وبعد دقيقة جيء بإسماعيل السيسي، فقرأ عليه المدير حكم الجلد بخمسين جلدة وهو لاه عن سماع العقاب بالنظر إلى جثة المشنوق، وكانت فرائصه مرتعدة تأثرا من فظاعة هذا العمل، ثم تناوله الجنود وجردوه من ملابسه، ثم صلبوه على آلة التعذيب، وجعلوا ظهره وجهة المساكن لتتمكن الأهالي من رؤية الضرب كما تمكنوا من رؤية الشنق، وبعد ذلك أخذ الضارب يلهبه بسوط ذي خمس شعب مجدولة، وفي نهاية كل شعبة عقدة من نار، فكانت كل ضربة تجمع الدم في موضعها متجمدا مكمدا ، وكان يبدأ بالضرب مما يلي؛ قفاه وهو نازل على العمود الفقري، ثم فصاعدا إلى مبدأ الضرب، وبعد عشرين جلدة جهنمية أخذ جسم المعذب يرتعش بشدة ارتعاشا هائلا ثم خمدت أنفاسه، وأغمي عليه إغماء الموت. وبعد الخمسين جلدة أنزلوه من فوق الآلة، وأخذه الجند إلى رفقائه في الخيمة ليروه فيتضاعف بذلك العذاب.
وبعد لحظة جيء بإبراهيم حسنين السيسي، وأول ما وقع نظره على شيء رأى المشنوق «عم حسن محفوظ» مكمد الوجه ومعلقا في حبال المشنقة، فطأطأ رأسه أمام القوة القادرة وقال في نفسه: والله مظلوم يا عم محفوظ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وبينما كان سارحا في بيداء الأفكار إذ سمع صوت المدير يتلو عليه صورة الحكم بالجلد، فامتثل المسكين صاغرا، وكما مثلوا بالأول مثلوا بالثاني حرفا بحرف وضربة بضربة.
وبمثل هذه الشدة وفظاعة التمثيل نفذت الأحكام على المتهمين أمام نظر أهاليهم بحال فظيعة سودت تاريخ القرن العشرين. وفي الساعة الثانية والنصف من ظهر ذلك اليوم المنحوس أسدلت الستارة الأخيرة على هذه الرواية المدهشة بعد أن تركت في كل بيت من بيوت بلدة دنشواي مأتما يندبون فيه ميتا أو سجينا أو مجلودا.
دنشواي! دنشواي! لقد صار اسمك مخيفا، وذكرك مرعبا، فسامحيني إذا ودعتك الوداع الأخير.
دنشواي ... دنشواي ... لا تظني أيتها البلدة التعيسة أن المصري ينسى نكبتك وما تحملته من ضروب الشقاء، ولكن ماذا يعمل هذا المسكين؟
دنشواي، دنشواي، ليكن اسمك مخلدا، ولكن أي تخليد؟ ولا تنسي أن تقصي على أبنائك في الأجيال الآتية ما حل بك، ليعرفوا مبلغ تمدن القرن العشرين تحت سيطرة الإنجليز.
دنشواي، دنشواي، لا قدرة لي على عزائك، ولا شيء عندي أهديه إليك تذكارا مؤلما لهذه الكارثة غير مداد قلم كاتب سطر حوادثك في قالب قصة جعلها هدية إلى «عشماوي» جلاد مصر الذي قبض أربعا من أرواح أبنائك ببساطة وسهولة.
دنشواي، دنشواي، إني أتجاسر فأقف تحت سمائك، وأركع بين أجرانك يرفرف علي حمامك الذي سبب إلى الأبد أحزانك، وأطلب من الله لك العزاء، ولأهلك الرحمة والرضوان.
نامعلوم صفحہ