفاء خطاه لعله من معتادي هذا المعبد، وقد اتخذ السور مسلكا إليه، فابتدروا الصعود من حيث رأوا اللص يصعد.
وكانت نقطة سهلة المرقى في الحقيقة، ولكن ليس في ظاهرها شيء يدل على أنها مصعد معتاد أو سلم عامة للأفراد، وما هو إلا يسير زمان حتى بلغوا أعلى السور، وهناك رأوا اللص وقد اندفع ينساب زحفا على الأربع في مستو من سطح السور ففعلوا مثله، ومثلوا من فورهم فعله، واستمروا كذلك سائرين حتى لاح لهم باب الظلام، باذخ الذرى بين العماد والدعام، فتذكروا أنه محفوظ الذروة بالأقوام، محفوف من كل مكان بحراس لا تنام؛ فأجفلوا وكادت تخونهم الأقدام، لولا أنهم رأوا اللص، وقد عمد في طريقه لحجر كبير، فأزاله عن موضعه، ثم نزل من ذلك الموضع مختفيا، فأسرعوا نازلين على آثاره، وإذا هم بسرداب ضيق أسود حالك، تشفق الحشرات منه أن تتخذه مسالك، فما زالوا يزحفون حتى عبروه، وكانت في آخره نافذة ضيقة فوثب اللص منها ووثب الأمير وصاحباه على أثره، فإذا هم على قمة عمود ضخم عظيم الارتفاع.
فأشرف الأمير من ذروته ينظر، فرأى اللص وقد بلغ أسفل العمود، مستعينا في النزول بحفر كانت في الحجر، فأرشد صاحبيه إلى ذلك ثم نزل، وهما يتبعانه حتى إذا استقرت الأرض بأقدامهم وقفوا ينظرون، وإذا إلى اليمين باب هائل من حديد، وقد عمد اللص لعتبته فقلعها، ثم ولج فتبعوه والجين فحازهم دهليز شديد الضيق، يكاد أن لا يجاز، وكانت أرضه من نحاس رقيق مائج، مهزوز فاجتازوه ثابتي الأقدام، متشجعين بذلك اللص المقدام، وهنالك اعترضهم باب آخر عال، من سلاسل الحديد العراض الطوال، وعليه حارسان بطلان، ضخمان قويان متسلحان، وخلف هذا الباب صوت أنين ينبعث من كل مكان. فاستأخر الأمير عندئذ ينظر ماذا يأتي اللص مع الحارسين، وكيف يمرق من أيديهما.
أما اللص فلم يزد على أن نظر إلى الرجلين نظرة واحدة، متوزعة تأثر كل منهما بقوة سحرها، فانقلب مدار الوجه نحو الحائط وظهره إلى ظهر أخيه، وعالج اللص بعد ذلك عتبة الباب حتى قلعها، ثم دخل فتبعه الأحرار الثلاثة، وإذا هم بقاعة عظيمة تدور بها حجر كثيرة على كل واحدة منها باب صغير من حديد.
وهنالك انكمش الأمير وصاحباه بانتظار ما يأتي اللص، ولكنه كان قد توارى واستتر، ففتشوا عن مكانه فلم يظهروا له على عيان ولم يقفوا على أثر، فتقدموا حينئذ يطوفون بالحجر ويجعلون آذانهم على كل باب، لعلهم يعرفون صاحبهم بأنينه، وقد كان، واهتدوا للحجرة التي هو فيها، فناداه الأمير: «شاين» «شاين»، اجمع إليك قواك وساعدنا على كسر هذا الباب، فإننا نحن الأحرار، قد جئنا ننقذك، إلا أن الكاهن لم يستطع الإجابة من ألم العذاب وفقدان القوى، وأدرك أصحابه ذلك فعالجوا الباب فاستعصى عليهم، فوقفوا حائرين لا يستطيعون عملا، وقد أخذ منهم اليأس وتمثلت لهم الخيبة شائهة الوجوه، وعندئذ شعر الأمير كأن جسما صلبا سقط بالقرب منه فتناوله، فإذا هو مبرد كبير حديد الأسنان ففرح بذلك وبشر صاحبيه ثم تواكل الثلاثة بالباب، فلم يزالوا به حتى كسروه فدخلوا فوجدوا صاحبهم «شاين» ملقى على بطنه مشدود اليدين والرجلين على هيئة صليب إلى الأرض بأوتاد من حديد مسمرة فيها، وعليه من السلاسل ما يثقل الجبال حمله، فكيف بالإنسان الضعيف؟ فحملوا بالمبرد على كل تلك الحدائد حتى كسروها وأنهضوا صاحبهم، فنهض واهن الجسم واهي القوى.
وكان في زاوية من الحجرة عقاب كاسر في سلسة وبين يديه لحم مشوي وماء، فأخذ الأمير ذلك كله وقدمه لصاحبه «شاين» قائلا: أنت يا عزيزي أولى به من هذا المؤذي الضار. فلما طعم «شاين» وشرب بدأ يسترد قواه قليلا حتى ملك الكلام، فقال: هذا يا مولاي، وأشار للعقاب هو قاتلي المنتظر، يدخره القوم ليوم يصدر الحكم، فيشق يومئذ بطني فيأكل هذا الكاسر من أحشائي، فأجابه الأمير ملاطفا، ولكن ها أنت ماض وتاركه، بلا غذاء ولا ماء، وربما نسي فهلك ظمأ وجوعا، فينقلب الأمر؛ إذ تصير أنت القاتل له، قال: «شاين»، ولكن إننا لا ندري كيف دخلنا باطن المعبد، ولكن لهذا حديثا عجيبا يضيق الوقت عن إيراده، فالآن دبر لنا أمر الخروج فذلك شأنك. قال: أمر ممكن فاتبعوني وحاذروا أن تصدر من أحدكم حركة تنبه الشياطين النائمة، ثم مشى أمامهم فاتبعوه، حتى جاء بهم إحدى الحجر التي في القاعة، وكان بابها من خشب، وكان مفتوحا. فقال لأصحابه همسا: داخل هذه الحجرة ثلاث أخر، في الثالثة منها الكاهن الموكل بتعذيب المسجونين، وهو لا شك نائم الساعة، فليدخل أحدكم فيقتله، ثم يأتي بأربعة أطقم كاملة مما يجده في صندوقه.
وكان للأمير عبد أسود يدعى «شقشاق» وكان عزيزا عليه فقتله الكهنة يوما وهو سائر بالبريد إلى بعض الجهات، ثم تركوا جثته بعدما أخذوا ما كان عليه من الأوراق، فحلف الأمير يومئذ لا أقتل به أقل من عشرة من القوم، وإذ تذكره في تلك اللحظة قال في نفسه: هذا أول العشرة يا «شقشاق»، ثم استل خنجرا ودخل، وما هي إلا هنيهة حتى عاد والأطقم الأربعة على كتفيه والخنجر في يده يقطر من دم الكاهن، فأخذ «شاين» أحدهما فلبسه، وأشار إلى أصحابه أن يتردوا الثلاثة الباقية، ففعلوا ثم مشى بهم حتى جاء باب السلاسل الذي كان اللص قلع عتبته، فلما وجدها بهاته الحال، دنا من الحارسين كأنه يريد أن يسألهما عن السبب، فإذا هما مسحوران لا يريان ولا يسمعان، فالتفت إلى أصحابه مندهشا فابتدره الأمير قائلا: هذا شيء حصل من أجلنا ولنصل إليك. قال: الآن اطمأن قلبي فانزلوا ورائي. ثم اندفع في بئر كانت هنالك عن يمين العتبة وأصحابه خلفه، يزحفون زحفه، حتى انتهوا إلى سرداب مستو طويل معلق في سقفه بين مسافة وأخرى قنديل.
فهنالك قال «شاين» لأصحابه: عند القنديل الثالث وإلى اليمين، حجرة خاصة لثلاثة من الكهنة، عليهم ملاحظة الحراس بالليل، ولكنهم من السكيرين فلا يؤدون وظيفتهم إلا نادرا وسنجدهم إما في السكر وإما نائمين من السكر، ولكن الحزم يقضي بقتلهم على كل حال. فوافقه الأمير على ذلك، وهو يقول في نفسه: صاروا أربعة يا «شقشاق»، وبخنجر واحد في ليلة واحدة، ثم أسرع فدخل على الكهنة الحجرة فوجدهم كوصف «شاين» لهم هالكين من السكر أو كهالكين، وقد أخذ اثنين منهما والثالث مستمر، ما ينتهي فرغت الزجاجات ولم يفرغ من الشرب، فبدأ الأمير به فقتله، ولوى بعد ذلك على صاحبيه فألحقهما به، ثم خرج والخنجر في يده حديدة حمراء من كثرة الدماء، فلقيه «شاين» فسأله: هل قضي الأمر؟ قال: لا تسألني وسل هذا الخنجر، قال الآن: فانتظروني لحظة فإن لي عملا في الحجرة آتيه، ودخل مسرعا، وفي الحقيقة ما هي إلا لحظة حتى عاد وفي يده مخلاة صغيرة، فناولها أحد الضابطين قائلا: خذ هذه فأخفها في ثيابك، وليستحضر كل منا حرف الراء على لسانه؛ إذ هو إشارة الليلة نلقيها على الحراس إذا جئنا الأبواب فنجتازها بسلام آمنين.
واستمر الأربعة يمشون و«شاين» يحصي القناديل حتى إذا عد السابع منها وكان الأخير، نبه أصحابه فاستعدوا فدق بابا صغيرا كان خاتمة ذلك السرداب مرددا إشارة الليلة فانفتح لهم الباب فاجتازوه فحازهم الفناء الثاني، وهكذا حتى جاءوا الباب الأخير للمعبد أو المدخل، وكان لا يفتح ولا يقفل، ولكن كان يقوم بحراسته ليلا، مائة رجل من جنود الديانة.
وهنالك لم يشعر الأحرار الأربعة إلا هؤلاء الحراس يموج بعضهم في بعض، متهافتين على السلاح يأخذونه وهم يصيحون: الفارين الفارين ... اقبضوا عليهم ... اقتلوهم ... فتفزع الأحرار لأول وهلة، ثم استحضروا ثيابهم واستجمعوا للمقاومة فكانوا كلما حملت هاتيك الجنود دفعوها بمثل ثبات الأسود، حتى إذا ضاق الشرك واستحكم المعترك، وتناهى الموقف ودنت الساعة، وآن للكثرة أن تظهر على الشجاعة، وقع الفشل على بغتة في صفوف العدو، وتلاه سيف خفي يخطف الهام ويطير الأعناق، فما هي إلا هنيهة حتى هلك فريق، وهرب فريق، ولم يبق على أبواب المعبد إلا الأمير وأصحابه، فالتفت «شاين» حينئذ إلى الأمير، قائلا: أتدري يا مولاي من أين جاءنا البلاء؟ قال: لا. قال: من هذه الغرفة، وأشار لها، وكانت على الباب؛ فإن فيها كاهنا ساحرا، وهو الذي نبه القوم لخروجنا. قال: وهل يكره أن يلحق بأصحابه؟ ثم ابتدر باب الغرفة فكسره ودخل، فقتل الكاهن وخرج بعد ذلك، فمشي في رفقائه، حتى إذا صاروا بعيدا عن المعبد وبمأمن من غوائل جواره، رأوا ذلك اللص بعينه، وقد انتصب أمامهم كأنما يعرفهم من هو، ثم اختفى من حيث ظهر، وتركهم مبهوتين مبغوتين يتساءلون: هل انشقت له الأرض فنزل؟ أم ملك جناحا فطار للسماء؟
ثم إنهم استمروا سائرين إلى أن وصلوا الخمارة ففتح لهم فدخلوا وكان المجلس منعقدا لا يزال، فلما رآهم الأحرار، وقد آبوا ب «شاين» حيا سالما قابلوهم بضجة تعجب واستحسان، ثم لاقوهم بصيحة وامتنان، ونظرت الجمعية بعد ذلك في أمر من الخطارة بمكان، وهو السعي في إبعاد قائد الفرق الاستعمارية عن منفيس واستبداله بغيره من القواد المحالفين، فأخذ الأمير نجاز ذلك على همته وتدبيره، وختمت الجلسة بتسجيل هذا الوعد، ثم تفرق الأحرار، وليس بما دار في تلك الدار قط دار.
الفصل السابع
حادث باغت
كان قد مضى على نزول عذراء الهند في قصر النزهة بالضواحي نحو شهر والأميرة متقلبة في صنوف الكرامة، موفورة الخفارة والحراسة، يحمي قصرها وساحاته نحو ألفين من الجند، عليهم ضابط عظيم، وكانوا متوزعين بين جهات القصر وبين معسكره الناهض دونه كالسور، يحيط به ويدور ويعصمه من طوارق الأمور.
وكانت عذراء الهند بشرت بسرور الملك بقدومها وإظهاره مزيد الارتياح لرؤيتها في طيبة عاصمة مملكة الآلهة، فكان العزم معقودا على أنها لا تطيل بمنفيس المقام، أكثر من بضعة أيام، ثم تلبي دعوة ملك الأنام.
وفي الواقع لم تلبث الأوامر أن وردت على الضابط من ديوان الجيوش بمضاعفة الانتباه، ودوام السهر على حفظ الأميرة أولا، وبالاستعداد لمرافقة ركابها في سفرها القريب إلى طيبة ثانيا، فأبلغ مضمون ذلك إلى الأميرة فسرت كثيرا، وباتت تنتظر بصبر نافد ساعة القدوم على الملك الأعظم ملك طيبة ومنفيس.
إلا أنه لم يمض يوم أو يومان على ورود هذه الأوامر، حتى جاءت من القائد «رادريس» رئيسه الحقيقي في هذا المركز رسالة بتوقيعه يقول فيها:
بناء على الأوامر الخصوصية أدعوك لتخلي القصر والمعسكر توا فتنتقل بكل جندك إلى النمرة الثالثة؛ حيث بانتظار أوامر جديدة.
رادريس
فتلقى الضابط هذه الإشارة بواجب الطاعة الجندية فأخلى للحين القصر والمعسكر، وسار يؤم بفرقته النمرة الثالثة التي هي نقطة في الخلاء تبعد عن القصر مسيرة نحو سبع ساعات، وكان ذلك في أول يوم دخول الليل، فما هو إلا أن ساد الظلام واطمأن بملك الدنى والعوالم جائرا مباحة في حماه الجرائم حتى تلبس القصر بشر حال، فامتلأت ساحته بالرجال، وكانت الأميرة خلف نافذة تنظر، وكانت لا يزال بها روع من رواح الجنود، فضاعفه هذا الاحتلال فاستغاثت عندئذ قائلة: يا للسماء، لهذه الخالدة الشقاء، الأبدية الإقصاء! ثم ترامت السلم، فنزلت هائمة متكسرة على درجه، وكان له باب فقامت خلف هذا الباب واستندت كالمختبئة، فلم تدر إلا بالجدار قد تزحزح ودخلت غير عالمة من أين ولا كيف؟ وأخذ الحائط على الأثر شكله الأصلي، فعاد بنيانا مرصوصا مستويا لا سبيل لمريب إليه، ولم يعد ممكنا للفتاة أن تزحزح من خلف، فتظهر من حيث اختفت؛ لأن للخروج كما للدخول سرا كانت تجهله، ولا تطمع من الصدفة أن تهديها إليه.
