عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
اصناف
على الرغم من ذلك، ظلت الولايات المتحدة الأمريكية بلا منافس في مجال مهم آخر، وهو استكشاف الكواكب. برز مختبر الدفع النفاث باعتباره المركز الرئيسي على مستوى العالم، بينما كان مديره ويليام بكرينج يؤدي دوره في قيادة المركز وإدارته. ولد بكرينج في قرية صيد صغيرة في نيوزلندا، حيث صار من الشخصيات المشهورة محليا من خلال صنع راديو بلوري يلتقط الموسيقى من أستراليا. التحق بالمدرسة الثانوية في العاصمة ولينجتون، ثم في عام 1929 دعاه عم ثري في لوس أنجلوس للقدوم إليها، حيث التحق بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. حصل على دكتوراه في الفيزياء في عام 1936، وكان ضمن دفعته جون بيرس ودين وولدريدج، وظل بها حتى صار أستاذا في الهندسة الكهربية. سرعان ما صار يقضي وقتا متزايدا في مختبر الدفع النفاث الناشئ، حيث أصبح رائدا في مجال القياس عن بعد. كان آخر صف درس له في الجامعة هو صف عام 1950، حيث تولى قيادة مختبر الدفع النفاث بعد ذلك بأربع سنوات.
كان المختبر الذي كان يرأسه آنذاك ينتمي رسميا إلى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، لكنه كان يشبه ترسانات الجيش مثل «ردستون» أو «بيكاتني»، وكان سبب وجوده يتمحور حول الصواريخ الحربية، متمثلة في الصاروخ «كوربورال» وصاروخ الوقود الصلب «سيرجنت» لاحقا، وهو ما كان جزءا من نمط كانت الجامعات الكبرى تفتخر بموجبه بأداء دورها في الحرب الباردة، كالحال عندما برهن كل من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة كاليفورنيا في بيركلي وجامعة شيكاجو على ريادتها في الحرب العالمية الثانية. لكن، عندما تولى بكرينج زمام الأمور في عام 1954، أقنع لي دوبريدج، رئيس معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، بالموافقة على أن يصبح الصاروخ «سيرجنت» آخر صاروخ عسكري كبير لمختبر الدفع النفاث. بدلا من ذلك، وجه بكرينج اهتمامه إلى نظم التوجيه، ثم إلى الفضاء.
اتضحت أولى فرصه المبكرة من خلال فيرنر فون براون، عندما طور مختبر الدفع النفاث نظام توجيه قصوري راديوي لصاروخه «جوبيتر» الباليستي المتوسط المدى. كان فون براون يبني أيضا الصاروخ «جوبيتر-سي» لإجراء اختبارات على المقدمات المخروطية. روج مختبر الدفع النفاث لصواريخ وقود صلب صغيرة في المراحل العليا، فضلا عن نظام تتبع وقياس عن بعد. ثم انطلقت «سبوتنيك» وحصل فون براون على تصريح لاستخدام «جوبيتر-سي» في إطلاق أقمار صناعية. بنى مختبر الدفع النفاث أول هذه الأقمار، «إكسبلورار 1»، فضلا عما تلاها من نماذج مبكرة، مع التوسع في شبكة التتبع. بعد ذلك، أصبح لمختبر الدفع النفاث دور كبير في الفضاء.
كان المختبر لا يزال غير معروف على نطاق كبير. عندما نشرت صحيفة «إجزامينر» في لوس أنجلوس خبرا بعنوان «القمر الصناعي لمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا يدور حول الأرض»، أشارت «نيوزويك» إلى أن «كاليفورنيا وجدت ملاكا محليا». كان من المقرر أن يقدم مختبر الدفع النفاث مزيدا من الإسهامات في ظل دعم فون براون. خصصت وكالة المشروعات البحثية المتقدمة التابعة للبنتاجون القمر لتليسكوب لاسلكي يبلغ ارتفاعه 85 قدما قرب جولدستون دراي ليك في صحراء موهافي، كنواة لشبكة الفضاء السحيق التي كان مقررا أن تتولى تتبع البعثات القمرية والكوكبية في البلاد. عندما حصل فون براون على تصريح لإطلاق مركبتي سبر صغيرتين إلى الفضاء بين الكواكب، تقدم مختبر الدفع النفاث مرة أخرى بصواريخ المراحل العليا، ونظم التتبع، والمركبات الفضائية نفسها. انطلقت ثانيتهم، «بايونير 4»، في مارس 1959، وصارت المركبة الأمريكية الأولى التي تخرج عن نطاق جاذبية الأرض وتدخل في مدار شمسي.
بحلول ذلك الوقت، كان مختبر الدفع النفاث قد خرج من عباءة الجيش ليصبح جزءا من ناسا. قاد بكرينج الجهود في سبيل وضع برنامج طموح للرحلات غير المأهولة إلى القمر، وعطارد، والمريخ؛ وهو ما كان يتفق مع رؤية كبار مديري ناسا أمثال كيث جلينان وآيب سلفرستاين، اللذين كانا قد بدآ في التخطيط بجدية لإرسال بعثات قمرية مأهولة خلال ذلك العام. في أواخر عام 1959، حصل مختبر الدفع النفاث على الموافقة على بناء «رينجر»، وهي سلسلة من المركبات الفضائية القمرية التي كانت ستنطلق على متن الصاروخ «أطلس-أجينا». كان من المقرر أن تحتوي هذه المركبات على ألواح شمسية وهوائي ذي طول موجي قصير متجه باستمرار صوب الأرض، على الرغم من إمكانية اعتماد مركبات السبر القمرية على البطاريات وهوائيات ذات طول موجي كبير؛ والسبب في ذلك أن هذه الخواص كانت أساسية بالنسبة إلى البعثات الكوكبية. ومن اللافت للنظر أن بكرينج كانت له نظرة استشرافية، ودائما ما كان يتطلع إلى الأمام.
