عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
اصناف
بعد الإقرار بقدرة الصاروخ «إيه-4» على حمل حمولة حربية زنة طن، سأل هتلر ضيوفه عن إمكانية زيادة هذه الكمية إلى عشرة أطنان؛ فأجاب دورنبرجر أن حمولة عشرة أطنان من الرءوس الحربية سوف تقتضي تصميم صاروخ أكبر بكثير، وهو ما قد يستغرق سنوات في تطويره. لمعت عينا هتلر عندما رد قائلا: «لكنني أريده دمارا، دمارا شاملا!» وعندما أجاب دورنبرجر قائلا: «لكنني لم أكن أفكر في إحداث دمار شامل.» استدار هتلر إليه في غضب عارم وقال: «أنت! أعلم أنك لم تفكر في ذلك، لكنني فكرت!»
6
ماذا قدم دورنبرجر، على أية حال، في هذا الاجتماع؟ ماذا كان ذلك السلاح الذي كان يفتقر إلى القدرة التدميرية الشاملة بينما لا يزال يمثل سلاحا حربيا مريعا لا تستطيع الإنسانية تحمل آثاره؟ كان هتلر قد سمع عن أن القنبلة الذرية ربما تصبح ذات يوم سلاحا ممكنا، وكان قد أخبر المارشال إرون روميل قبل ذلك بعام عن مادة متفجرة ستظهر في المستقبل تستطيع «إسقاط رجل أرضا عن صهوة جواده لمسافة تتجاوز الميلين». وبالطبع، استطاع الصاروخ «إيه-4» أن يترك انطباعا أقوى من هتلر لدى الأشخاص الأقل ميلا إلى الخيالات، وعندما رأى ديتر هوزيل - أحد زملاء فون براون - بعض هذه الأسلحة للمرة الأولى عن كثب، ظن أنها «قادمة إلى الأرض من وحي فيلم الخيال العلمي «امرأة على القمر».»
في حقيقة الأمر، خلال سنوات ما بعد الحرب، قدم صاروخ «إيه-4» تصورات حول إمكانية تصنيع مركبات فضائية قوية في المستقبل؛ لكن آمال هتلر كانت تمضي في اتجاه مختلف، وهو تصنيع أسلحة دمار شامل. ومع ذلك، فبالنسبة إليه، ومثلما كانت الحال بالنسبة إلى الكثيرين، استحضر الصاروخ تصورات حول الشكل الذي ستكون عليه الأمور في المستقبل. وكما كان الصاروخ مصدر إلهام لجيل من رواد الفضاء المرتقبين، فقد كان مصدر إلهام مشابها لهذا الرجل المصاب بجنون العظمة الذي حلم ببناء ترسانة من الأسلحة القوية القادرة على تدمير العالم.
بارك هتلر هذه الأسلحة الأربعة جميعها، وحظي الصاروخ «إيه-4» والصاروخ «كروز» طراز «في-103» بأولوية كبيرة. انفرد الصاروخ «كروز» طراز «في-103» بميزة خاصة؛ لأن تكلفته لم تكن باهظة ويمكن إنتاجه بأعداد كبيرة. وضع جوزيف جوبلز، وزير الدعاية، لمسته الخاصة على هذه المشروعات؛ حيث أطلق عليها «أسلحة الانتقام». أما عن صواريخ «كروز»، فقد دخلت الخدمة باسم «في-1»، وصار اسم الصاروخ «إيه-4» - وهو السلاح الأكثر فاعلية - هو «في-2»؛ مما يوحي بتطوير أسلحة أكثر فتكا.
أصبح إنتاج الأسلحة من المسائل المهمة التي تحتل مكانة الصدارة، واتضح على إثر غارة جوية بريطانية شنت على بينامونده في أغسطس 1943 ضرورة إقامة منشآت جديدة لاستيعاب الجهود المبذولة في تطوير الصاروخ «في-2». عثر مدير الإنتاج، جيرهارد ديجينكولب، على ضالته في مستودع لتخزين النفط تحت الأرض في منطقة جبال هارتس قرب نوردهاوزن. وللبدء في إنتاج هذا الطراز من الصواريخ بأعداد كبيرة، وإدخاله حيز التنفيذ الفعلي، لجأ النازيون إلى نظام عمال السخرة. كانت فرقة القوات الخاصة هي المسئولة عن إدارة العاملين بالسخرة في الرايخ الثالث؛ وصار الكولونيل هانز كاملر، المنتمي إلى هذه الفرقة، شخصية رئيسية في برنامج صواريخ «في-2». وكانت مؤهلاته رائعة؛ فقد أدى دورا مهما في تدمير الأحياء اليهودية في وارسو، وصار مسئولا فيما بعد عن تصميم المحارق وبنائها في أوشفيتس.