وفي الواقع كان تخوف عذراء الهند في موضعه، فإن الرجال ما مكثوا أن صعدوا إلى القصر، فأوسعوه بحثا وتنقيبا، وعاثوه جسا وتقليبا، معاينين جهاته ونواحيه، معرضين عن كل ثمين فيه، لا طلبة لهم إلا الأميرة، يريدون ليأخذوها أسيرة، فلما لم يلقوا لها عيانا، ولا كشفوا لها مكانا، هموا بالخروج من حيث دخلوا، وكان فيهم ذاك اللص، لص ليلة المعبد ولم يكن منهم، ولكن رآهم يدخلون فادخل في زمرتهم فعرف من هم، ووقف على حقيقة مشروعهم وما جاءوا يرومون، وإذ تحقق عدم وجود الأميرة بالقصر سبق القوم إلى الأبواب فغلقها، ثم أضرم في الدار، حتى إذا ألحقها ومن فيها الدمار، تركها فحمة تتوقد وسار، وهو يردد بملء شدقيه قائلا: أنا «طوس» ولي السعود والنحوس، المنتقم للنفوس، من طائفة القسوس.
الفصل الثامن
بيداء الذئاب
كان على بعض الدروب المفضية إلى طيبة ببيداء يقال لها بيداء الذئاب، نزل صغير بطبقة واحدة، يديره رجل وامرأته، وكانا متوسطين في العمر لا يتجاوزان الخمسين، وكانا ربعتين مملئتين، وكانت السذاجة منهما بمكان لطول ما عاشا في الوحدة، ولزما البيت، وسكنا الخلاء، وكان درب الذئاب قليل الطراق من الأفراد، فلا يسير عليه إلا الجند شراذم، أو القوافل قددا؛ ولهذا كان النزل قليل العمل، قليل أسباب الكسب، ولم يكن صاحباه أخوي دنيا فيبكيان من تغيض موارد الرزق، أو يشكوان من صعوبة المحيا، بل كان معنى الدنيا ونضرتها عندهما أنهما لا يعدمان القوت.
ففي ذات ليلة طرق النزل عشاء رجل مسافر، فخرج إليه رب الخان، وكان الطارق فتى هنديا حسن المنظر ظريفه، غالي اللباس نظيفه، يحكم رائيه لأول وهلة أنه ذو نعمة، ومن عائلة شريفة، فحين وقعت عين الرجل عليه ضحك ارتجالا كأبسط الأطفال، ثم صاح بامرأته قائلا: حقا إن السماء تمطرنا هنودا يا بربة؛ حيث لم تكفها ممسوخة الصبح فبعثت لنا بهذا الممسوخ الآخر، وكان للفتى يسير إلمام باللغة المصرية، وكأنما تعلم مبادئها في المدرسة، ثم زادها على المبادئ في سياحته بمصر، ففهم عبارة الرجل وتأثر بها بادئ بدء غير أنه لم يلبث أن استقل عقله، واتهمه بالبساطة.
وإذ كانت الراحة ضالته الوحيدة ركن إلى المداراة، فخاطب الرجل قائلا: إنما أنا طالب راحة أيها الرجل، فإن كان هذا البيت نزلا عموميا، فأنزلني وخذ الأجرة وزيادة، وإن كان منزلا لك خاصا ولأهلك فاقبلني ضيفا شريفا يرعى الحرمة، ويذكر الجميل. قال: نحن أيها الفتى لا نضيف الناس ولا يضيفنا أحد، وإنما هذا خان مستعد لنزول أمثالك، فادخل فخذ راحتك، ثم إنه دخل ودخل الفتى على أثره، فحضرت عندئذ المرأة فعرضت على المسافر ما كان خاليا من غرف الخان، فاختار واحدة منها لمبيته، ثم طلب شيئا من الطعام، واستعجل فقدم له من الحاضر المتهيئ وشرب ودخل بعد ذلك غرفته فنام.
فلما كان قبيل الفجر استيقظ الفتى من نفسه، كما هي عادة سكان البوادي والخلوات، فلم يكد يخلص حواسه من آثار تخدير النوم، حتى سمع شبه أنين، وكان مصدره الغرفة الملاصقة لغرفة نومه، فجعل أذنه على الحائط المشترك، ثم استند إليه ينصت فإذا هو بصوت أنثى، وهي تصل البكاء والأنين، وتقول بلسان هندي مبين (البسيط):
ماذا تريد بإبعادي وإيعادي
يا دهر ما أنت إلا جائر عادي
لم يكفك الرزء في ملكي وفي وطني
وفي شبابي وفي صفوي وأعيادي
فرحت تبعد أحبابي وتقذف بي
مع المخاوف من واد إلى واد
حتى مررت على الأيدي يد فيد
وطال في عالم الأهوال تردادي
فمن شقي إلى لص إلى نفق
إلى ظلام بروعي رائح غاد
إلى قفار إلى سهل إلى جبل
إلى غلام من الفجار مصطاد
أروح في أسر سلطان الهوى وأجي
ولا أبي لي ولا سلطانه فادي
فكان الفتى يصيخ لما يقوله الصوت، وهو يكاد يخرج من رشده ويود لو خرق الحائط لينظر، فلا يمنعه إلا الشك في كونه يقظان، وأن ذلك ربما كان حلم وسنان، وكان نجم الصبح قد بان، ينير سماء الأكوان، فشغل الفتى عندئذ عما كان فيه أنه نظر إلى الفضاء، فبدت له من بعد خيام على البيداء ولم يكن رأى من ذلك شيئا حين وفوده في المساء، فاستغرب الأمر وأحب أن يعرف من المخيم فخرج من غرفته، يبحث عن رب النزل ليسأله فألفاه وامرأته في المطبخ، منكبين على لبن يغليانه، وفطير يهيئانه، فتقدم فحياهما ولم ينبسا بجواب.
فدنا حينئذ من المرأة وبيده عقد من اللؤلؤ فأراها إياه قائلا: هذا يا سيدتي لك إن عرفتني من الفتاة التي بجانبي، ولمن الخيام التي دون النزل على البيداء فاشتغلت لحظة بما رأت، عما كانت تباشر من العمل، فزجرها الرجل قائلا: ما لك ولهذا الهندي الحقير؟ التفتي إلى اللبن والفطير، فما كل يوم يمر الأمير فضربت المرأة الفتى بكوعها، ثم عادت لما كانت فيه من العمل، أما هو فلم يجد بدا من الانصراف فانثنى خارجا، وقد صار عنده نصف الخبر، ولكنه ما بلغ باب المطبخ حتى أبصر الفتاة مقبلة فابتدر لقاءها قائلا: ليس ذا وقت خطاب الزوجين، فقد وجدتهما يا سيدتي مشغولين بتهيئة بعض اللبن والفطير لكاهن عظيم مخيم في رجاله دون النزل. قالت: هذا ما كنت أريد معرفته، فشكرا لك يا سيدي.
ثم انثنت عائدة إلى غرفتها وتركت الفتى بلا حراك ولا وجدان؛ إذ كان قد عرفها من أول نظرة. غير أنه خاف على حيلته أن تفسد فاستجمع وتقوى ودخل غرفته، وكانت مفتوحة فتركها كما هي، وجعل يتمشى فيها وهو تعب النظر حيران، بين باب الفتاة وبين باب المطبخ، حذرا وخوفا، أن تجتمع بصاحبي النزل أو أحدهما، فتعلم أن الأمير مخيم تحت شباكها مقيم، وقد صمم على أن يحول دول هذا الاجتماع كائنا ما كان.
ولقد كان من سعد الفتى الهندي أن الزوجين خرجا بعد قليل يحملان بعض الأواني والقدور، وأغلقا خلفهما باب النزل فاطمأن بذلك قلبه، ورأى أن تمام الحيلة وكمال التدبير، يقتضيان الصبر والكمون، حتى يرحل الأمير. وكذلك كان؛ حيث لم تمض ساعة من الزمان، حتى زالت الخيام عن المكان، وعاد الزوجان مسرورين يلعبان بالأصفر الرنان، وكانت الفتاة قد خرجت تتمشى في فناء الخان فرآها الرجل في دخوله فصاح بها، والذهب يلمع على بطن راحته: تعالي أيتها الهندية، انظري في أمرائكم من يجود بمثل هذا القدر من النقود؟ فأضحكت بساطة الرجل الفتاة غصبا، فمشت نحوه والفتى خلفها، وهي لا تراه فلما صارت أمامه، ورأت ما في يده قالت: حقا أيها الرجل لقد أعطاك الكاهن فأجزل. قال: لا تقولي الكاهن يا ممسوخة الهند، وقولي الأمير، فاضطرب وجدان الفتاة لذكر هذا اللقب، وسألت الرجل قائلة: وأي الأمراء ذاك فهم كثيرون؟ قال: رب منفيس الأمير «آشيم» ولي عهد جلالة الملك، فعند سماع ذلك لم تزد الفتاة على أن صرخت قائلة: يا للسماء، لهذه الخالدة الشقاء، الأبدية الإقصاء!
ثم غشيها إغماء طويل فأوقعت الرجل وامرأته في حيرة شر حيرة لا يدريان ماذا يصنعان، فلما رآهما الفتى خائفين يتعوثان دنا منهما فقال: لا تخافا يا سيدي ولا تقلقا، فلا أحسب هذه إلا صرعة عصبية تقوم منها الفتاة بعد لحظة. قالا: وإن هي لم تقم أقامت علينا قيامة الحكومة. قال: إذن فسلماها إلي وأنا المسئول عنها. قالا: خذها ولا تعودا وأنتما مسامحان في الأجرة. قال: بل هذا العقد من اللؤلؤ لكما، عن الفتاة وعني، فخذاه مباركا لكما فيه، ودفع إليهما العقد، ثم إنه حمل الفتاة على ظهره وانطلق ذاهبا.
الفصل التاسع
«هاموس» في القفار يهيم
لما حمل الفرسان الثلاثة «هاموس» إلى أبيه، وكان غضب الشيخ في غايته، جذب إلى شفتيه الغلام وهمس ثلاثا: يا ابن الزناء يا ابن الزناء يا ابن الزناء، وكان إلى هذه الصيغة ينتهي السباب عند المصريين الأولين، آباء الأخلاق، فلما قذف بها من أبيه شر قاذف في هذا المقام، أقسم لا جاور بعد ذلك بلدا، ولا عاشر من الناس أحدا، ولا عاش إلا في الصحاري والقفار، ولا مات إلا ممزقا بالأنياب والأظفار، فرحل من فوره عن منفيس وخرج هائما يترامى الخلوات، ويتنقل من فلاة إلى فلاة. كأنما خرج من الحياة.
فبينما هو ذات يوم في هيامه، يسير على بيداء الذئاب، بدا له من بعد شخصان، وكانا ثابتين لا يتحركان، فأخذ وجهتهما، حتى تمكن نظره منهما، وإذا هو بجريمة من مثل ما كان بدأ فيه وشرع، وقد أوشكت هذه الجريمة أن تقع، فتشمر الغلام يعدو وهو يقول في نفسه: أما وأبي الذي لا أعرف سواه ليكونن عند ابن الزناء، كما عند سائر المصريين نجدة، حتى إذا صار ثالث ثلاثة رأى قاتلا وما قتل، ولكن هم فمسك يده المطمئنة بالخنجر، ثم نزعه منها فتركه أعزل لا يملك للجناية إتماما.
والتفت بعد ذلك إلى الفريسة، فأجفل بغتة وابتعد، واضطرب وارتعد، فنظرت إليه الفتاة نظرة ردت إليه الجلد، فدنا إليها فأخذ بيديها، ثم جثا لديها. فقال: الآن يا مولاتي محا الإساءة الإحسان، ولم يبق إلا التجاوز والغفران. قالت: لقد غفر لك ما سلف يا «هاموس»، فلا تقتل غريمنا ولكن عجزه، إنه ليس بعيدا، إنه ابن عمي. قال: سمعا وطاعة يا مولاتي. فمريه أن يسير بين أيدينا أسيرا أو كأسير، حتى أتمم نوبتي بإيصاله إلى الأمير، فأشارت الأميرة حينئذ لثرثر أن يمشي فمشى، واندفع الثلاثة يسيرون.
الفصل العاشر
ظهور النمر حارس بعد الخفاء
كان قد بلغ «آشيم» في بداية قدومه للهند أن عشيقته اختطفت، وأن أباها يتهم رجلين من مصر رئيا تحت سماء مملكته، قبل اختفاء الأميرة بأيام، وأنه جاء من أجل ذلك على مصر، وملكها وصاحب عهدها، ولا يبرئ هذا الأخير أن له يدا في الشر وباعا، ووقوفا على دخيلة الأمر واطلاعا. إلى غير ذلك مما كاد الأمير يجن به سماعا.
إذ كان أول ما قام في ذهنه أن ذينك الرجلين لا يمكن أن يكونا إلا من عمال الكهنة أو مأجوريهم، وأن والد الفتاة معذور في ظنونه التي يحللها جهله بمجاري الأمور في مصر، ومصير أحوال الأحزاب فيها، فزادته هذه التأملات غضبا على غضب من جهة الكهنة، بقدر ما بعثت من رحمة فؤاده نحو والد الحبيبة، ففتح الحرب برسالة خصوصية بعث بها إليه يقول له فيها ما معناه:
تعلم أيها الملك ما أنا آت في بعض قواتنا البحرية من أجله، وتعلم كذلك أن الرماسسة إذا قالوا قالوا صادقين، فإن كان الحامل لك على إغرائك الممالك المتطوعة إلى حد خروج أكثرها من طاعة جلالة مولاي ووالدي الملك، هو حسبانك أن جلالته أو لنا يدا خفية في مصيبتك بالأميرة عذراء الهند، فتحقق أنك مخطئ في حسابك، واهم في ارتيابك، وثق أنني سأكون معك على الأيام، وفي هذه الحادثة التي لها بقلبي كما بقلبك إيلام. والآن إذ قد صدقتك الكلام، فإني أدعوك لتكف يد المساعدة عن الولايات الثائرة، وإلا عددتك عدوا لمصر ولجلالة الملك، فلا أبرح الهند قبل إنزالك عن سرير ملكك. والسلام.
