عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء

محمد سعد طنطاوي d. 1450 AH
149

عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء

عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء

اصناف

كانت مركبة «جيميني» تطابق في شكلها الخارجي كبسولة «ميركوري»، لكنها كانت أكبر حجما بكثير. كان طاقمها المؤلف من شخصين يجلسان جنبا إلى جنب، ينظران عبر نوافذ مثبتة فيما يشبه كثيرا قمرة إحدى الطائرات المقاتلة النفاثة. كان لكل منهما مقعد قذفي على غرار قائدي الطائرات النفاثة. كانت المركبة تتفوق أيضا على فوسخود من خلال احتوائها على صاروخ ذي قدرة عالية على المناورة؛ كان وزنه الذي يزيد على ثمانية آلاف رطل يمثل ميزة عند مقارنته بالصاروخ «ميركوري» الذي كان وزنه يقل عن ثلاثة آلاف رطل؛ ومن ثم، كان يحتاج إلى قوة دفع إضافية لبلوغ مدار فضائي. لكن، أمكن تعزيز قوة الصاروخ على نحو ملحوظ بإضافة صاروخ مرحلة ثانية جيد، وكان الصاروخ «تايتان 2» يتضمن واحدا من أفضل صواريخ المرحلة الثانية.

انطلقت المركبة في بعثتها المهمة الأولى، «جيميني 4»، في يونيو 1965، وكانت تتضمن برنامجا مستقلا للسير في الفضاء. لم يطف رائد الفضاء إدوارد وايت بحرية في الفراغ بل ظل مربوطا بمركبته باستخدام حبل تزويد، عبارة عن خرطوم مرن يزوده بالأكسجين من خلال اتصاله بالجزء الأوسط المنتفخ من بذلة الضغط. كان يحمل أيضا خرطوم مناورة نفاثا، متصل بخزانين صغيرين يحتويان على غاز مضغوط. بالضغط على زناد معين، كان في إمكانه إطلاق دفعات صغيرة من الغاز وتوليد قوة دفع تتيح له التحرك في أرجاء المكان من حوله. قضى وايت عشرين دقيقة سابحا بحرية، واستمتع بذلك تماما. عندما طلب منه قائد المركبة جيمس مكديفيت العودة إلى المركبة، أجابه وايت مازحا: «ألن تنضم إلي؟» وعندما أصر مكديفيت، قال وايت: «هذه أتعس لحظة في حياتي.»

ظلت المركبة في الفضاء أربعة أيام، مقتربة بذلك من الرقم القياسي الروسي البالغ خمسة أيام. حلقت المركبة التالية، «جيميني 5»، في مدار فضائي في أغسطس وظلت هناك لمدة ثمانية أيام، وهو ما جعل الرقم القياسي في المدة ينتقل إلى الولايات المتحدة، التي ظلت محتفظة به حتى عام 1970. وكان رائدا المركبة، جوردون كوبر وتشارلز كونارد، قد انطلقا إلى الفضاء لسبب معين، وهو إثبات أنهما يستطيعان السفر في الفضاء لمدة كافية حتى يبلغا القمر ثم يعودا. أثبتت الفحوص الطبية تمتعهما بلياقة جيدة، ولخص كبير جراحي البرنامج، تشارلز بري، الوضع قائلا: «أهلنا أشخاصا للسفر إلى القمر.»

ركزت عمليات الإطلاق التالية على عمليات الالتقاء بين المركبات الفضائية في مدار وزمن محددين، وكان صاروخ المرحلة العليا «أجينا» هو الهدف. انطلق هذا الصاروخ في أكثر من 140 رحلة فضائية منذ عام 1959، بيد أن محركه جرى تعديله لاستخدامه في مركبة «جيميني». كنتيجة لذلك، انفجر المحرك عند اشتعاله على ارتفاع، ومن ثم ظل رائدا الفضاء على متن الصاروخ «جيميني 6»، وهما والي شيرا وتوم ستافورد، على الأرض دون أن يذهبا إلى أي مكان. مع ذلك، كان البرنامج يتسم بقدر كبير من المرونة، وسرعان ما أدرك مسئولو ناسا أنهم يستطيعون في غضون أسبوع تقريبا إطلاق مركبة «جيميني 7»، وإعداد «جيميني 6» للانطلاق، ثم إرساله للالتحام بتوءمه. عندما أعلن الرئيس ليندون جونسون أن ناسا ستقوم بذلك، كان الأمر قد قضي بالفعل.

