عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
اصناف
لم يلغ ويلسون برنامج الصاروخ «جوبيتر» بل تركه معلقا؛ فقد كان لدى فون براون، على أية حال، سجل إنجازات مؤكد تضمن عملية الإطلاق الناجحة للصاروخ «ردستون»، في حين لم تنجح الشركات المتعاقدة على الصاروخ «ثور » (وهي: «دوجلاس إيركرافت»، و«روكيت داين»، و«بيل لابس» المسئولة عن تصميم نظام توجيه بالقصور الذاتي والإشارات اللاسلكية، وشركة «إيه سي سبارك بلاج» المسئولة عن تصميم نموذج فعلي لنظام التوجيه بالقصور الذاتي، وشركة «جنرال إلكتريك» المسئولة عن تصميم مقدمات الصواريخ المخروطية) إلا في بناء صواريخ «نايكي» المضادة للطائرات؛ ومن ثم، تقرر استمرار العمل في الصاروخ «جوبيتر»؛ فربما يعرقل الصاروخ «ثور» في أي وقت. لكن في حال نجاح مشروع الصاروخ «جوبيتر»، كان من المقرر ألا يتولى بناءه ونشره سوى القوات الجوية. وأعرب الجنرال شريفر بوضوح عن عدم تحمسه للفكرة.
لم يمانع آخرون في الإصرار على الفكرة، وكان فون براون يجري اختبارات على مكونات «جوبيتر» عن طريق وضعها على متن صواريخ «ردستون»، وخلال إحدى عمليات الإطلاق هذه، مال الصاروخ وبدأ في الهبوط إلى مركز كيب كانافيرال في اتجاه منطقة إطلاق الصاروخ «ثور». وما كان من ضابط سلامة ميدان الإطلاق إلا أن فجره، وتحطم الصاروخ في منطقة خالية دون أن يتسبب في وقوع أي أضرار. وعلى الرغم من ذلك، حسبما جاء على لسان مداريس، «اتهمنا بتصميم صاروخ غير دقيق على الإطلاق؛ حيث وجدنا أنه من المستحيل، حتى في ذلك المدى القصير، أن يصيب منصة إطلاق الصاروخ ثور».
مع ذلك، حلق الصاروخ «ثور» أولا. وعند نصبه في وضع الاستعداد، في أواخر يناير 1957، كان «ثور» يمثل نقطة فارقة حقيقية؛ حيث كان أول صواريخ جيله. ولم تكن جميع الصواريخ التي جرى بناؤها وإطلاقها حتى ذلك الحين، في الولايات المتحدة وفي الاتحاد السوفييتي، أكثر من مجرد صواريخ معدلة على غرار الصاروخ «في-2»، وهو ما كان ينطبق أيضا على أكثر الصواريخ تطورا، وهو صاروخ كوروليف «آر-5». كان «ثور» يمثل بوابة العبور إلى المستقبل، معلنا ليس فقط عن عصر الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى والبعيدة المدى، بل أيضا عن عصر التحليق في الفضاء.
بحلول هذا الوقت، كانت مظاهر المدنية قد بدأت في الظهور في كيب كانافيرال، لكنها كانت تتبدى ببطء. ويتذكر بوب جونسون، أحد كبار المهندسين في شركة «دوجلاس»، أن الطرق رصفت، لكنها كانت «محاطة بالمستنقعات والأحراش البرية». ويتذكر جيم دورنباكر، من شركة «دوجلاس» أيضا، العثور على موقع يصلح لإقامة منصة إطلاق جديدة وسط مساحات هائلة من البلاميط والمستنقعات: «استقللنا أحد البلدوزرات، وقادنا رجل عجوز من فلوريدا إلى هناك، بينما كانت الثعابين المائية تتساقط من سير البلدوزر؛ وقال: «هنا ستقام المنصة».»
في تلك الأثناء، شيدت بعض الأنزال القليلة في المنطقة، وربما كان «سي ميسيل» أول الأنزال اللائقة. وكان الاسم مناسبا؛ لأن كثيرا من الصواريخ ينتهي بها المطاف في البحر. ومع ذلك، ظل طاقم شركة «دوجلاس»، الذي سيطلق فيما بعد الصاروخ «ثور»، في كوكا بيتش في كلايتون هاوس، وهي أرض مستأجرة. ويشير دورنباكر إلى هذه التجربة قائلا: «لم يكن المرء يستطيع العثور على غرفة بمفرده؛ لذا كان يجب العثور على شخص لا يصدر شخيرا أثناء النوم.» ويضيف جونسون أن طواقم الإطلاق كانت تشرب مياه معبأة؛ نظرا لأن المياه المتوافرة محليا كانت تحتوي على مواد كيميائية مذابة تتسرب إليها من مخزون المياه الجوفية، حيث: «كانت رائحة الماء كريهة وذات طعم فظيع.»