التوقيع
آشيم
فحين وردت هذه الرسالة على «دهنش» أمعن النظر فيها، فخرج من جنونه ورجع عن سوء ظنونه، فكف للحين عن مؤازرة الثائرين، فكفوا صاغرين، ودخل «آشيم» الولايات فاقتص من كبار الثوار، وأقر فيها الأمن وكان بغير قرار، ثم بارح على الفور الهند آيبا بالأسطول إلى مصر، ينهب البحار نهبا ويقرب بعيدها غصبا، وهو يكاد يفقد السلامة جزعا وكربا، حتى عاد لمصر، وهنالك حدثه أصحابه حديث عذراء الهند من أوله إلى آخره، وأن الكهنة لم يكتفوا بهذه الضربة القاسية، بل نالوا «رادريس» أيضا حتى اتهمه الملك بكونه هو محدث الحادثة، ومضيع الأميرة بسبب الأوامر المزورة المرسلة منه إلى الضابط حارس القصر، وأنه من ذلك اليوم في السجن الخصوصي بطيبة حتى ينظر مجلس القضاء الأعلى في قضيته فيحكم له أو عليه.
فلم تزد «آشيم» هذه الأخبار إلا بلاء وكربا وحيرة وجنونا، وبدت عليه آثار ذلك كله بغتة تتهدد سلامته وتنازعه قوى الحياة، حتى أمسى خواص الأمير يتوقعون إصابة السهم ويتخوفون من حلول الفناء المتعجل، واشتغل الأطباء بهذا الأمر الجلل فتداعوا وتراعوا فقرروا العلاج اللازم، ثم أجمعوا أن الأمير يكثر الخروج إلى بعيدات البيد وأقاصي الفلوات للصيد بنفسه، فإن لم يستطع فبرجاله، وأن يكون للبدو من أوقاته الشطر على الأقل وللحضر الشطر.
فكان الأمير يرحل في خيامه وخيله، فيقضي اليومين والثلاثة على بعض البيد في الصيد، والتمتع من شميم هوائها النقي الخالص بعضه إلى بعض. وهذا وإن كان لا ينفع إلا القلوب الخالصة كذلك، إلا أن صحة «آشيم» كانت تأخذ منه غصبا بقدر ما كانت تعطي الهم والكدر، وتنيل الكآبة والفكر، وموصول الوجد والسهر، بحي كان العليل يظل وهو لا له ولا عليه، ولا من ثمرات التداوي بالطبيعة شيء في يديه.
فبينما هو ذات يوم مألوف تلك العادة في الصيد، بعيدا عن رجاله وكان يوما من أيام قوته ونشاطه، عن له حيوان غريب الشكل تنكره عين المصري لأول وهلة، فطرده فجرى فقفاه بجواد ينهب الثرى، أما الحيوان فاندفع رخي العنان، يعدو كأنه شيطان، ماض في حاجة لسليمان، فبينما هو كذلك في غايات جريه عرفه عارف فناداه مرددا: يا حارس يا حارس، فاستوقف الوحش هذا النداء، وأنساه البلاء الذي وراء، فالتفت فبدا له أشخاص من بعد، فقصد وجهتهم فإذا هو بمولاته عذراء الهند تناديه وتخف للقائه وتحييه، فأكب على ساعديه دون أقدامها، كالمتنصل المعتذر عن شيء جنى، أو المذنب المستوهب العفو عن ذنبه.
ثم ما هي إلا لحظة حتى أدركه الأمير، فأدرك حارس الغرام؛ بل أدرك القصد وكل المرام؛ حيث جمعت العناية الشتيتين، ودانت الصدفة بين المحبين، بعد أعوام فراق وبين، فوقفت الفتاة وهي بعظم منة الأقدار عليها، أشد منها تأثرا بحضور الحبيب لديها، ولسان حالها المعقود بنشوة بلوغ المرام، ينشد في المقام (البسيط):
يا آنة جمعتني بالحبيب فدى
لصفوك الطيب الآنات والزمن
بمن هو الملك لي من بعد ملك أبي
ومن هو الأهل والأتراب والوطن
فبعد أن تهادى العاشقان تحية اللقاء، وتشاكيا الجوى والحرق بقدر ما مكنهما الموقف من الاشتكاء، وكان «هاموس» قد اختفى فلم يبق على المكان غريبا سوى ثرثر، تقدم الأمير الهندي فخاطب «آشيم» قائلا: أنا أيها الأمير ثرثر ابن عم عذراء الهند، وخاطبها ومخطوب الملك أبيها وسائر آلها وذويها، فأنا إذن أولى بها منك من كل الوجوه. قال: غير الطبيعي المقدم منها، وهو أن تحبك التي تدعي أنها خطيبتك. قال: ليس هذا لنا في عرف معاشر الهنديين، ولا في قانون ولا في دين. قال: وهل أنت ناس أيها الأمير فأذكرك أنك على أرض رمسيسية محضة، طالما رأت ملوككم مكان الخيل في المركبات؟ فكيف تتغلب لكم فيها أحكام أو عادات. قال: إذن فليحكم بيننا السلاح، وليقض العذراء لمن شاء. قال: وهذا أيضا أمر يحول دونه بعد شأنك عن شأني، ونزول مكانك في المجد عن مكاني، إلا أنني أتنازل مرة في العمر واحدة فأبارزك كرامة لقرابتك من عذراء الهند.
ثم إن الأمير استل خنجرين توأمين وأشار لثرثر أن يختار فأخذ أحدهما وانبرى الخصمان على الفور، يتطاعنان على مشهد من الفتاة ومسمع، وكانت هي قد رأت لابن عمها حركات مريبة، فنبهت «آشيم» لذلك قائلة: إن للهنود يا «آشيم» بغتات غدر وخيانة، في مواقف الشرف والأمانة، فحاذر، فرب غادر قاتل في ثياب شريف مقاتل، فحفظ الأمير هذه ووعاها، كما أنه لم يمهل خصمه حتى يتمكن من حركة تدليس وخيانة، بل وطعنه في خاصرته اليمنى طعنة تركته ملقى على الأرض يسبح في دمائه.
وبعد ذلك انثنى «آشيم» وعذراء الهند عائدين إلى حيث خيمة الأمير وخيله فكان للحشم والعبيد، برؤية الأمير السرور الذي ما فوقه مزيد، وأرسل الأمر للحين إلى خواصه يبشرهم بالملتقى ويستنهض هممهم لإعداد زينة، أجل زينة، تشمل الضواحي والمدينة، وأن تسير المواكب فجرا حافلة تترى لاستقبال الركاب، على الأبواب، وأن يعلن استمرار الاحتفاء والاحتفال، أربعة أيام بليال.
الفصل الحادي عشر
أفراح منفيس
ما طلع الفجر الأسعد موعد تشريف الركاب، القادم بالأحباب، حتى تجلت منفيس وضواحيها، وقد تحلت ببهيج المناظر وضاحيها، فأخذت المنازل زخرفها، وازينت دور الحكومة، واحتفل الأهالي وبهر العيد وتنظم موكبان فاخران، خرج أحدهما للقاء العروسين والعودة في ركابهما، ومد بالآخر من دار الإمارة إلى باب طيبة لتحية الركاب في الطريق، فلم يكن قبيل الضحى حتى أقبل الموكب بالجلال والجمال، يتقدمه قفص من فضة، محمول على عواتق الرجال، وفيه النمر حارس يبدو في حلة عجب، وتنوء لباته بقلائد الذهب، وعلى أثر هذا القفص نحو ألف جندي من كل سلاح، ثم يأتي هودج محمول كذلك على الأعناق، وقد جعل مكان الشجر منه شجر مصنوع من الفضة والذهب، مكلل بالأحجار الكريمة.
وهذا الهودج يقل الأميرة الهندية وهو يتهادى في أكمل رونق، وأتم بهاء بين هالة من الكبراء والعظماء، محدقة مشرفة. ببدر الإمارة مشرقة، وهو يختال على متن جواد عال غال، مذخور ليوم عيد وصبيحة احتفال، وخلف هذه الكوكبة السنية ألف آخرون من الجند متممين للحرس الكريم، ثم يلي جحفل زاخر، لا أول له ولا آخر، هو مختتم ذلك الموكب الفاخر.
واستمر الموكب كذلك سائرا بين شعب بأسره، على قدم الإخلاص في سره وجهره، لأميره الساعي في خيره، حتى بلغ دار الإمارة، وهناك أطلقت السجناء، ووزعت الصدقات على الفقراء، وقام «آشيم» بعد ذلك في ركن الإمارة، فاستقبل وفود المهنئين حتى إذا انقضت هذه الحفلة أيضا، انتقل الأمير والأميرة إلى غرفة مجاورة، فأقاما يتلقيان التحف والهدايا، وهي تقدم بين أيديهما بكثرة، وتزلف من كل صناعة وكل صانع، حتى ضاقت الحضرة عما حضر.
وكان في أخريات المهدين رجل متلثم، فلما لم يبق من لم يتقدم سواه، دنا فرفع إلى الأميرة درة اهتزت لها الفتاة، والتفت الناظرون ثم أسرع فناول الأمير مرآة صغيرة، نظر فيها فرأى صورته، وهو محمول على تابوت يخرج من قصر أبيه الملك بطيبة، فارتاع «آشيم» لهذا المنظر المشئوم ودفع بالمرآة إلى عذراء الهند قائلا: خذي يا عزيزتي فانظري هذا المضحك المبكي، فأخذت الفتاة فنظرت فلم تر شيئا فردتها إليه قائلة: وما فيها يا مولاي؟ إني لا أرى شيئا، فأعاد الأمير نظرا فرأى، ثم أعاد نظرا فرأى، وانقطعت بعد ذلك الرؤية، فصارت المرآة بغير صورة، فهدأ حينئذ روع الأمير، وراح يتهم أعصابه بالاضطراب طورا، ويظن بالمرآة السحر تارة، ثم التمس العروسان المهدي ليشكراه فلم يجداه، فسألا عن أمره، فلم يجدهما السؤال، حتى كأن السقف انفتح للرجل فصعد أو أن الأرض انشقت له فاختفى.
ومرت هذه الحادثة منسية بين ذلك الصفو الموفور، وبين كثرة أسباب الأنس والسرور، بل لم يكن اليوم التالي حتى أرسل الملك إلى «آشيم» يستقدمه هو وعذراء الهند، فلم يجد الأمير بدا من التلبية، فترك منفيس في أعيادها، تمرح هانئة محتفلة، ورحل إلى العاصمة، مستصحبا خطيبته الكريمة تشيعهما القلوب، أو هي في رحالهما التي ليس فيها إلا محب ومحبوب، فسار الموكب كذلك يؤم مدينة شمس القوية، إلا أنه لم يكد يجتاز أبوابها حتى تقدم رجل من أفراد الرعية التي كان الأمير عودها رفع كل حجاب، فقبل الركاب، ثم رفع إلى «آشيم» طائرا صغيرا أسود واشتهى عليه أن يحمله لحظة على بطن راحته فأجابه الأمير إلى التماسه، وأخذ الطائر فتساقط على الفور منه ريش، فاستغرب «آشيم» الأمر والتفت إلى الرجل كالمستفهم، فكان جوابه أتدري يا مولاي ما يقول الببغاء؟ قال: وما عساه يقول؟ قال: إنه يا مولاي يكره لك أن تسير إلى طيبة، فأغضب الأمير الذي رأى وسمع، فرمى بالطائر في وجه الرجل قائلا: ولكني أسير إلى أبي بالرغم من سحركم يا محتالي الكهنة، فانصرف الرجل من حضرته منهورا خائبا، واستمر الركاب سائرا فلندعه الآن في الطريق نحو طيبة، ولنختم هذا الباب بذكر ما كان من أمر ذلك العجيب بعد رواحه عن وجه «آشيم»، فنقول: أخذ الرجل أول طريق صادفه كأنه ابن سبيل، أو هو من أهل الهيام فلا وجهة ولا دليل، وفي الواقع فإن «طوس» كان قد أوحشه ابنه وواحده «هاموس»، وندم على ما كان من سوء تصرفه معه، فلما لاقى من عناد الأمير وعماه وصممه ذاك الذي لاقى حزن حزنا كبيرا، وإذ كان من شأن الأحزان، إماتة الحقد والأضغان، تذكر الرجل ابنه فتاق، والذكرى مجلبة الأشواق، فحلف لا رجع إلى مغناه، أو يرجع إليه فتاه، ثم اندفع بهذه النية يهيم في البوادي والقفار، حتى قطع معظم النهار، وقد عقد العزم على الاستمرار، لولا أنه استمع بأنين، كاد يطير له فؤاده الحزين، فوقف يبعث بالنظرات إلى جميع الجهات، فلاح له من جانب الصوت، شخص بين الحياة والموت ، فقصد نحوه حتى بلغه، فإذا هو فتى مجروح يحاول القيام، فلا تطاوعه الأقدام، فسأله «طوس» قائلا: من الفتى؟ وما شكواك؟ قال: غريب يا مولاي، جرحني اللصوص وأنا ماض في سبيلي أقصد إلى طيبة، فدنا «طوس» وكشف عن جرح الفتى، وكان موضعه الخاصرة اليمنى، فتأمله وجسه. ثم قال وقد أخذته من حال الغلام رأفة: لا خطر عليك يا بني من هذا الجرح الذي لولا نزول الخنجر بهذه المنطقة أولا لكان القاضي لا محالة.
ثم إنه صب على الجرح شيئا من ماء شربه، ورشه بمسحوق من عنده، وربطه بعد ذلك رباطا محكما، ثم أخذ بيد الغلام، فنهض قادرا على القيام. فقال له «طوس»: الآن يمكنك يا بني أن تستأنف المسير إلى طيبة، وإن لك إليها لطرقا ثلاثة أدلك عليها، ووصفها له جميعا ليختار، ثم ودعه مشكورا وسار، وقد بدا يبني على الحادثة الظنون، فكان يقول في نفسه: غريب مجروح جرحه اللصوص، وهو ماض في سبيله يقصد طيبة، ما هذا الكلام؟ بل ما هذه الأحلام؟ أين علومك يا «طوس»؟ أين اقتدارك؟ أين نجومك؟ أين أنظارك؟ هل سلبت كل ذلك النور، جزاء استعلائك والغرور؟ أم هو المقدور، بنحسك يدور؟
وظل الشيخ سائرا على تلك الحال بين تراكم أوجال، وتعاظم بلبال، وهموم من كل نوع تنهال، وهو من مجموع ذلك في أسر رؤيا مزعجة مسيئة لم ينتبه منها إلا على ريش الببغاء المتساقط على كتفيه، فعندئذ استقبل السماء فقال: يا من نموت ولا يموت، ومن له وحده الثبوت، يا من لا أول لعلمه ولا آخر، ومن إليه الأوائل ثم إليه الأواخر، زنيت في العمر مرة، والزناء سبة ومعرة، وأذى لخلقك ومضرة، فامح بعظيم عفوك ذنبي العظيم، واغفر لي ولأم «هاموس»، إنك أنت الغفور الرحيم.