لكن، كانت ثقافة المختبر لا تزال منصبة على كونه مركزا للصواريخ الحربية، وكان الفشل في الرحلات التجريبية أمرا مقبولا لأن جولات أخرى ستتوافر لإجراء عمليات إطلاق مستقبلية؛ ونتيجة لذلك، صارت مركبات «رينجر» بمنزلة التدريب الذي تعلم من خلاله مختبر الدفع النفاث كيفية بناء مركبات فضائية ناجحة. انطلقت المهمتان الأوليان خلال عام 1961 لكنهما لم تبرحا المدارات الأرضية المنخفضة؛ إذ لم تتمكن صواريخ المرحلة الثانية في «أجينا» من تشغيل محركاتها الرئيسية. كانت المسئولية تقع على عاتق «لوكهيد» والقوات الجوية، مصممي «أجينا»، بيد أن المشكلات التالية ألقيت بأكملها على أعتاب بكرينج.
انطلقت مركبة «رينجر 3» في يناير 1962. أجبر عطل في نظام التوجيه الرئيسي في «أطلس» طاقم المركبة على الانتقال إلى نظام بديل ذي مستوى دقة أقل، وهو ما كان يعني أن المركبة الفضائية ستصبح على مسافة 20 ألف ميل من القمر. مع ذلك، كانت لا تزال هناك فرصة لتجربة هذه المركبة في الفضاء السحيق، وحقق المراقبون الأرضيون نجاحا فعليا أثناء إجراء تصحيح في منتصف المسار. كانت هذه هي المرة الأولى التي كان أحدهم قد صحح مسارا قمريا بإطلاق صاروخ على متن المركبة. عندما حاول هؤلاء المراقبون ضبط مركبة السبر بحيث تشير إلى القمر وتنقل صورا تليفزيونية، تعطل الكمبيوتر الموجود على متنها؛ مما جعلها معدومة الفائدة.
كانت «رينجر 4»، في أبريل، مدعاة لمزيد من خيبة الأمل. في هذه المرة، انطلق الصاروخ «أطلس-أجينا» على نحو دقيق؛ وهو ما كان سيجعل «رينجر 4» تصل القمر دون إجراء تصحيح في منتصف المسار؛ بيد أن ساعة الكمبيوتر الرئيسية تعطلت؛ مما جعلها غير قادرة على تنفيذ سلسلة عمليات مؤقتة تضمنت نشر الألواح الشمسية والهوائي ذي الطول الموجي القصير الموجودين بالمركبة. لم تستطع المركبة أيضا قبول الأوامر الواردة من الأرض وتنفيذها؛ قال أحد مسئولي ناسا تأسفا: «كل ما نملك مركبة بلهاء ترسل إشارة لاسلكية.» بعدها بثلاثة أيام، بلغت المركبة الجانب المظلم من القمر بثبات تام. كانت أول مركبة أمريكية تبلغ فعليا القمر، بيد أنه في عام 1962 لم يكن هذا وحده كافيا.
أسفرت «رينجر 5»، في أكتوبر، عن النتيجة نفسها تقريبا؛ فبعد مرور ساعة على رحلتها، أدى عطل في الدائرة الكهربية إلى فصل المركبة عن مصدر الطاقة المتمثل في الألواح الشمسية، مخلفا بطارية صغيرة فقط على متنها. مع ذلك، حاول مديرو المشروع إجراء تصحيح في منتصف المسار، كاختبار هندسي. قبل أن تتمكن المركبة الفضائية من تنفيذ المناورات اللازمة، أدى عطل آخر في الدائرة الكهربية إلى القضاء على المركبة برمتها. كان من المقرر أن تلتقط المركبة بعض الصور الجيدة لسطح القمر؛ إذ مرت عبر القمر على مسافة لا تزيد عن 450 ميلا؛ بيد أنها في ذلك الوقت كانت قد توقفت تماما.
كان وقع هذه المحاولات الفاشلة شديدا على المختبر. كان طاقم بكرينج يتألف من مجموعة أشخاص مفرطي الحماس؛ على حد تعبير جيمس فان ألن: «لديهم «روح» رائعة؛ ومن ثم، كان الأمر شبه مهين بالنسبة إليهم. كان الأمر مثل جنود البحرية.» على وجه التحديد، أجروا تغييرات هائلة في مختبر الدفع النفاث، محولين إياه من مركز للصواريخ إلى مختبر مهمته تتمركز حول الإلكترونيات. شملت محاولات «رينجر» الفاشلة مجموعة الدوائر الكهربائية الكاملة على متن المركبة، وهو ما كان أمرا مقلقا للغاية. أصدرت لجنة فحص تقريرا لاذعا، مشيرة إلى أسلوب المختبر باعتباره أسلوب «أطلق ثم تمن».
نامعلوم صفحہ