كان الإعداد لعملية الإطلاق، مثلما يتذكر دورنباكر، «يتضمن كثيرا من السيناريوهات الاحتمالية؛ على سبيل المثال: كان على المرء إذا واجهته مشكلة أن يتأكد مما إذا كانت هذه المشكلة في المركبة أم في معدات الاختبار. وكان المرء يتساءل دوما إن كان ما يفعله صوابا، ولم يكن يوجد الكثير من الأشخاص الذين يتمتعون بالمعرفة والخبرة اللازمتين». ويضيف دورنباكر قائلا: «كان المرء في وضع يضطر فيه إلى القيام بشيء لم يقم به من قبل، ولم يكن لديه الوقت الكافي، وفي بعض الأحيان الموارد الكافية، التي تمكنه من ذلك. ولكن، كانت لديه قناعة قوية وإيمان راسخ بأنه يستطيع تخطي أي صعاب.»
كانت أشد هذه الصعاب على وشك الظهور في 25 يناير، عند اقتراب العد التنازلي لموعد الإطلاق من الصفر؛ يقول دورنباكر: «كان المرء يرقب عدادات الضغط، ومصادر الطاقة، والعدادات الإلكترونية. كانت لحظات مليئة بالتوتر، الجميع يكتم أنفاسه ويأمل ألا يحدث شيء يعرقل الأمور.» وكان يقف في مواجهة المسئول عن عملية الإطلاق النهائية، الذي كان سيدفع زر إطلاق الصاروخ، صف من المراقبين، كل منهم معه لوحة تحكم. وفي اللحظة المناسبة، بينما لا يزالون يرقبون العدادات، أعطى كل منهم إشارة «إطلاق» من خلال الإشارة بأصبع الإبهام، واحدا تلو الآخر. وضغط المسئول عن عملية الإطلاق التجريبية، الذي قيل إنه صاحب «أصبع الإبهام الذهبية»، بحسم على زر الإطلاق.
دار المحرك، وارتفع الصاروخ 101 مسافة تسع بوصات عن منصة الإطلاق، ثم فقد قوة الدفع ليستقر مرة أخرى على المنصة، ويسقط عبر حلقة دعم، ويتحطم إلى قطعتين عند انفجاره. سمع الناس في تيتوسفيل دوي الانفجار، على مسافة ثلاثين ميلا. وكان برج المراقبة ذا حوائط خرسانية من الصلب المقوى بسمك قدمين، ويوجد على الجانب المواجه للانفجار عشرون قدما من الرمال؛ ومع ذلك، حسبما قال دورنباكر: «انبطحنا جميعا أسفل المائدة؛ لأننا لم نكن واثقين من مدى قوة برج المراقبة.» وكان دولف ثيل موجودا أيضا، وقال عن هذه الحادثة: «رأينا بريقا هائلا يومض فجأة، وما أذكره بعد ذلك أنني انبطحت أنا وجاك برومبرج أسفل المائدة. ونظر أحدنا إلى الآخر وقال: «ماذا حدث؟» وشعرت بحزن بالغ.»
يضيف بيل إزل من شركة «روكيت داين» قائلا: «بعد خمود النيران، خرجنا نبحث في حفرة اللهب عن أجزاء الصاروخ. وجدت الأنبوب الذي كان يربط مولد الغاز بمضخة تصريف، وكان الأنبوب يحتوي على صمام لا رجعي، كان يجب أن ينغلق عند دوران المحرك، لكنه انفجر منفصلا.» صف العاملون في مركز الإطلاق جميع القطع التي عثروا عليها في حظيرة طائرات ثم بدءوا في فحصها. وعند فحص الأفلام، رأى أحدهم رجلا من شركة «دوجلاس» يسحب خرطوم أكسجين سائل عبر الرمال، وهو سائل حساس، وهكذا تسببت حفنة من الرمال في وقوع الانفجار. وكان انفجارا طفيفا، لكنه أدى إلى فتح الصمام اللارجعي وتسبب في فشل عملية الإطلاق. أجرى إزل وزملاؤه محاكاة لهذا الخلل في اختبار في موقع سانتا سوزانا، وتطابقت نتيجة الاختبار مع حادث الانفجار تماما؛ وفقدوا بذلك الصاروخ «ثور»، لكنهم تعلموا أن يحتاطوا ويولوا إجراءات ما قبل الإطلاق قدرا أكبر من العناية والحذر.
مرت ثلاثة أشهر، وبحلول شهر أبريل كان الوقت قد حان لاختبار الصاروخ 102، الذي انطلق من المنصة بنجاح، وحلق دون مشكلات لمدة نصف دقيقة ثم انفجر. وكان السبب هذه المرة يقع في صميم عمل الضابط المسئول عن سلامة ميدان الإطلاق، الذي كان يعتقد أن الصاروخ متجه إلى أورلاندو، في حين كان الصاروخ يتجه صوب البحر، حسبما كان مفترضا. وكانت المشكلة تعود إلى تقاطع الأسلاك وتداخلها في لوحة التحكم. يقول ثيل: «ضممت قبضتي بشدة وكنت على وشك تسديد لكمة إليه.» ويضيف شريفر أن هذا الضابط: «نقل إلى محطة جديدة في أقصى المحيط الأطلنطي بعد حوالي أسبوع.»
نامعلوم صفحہ