ثم إن الشيخ تقدم خطوات في ذلك الفضاء، وكانت الظلماء قد ملكت جهات البيداء، وأضفت حلتها السوداء، على مناكب الغبراء، حتى استعد الأحياء لليلة ليلاء، وحتى قال كل راء (المتقارب):
ظلام أناخ بلا كوكب
ينير ولا بارق يلمع
سل الليل هل أضمر الغدر أم
لأمر سوى الغدر يجمع
ثم ما هي إلا ساعة زمان حتى انقلب الحال انقلابا فتحول سكون الجو اضطرابا، وتهاوت الكواكب انحدارا وانسيابا، فحيث التفت رأيت شهابا، لا يألو جيئة ولا ذهابا، وانصبت البروق والرعود على الأثر انصبابا، ثم كان مطر لم يعهد مثله انهمالا وانسكابا، فوقف «طوس» لا يتقدم، وقد رأى التسليم أسلم فلعثم من كلمات الاستغفار ما لعثم، وفي هذه الأثناء اصطدم به إنسان سار أعمته حوادث الجو فاستأخر الشيخ مجفلا. وقال: من هذا الأعمى الضال؟ قال: ابنك وطريدك «هاموس» يا مولاي. ثم وقع الفتى على صدر أبيه فاعتنقا، وعندئذ نزلت صاعقة من السماء فأهلكتهما وطار الببغاء، فسبحانه نحن إليه! ما لحي بقاء، وقصارى سوى الإله فناء.
الباب الثالث
الحوادث في طيبة
الفصل الأول
«رادريس» في السجن
كان لجنود الحرس الرمسيسي معسكر فيه ألفان من الجند يغيرون في آخر كل عام، فيردون إلى الجيش العام، ويؤخذ مكانهم عدد المثل من أهل الشجاعة والإقدام، وكان للحرس كبير ثابت لا يقبل التغيير، وكان يسكن هو وعائلته المعسكر له منه جانب وطرف، وحجر خاصة وغرف، وخدم من الجند وحشم كثير.
أما المعسكر فكان طبقات لا طبقة واحدة، مبنيا بالحجر لا بالخشب، خلافا للقاعدة، وكان بمرأى من ميدان «رمسيس» ومشرفا من بعض جهاته على الشارع الملوكي، ومقابلا من جهة ثالثة لدار الملك، وخالص الجهة الرابعة إلى النيل تغمر مياهه أسفلها وينظر من نوافذها إليه، وفي الجملة كان له الموقع الجميل الخطير، وكان الجانب المطل على النيل من المعسكر قسمين مفصولين تمام الانفصال، أحدهما خاص بكبير الحرس مرصد لسكناه، والآخر خلو من الجند مجعول مخازن وحواصل، إلا غرفة واحدة، كان يقيم بها رجل من عظماء الضباط، وكأنما حرم عليه براحها، فلم يكن يخرج منها ولا يدخلها عليه إنسان، وقد قام على بابها جنديان يحافظان عليه أن يبرح المكان، وكان هذا الضابط متقدم الميلاد، قد بلغ الستين أو كاد، وهو مع ذلك صحيح البنية قوي الجسم مرجو السواعد ليوم كفاح وجلاد، غير أنه كان يعلو وجهه الاصفرار، وتبدو عليه للضعف آثار، حتى كأن آلاما أدبية كانت تتملك نفسه العالية الأبية، وهو متكئ على بعض النوافذ يريد ليتسلى برؤية النيل ومائه، وأفقه وفضائه وواديه وسمائه، ويأبى الفكر إلا خوض بحار أشغاله وعنائه.
وكان الوقت الأصيل، وهي خير ساعات النيل، فما زال الضابط كذلك، يستجلي بدائع ما هنالك، حتى هجم الظلام يسد دون جمال الطبيعة المسالك، وعندئذ لم يدر إلا بالباب يدق دقا خفيفا، فقام من فوره إلى المصباح فأشعله، ثم التفت نحو الباب يقول: ليدخل الطارق، فانفتح الباب وأقبلت فتاة من أجمل النساء، وفي أثرها تمساح صغير يرنو بحدقتي خنزير، وفي أذنه قرط من الذهب منقوش بالمينة النادرة الثمينة، وفي كلتا يديه سوار من خالص النضار، مرصع بكريمات الأحجار، وهو مستأنس يسير مع ذلك الملك الكريم أينما سار.
وكان الضابط قد عرف الفتاة حال ظهورها فتغير لرؤيتها وجهه وانقطب، ونفر وجدانه من الغضب. أما هي فلم تلق لتغيره بالا، بل كانت تتكلف الهدو والسكينة، وتتظاهر بكمال الطمأنينة، وتتقدم هاشة باشة، وهي تقول: أنا يا قرين أبي العزيز «آرا»، وهذا تمساحي نجاة، رأيت أن يزورك معي ليكون اسمه لك فألا، ولتتقي بدعائه شر ما تخبئ للناس الأيام. قال: الزيارة مشكورة يا «آرا»، ولكن ما لك الآن وما لي؟ فما أراك جئت إلا لتسخري من حالي، ولتزيدي في أوجاعي وأوجالي. قالت: وما الذي يريك ذلك؟ قال: الذي أراني السجن من غير ذنب جنيت. قالت: فلأنت إذن في عذاب أليم. قال: وهل بلغ من استبدادكم يا أصحاب الكهنة أن تنكروا على النفوس البريئة أن تمج السجن.
قالت: دعنا من هذا كله، ولندخل في جد الموضوع، فإني ما أتيت إلا لأذكرك أن من وراء التهمة غداة تثبت زلزالا لحياتك العالية، وهدما لبنيان أعمالك الباذخ بالمجد والفخار. قال: ومتى احتجت إلى مثلك من يذكرني عواقب الأمور؟ قالت وهي تبتسم: ولكنك محتاج إلى من يقيلك من تهمة الخيانة التي من ورائها الفضيحة والتجريد، والنفي المديد، إلى مكان بعيد. قال : وماذا تريدين بكل هاته الإشارات؟ صرحي وأوجزي. قالت: أريد أن تعلم أني قادرة على فك أسرك، وإنقاذك من مضيق أمرك، ومستعدة للسعي في ذلك، غير سائلة عليه إلا أيسر الأجر. قال: وما ذاك؟ قالت: أن تحلف لي برأس الملك أنك إن عدت إلى مناصبك ووظائفك التي منها العضوية في مجلس المملكة الأعلى، وعرض على المجلس أمر النظر في جواز خطبة عذراء الهند أو عدمه تلزم جانب الحياد عند المناقشة، ثم تحتال على الانسحاب، فلا تكون موجودا في ساعة أخذ الآراء. قال: السجن أحب إلي يا «آرا»، فارجعي بسلام، ولا تعاودي إن كان ليس عندك غير هذا الكلام. قالت: إذن فالذنب لنفسك لا لغيرها، والعتب عليها وحدها في أمرها، وإني أدعك تراجعها الآن، وسأعود غدا لآخذ جوابك البات في الأمر، ثم إنها مالت قليلا تخلص ذيل ثوبها، من يدي نجاة الذي كان يجاذبها إياه، كالمداعب، حتى إذا تخلص مشت نحو الباب مسرعة، وتبعها «رادريس» فأغلقه وراءها.
ثم عاد وهو لا يكاد يبصر قدامه من ضغط الهموم وزحمة الأفكار، ولكنه ما نصف الغرفة حتى صادفت رجله جسما صلبا دفعته أمامها، فأخذه من الأرض وتأمله، فإذا هي مجموعة أوراق واردة على تلك الشقية من كثيرين من كهنة طيبة، وأعضاء مجلس المملكة الأعلى، وهي صنفان منها ما يختص بقضيته ويشير إلى تلفيق تهمته، وبعضها يتعلق بخطبة عذراء الهند ويتناول الدسائس التمهيدية لحمل المجلس الأعلى على الحكم برفضها، فلما رآها «رادريس» قد فرجت من كل الجهات، ورحبت بعد أن كانت ضيقة مستحكمة الحلقات، لم يتمالك أن خر ساجدا لتلك القدرة التي تجر الظالم للقصاص بقدمه، وتوقعه في شر أعماله بخط قلمه، ثم رفع عينيه إلى السماء، ولسان حاله ينطق مفصحا بهذا الدعاء (الخفيف):
رب إن شئت فالفضاء مضيق
وإذا شئت فالمضيق فضاء
وقام بعد ذلك فحمل الأوراق على عظم صدره من شدة الضن بها، ثم أطفأ المصباح، وجاء سريره، فرقد على فراش وطيء من الراحة والأمان، والصفو والاطمئنان، وكانت له ليال لم يعرف الغمض، ولم يطق الراحة، فما صدق تلك الليلة أن دخل السرير حتى راح في العريض الطويل من النوم (البسيط):
كم ساهر خائف والدهر في سنة
وراقد آمن والدهر في سهر
فلا تبيتن محتالا ولا ضجرا
إن التدابير لا تغني من القدر
هذا ما كان من أمر «رادريس»، أما ما كان من أمر «آرا» فإنها لما برحت غرفة السجن انثنت عائدة إلى مسكنها في المعسكر، وكانت العائلة في انتظارها للعشاء إلا كبير الحرس، الذي لم يكن يعرف غير مائدة الملك، فجلست فتعشت، وما هو إلا أن غسلت يدها من الطعام، حتى جاءها رسول من الملك يدعوها للتوجه إلى القصر.
فقامت من فورها فدخلت غرفتها الخاصة، فبدلت ثوب الكتان الذي كان عليها بثوب آخر من التيل الأرجواني المزركش، كانت الملكة أهدته إليها، وكان لها مشط من العاج، مصنوع من نحو ألف سنة حتى اكتسب صفرة الذهب ونعومة الحرير، وكان أيضا خارجا من خزانة الملك هدية إليها لمناسبة دخولها في العشرين، فحملته في رأسها بعد أن مسحت شعرها أحسن مسح، وزينته تزيينا، ثم اتخذت لصدرها زينة، قلادة من اللؤلؤ ذات سلوك سبعة، في كل سلك خمس عشر حبة من أكبر وأجمل ما تنبت الأصداف، وكانت هذه القلادة مشهورة في عصرها تضرب بها الأمثال، إذا ذكر الغنى والمال، وكانت لها أيضا مروحة من ريش النعام الأبيض العوام، بيد عاجية بيضاء نقية، وسلوك دقاق، من الذهب الخالص البراق، مرصعة باليواقيت المستطيلات الرقاق، فأخذتها في يدها، ثم التفتت نحو خادمتها الخصوصية فلقنتها بعض الأوامر، وبعد ذلك خرجت مستعجلة الخطو تطوي المعسكر، فالميدان، فالشارع الملوكي إلى القصر العامر.
الفصل الثاني
ليلة أنس في قصر الملك
كان الشارع الملوكي المتقدم ذكره عبارة عن طريق طويل مستقيم مرصف الجانبين بأحسن تنظيم، منحصر بين خطين متوازيين من الشجر المعرش العظيم، وكانت في نهايته سلسلتان من تماثيل أبي الهول البديعة النحت والتصوير، كلها مكب على الساعدين فوق سرير، من حجر واحد كبير، وهي متقابلة متناقصة الأحجام تدريجيا، فأولها كبير كبير، وآخرها صغير صغير ، ثم يعترض باب عظيم عال، ناهض بالعظم والجلال، يمسكه عمودان من العمد العراض الطوال، وخلف هذا الباب فضاء عجب، وسوح ورحب، ثم يلوح بستان، تأخذه العينان، وما بهما يدان، وهو يموج بالحيوانات المقدسة، والطيور المعبودة المستأنسة، سوارب هنالك سوارح تأوي الظل وتجيء الماء، وتهنأ مهجاتها النعيم والنعماء، ووسط هذا البستان قصر رفيع العمدان، مشيد البنيان، له دوران، كلاهما في الوضع سيان، وله مداخل توصل إليه من كل مكان، وكان ظهره إلى النيل التصاقا.
وكان القصر في تلك الليلة هالة تتوقد، بكل فرقد، من المصابيح عند فرقد، وكان الدور الأسفل على الأخس آنس المقاصير، مزدحم الغرف بالجماهير، والملك في حجرته الخاصة يدعو إليها من يشاء من ضيفانه، فيحادثه ما شاء ثم ينطلق لشأنه، أما الحجرة فكانت غاية في الجلال والجمال، مفروشة ببساط واحد غال، من جلد النمر النادر المثال، العزيز المنال، ومغشاة جدرانه من الفضة الممهدة الصقيلة، المتخذة مرآة واحدة عريضة طويلة، وفي الصدر عرش عال مصنوع من العاج النقي البياض، وكان للملك، وكان جالسا عليه، ثم تشاهد أسرة منثورة ها هنا وهنا بين كبير وصغير، ومستطيل وقصير، ومربع ومستدير، بعضها من الخشب المطعم بالعاج المصحف بالذهب والفضة، والبعض من الحجر المجوف المنقوش، ومنها ما هو للجلوس، وبعضها لحمل ثريات التنوير، وباقات الأزهار، وأواني الفاكهة، والمرطبات، وقوارير الماء والمباخر.
وكان بين يدي الملك ساعتئذ في الحجرة والد «آرا» كبير الحرس القائد «ندور»، وكان في عمر «رمسيس» تقريبا بين الخمسين والستين، وكان أشبه الناس به في الخلقة والحركات، والنطق والإشارات، حتى لولا الشعر القصير الذي على رأس الملك والثعبان الذهبي، الذي على جبهته واختلاف الزيين في الزخرف والزينة، لتشابها وتشاكل الأمر، وكان بجنب «ندور» وعن يمين الملك الكاهن الأعظم للديار، ومعه ابنه الشاب «هوتر»، وكان من أجمل فتيان المملكة، بل ممالك ذلك العصر جمعاء، وقد جعله الملك على خزينته الخاصة لشهرته بالمهارة في الأشغال المالية، ثم ثلاثة من أمراء العائلة، وكانوا عن يسار الملك، فما زال الحديث يجر بعضه بعضا بين «رمسيس » وجلسائه حتى تناول أحوال المعابد وشئون العبادة في البلاد، فسأل الملك الكاهن الأعظم: هل ما يزال الشعب على مألوف عادته، من التمسك بديانته، والاجتهاد في عبادته؟ قال: إنه يا مولاي على حالة ترضيك من التمسك بالدين الذي هو رأس الأخلاق. قال: في الحقيقة وإني لا أجد أمتي بلغت ما بلغت إلا بالأخلاق (البسيط):
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
قال: ولكني يا مولاي أبصر بأمور تجري وأخشى من عواقبها. قال: وماذا عسى يجري الآن مما لا أعلم؟ قال: إنني أشم يا مولاي من أشعار «بنتؤر» وكتاباته وخطبه ودروسه العامة، رائحة الميل إلى تجريد العبادة من صفتها المادية القائمة بها الآن والذهاب بها في مذهب روحاني محض لم يألفه الشعب من قبل، حتى أصبحنا نخشى أن تتأثر الأفكار بمبادئه الجديدة، فينشأ عن ذلك تمزيق الحجاب بيننا وبين العامة، وجلالتكم سيد العارفين بأن الدين في مصر كالملك لا حياة له بدون الحجاب، وإننا معاشر الكهنة دعائم سلطتكم في البلاد، والساهرون على حفظ المهابة لكم في نفوس العباد، فمن تهجم علينا فقد تهجم عليكم، ومن أساء إلينا أساء في آن واحد إليكم.
