عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء

محمد سعد طنطاوي d. 1450 AH
184

عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء

عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء

اصناف

دفعت هذه الفرص أيضا أوروبا إلى الاتجاه بقوة نحو الفضاء. لم تكن الدول الأوروبية، التي تحتمي تحت المظلة النووية الأمريكية، بحاجة كبيرة إلى الاستطلاع الاستراتيجي، ولم تكن تستهويها أيضا البعثات المأهولة؛ لكن علوم الفضاء والطقس والاتصالات والأرصاد الأرضية كانت أمورا مختلفة تماما. تضمنت برامج الفضاء الأوروبية الأولى حمولات أوروبية على متن صواريخ تعزيز أمريكية، كان أولها قمر «آريال 1» البريطاني الذي انطلق في أبريل 1962 على متن صاروخ طراز «ثور-دلتا» مزينا بالعلمين الأمريكي والبريطاني؛ بيد أنه لم يمض وقت طويل حتى شرع الأوروبيون في بناء مركبات إطلاق خاصة بهم.

لاحت نقطة انطلاق أولية من أمل بريطانيا، خلال فترة ما بعد الحرب، في الاحتفاظ بدورها الذي دام قرونا كقوة عظمى؛ فطورت هذه الدولة أسلحتها النووية وقاذفاتها النفاثة، ومضت تبني غواصات «بولاريس». بالإضافة إلى ذلك، في عام 1954، شرع أعضاء حزب المحافظين بقيادة السير ونستون تشرشل في العمل على صاروخ باليستي متوسط المدى باسم «بلو ستريك». لكن بحلول عام 1960، صار البرنامج مكلفا للغاية، وتراجع كثيرا عدد الأصوات المؤيدة له. وسط صيحات حزب العمال المعارضة، قرر رئيس الوزراء هارولد ماكميلان إلغاء البرنامج.

لكن، عاد «بلو ستريك» إلى الحياة في يناير 1961 عقب اجتماع بين ماكميلان والرئيس الفرنسي شارل ديجول. كان ديجول مغرما بالشراكات العابرة للقنال الإنجليزي؛ إذ كان سرعان ما سيصدق على التعاون البريطاني الفرنسي الذي كان سيتمخض عن بناء طائرة الكونكورد التي تفوق سرعتها سرعة الصوت. عقب ذلك الاجتماع، أدرك ديجول أن أوروبا تستطيع أن تصبح قوة ثالثة في مجال الفضاء. اتخذ السير بيتر ثورنيكروفت، وزير الطيران البريطاني، مبادرة إنشاء منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية (الإلدو)؛ بعدها بعام، انضمت جميع الدول الكبرى في أوروبا الغربية بهدف بناء صاروخ أوروبا ذي المراحل الثلاث، وتقرر أن يكون الصاروخ «بلو ستريك» البريطاني هو صاروخ المرحلة الأولى، بينما ساهمت فرنسا وألمانيا الغربية بصاروخي المرحلتين الثانية والثالثة على التوالي. كذلك، تولت إيطاليا بناء الأقمار الصناعية الأولى.

مركبة فضائية غير مأهولة: (أ) قمر «تيروس» للأرصاد الجوية، (ب) «لاندسات» للدراسات البيئي، (ج) منظر مقطعي لقمر الاتصالات «إنتلسات 4-بي»، (د) «إنتلسات 5» (دون ديكسون).

في تلك الأثناء، كان عالما الفيزياء، الإيطالي إدواردو أمالدي والفرنسي بيير أوجيه، بصدد اتخاذ مبادرة مشابهة في مجال علوم الفضاء. لعب كلاهما دورا فاعلا في تأسيس المركز الأوروبي للأبحاث النووية (سيرن) في عام 1954، وكانا يسعيان نحو تعاون مماثل في مجال الفضاء. حصلا على دعم كبير من نظير بريطاني لهما، وهو السير هاري ماسي، ثم في فبراير 1960، التقى ممثلون من ثماني دول بصفة غير رسمية في مسكن أوجيه في باريس ، واتفقوا على المضي قدما؛ تمخض ذلك في يونيو عام 1962 عن تأسيس المنظمة الأوروبية لأبحاث الفضاء (إسرو).

بنت المنظمة الأوروبية لأبحاث الفضاء مركزا لتطوير المركبات الفضائية بالقرب من أمستردام ومركز تحكم في دارمشتادت، فضلا عن منطقة صواريخ تجريبية في شمال السويد. لكن، تحملت هذه المنظمة أعباء أكثر من طاقتها الفعلية في مشروعيها الكبيرين الأولين، وهما قمر صناعي فلكي وبعثة إلى أحد المذنبات. تراجع إيقاع العمل في المشروعين خلال فترة الستينيات من القرن العشرين وسط حالة كبيرة من التذمر؛ لأن فرنسا حصلت على حصة غير متكافئة من العقود. انتهى المطاف بأن صار التليسكوب المداري في حاجة ماسة إلى مساعدة ناسا قبل انطلاقه أخيرا في عام 1978 باسم قمر «إكسبلورار» الدولي لدراسة الأشعة فوق البنفسجية. حقق مسبار المذنب نجاحا أقل في البداية. لم يتبلور فعليا حتى عام 1980، عندما ظهر في شكل بعثة جوتو إلى مذنب هالي.