كانت المنشآت التي شيدت تحت الأرض في حاجة إلى توسعات، وشرع سجناء كاملر في أعمال التوسيع باستخدام الفئوس؛ حيث تعرضوا للاختناق من جراء الغبار الذي كان يحتوي على النشادر اللامائية. ولم يكونوا يغتسلون ولم توفر لهم مراحيض، وكانوا يقضون حاجتهم حيث هم واقفون ، ومن ثم كانت تفوح من المكان رائحة نتنة مثل رائحة المصرف الصحي. كان السجناء يعيشون في معسكر اعتقال يسمى دورا، أحد فروع بوخنفالد، وكانوا يتعرضون للضرب ويعانون من سوء التغذية والإجهاد من جراء العمل الزائد، وكانت أمراض الالتهاب الرئوي والتيفود والدسنتاريا والسل منتشرة بينهم، وعلى الرغم من أن معسكر دورا لم يكن معسكر إبادة، كانت فرقة القوات الخاصة تنفذ أحكام إعدام متكررة. وفي البداية، كان الموتى ينقلون إلى بوخنفالد لدفن جثثهم، ولاحقا صار دورا معسكرا صالحا لدفن الموتى، ولاقى نحو عشرين ألف شخص حتفهم هناك. عندما ذهب المسئولون البريطانيون إلى المعسكر في نهاية الحرب، وجدوا نقالات مشبعة تماما بالدم، فضلا عن حفرة كبيرة ممتلئة برفات جثث بشرية.
إلى أي مدى كان فون براون على دراية بتلك الأوضاع ومتى عرف بها؟ كان يعرف الكثير؛ إذ كان يزور هذه المعسكرات على نحو متكرر، وكان أخوه ماجنوس يعمل مديرا في مصنع نوردهاوزن. ومع ذلك، كان فون براون المدير الفني في بينامونده، وهو ما كان يعني أنه يدير عمالة عالية المهارة لم تكن تعتمد على عمال السخرة. وعلى الرغم من معرفته بالفظائع التي كانت ترتكب في نوردهاوزن، فلم يكن مسئولا عنها وتجنب الانخراط الشخصي فيها، وهو ما أعفاه من المسئولية عن جرائم كاملر ضد الإنسانية. وفي عام 1945، لقي كاملر حتفه رميا بالرصاص على يد معاونه، وهو مصير فضله كاملر على خزي الوقوع في الأسر.
انطلقت الصواريخ الأولى من طراز «في-1» في يونيو 1944 مستهدفة لندن، لكن ثبت ضعفها أمام الدفاعات الجوية البريطانية. وبنهاية الصيف، كانت إنجلترا قد استطاعت الحد كثيرا من تهديد تلك الصواريخ. وتباينت هذه النتيجة مع حملة قصف قوات الحلفاء، التي ظلت تكتسب مزيدا من القوة.
كان الصاروخ «في-2» مختلفا؛ فلم تستطع أي دفاعات جوية إسقاطه، لكنه لم يدخل الخدمة إلا في سبتمبر 1944، في وقت كانت الجيوش الأمريكية والبريطانية قد استردت باريس وكانت تقاتل في شراسة للاستيلاء على الراين. نجح الألمان في إطلاق حوالي 3225 صاروخا طراز «في-2» خلال الأشهر العديدة التالية، حيث وجهوا عددا أكبر من الصواريخ نحو أنتويرب مقارنة بما وجهوه نحو لندن. وعلى الرغم من أن الكثير من تلك الصواريخ أخفق في إصابة أهدافه، فإن حمولة المواد المتفجرة الناتجة التي كانت تزن أكثر من 3000 طن تماثل حمولة 1500 قنبلة تقريبا لقاذفة القنابل طراز فلاينج فورترس، وهي الطائرات الحربية التقليدية في مسرح العمليات الأوروبية.
نامعلوم صفحہ