قال الملك: وعلام كل هذا الاشتكاء يا إمامنا العزيز وأنت تعلم أن القوانين عندي تعلو ولا يعلى عليها؟ وأن لا مسيء إلا آيل يوما إليها، ولو أنه ابني «آشيم»، فإن كان فيما يقوله «بنتؤر» ويكتبه شيء يؤذي النظام، أو يخالف الأحكام، فاطلبوا محاكمته، فإن للقانون لا لنا الانتقام. قال: وكيف يا مولاي وإني لأجده أبعد منالا من لصوص منفيس، الذين يسرقون سلاسل الحق الذهبية من صدور القضاة، وهم على كراسي هيبتهم يحكمون؟ قال: إذن فهو بذمة من القانون وأمان، وليس لأحد عليه سلطان، فدخل عندئذ كبير الحرس في الحديث غير مندفع. فقال يخاطب الملك: لعل رئيس الديانة يا مولاي يقصد بما أبدى، أن تكون النصيحة من جلالتك مباشرة ل «بنتؤر» بأن لا يهيم، وأن يرجع إلى هداه القديم، وإلا فإن رئيس الديانة أكبر أدبا، وأرفع أخلاقا، من أن يبغي الضرر والفضحة لقرين صبا الملك وشاعره اللهج بمفاخره بين أبناء الزمان، المتفنن بمحاسن أيامه في كل أين وآن. قال: حسنا يا «ندور»، وإني فاعل ذلك. قال: ولكني أشتهي على مكارمك يا مولاي أن لا تبالغ ل «بنتؤر» في الزجر، وأن تقول له قولا كريما كما أني أخطر على فكرك السامي، التماس حكومة اليونان إلى جلالتك أن يسير إليها حكيم من رعاياك لينوب عن حكومتك السنية في مؤتمر الفلسفة والآداب الذي ينعقد في هذا العام بتلك البلاد، وإذ كان «بنتؤر» رجل هاته المهمة الوحيد الذي لا أحسب اختيار الملك واقعا إلا عليه، فمن العدل إذن أن لا يزجر، ولا يهان، بل من المروءة أن لا يخاطب قبل سفره في مثل هذا الشأن. قال: صدقت يا «ندور»، وقد أحسنت بتذكيري التماس اليونان.
ثم إن الملك خف خارجا إلى جمهور ضيفانه، وخف جلساؤه على أثره، فمشى «ندور» بجانب رئيس الديانة يقول له همسا: كيف ترى حيلة أخيك؟ قال: نعمت الحيلة! ونعم المحتالون أنتم يا أصحاب الملوك! وإنه لسفر بعيد وغياب مديد، يكفياننا شر ذلك المهوس إلى أجل، كما ستكفينا المحكمة الكبرى بعد أيام بأس الملعون «رادريس»، فنصبح وقد خلا لنا الجو واتسع فضاء العمل، ثم لنا بعد ذلك ولعذراء الهند شأن.
وكان الملك قد بلغ القاعة الكبرى، فلما دخلها اشتغل القوم بلقائه وتحيته عما كانوا فيه من اللذات في ظل ساحته، وكان أول ما التقى وجهه بوجه «آرا» فتقدمت فمثلت لديه، ثم دنت فقبلت يديه فوقف معها برهة يتحادثان في بعض شئون القصر.
ثم إن الملك ارتجل نظرة إلى الملأ، فلمح «هوتر» مارا يتمشى فأومأ إليه أن يدنو فدنا. فقال له ممازحا: ماذا تقول في مرافقة «آرا» يا «هوتر»؟ قال: وهل السعادة يا مولاي والنعيم إلا مرافقة مثل هذا الملك الكريم؟ قال: فخذها إذن فتمشيا فلأنت أحق بذلك مني، والحق فوق كل عظيم فأخذها «هوتر» وانثنيا يخترقان الزحام، إلى أن اهتديا لمكان في مأمن من الأسماع والأبصار فجلسا، ثم شرعا يتحادثان . فقال «هوتر» بصوت يشف عن الوجد والحقد: لعل سعيك يا مليكة الغد مصادف بعض النجاح في مشروعك الخطير، الذي أوشكت أن تقلبي المملكة من أجله؟ قالت: علي أن أسعى وأبذل جهدي، وليس علي أن يساعدني الدهر. قال: ولكن «آشيم» يروح ويغدو كارها للقائك. قالت: وتبسمت: وما ضرني وأنا عندي الذي يبيت ويغدو مغرما بي حبا. قال: ومن أين لك نبأ هذا؟ إنك واهمة يا «آرا» أو أنت تمزحين.
قالت: إنه ليس بالوهم. إنه عين اليقين، وإني لأعجب لك يا «هوتر» كيف تغلب الآلام، وأسألك مندهشة بأي قلب تكتم الغرام؟ فلبث الفتى برهة حليف الصموت، عصي النطق كالمبهوت، وقد كاد الموقف يغلبه على أمره فلا يملك كتمانا لسره، وآنست «آرا» منه ذلك، فعادت فقالت: تكلم يا «هوتر»، تكلم، وصرح ولا تتكتم، وبح بهواك الذي أضناك، وكاشف «آرا» ولا تخف الوجد عنها، إنها بها منك فوق ما بك منها، فلم يكن من جواب «هوتر» على هذا الإقرار الصريح إلا أن نظر إلى الفتاة نظرة مسيء الظن مرتاب. ثم قال مستنكرا: و«آشيم»؟ قالت: قبح من اسم وقبح حامله! قال: ولكني أراك تفعلين ما لا يفعل في سبيله. قالت: بل في سبيل الملك يا «هوتر». ولو أن أمري في دفع الطمع بيدي ما بته إلا أنعم الناس، ولكنه داء المطامع تمنى به نفوس، وتعفى نفوس، وما مني به أحد إلا عاش في نكد ومات بالكمد (مجزوء الكامل):
تحت التراب خلائق
ما كلهم قتلى المرض
النصف مات بجهله
والنصف ماتوا بالغرض
قال: إذن فأنا أرمي عليك هواك، ولا أقبل منك هذا الحب المشوب بالسفالة، الدنس من اللؤم. قالت: ارحمني يا «هوتر». إنك بمهجة وفؤاد، ولا تأخذني بما يزين إلي الطمع. إنه من جناية الميلاد. قالت هذا وأخذت يد الفتى غصبا تتأملها طورا، وحينا تقبلها وتارة تمرها على صدرها، ومرة تبللها بالدموع، وآونة تجففها بالأنفاس. أما هو فكان يجمع فمه ليقبل الجبين الذي تيمه. وكلما هم شعر بأنفة تمسكه عن ذلك فيمتنع.
وبينما هما على هذا الحال سمعت «آرا» كأن مناديا يناديها فالتفتت وراءها، وإذا هي «آثرت» بنت الملك وكانت خارجة من غرفة الاستراحة تؤم القاعة الكبرى، فتوجهت نحوها مسرعة وتركت «هوتر» في شر حالة، فابتدرتها الأميرة قائلة: ما هذه الخيانة يا «آرا»؟ وأين الشرط ما بيننا؟ وهل هكذا جزاء الإحسان؟ قالت: عفوا يا مولاتي، واعتقدي أن جاريتك على قدم الإخلاص سرا وعلانية، وعلى ذاك العهد غيبا ومشهدا، وإنما نحن نقطع الوقت بالكلام كما يجيء، وما «هوتر» عندي إلا كبعض الناس؛ بل لولا أن جلالة الملك هو الذي وكله بي ليسايرني ويسامرني، لما ضمني وإياه مكان تحت سماء هذا البنيان. قالت: حسنا يا «آرا»، وما زلت الخليلة الوفية، ولكن هل ذكرني لك «هوتر» بأمر حلو أو مر خير أو شر؟ قالت: لا يا مولاتي. قالت وتنهدت: إذن فهو لا يلقي لوجودي بالا، إلا وهو مشغول بغرام ذي سر، لم أطلع بعد عليه، فمن يا ترى تلك التي تزاحمني على حبيبي، ولا ترجو لأبي وقارا في مكايدتي وتعذيبي؟ قالت: هوني عليك يا مولاتي، فورأس الملك ما قضي «هوتر» إلا لك ولن يقترن إلا بك.
وعند ذلك لمحت «آرا» خادمتها الخصوصية مقبلة من بعد تخترق الجموع نحوها، فاستغربت الأمر وأنكرته في نفسها ومشت إلى لقائها، فلما التقتا قالت لها الخادمة همسا: إن الملف الذي أمرت يا مولاتي أن يؤخذ من الثوب الأبيض ليوضع في صندوق المصوغات، لم أجده على الثوب فلعلك جعلته في مكان ثم نسيت فما تذكرين؟ فأطرقت الفتاة برهة تذكر نفسها فلم تذكر من الأمر غير كونها أمضت برهة في غرفة «رادريس» وأن الملف لا بد أن يكون قد سقط منها هنالك، عندما كانت تخلص ذيل ثوبها من يدي التمساح، وما زالت هذه الفكرة تؤثر في الفتاة ويشتد تأثيرها، فتتمثل لها العواقب سيئة وخيمة، والفضيحة هائلة جسيمة، حتى زاد بها الاضطراب، وتزلزل مجموع الأعصاب فسقطت بين ذراعي الخادمة مغشيا عليها.
فلما رأى الحضور ما حل ب «آرا» تكأكئوا جموعا يسألون عن أمرها ويستفهمون بصحتها، وانتدب الأطباء من بينهم لتنبيهها ثم نقلت إلى بعض الغرف لتأخذ راحتها، وكان في بعض الزوايا هنالك أربعة شبان من أبناء الكبار، وكانوا من الأحرار، فحين نظروا ما أصاب الفتاة لم تثر لهم عاطفة، ولم ينبعث عنان؛ بل استمروا يتهامسون. فقال أحدهم: إن للأمر لدخيلة. فلقد كنا نراها قبل حضور الخادمة في أتم صحة. قال آخر: وما أدرانا أن تكون قد سمعت شيئا أكدرها. فقطع الثالث عليه قائلا: وما عسى يكدرها إلى هذا الحد من الأشياء؟ اللهم إلا أن تكون قد علمت بخيبة المسعى في بعض أعمالها الشيطانية. قال الرابع: إن كان هذا أو ذاك فليس في الأمر ما يشغلنا عما نحن فيه من تدبير نزهة للبحر في سحر هذه الليلة.
والآن فأخبروني كم يكفينا من النبيذ، وأي أنواع الفاكهة تختارون؟ وهل لكم في الصيد حتى أوعز إلى تابعي بتهيئة ذلك كله وجعله في الزورق وانتظارنا به على المرسى الذي بالقرب من القصر؟ قالوا: عشر زجاجات، وشيء من العنب، واثنتان من أمهر راقصات المدينة تختارهما أنت ومغنيك الخصوصي، الذي ملأت سمعته الآفاق. قال: ذلك إليكم، وإني ذاهب إلى حيث الخادم لألقي عليه أوامري بالاستعداد.
حتى إذا كان نصف الليل برح الملك المجلس فصعد إلى الطبقة العليا من القصر لينام، وكان المدعوون قد أخذوا قسطهم من أنس تلك الليلة الشائقة، ولم يبق غير الانصراف، فكنت تراهم ينهالون على الأبواب زمرا بين فرادى وثنى وكلهم ألسنة تلهج بالثناء على مكارم الملك، والدعاء لذاته المقدسة بدوام العز والبقاء.
أما «آرا» فقد كانت أفاقت تماما، فلما رأت المجلس ينفض، تأخرت في جماعة من الكهنة حتى انصرف الناس جميعا، فخرج الكهنة وبينهم بنت كبير الحرس وما زالوا يمدون لأقدامهم الخطو مسرعين، إلى أن وصلوا المعبد الأكبر. وهنالك قصدت توا إلى مبيت وكيل المعبد، وكان نائما فنبهته فانتبه فقصت عليه الخبر، وما كان من أمر الملف ووقوعه في قبضة «رادريس»، فلما سمع الكاهن ذلك منها تغبر وجهه بادئ بدء، وظهرت عليه آثار الارتباك، وأطرق قليلا يفكر ويدبر ، غير أنه لم يلبث أن أقبل على الفتاة، فبالغ لها في الملاطفة وتسكين الجأش ثم أشار لها أن تجلس فجلست، وانثنى هو فأوصد الباب.
ثم عاد فلبس لباسا خاصا وأوقد نوعا من البخور معلوما له، وجاء بعد ذلك وسط الغرفة فتربع جالسا، ولبث كذلك نحو ساعتين من الزمان صامتا ثابتا، لا يتحرك منه إلا شفتاه وعيناه، وأحيانا يداه. كل ذلك و«آرا» ذاهبة الصبر تنظر منتظرة، وتتأمل مؤملة حتى نطق الكاهن، فقال: ها هو قد انتبه من نفسه على غناء وطرب الناس في زورق يتنزهون في النيل، ها هو قد صار في قبضتي وطوع إرادتي، ها هو يحاول المكث في السرير فلا يستطيع، ها هو يجهد أشد الجهد من تسلطي على أعصابه، ها هو يمزق ثوبه، ها هو ينزع الملف من صدره، ها هو يفتح النافذة، ها هو قد مد يده بالملف، ها قد ألقاه في النيل.
الفصل الثالث
الأحرار في طيبة
كان بطرف من شارع الصناعة مخزن صغير يبيع الأسلحة، وكان يتردد على هذا المخزن ويطيل الجلوس فيه كثيرون من الفتيان، معارف التاجر الذي كان فتى شابا كذلك، وكان في جملة ألاف المخزن وزواره العديدين «بيسمتوس» ثاني أنجال الملك، وشقيق «آشيم» الوحيد، غير أنه كان يغشاه متنكرا كما هي عادة الملوك والأمراء، في كل أين وآن.
فبينما الأمير ذات يوم جالس في زاوية مستترة من المخزن، وحوله أربعة فتيان من معارفه، وهم يتذاكرون الحوادث والأحوال، دخل شاب هندي فسأل التاجر قائلا: أرني ما عندك من صنف الخناجر وابدأ بأصغر ما تبيع منها. قال: إن كان لك في الخناجر الصغيرة، فإن عندي منها ما تستسهل حمله وتأخذه لأول وهلة، ثم أتاه بخنجر في قبضته سلسلة، في طرفها سوار. وقال: هذا الخنجر ذو السلسلة، وهو آخر اختراع، بل أنت له أول مبتاع. والذي يذكر من مزايا هذا الخنجر، التي لا تحصر، أنه يريح حامليه كثيرا والمسافرين من بينهم أكثر.