تباطأت أيضا وتيرة العمل في منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية. كان برنامج «أوروبا» التابع لها يهدف إلى بناء صاروخ يمكنه إطلاق حمولة طن إلى مدار طوله 300 ميل، وهو ما كان سيمنحه قوة الصاروخ «ثور-أجينا». استغرق الصاروخ «ثور» عاما فقط للانتقال من مرحلة توقيع العقد إلى مرحلة أن صار صاروخا حقيقيا على منصة الإطلاق، ومنح مشروع «بلو ستريك» برنامج «أوروبا» ميزة مبكرة على منافسيه؛ لكن، لم يكن لبرنامج «أوروبا» شركة متعاقدة مناظرة لشركة «دوجلاس إيركرافت»، لها سلطة الإدارة الكاملة، بل كانت كل دولة مساهمة مسئولة عن جزئها الخاص. على الرغم من ذلك، انطلق «بلو ستريك» بنجاح في الاختبارات، وهو ما منح الناس أملا.

بناء على ذلك، في عام 1966 قررت هيئة تنسيق ممثلة في مؤتمر الفضاء الأوروبي تطوير «أوروبا» ليصير مركبة في وسعها نقل حمولة مائتي كيلوجرام إلى مدار جيوتزامني (أي، متزامن مع الأرض). كانت هذه الإمكانية لا تزال مقتصرة على صواريخ «ثور»، لكن الشيء الوحيد الذي انطلق إلى مدار فضائي كان الميزانية؛ إذ تخطت الميزانية القيمة التقديرية الأولية، وهي 70 مليون جنيه إسترليني، بنسبة 350 في المائة. بداية من عام 1968، أجرت منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية سبع محاولات إطلاق ناجحة، بيد أنها فشلت في إطلاق النماذج المبكرة والحديثة من «أوروبا». فرض صاروخ المرحلة الثالثة صعوبة من نوع خاص؛ حيث إنه تعرض لحوادث خلال محاولات الإطلاق الثلاث، وهي على التوالي: توقفه عن العمل قبل الوقت المحدد، وفشله في التشغيل، وتعرضه لانقطاع كهربائي. على غرار ما حدث مع الصاروخ «إن-1» لموسكو، صبت هذه الحوادث في مصلحة القادة السياسيين الذين كانوا يرغبون في بدء العمل من جديد. في مايو 1973، قرر مديرو منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية إلغاء المشروع.

كان ضعف منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية وعجزها يأتي على النقيض تماما من نجاح فرنسا، التي نفذت برنامجا وطنيا مستقلا؛ انطوى هذا البرنامج على ما هو أكثر مما كان ينشده ديجول من مجد؛ إذ قدم ميزات حقيقية، خاصة في مجال الاتصالات عن بعد. يتحدث المؤرخ والتر ماكدوجال عن صديق شاهد «أبولو 11» أثناء هبوطها على سطح القمر في عام 1969 مع أسرة من المزارعين في جنوب فرنسا. أعلن المذيع التليفزيوني أن الرئيس نيكسون كان على وشك التحدث إلى رواد الفضاء، ونادت سيدة بحماس على الأسرة لمشاهدة الحدث قائلة: «انظروا! سيجري اتصالا هاتفيا بالقمر، ولا نستطيع نحن أن نحصل حتى على خط تليفون للاتصال بباريس!»

كان ديجول، مثل نظرائه البريطانيين، لديه اهتمام قوي بامتلاك قوة ضاربة استراتيجية، وفي عام 1965 بنى أيضا أسلحة نووية وطائرات نفاثة متطورة وغواصات نووية. كذلك، في عام 1965 حمل الصاروخ «ديامو» (أي «الماس») ذو المراحل الثلاث قمرا صناعيا صغيرا إلى مدار فضائي، لتصبح فرنسا بذلك ثالث دولة تدخل عصر الفضاء بمساعدة صاروخ تعزيز من تطويرها. بلغت قوة دفع هذا الصاروخ 62 ألف رطل، وهي قوة متواضعة للغاية في حقيقة الأمر، وهو ما وضع «ديامو» في فئة واحدة مع «جوبيتر-سي»، بل إن الصاروخ «في-2» كان أيضا بنفس القدرة تقريبا. مع ذلك، أوضح «ديامو» أن فرنسا استطاعت أن تنجز ما كان بالنسبة إلى منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية مجرد أمل ترجو تحقيقه.

نامعلوم صفحہ