عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
اصناف
في ظل إطلاق عشر رحلات مأهولة على مدار عشرين شهرا، قدم برنامج «جيميني» كادرا من رواد الفضاء المدربين لمشروع «أبولو»، وجعل تلك البعثات المأهولة روتينا متبعا. فاقت إنجازات البرنامج بلا جدال أفضل البرامج في روسيا، بينما أسفرت عن خبرات عملية ذات قيمة هائلة في مجالات مهمة مثل عمليات الالتقاء، والأنشطة خارج المركبة الفضائية. لم يكن البرنامج مكلفا أيضا؛ إذ بلغت ميزانيته الإجمالية، من بدايته إلى نهايته 1,15 مليار دولار أمريكي. أثبت برنامج «جيميني» أنه برنامج متنوع الاستخدامات ومرن ويمكن التعويل عليه، ولو أن قدرات البرنامج قد تعاملت مع الاحتياجات المستمرة والمتطورة وعملت على تلبيتها، لو أنه كان أكثر من مرحلة تمهيدية لأبولو، لظلت مركبته تستخدم إلى هذا اليوم.
في تلك الأثناء، كانت استعدادات «أبولو» تمضي في طريقها بخطى سريعة. كان أحد محاور الاهتمام الرئيسية مبنى تجهيز الصواريخ الضخم في كيب كانافيرال، وهو مبنى مكعب الشكل بطول 674 قدما، وعرض 513 قدما، وارتفاع 526 قدما. كان من المقرر تصميم جوانب المبنى على شكل ألواح كبيرة يمكنها التصدي لقوة إعصار كاملة؛ لذا ثبت مهندس المبنى، ماكس إربان، إياه في قاعدة صخرية. كما كانت بقية أجزاء المبنى على قدر مماثل من الضخامة.
داخل مبنى تجهيز الصواريخ، كانت طواقم الإطلاق بصدد تجميع الصاروخ «ساتورن 5» فوق منصة تحمل برج دعم بارتفاع 380 قدما. كانت ثمة زحافة، وهي عبارة عن مركبة زنة 3000 طن، تتحرك أسفل المنصة لترفع جسما في حجم ملعب كرة البيسبول فوق سطح منبسط، ثم تبدأ ثمانية جرارات، طول كل منها أربعون قدما وارتفاعها عشرة أقدام، في التحرك محدثة صوتا عاليا، وكانت مجموعة المعدات بأكملها - الزحافة، والمنصة، والبرج، والصاروخ، التي يبلغ وزنها إجمالا 9300 طن - تشق طريقها عبر باب كبير بما يكفي لتمرير مبنى مؤلفا من 45 طابقا. كانت الزلاقة تتجه بعد ذلك نحو منصة إطلاق، على مسافة ثلاثة أميال، وبذلك كانت البعثة تنطلق إلى القمر بسرعة تلك الجرارات، وهي ميل واحد في الساعة.
كان ثمة نشاط أكثر جنوب شرق لوس أنجلوس، حيث كانت شركتا «أمريكان أفياشن» و«دوجلاس إيركرافت» تبنيان المرحلتين الثانية والثالثة من الصاروخ «ساتورن 5». كان يفصل بين مصنعيهما أميال قليلة، في المدينتين المتجاورتين سيل بيتش وهنتنجتون بيتش، وهو ما يسر لقاء مهندسيهما على الغداء، ربما على جسر هنتنجتون، وهو مكان محبب إلى ممارسي رياضة التزلج على الماء. كان عرض صاروخ المرحلة الثالثة، «إس-4 بي»، يبلغ حوالي اثنتين وعشرين قدما؛ وهو ما جعل قطره مساويا لقطر طائرة «بوينج 747». أثار ذلك أسئلة مهمة حول كيفية نقله، الأمر الذي توصلت شركة «دوجلاس» إلى حل له من خلال الاستعانة برجل أعمال محلي، هو جون كونروي.
كان كونروي يمتلك عددا إضافيا من طائرات «ستراتوكروزر»، تعمل باستخدام المكابس ويعود تاريخها إلى أربعينيات القرن العشرين. زود كونروي إحدى الطائرات بجسم عريض ومنتفخ، وأطلق عليها اسم «بريجنانت جابي»، وقدمها إلى ناسا لاستخدامها في نقل صواريخ المراحل الكبيرة. كان كونروي يعتمد على ميزانية محدودة؛ حتى يتسنى له السفر إلى هانتسفيل للإدلاء بعرض تقديمي أمام فون براون. اضطر كونروي إلى اقتراض وقود طائرات من صديق له في أوكلاهوما، لكنه كان مقنعا، وظفر بالعقد الذي كان يسعى إلى الحصول عليه. بالنسبة إلى «إس-4 بي»، ابتكر مركبة «سوبر جابي» الأكثر انتفاخا، التي كانت تبدو مثل منطاد مزود بأجنحة. دشنت شركته «إيرو سبيسلاينز» مجالا جديدا، ألا وهو النقل الجوي للبضائع الكبيرة والضخمة.