قال: كفى، فقد أعجبني، وأنا مشتريه، ثم التفت حوله فرأى جماعة في زاوية من المخزن، وهم شاخصون إليه، وكأنما أرابهم أمره، فلم يجد بدا من اتقاء ظنونهم. فقال للتاجر: وما عندك أيضا مما يليق أن يحمله الغريب، هدية لأهله وإخوانه. قال: عندي السلاح قديمه وحديثه، وجيده وغثيثه، فانظر وتخير. فجعل الهندي يتأمل ويختار، حتى أخذ شيئا فأعطى التاجر أضعاف القيمة، من الأحجار الكريمة، ثم حياه وانطلق. فقال عندئذ أحد أصحاب الأمير: من عسى يكون هذا الهندي يا ترى؟ فقال التاجر: علمي كعلمك في أمره. ولكن القيمة التي بذلها لي تدل على أنه رجل غني واسع الثروة. قال الأمير: لعله أحد الوفد الذين قدموا اليوم برسالة خصوصية من الملك «دهنش» إلى أبي. قال الصاحب: وهل في المدينة وفد هندي الآن يا مولاي؟ قال: نعم، وأنا في عداد المدعوين لحفلة مقابلة الملك لهم. قال: ومتى تجري هذه الحفلة يا مولاي؟ قال: اليوم قبيل الغروب.
قال: وما بال الأمير «آشيم» لا يصل مع أن الذي نعلمه أن الأمير برح منفيس أول أمس والمسافة بينها وبين العاصمة لا تحتاج إلى أطول من هذه المدة؟ قال: إن أخي يريد ليجعل يوم قدومه موافقا ليوم صدور حكمنا في قضية «رادريس». فإن كان الحكم الإدانة اغتنم الفرصة ليستوهب الملك العفو عنه، لمناسبة تشريف عذراء الهند لعاصمة البلاد، وإن كان البراءة كان ذلك زيادة في رونق اليوم وبهائه. قال: نعم الرأي، وإنها لأريحية جدير بها مولانا الأمير «آشيم»، وهل حقيقي يا مولاي أن جلالة الملك عهد إلى سعادتك رئاسة المجلس الأعلى، الذي ينظر في هذه القضية؟
قال: نعم. قال: إن «رادريس» إذن لسعيد. قال: إلى هذا الحد فلتقف أسئلتك يا «منحب»، فورأس أبي لن يكون «رادريس» بين يدي على علو مكانته إلا كبعض الناس، حتى تنطلق قوانين «رمسيس»، فإن قالت بإدانته عوقب لا محالة، وإن فاهت ببراءته برئ. ثم لقي من مساعداتي ومساعفاتي ما ينسيه ما كان من سجن وهوان. قال: وهذه أيضا أريحية أنت بها يا مولاي خليق. ثم أمسك الصاحب عن هذا الموضوع وطرق غيره فقال: ماذا تم يا مولاي في مشروع إنشاء المدارس الحرة؟ قال: صدق الملك عليه في هذا الصباح، وصدرت بذلك الأوامر العالية لأولي الأمر في طيبة ومنفيس. قال: بشرت بكل ما تحب يا مولاي. ففي هذا اليوم لا ريب تقوض نفوذ الكهنة وانتزع منهم السلاح الرهيب، ولكن كيف خاطر الملك إلى هذا الحد؟ وعلى من اعتمد في هذه العظيمة؟ قال: تدرع بأخي «آشيم» ليتقي سهام الكهنة. فما زال يهددهم بالاعتزال والتنازل لولي العهد في الحال حتى أذعنوا راضين بأخف الضررين. قال: إذن فإن لنا أن نرجو أن سيكون لمشروع إنشاء المكتبات العمومية هذا الحظ عينه. قال: هذا عزم الملك أيضا يا «منحب»، ولكنه يرجئ الفصل فيه وفي غيره من مقترحات أخي إلى ما بعد قدوم الأمير، والفراغ من حفلات قرانه، والآن أترككم وأذهب لأرتدي ملابسي الرسمية وأستعد، ثم إن الأمير ودع أصحابه وانطلق ذاهبا.
وفي هذه الأثناء دخل شرطي فطلب من التاجر بيانا عما ابتاع ذاك الهندي الغريب من مخزنه، واستقصه جميع ما دار بينهما من الكلام، فأعاده عليه، فانصرف مكتفيا بما علم من الخبر.
وخرج الأحرار بعد ذلك فمضى ثلاثة منهم لحالهم، وخطر للرابع أمر مهم، يجب أن يعمله الأمير قبل ذهابه إلى الحفلة، فركب جواده وسار خببا يؤم قصر النجل الثاني حتى وصله، وكان الوقت الأصيل فترجل ودخل فجلس ينتظر فراغ الأمير من لبس ملابسه التشريفية، ولم تكن هنيهة حتى أقبل النجل الثاني يختال في حلة عزه وفخاره، فبدر الفتى إليه وقال همسا: لا يبعد أن يجري الملك ذكر والدي بحضورك يا مولاي، وأن ينكر عليه استعفاءه من العضوية في مجلس الحكومة الأعلى، فأنا أشتهي على مكارمك أن تبذل المجهود لتحمل جلالته على قبول هذا الاستعفاء الذي كنت أنا الباعث عليه بلطف احتيالي وكثرة إلحاحي وسؤالي. قال: وهل تحققت بعد تمكن الكهنة من إرادته؟ قال: كل التحقق يا مولاي، بل هو كأحدهم في جميع أحواله، ولولا ما تفرض النواميس من بره، ووجوب كرامته وستره، لأطلعتك على العجيب الغريب من أمره، ولكني أسألك يا مولاي أن تكتفي بهذا. قال: إذن فثق أن استقالته مقبولة، وأننا غنمنا كرسيا جديدا في مجلس الحكومة الأعلى، فقبل الفتى يده وانصرف، وركب الأمير على الفور فسار إلى دعوة أبيه.
الفصل الرابع
الوفد الهندي في قصر الملك
برح الوفد الهندي دار الضيافة الرمسيسية، قاصدا قصر الملك يسعى على الأقدام، وكان مؤلفا من نحو عشرين مندوبا، ليس منهم إلا أمير أو وزير، وهم يسوقون بين أيديهم هدايا الملك «دهنش» إلى «رمسيس»، من نمورة وجلود وطيور نادرة الوجود، وذهب كثير بين سبائك ونقود، وأحجار كريمة، فوق كل قيمة، وغير ذلك من ثمين أشياء الهند القديمة.
وكان القوم يسيرون خافضي الرأس وأيمانهم على صدورهم وأشملهم مرسلة نحو الأرض، علامة على التناهي في إجلال مزورهم العالي ومقصودهم الفخيم، حتى بلغوا القصر، وهنالك استقبلهم الحجاب وأجلسوهم في محل الانتظار، ثم استصدروا الإذن الكريم بدخولهم، فدخلوا على الملك، وكانت الحفلة قد تم تمامها، وتكامل بعظماء الدولة نظامها، فتقدم حامل الرسالة من بين القوم فسجد طويلا لدى قوائم العرش، ثم قام فرفع الرسالة إلى «رمسيس» فأخذها الملك ودفع بها إلى كبير تراجمة القصر ليقرأ فقرأ:
من «دهنش» ملك ملوك الهندين، إلى ملك ملوك القارتين، ورب العرش والتاجين، المهيب الجيوش والأساطيل، مولانا «رمسيس الثاني سيزوستريس» صاحب النيل: أما بعد؛ فقد سلف من جليل إحسان الملك إلينا، وسبق من جزيل منته علينا، ما يجرئنا على الالتجاء في حمى قوائم عرش عظمته وشوكته، مستجيرين به من الدهر الغادر؛ حيث فجعنا في جارية الملك كريمتنا عذراء الهند، فساق لها يدا عادية اختطفتها من خدر عزها وصيانها، فإن تفضل جلالة الملك ومد لنا يد المساعدة العلية في سبيل إيجادها، كانت جارية مملوكة يهبها لجلالته والدها المخلص الداعي.
التوقيع
دهنش
فلما فرغ الترجمان من التلاوة كانت من الملك ابتسامة، ثم أومأ إلى الوفد أن يبرحوا الحضرة، فرجع بهم الحجاب من حيث جاءوا، والتفت «رمسيس» عندئذ إلى أصحابه. فقال: أتدرون ما يريد الخبيث «دهنش» بتمليكي عذراء الهند؟ قالوا: العلم لمولانا الملك. قال: يريد أن يفرق بيني وبين ابني بهذه الدسيسة التي كم له قبلها دسائس في علائقه معنا، وإنها لمن أعجب ما خلق دهاء الهنود للآن، ولكن دسائسهم قد كشفت من طول ما ألفت، وعرفت من كثرة ما وصفت حتى أمسى دهاؤهم المشهور، ولا انتفاع بسيفه المشهور. وهكذا الأمم إذا صغرت عندها الأخلاق، صغرت العقول، وصغر ما تفعل وما تقول.
والآن فليذهب واحد من هؤلاء الحجاب فيدعو الهنود إلى حضور ليلة قران «آشيم». قال الملأ بدهشة: وهل تعينت الليلة بعد يا مولاي؟ قال: نعم، وهي الليلة التالية ليوم فصل المجلس الأعلى في مشكل جواز الخطبة أو عدمه، وأنت يا كاتم الأسرار اذهب فاكتب إلى ناس هذا المجلس، بالاجتماع يوم الخميس المقبل؛ أي بعد ثلاثة أيام للنظر في مسألة الخطبة وإنهائها في ذلك اليوم نفسه. قال: سمعا وطاعة يا مولاي، ولكن ما أوامر جلالتكم بشأن استعفاء العضو الموقر «رمايس»؟ قال: ليقبل وليعين مكانه صاحبنا «بنتؤر»؛ فقام عندئذ كبير الحرس فقال: ولكن جلالتكم عقدتم العزم على إرسال الأستاذ «بنتؤر» إلى بلاد اليونان مندوبا ساميا من قبل المملكة المحروسة في مؤتمر الفلسفة والآداب. قال: قد أنسيت ذكر هذه النية يا «ندور»، ولكني أمرت فليمض الآن أمري، ومتى قدم «بنتؤر» في ركاب الأمير، عهدنا إليه باختيار من يعهد به الكفاءة لهذه المهمة الجليلة، من بين تلامذته الكثيرين. فأخرس هذا الجواب كبير الحرس، وكان «هوتر» حاضرا فوصل حبل الحديث قائلا: بقي الآن كرسي خال في مجلس الحكومة الأعلى يا مولاي. قال: وأي كرسي؟ قال: كرسي القائد «رادريس». قال: وهل صدر الحكم في قضيته بعد؟ قال: لا، بل يصدر غدا يا مولاي. قال: وإن غدا لناظره قريب، فما علينا إذا أرجأنا النطق بهذا العزل المهين، حتى تنطق به القوانين؟ فخرس «هوتر» لهذا الجواب كما خرس صاحبه كبير الحرس من قبل.
ثم إن الملك أشار للملأ أن ينفضوا من حوله فتفرقوا وهم قسمان قسم نكد ذليل، تتمثل له الخيبة بكل سبيل، وهم أعوان الكهنة، وآخر فرح بما لديه فخور، يستقبل الآمال ويستبشر لمساعفة الأمور، وهؤلاء هم الأحرار الذين لم يعد ينقصهم إلا كرسيان لتكون الأغلبية في مجلس الحكومة لحزبهم الظافر المنصور؛ بل هم قد رأوا وسمعوا في ذلك اليوم المشهور ما صير هناءهم عند غاياته، وجعل سرورهم فوق كل سرور، رأوا ملكا لا يستصعب الصعب، ولا يحذر المحذور، وكان بالأمس قطبا لرحى أغراض الكهنة عليه تدور، وسمعوا ولكن وحيا، ومن وراء ألف حجاب أن هذا الملك الشيخ الجسور، ما أتى الذي أتاه إلا وهو قد صمم على النزول عن عرش النيل واعتزال الأمور، فكان حساب الأحرار بل يقينهم، أن «رمسيس» سيغتنم فرصة قران ولي العهد، ليتنازل له عن الملك فيصبحون والأمر أمرهم ولهم وحدهم سياسة الجمهور.
الفصل الخامس
محاكمة «رادريس»
لما أصبح صبح اليوم المضروب لمحاكمة «رادريس»، عقدت محكمة طيبة الكبرى جلسة مخصوصة، للنظر في تهمة الاشتراك في اختطاف عذراء الهند الموجهة ضد «رادريس» والحكم فيها.
وكان المطالب بحقوق الهيئة ضد المتهم في تلك الجلسة، القائد «ندور» كبير حرس الملك، والمدافع عن «رادريس»، أحد مشاهير الكتاب في طيبة، وكان من كبار تلامذة «بنتؤر».
أما المحكمة فكانت متشكلة من ثلاثين قاضيا نصفهم كهنة، والنصف الآخر قواد من الدرجة الأولى، درجة «رادريس»، وكانت مشمولة برئاسة النجل الثاني للملك بصفة استثنائية إكراما للمتهم ومبالغة من مولاه الملك في قيمته.
وكان الجميع لابسين ثياب القضاء، النظيفة البيضاء، وقد حمل الرئيس في عنقه سلسلة الحق الذهبية، بها صورة المعبودة «ساتا»، متخذة من الأحجار الكريمة، وعلى رأسها شبه ريشة مجعولة رمزا على الحق، وهذه الصورة كان الرؤساء يديرونها، فيوجه صاحب الحق بدون أن يتكلموا، ثم يسلم إليه الحكم مكتوبا لينفذه على الخصم، حتى إذا أخذت الجلسة نظامها على ما وصفنا من تمام الأبهة، وكمال الوقار، شرع الرئيس يتلقى شهادات الإثبات فالنفي شفاهية وبالكتابة إلى أن أتى عليها جمعاء.
ثم إنه عرضها على نائب الملك ووكيل المتهم، ليطلعا عليها، فأخذ كل واحد منهما يزيف شهود الآخر، ويبطل شهادتهم شفاها وبالكتابة، وبعد ذلك عرضت عليهما القوانين ليستعينا بها ، فعمل كل منهما نتيجته وعرضها على صاحبه ليطلع عليها، ويبدي ملاحظاته الأخيرة بشأن ما جاء فيها، ثم وقع على الأوراق ووقع الشهود معهم، ورفعاها بعد ذلك إلى هيئة المحكمة لتصدر حكمها في القضية، فلبثت المحكمة في المداولة نحو ساعة من الزمان، حتى إذا درست القضية حق دراستها، ولم يبق غير الحكم زحزح الرئيس كرسيه قليلا، ثم قبض على صورة الحق المعلقة في عنقه، والتفت نحو نائب الملك فأيقن الحاضرون عندئذ بأنه صاحب الحق، وأن التهمة قد ثبتت على «رادريس»، ولكنه ما هم أن يصوب الصورة إلى «ندور»، حتى سمع من جوف القاعة صوت كادت تنكفئ له سماء البنيان على أرضه، وهو يصيح لا تصوب الصورة أيها الرئيس، وخذ هذا الملف فانظره، فإن فيه وحده الحقيقة كل الحقيقة، فتفرغ لذلك القضاة والتفت الناس وطالت أعناق وقصرت أعناق، وابيضت وجوه واسودت وجوه، ثم لم يدر الرئيس إلا بشيء قد سقط بين يديه، مقذوفا به من جهة الصوت، فالتقفه، وإذا هو ملف كما أخبر الصوت ومعه ورقة موقع عليها من أربعة من أبناء الكبراء، وهذه الورقة مكتوب فيها:
بينما كنا نحن أصحاب التواقيع نتنزه في النيل، في سحر ليلة كذا صادف مرورنا سقوط هذا الملف من بعض نوافذ الجهة المطلة على النيل، من معسكر الحرس فتلقفه الزورق، فنحن نقدمه لهيئة المحكمة خدمة للحق ونتكل على عدالة أحكامها، في جميع الأسرار التي يهدي هذا الملف لمواضعها، من قضية البطل الشريف «رادريس».
التواقيع
فلما قرأ الأمير الرئيس ما في الورقة، وكان يعرف تلك الأسماء ويعهد في أصحابها الصدق والنزاهة، ابتدر فض الملف وكان يشتمل على نحو خمس عشرة ورقة، فقرأها ثم أعاد قراءتها، حتى إذا لم يبق عنده أدنى شك في صحتها وصدورها من أصحابها الموقعين عليها، وقف والبشر ملء جبينه، وجلال الحق يحف به، من كل الجهات فقال: نحن النجل الثاني بصفتنا رئيسا لهذه الجلسة المخصوصة المنعقدة بأمر جلالة مولانا ووالدنا الملك، بناء على ما وفقنا للوقوف عليه من الأسرار في هذا الملف، الذي لا ينبغي أن يسبق الجمهور جلالة الملك إلى العلم بمشتملاته.
واتباعا لنصوص قوانين جلالة الملك، المؤسسة على الحكمة والعدالة حكمنا ...
أولا:
بإلغاء التحقيق السابق برمته.
ثانيا:
بتبرئة ساحة البطل الموقر قرين صبا الملك، وعفريت الحبشة، ومدوخ أفريقيا، القائد «رادريس» الحارس الأول لسعادة الأمير «آشيم» ولي عهد جلالة الملك، مع تفويض الرأي في التعويضات المستحقة للقائد المشار إليه إلى عدالة ومكارم حكومة الملك.
ثالثا:
بإلقاء القبض فورا على أصحاب الأسماء والألقاب الآتية، وهم القائد «منما» رئيس الفرق الاستعمارية بمنفيس والضباط «كعكا» و«شرم» و«مشناك» التابعون للفرق المذكورة، والكهنة «بربايس» و«مشنا» و«سيساين» التابعون لمعبد منفيس الأكبر، والأميرة «آثرت» كريمة جلالة الملك، والقائد «ندور» كبير الحرس وكريمته السيدة «آرا»، و«هوتر» مدير الخزينة الخاصة والقاضيان «برام» و«أتيون» الجالسان في هذه الجلسة، والأمير «مكارس» ابن أخي جلالة الملك ورئيس مجلس الحكومة الأعلى، و«نيناي» من أعضاء المجلس المذكور، والكهنة «فيرموس» و«كركة» و«خرايم» التابعون لمعبد طيبة الأكبر.
ثم إن الأمير أعلن انفضاض الجلسة فانفضت بين تصفيق من الشعب، وتهليل وهتاف متعال طويل أن ليحي الملك، ليحي الأمير، لتحي العدالة، ليحي «رادريس»، ونزل النجل الثاني عن كرسي الرئاسة، فتقدم نحو «رادريس» فعانقه طويلا، ثم خاطبه بصوت عال فقال الشعب: أيها القائد العزيز، بين منفذ ما ارتجل في تهنئتك ومنفذ ما كان ذخرا لتبرئتك، وطيبة لسان واحد حوالي هذه الجدران يهتف أن الحمد لله خير الحاكمين.
على أن شرف العظماء والعظم منك أيها القائد العزيز بمكان، كورد الحدائق إن نزعت منه ورقة انحل وانتثر وانتقض جميعه على الأثر، وهذه الورقة قد تنزعها يد العدالة، فإن كان ذلك عن خطل منها أو جهالة قيل: «ضلالة قضاء» وإن كان عن طغيان من السلطة ودوس للقانون قيل: «قضاء بغي وضلالة»، فالحمد لله ثانية على أن حاط هذه الوردة الزاهية الزاهرة، بعين عنايته الساهرة، بما تولى القضاء في أمرك والله خير الحاكمين.
وإني لا أجد مثلا لموقف الاتهام المهين، الذي كنت فيه، وكانت الريب عن الشمال، والحق الأبلج عن اليمين، إلا ساحة القتال؛ إذ تجمع بين الجبان الغادر القاتل، وبين الشجاع البطل الشريف المقاتل، فلا تنفع الأول كمالات محاذيه، كما لا تضر الثاني صفات قرينه في الصف وأخيه، حتى يعجل الله الحكم أو يؤجل، والله خير الحاكمين.
ثم الحمد له - سبحانه - أبد الآبدين، على أن أثابك عن ذلك الموقف خير ما يثيب العبد الصادق الأمين؛ حيث أبى إلا أن ينجلي بهذه التهمة، داجي تلك الغمة، عن سماء كرامة الأمة، فتبين الأمين من الخائن، وعرف الصادق من المائن، وهي خدمة للوطن العزيز يقل لها دم الحياة ثمنا، فكيف تستكثر لها وقفة بين يدي القضاء؟ لا سيما من بطل مثلك، كم له قبل هذه من يد عند الوطن بيضاء.
ولم يكد الأمير يستتم حتى سمعت ضجة أعظم ضجة تلاها ترديد أبواق، وصوت مزامير يملأ الآفاق، فسأل الأمير قائلا: ما هذه القيامة؟ فقيل له: إنه موكب ولي العهد يسير في البلد، وقد شارف دار المحكمة، وفي هذه الأثناء دخل أحد حراس «آشيم» فحيا «رادريس»، ثم ناوله سيفا من أفخر سيوف الأمير، وخاطبه قائلا: بأمر سعادة ولي العهد أدعوك أيها القائد الموقر لتخرج فتأخذ محلك في الموكب؛ حيث مركبتك الخصوصية مستعدة لتشرق بك في هذا اليوم السعيد، فتقلد «رادريس» السيف، وبرح دار المحكمة محمولا على الأكف من تحمس الناس في حبه، وبرحها الأمير على أثره، فسبق موكب أخيه إلى قصر الملك.
وهنالك عرض الملف على أبيه، وأخبره بتفصيل الحال جملة، فكان من وراء بلاغه هذا دهش عظيم للملك، وقيامة استغراب وحيرة بين ناس القصر، وما هي إلا هنيهة حتى أقبل الموكب عريضا طويلا فاخرا جليلا، فخف ملأ القصر لاستقبال الأمير على الأبواب، وانتقل الملك إلى قاعة التشريفات الكبرى فوقف يحف به الأمراء والوزراء والقواد وكبار الحاشية، وعندئذ أقبل «آشيم» خافض الرأس من الخشوع، له عند كل خطوة انحناء، وإلى يساره عذراء الهند تفعل كما يفعل، فابتدر الملك لقاءه فقبله على جبينه، ثم لوى على عذراء الهند فقبلها على رأسها ، وانثنى بهما بعد ذلك، فجلس وأجلسهما إلى جانبيه.
ثم أجال الملك نظرا في الحاضرين. وقال: أين كبير الحرس؟ فتقدم «ندور» فغضب لرؤيته وطرده من حضرته. قائلا: إني لم أدع كبير المجرمين يا خائن، بل دعوت «رادريس» كبير حرسي من اليوم؛ فتقدم عندئذ «رادريس» فقبل سدة العرش، فبالغ له الملك في المجاملة والإيناس، وأكثر من الاعتذار له عما مر من ضيمه وضيره، في السجن وغيره، ثم التفت إلى «آشيم» وقال له: وحق عينيك لا يصحبني «رادريس» إلا يومين، ثم يجمعكما هذا القصر إلى ما شاءت الآلهة؛ فأحدثت هذه الإشارة هرجا ومرجا بين الحاضرين؛ إذ عدها أكثرهم شروعا في التنازل ووعدا مؤكدا لولي العهد بملك البلاد.
وبينا هم كذلك دخل مأمور الضابطة في العاصمة وبيده أوراق ليعرضها على الملك، ومن جملتها أوامر المحكمة بالقبض على القوم الذين لوثهم الملف، فاستصدر المأمور نطق الملك بشأن خمسة من بينهم أمرهم إلى جلالته مباشرة، وهم الأمير ابن أخيه، والأميرة كريمة جلالته، وكبير حرسه وكريمته، و«هوتر» مدير خزينته، فصدرت الأوامر بنفي الأمير والأميرة إلى بلاد اليونان، وبأن تسوى المعاملة بين الثلاثة الباقين، وبين سائر المتهمين، فلا يعلى في أمرهم على القوانين.
ثم التفت إلى كاتم أسراره فأمره بأن يعين اثنان من تلامذة «بنتؤر»، ينتخبهما الأستاذ نفسه مكان القاضيين الساقطين من المحكمة المخصوصة لتلوثهما بالملف، وأن تنعقد هذه المحكمة غدا للنظر في القضية الباغتة، والحكم فيها بالسرعة الممكنة، وبعد ذلك طلب جلالته حامل مفاتيح القصر. وكانت تلك عادة له في صرف الزائرين فاستأذن عندئذ الأجانب عن القصر من الحاضرين وخلا الملك إلى بنيه وخواصه، فلبث بينهم طويل حين، إلى أن أقبل الليل فحل نظام هذا العقد الثمين.
الفصل السادس
طيبات طيبة
لما كان الغد وقد اطمأنت الآفاق، بشمس النيل ذات الإشراق، قامت طيبة على قدم وساق، شأن العواصم الكبيرة، عندما تحدث أمور خطيرة، فكانت عوالم الموظفين، ونوادي المحترفين، وهياكل الدين، ومجالس الأعالي والمتوسطين، ولا حديث لها إلا حوادث الأمس في القصر، ولا تساؤل إلا عن نبأ التنازل. هذا عدا المالكين الشوارع المحتلين للميادين، والغادين في الطرق العمومية، الرائحين من أهل الفراغ من الخاصة، وناس البطالة بين العامة، وكان أكثر انهيال هذه الجماهير على النقط القريبة من القصر، والمدانية لدار المحكمة، وللبناء المنعقد فيه مجلس الحكومة الأعلى.
وكانت الضابطة قد بثت الشرطة فلم تخل منها نقطة، وقد قامت بجنب أعوان السلطة شرطة أخرى متطوعة منتظمة خفية، أنشأها الأحرار لتسهر على حفظ نظام اليوم وتحمي صفوه أن يكدره القوم.
فبينما المدينة على هذه الحال من تواصل الزحام، واستمرار انهيال الأقدام، خرج الأمير وشقيقه ضحى على جوادين كريمين، وبينهما هودج الخطيبة السنية محمولا على الأعناق، تحيط بهذا الثالوث الكريم كوكبة من نخبة رجال الحرس الرمسيسي، وهو يسير قاصدا إلى المعبد بين إكبار الشعب وإجلاله، وبين ابتهاجه وابتهاله حتى وصله، وهنالك استقر بالأميرة الهودج ممتنعة عن الدخول، ودخل الأميران على «آمون» حجرته فصليا ثم قربا له القرابين، من كل غال ثمين، وانثنيا بعد ذلك خارجين فشيعا كما استقبلا بمزيد الحفاوة والتوقير، فركبا وأعاد الموكب المسير يؤم معرض الصناعة المستديم.
وكان إنشاء هذا المعرض في العاصمة باقتراح من الأمير؛ فلهذا كان كثير الاهتمام بإصلاحه، والسعي في نجاحه وفلاحه، وتلك شيمة للنفس الكريمة، أنها تحب آثارها وتبالغ لأعمالها في القيمة، فلما بلغه الموكب ترجل الأميران ونزلت الأميرة عن الهودج، ثم دخلوا جميعا، وهنالك أخذ «آشيم» يذكر لخطيبته ويصف، ويشرح ويعرف، وهي ترى من حسن الصناعة وجمالها، وتو آنس من معاني لطفها وجلالها، ما يبهر البصر، ويحير الفكر، والأمير يقول لها: جملة القول يا عزيزتي عن تقدم الصناعة ومبلغها من الإتقان في عهد أبي السعيد أنك إذا أخذت مثلا، عشرة من هذه الجعالي وتمعنت فيها، تبادر إلى ذهنك أن الصانع لها جميعا واحد، مع كون الأمر بخلاف، والجعالي لم تصنعها يد واحدة، بل أيد عشر، وإنما هو الإتقان في طباع كل صانع مصري، وتعلمين أن الإتقان، أعظم أسباب العمران، وأكبر دواعي الحضارة والتمدن.
حتى إذا فرغت الأميرة من هذه الزيارة المفيدة، رفع إليها أحد الصناع أولي الآثار، في تلك الدار، هدية؛ خاتما من ذهب ذا فص من العقيق الأبيض النقي، في حجم العدسة منقوش عليه صورة بحر وأمواج بينها فتاة تعالج الغرق، وكانت هذه الصورة آية في الإتقان، بل غاية ينتهي إليها في فن النقش الإمكان، فتقبلتها الأميرة متظاهرة بالشكر والامتنان، إلا أنها تشاءمت في نفسها؛ إذ كانت كثيرا ما ترى في منامها مناظر فظيعة من هذا القبيل تكون هي فيها محل الغرق.
ثم برح الجماعة، دار الصناعة، فساروا ميممين دار التحف الرمسيسية، وكانت تشتمل على ثمين الأشياء وغاليها، مما أهدي إلى الملك في مدة حكمه الطويلة، فرأت عذراء الهند في هذه الدار من العجائب والغرائب ما أنساها ذكر الخاتم، وما عليه وتلك الأحلام، التي طالما بغضت إليها طيب المنام، حتى لقد بلغ منها البشر والإيناس، أنها أخرجت يتيمة الصين التي كان «طوس» أهداها إليها يوم قدومها بالصفة الرسمية لمنفيس، فناولتها «آشيم» قائلة: وأنا أيضا أودع هذه اليتيمة في هذه الدار، هدية مني لمولانا الملك وتذكارا لزيارتي أنفس تذكار، فأخذها الأمير وتأملها، فإذا هو بتلك الصورة عينها؛ صورة الشؤم المنطبعة على المرآة، فاغتاظ وتهيج ودفعت به الحدة إلى أن ألقى سيدة الدرر في الأرض بقوة فذهبت ألف كسر.