كان حجم صاروخ المرحلة الثانية «إس-2» أكبر، حيث بلغ عرضه ثلاثا وثلاثين قدما. شغل الصاروخ - أثناء نقله على شاحنة خاصة - الحارات الأربع بأكملها في شارع سيل بيتش، باعتباره الحمولة الأكثر عرضا. كان ذلك الشارع يفضي إلى ميناء قريب تابع للبحرية؛ حيث وضع الصاروخ على متن سفينة كبيرة تنطلق إلى قناة بنما، في رحلة بحرية تنتهي في منشأة اختبارات المسيسبي. كان صاروخ المرحلة الأولى، الذي بني في ميشو، ينقل أيضا عبر سفينة كبيرة ويصل إلى منشأة اختبارات المسيسيبي بطريقة مشابهة.
كان مركز الاختبارات موجودا وسط منطقة سبخة قذرة مكدسة بأوراق الأشجار، ومشبعة بالرطوبة، وكانت تفوح منها روائح العفونة. كانت التماسيح تجوس في أرجاء المكان، وكانت الشمس تغرب في الغسق على نحو مفاجئ يبعث الخوف في النفوس، مخلفة ظلاما شديدا ومخيفا. أما الآن، فثمة أضواء وسط الظلام، الأضواء المبهرة والساطعة لمنطقة الاختبارات. عندما وضع أحد الصواريخ المرحلية للصاروخ «ساتورن 5» لإطلاقه ليلا، كان لهبه الساطع يلقي بأضواء باهرة عبر الأراضي المحيطة. خلال إطلاقه الذي استغرق دقائق وجيزة، كان ينزع عن الليل حلكته. وفي تلك الأثناء، كان الأمل يراود الجميع في أن تتولد يوما بطريقة أو بأخرى أنوار، أكثر سطوعا وقوة، تنزع الظلال من قلوب الرجال.
شكلت هذه الاستعدادات، بالإضافة إلى نجاح «جيميني»، تحديا لموسكو لم تستطع تجاهله. في حقيقة الأمر، كان الاتحاد السوفييتي يرد على ذلك ببرنامجه للهبوط المأهول على سطح القمر، وكما هي الحال في كثير من أنشطة الفضاء في تلك الدولة، كان البرنامج ينبثق من متطلبات عسكرية، كما كان ينبثق أيضا من جهود رائد جديد في تطوير الصواريخ، وهو فلاديمير تشلومي.
بدأ تشلومي مصمما لصواريخ «كروز» المطلقة من الغواصات، وأحدث انقلابا حقيقيا من خلال توظيف سيرجي خروتشوف، ابن نكيتا، في منصب مهندس نظم توجيه، وهو ما مكنه من الاتصال بأعلى مستوى في الحكومة السوفييتية. كان تشلومي يأمل في الانضمام إلى المشروعات الجديدة في مجال الصواريخ الباليستية العابرة للقارات؛ مما جعله يؤسس لعلاقة مع فالنتين جلشكو، الذي كان قد صمم محركات الصاروخ «آر-7». كان جلشكو يتحول بسرعة إلى استخدام الوقود القابل للتخزين، وكان يستعد لبناء محركات لمرحلتي صاروخ ميخائيل يانجل «آر-16» الجديد. وافق تشلومي، وأبدى ترحيبه باستخدام هذه المحركات في تصميماته.
سنحت الفرصة لخروتشوف في عام 1960، عندما حصل على تصريح بتولي مسئولية مركز تطوير طائرات كبير في فيلي، أحد أحياء موسكو. كان المركز تحت إدارة مصمم الطائرات فلاديمير مياسشتشيف، الذي كان قد بنى طائرات قاذفة نفاثة يكفي مداها لبلوغ الولايات المتحدة، بيد أن خروتشوف بدأ يفقد الاهتمام تدريجيا بالقاذفات، وبدأ يتجه أكثر نحو الاعتماد على الصواريخ الباليستية. لم تلق قاذفات مياسشتشيف استحسانه، ولم يكن يرغب في منح مصمم الطائرات هذا دورا كبيرا في برنامج الصواريخ. على النقيض من ذلك، كان تشلومي يتمتع بحظوة خروتشوف، وكانت لديه خطة طموحة للصواريخ الجديدة، بما في ذلك الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، لحمل رأس حربية زنة ثلاثين ميجا طنا.
نامعلوم صفحہ