ثم أخذ الأمير بيد خطيبته فخرجا والنجل الثاني يتبعهما، فركب الثلاثة وساروا في مواكبهم قاصدين حقول الملك في الضواحي، وهي بساتين واسعة تجري فيها الأنهار وتتخللها العيون، وقد أرصدها الملك لتربية سوائمه الخصوصية، واقتناء كثير من أجناس الحيوانات الأهلية والغير الأهلية، فكانت دليلا محسوسا على شدة عناية الملك بتربية المواشي، ومزيد اهتمامه بأمر صلاحها ونمائها، وهذا عن علم راسخ عنده بأن مصر واد لا حياة له بدون النبات والحيوان. فلما وصل الركاب الشريف إلى هذه الحقول التي كانت من الآثار الحرية بأن يسعى لها وتزار، دخل الأمراء الثلاثة فلبثوا فيها نحو ساعة بين تنزه وتفرج وتمش وتريض، وقد أعجبت الأميرة بها كثيرا، وكان على بعض تلك البساتين ذكر وأنثى من الظباء يافعان أبدعت الطبيعة شكلهما ، ووفتهما من الظرف قسطهما، وكانا في معزل يتداعبان ويتلاعبان فقر لعين العاشقين هذا المنظر الغرامي اللذيذ، وسأل «آشيم» عن زمن جلب ذينك الظبيين، فأجيب بأن الذكر ابن المحل، بخلاف الأنثى فإنها لم يؤت بها إلا أمس، وبأنهما ائتلفا لأول وهلة، فلا يمشيان إلا معا ولا يرعيان إلا من حشيشة واحدة.
ثم إن الأمير دعا إليه واحدا من البارعين في الصيد والقنص، وأمره بأن يطارد بعض الوحش بين يدي الأميرة؛ زيادة في تسلية خاطرها العالي، فانبرى الرجل يفعل إلا أن «آشيم» وعذراء الهند اشتغلا عنه بالحديث في أول الأمر، ثم تفرغا له ينظران فتكدر صفوهما بغتة؛ إذ رأيا ذاك الفظ الغليظ يطارد الذكر والأنثى المتقدم ذكرهما، فصاح به الأمير كف أيها الرجل، كف أيها الظالم، ولكن صدى الزجر لم يصل إلى الغشوم إلا وهو قد رمى فأصاب الذكر وانذعرت الأنثى لمصرع أليفها، فاستمرت تعدو طائشة نافرة حتى صدها نهر واسع شديد التيار، فسقطت فيه مندفعة بقوة العدو وكانت أنفاسها قد انقطعت من شدة التعب والنصب، فما بلغ الماء خيشومها حتى اختنقت للحين.
فأثر هذا المشهد المحزن في نفس الأميرة والأمير أشد التأثير، وضاعف عندهما التشاؤم حتى اضطرا إلى الإسراع في العودة فرارا من هذه الخيالات المزعجة، فسار الموكب آيبا إلى القصر تهفو له القلوب والأرواح، أينما مر وأينما لاح، إلى أن وصل إلى القصر، وهنالك استقبل الأمراء الثلاثة بلائق الإكبار والإعظام، وكان الوجوه والأعيان قد أخذوا يتوافدون آتين من أطراف المملكة وأقاصي البلاد، لحضور حفلة القران حتى ازدحمت أبواب القصر بالناس، وغصت ساحاته ورحابه.
وما هو إلا أن فرغ الملك وأبناؤه وأصحابه من تناول طعام الغداء حتى بدأ الوزراء والرؤساء يتواردون على القصر، منصرفين من مصالح الحكومة ودواوينها ليعرضوا حوادث اليوم وأحواله على صاحب الحكومة، فأنهى وزير الخارجية فيما أنهى أن ملك الصين قتل، وأن هذه الدولة آلت إلى شعوب الشمال المتبربرة، فلم يعد يرجى أن تقوم لها قائمة بعد، وأخبر مأمور الأقاليم أن الشقي «طوس»، وابنه «هاموس»، وجدا مصعوقين ميتين على بعض البيد المتاخمة لبيداء الذئاب، وأن قد وجدت على «طوس» وصيته ثم تلا هذه الوصية على مسامع الملك وهي:
إذا زالت يتيمة الصين، زالت هذه الدولة للحين، وآلت إلى متوحشة الشماليين، وإذا بلغ من «رمسيس» الوهن، وابيضت عيناه من الحزن، ومات في أرذل السن، غما بابنه خير ابن، فسد أمر هذه الأمة، فلا تزال تتغلب عليها دول الزمان، وتتقلب الأديان، ويمحو اللسان عندها اللسان، حتى يعمل عالمها ويقتصد فلاحها ويرجع صانعها لشيمته الإتقان.
وبعد؛ فإن صاحب هذه الوصية يتبرع بعد موته بكتبه من كل صنف وعدتها ألف ألف، لجامعة الآداب والفلسفة في طيبة عاصمة المملكة المصرية، وبأمواله الطائلة من مكسوبة وآيلة، للأمير «آشيم» ولي عهد جلالة الملك، ومن بعده للأمير «بيسمتوس» ثاني أنجال جلالة الملك، ومن بعده لجلالة الملك نفسه؛ أي «رمسيس الثاني سيزوستريس» ملك مصر العليا والسفلى الذي اخترته منفذا لوصيتي هذه مسئولا عن إجرائها أمام ذمته وأمام الآلهة والناس.
التوقيع «طوس الكاهن الأعظم»
للديار المصرية سابقا
فحين استوعب الملك وأصحابه فقرات هذه الوصية راحوا مبغوتين مبهوتين كأن بهم سحرا، وكان أكثر ما اندهشوا للترتيب غير الطبيعي الذي جرى عليه «طوس» في الفقرة الأخيرة عند ذكر المال، وفي الواقع فإن «طوس» لم يكن ليخرق البديهيات، لولا أن أحس شيئا مما كانت روحه اللطيفة تتنوره في عالم الغيب والخيال.
ولم يلبث الملك أن خرج من دهشته، فأخذ الوصية ودفع بها إلى كاتم أسراره لينفذها في الحال، ثم التفت إلى مأمور الأقاليم فأمره أن يعمل اللازم لتحنيط جثة الفقيد، ونقلها بعد ذلك إلى العاصمة لتدفن بلائق الاحتفال في أضرحة الآباء والأجداد.
ثم إنه صرف الحضور إلا خواصه الذين لبث معهم بقية النهار ومعظم الليل مشتغلين بتدبير يوم المهرجان وليلته.
الفصل السابع
ليلة القران
هي عيد الدهر، بل ليلة القدر، لا بل هي العمر، لمحبين كثر ما أساء إليهما الأيام، وعاشقين روعهما البين، وضربتهما النوى بحسام، فلا عجب إذا ولدت الطرب، وأنالت طيبة الأنس متين السبب، بأفراح فتاها الأبر ومجدها المنتظر ، وعلائها المدخر، الأمير «آشيم».
فإنه لم يكن صبح اليوم التالي حتى أظهرت عاصمة النيل، عزها الباهر الأثيل، بما لبست من حلل الزينة، وتردت من ثياب البهاء الثمينة، وأضفت على مناكبها من مطارف الجلال والجمال. مما لا تحلم بمثله مدينة، فلا تسل عن تلك المشيدات الفخام، كيف تجلت وتحلت بالأزاهير والأعلام، ولا عن عقد هاتيك الشوارع الجلائل الفخام، كيف تولاه الذوق السليم فانجلى باهر السلك، باهر الزينة باهر النظام، ولا عن ذلك الشعب العامل الحي، كيف نهض وقام واستقبل أسعد المواسم، في أكبر العواصم، بصنوف الحفاوة والتجلة والإكرام. وبالجملة كانت طيبة معابدها وهياكلها، وحصونها ومعاقلها، وقصورها ومنازلها، وسماؤها وأرضها، وطولها وعرضها، منظرا واحدا فردا بديعا هو جلال الزمان، بل جمال الأيام.
فلما كان العصر خلص ميدان «رمسيس» من الزحام، وأخلي من الأقدام، فخرج إليه الملك وولي العهد، وخطيبة العلاء والمجد، يحيط بهم سائر الأمراء، ويتبعهم الوزراء والكبراء، حتى بلغوا سرة فضائه الوسيع، فوقفوا يحفهم الوقار الأكمل، وهنالك استهلت الأبواق متجاوبة، وارتجلت المزامير متناوبة، وتعالى تهليل الجموع، وتواصل هتافهم أن ليحي الملك، ليحي الأمير، لتحي الأميرة، ثم سرى السكوت وساد السكون، وقام على الفور كاتم أسرار الملك فألقى على الجماهير، هذا الخطاب الرسمي، وهو:
أيها الشعب الموقر
بأمر جلالة الملك أتلو عليكم قرار مجلس الحكومة الأعلى بشأن خطبة الأميرة عذراء الهند لسعادة ولي عهد المملكة المصرية. وهذا هو بنصه:
أبلغ إلى مجلس الحكومة الأعلى ما توجهت إليه رغبة جلالة الملك من تزويج سعادة الأمير «آشيم» ولي عهد المملكة المصرية بالأميرة عذراء الهند كريمة الملك «دهنش» ملك الهند الشرقية، ودعي المجلس المشار إليه للنظر في أمر هذا الزواج، من حيث كونه موافقا لتقاليد المملكة ونظاماتها، أولا فقرر المجلس بعد الاطلاع على القوانين الأساسية لمملكة الرمسيسية، أن اقتران سعادة ولي العهد بالأميرة المشار إليها جائز لا تحرمه القوانين، ولكنها تشترط معه أمورا ثلاثة؛ أولها: قبول الملك والد العروس به، ثانيا: أن تذكر الأميرة في عقد الزواج باسم مصري، ثالثا: أن تتعهد الأميرة في عقد الزواج أنها إذا آل الملك إلى بعلها الموقر تطرح ديانة الآباء والأجداد، وتعانق ديانة البلاد.
هذا أيها الرعية المخلصة ما قرره مجلس الحكومة الأعلى بنصه، وإنني بأمر جلالة الملك كذلك، أعلن خاصكم والعام أن الشروط الثلاثة الواردة في قرار المجلس، قد توفرت، وأن جلالة الملك يسره كثيرا أن يبشركم أيها الرعية المخلصة بحصول القران المشار إليه، في هذه الليلة السعيدة، وأن يدعوكم فردا فردا إلى مشاطرته الفرح بهذا القران الميمون، المحفوف ببركات «آمون».
وما انتهى الخطيب حتى استرسلت الأمة في التصفيق، متوجة عمل الملك ذاك بالتصديق، والتفت جلالته بعد ذلك فانثنى في نفر من خواصه عائدين إلى القصر. أما العروسان فتحرك بهما الموكب السامي ليجولا في المدينة جولتهما الأولى، فاجتاز بهما شارع سيتي، فشارع آتيس (اسم لأشهر وقائع الملك)، فميدان فتاح، فشارع الصناعة، حتى بلغ المعبد الأكبر، وهناك استقبل العروسان بما يليق لمقامهما السامي من مظاهر الإجلال والإكبار، ودخلا فصليا الصلاة الرسمية، ولم تمتنع عذراء الهند في هذه المرة مبالغة منها في مجاملة الأمة، والتماسا لرضى المتمسكين في استرضاء رجال الدين، ثم رسم لعودة الموكب طريق آخر، فمضى يخترق شارع المعبد فشارع الدواوين، فميدان «آمون»، فباب الأربعين نصرة (انتصارات رمسيس)، فشارع الخيانة (لأن فيه هم «أراميس» أخو الملك أن يفتك بأخيه)، فميدان «رمسيس»، فشارع «رمسيس»، حتى دخل القصر بسلام.
وكان الوقت الغروب وهو الموعد المضروب لحضور ألوف المدعوين لتناول طعام الفرح على الموائد الرمسيسية، فأخذت المركبات تتطارد، والخيل تتوارد، والجماهير تتوافد، بين تحايا الطبول والأبواق، وتسليمات المزامير الذاهبة في الآفاق، وكان عند كل سلم من سلالم القصر، وعلى كل باب من أبوابه الكثر، حجاب من الوجهاء الغر؛ لاستقبال الضيفان وإزلافهم إلى رب المهرجان، حتى إذا انتظمت الحفلة، ولم يبق من لم يحضر من أصحاب الليلة، نودي في الأقوام أن اتبعوا الملك إلى قاعات الطعام، فابتدر الملأ دخول هاته القاعات، وكانت سبعا عريضات طويلات، في كل واحدة منها سبعة خوانات، على كل خوان سبعة من ذوي المقامات، فجلس الكل يتناولون أثمن الطعام وأفخره، ويذوقون أعز الشراب وأندره، والملك يذيقهم فوق مذاق الكاس، من لذيذ البشر والإيناس، حتى إذا نفد حول البطون، قبل أن ينفد ما في الصحون، خف الملك إلى قاعة الاستقبال الكبرى، فابتدرت الزمر دخولها خلفه، وهنالك كان للناس دهشا؛ إذ رأوا عرش الجلوس في صدر القاعة محمولا على رفرف ذي درج، وهو كأنه الفرقد، في هالة من الأنوار تتوقد، وإذ كان من شأن هذا العرش أن لا يظهر للكون إلا يوم يموت فرعون، ويقوم فرعون، فقد حق للناس أن يتساءلوا في حفلة عروس هم أم تلقاء يوم جلوس.
ثم لم يكن ثلث الليل حتى نهض الملك دون العرش ودعا إليه العروسين فنهضا إلى جانبيه، وكان الركن الذي قاموا فيه مطلا على النيل وبنافذتين ينظر منهما إليه، وبعد ذلك أشار الملك لرئيس الديانة وأعوانه أن يتقدموا فمثلوا لديه، فخاطب الكاهن الأعظم للديار قائلا: تفضل يا إمامنا العزيز واعقد لولدي على الأميرة عذراء الهند، ثم عقب وهو يتبسم بأن قال: ومتى فرغت من عملك هذا أتيت أنا أيضا العمل الذي فيه ل «آشيم» إتمام الأمل، فأحدثت هذه العبارة هرجا ومرجا في المحفل، ولم يبق لنفس ريبة في كون العرش إنما نصب للحبيب والحبيبة.
وبينما القوم يتبادلون هذه التأملات، والكاهن الأعظم ينتظر سكوتهم ليشرع في عمله، مرق من بعض النوافذ طائر صغير أسود، فارتفعت الأعين ترمقه، وهاج الملأ وماج المكان، أما الطائر فبعد أن دار دورته قصد نحو العروسين فصفق يحوم عليهما وينتف ريشه لديهما. وفي هذه اللحظة لم يدر الناس إلا بالأمير قد سقط طعينا يتخبط بدمائه، ثم بظهور ثرثر من ورائه وقد صرخ قائلا: ليمت كلانا بدائه، ثم طعن نفسه بالخنجر فسقط كذلك يتعثر بردائه، فتفزع الجمع لهذا المشهد المذيب، وجنت عذراء الهند بإزائه، فقامت لدى النافذة تنتظر كلمة الأطباء، حتى إذا أيقنت أن لا أمل ولا رجاء، وأن «آشيم» خرج من سلك الأحياء، لم تزد على أن صرخت قائلة: يا للسماء لهذه الخالدة الشقاء، الأبدية الإقصاء! ثم ألقت بنفسها من أعلى القصر إلى العريض الطويل من عالم الماء. (تمت)
نامعلوم صفحہ