انطلق «جيميني 7» في السماء في ديسمبر 1965، في بعثة استغرقت أربعة عشر يوما، لم تكن التجهيزات الصحية جيدة بما يكفي، وبالنسبة إلى أعضاء الطاقم، فرانك بورمان وجيم لوفيل، كانت التجربة أشبه بالجلوس جنبا إلى جنب في دورة مياه للرجال لأسبوعين، دون أي فرصة للاستحمام. بعد مرور ثمانية أيام على بدء البعثة، جاء دور «جيميني 6». اشتعلت المحركات الرئيسية في الصاروخ «تايتان 2» ثم توقفت عن العمل؛ كان قابس كهربي قد سقط من موضعه في صاروخ التعزيز، واستشعر نظام كشف الأعطال ذلك، فأوقف تشغيل المحركات وألغى عملية الإطلاق.

كان شيرا وستافورد يرقدان على ظهريهما في المركبة الفضائية، أعلى صاروخ مزود عن آخره بالوقود يشبه كثيرا صاروخ المارشال ميتروفان ندلين «آر-16»، الذي كان من الممكن أن ينفجر على نحو مماثل. كان كل منهما يحمل حلقة على شكل حرف

D ، تؤدي عند جذبها إلى إطلاق مقعد قذفي، وما كان أحد ليلومهما إذا هما استخدماها. لكن، كان ثمة كابح إطلاق يثبت صاروخ التعزيز في منصة الإطلاق خلال تلك اللحظة الحرجة، حائلا دون ارتفاعه. لو كان ارتفع ولو قدرا بسيطا، كان سيسقط محطما؛ مما كان سيؤدي إلى فتح خزاناته وسط كرة هائلة من النار. لكن، لم يشعر شيرا، قائد المركبة، بأي حركة ارتفاع لأعلى، وظل محتفظا بهدوئه؛ مما أنقذ البعثة. أبدى طيار الاختبار هذا قدرا من حضور الذهن ورباطة الجأش، فضلا عن معرفته أيضا بأن استخدام المقعد القذفي كان ينطوي على خطر الإصابة البالغة. في لحظة الخطر، اعتلى شيرا متن صاروخه، وهو يدرك أنه لن يستخدم المقعد القذفي إلا إذا كان البديل هو الموت حرقا.

بعدها بثلاثة أيام، وصل «جيميني 6» إلى مداره في هدوء، وتابع رائدا الفضاء على متنه التحليق لإتمام عملية الالتقاء. لم يكن من الممكن تنفيذ هذا الأمر بسهولة عن طريق توجيه مركبتهما نحو الهدف وإطلاق صاروخ؛ إذ كانت آليات الالتقاء أكثر تعقيدا بكثير. لو حاولا تقليص المسافة بين المركبتين بزيادة السرعة، على سبيل المثال، لكانا سيندفعان إلى مدار أعلى وأكثر بطئا وسيتخلفان في حقيقة الأمر. كان الإجراء الذي تعين اتخاذه بدلا من ذلك هو الإبطاء قليلا، بحيث يهبطان إلى مدار أكثر انخفاضا حيث سيحلقان بسرعة أكبر. كانت المناورة أقرب إلى مناورات عالم أليس في بلاد العجائب؛ حيث تزداد السرعة من خلال الإبطاء، بيد أن شيرا وستافورد كان لديهما كمبيوتر على متن مركبتهما مبرمج بالمعادلات التي تتحكم في انطلاق الرحلة في المدار، كذلك كان على متن المركبة نظام رادار بإمكانه تحديد مكان الهدف على مسافة 250 ميلا، وهذا النظام هو الذي حدد مسافة المركبة وحركتها النسبية، مغذيا الكمبيوتر بالبيانات، وهو ما تولى بدوره حساب المناورات اللازمة.

رأى شيرا المركبة الفضائية الأخرى على مسافة ستين ميلا؛ حيث كانت تعكس ضوء الشمس وتبدو مثل نجم ساطع. كانت كلتا المركبتين غارقتين في الظلام مع إجرائه مناورة الاقتراب الأخيرة. كانا على مسافة بضع مئات من الأقدام عندما ظهرت «جيميني 7» مرة أخرى في ضوء الشمس، ونظرا لاعتياد رائدي الفضاء على الظلام، كان الضوء ساطعا للغاية بما يحول دون النظر إليه. بعدها بلحظات جاء صوت ستافورد الهادئ قائلا : «نحن على مسافة 120 قدما وجالسان.» في مركز مراقبة الرحلة في هيوستون، وقف الموجودون وهللوا.

واصلت المركبتان التحليق في تشكيل، مقتربتين بمسافة قدم واحدة، حتى إن طاقم كل مركبة كان يستطيع النظر عبر نوافذ المركبة الأخرى. قبل ذلك بيوم، بعث بورمان بإشارة عبر جهاز اللاسلكي قال فيها: «نقترب من مرحلة الشعور بحكة خفيفة، بدأنا نشعر بقدر من عدم النظافة.» كان كيس بلاستيكي يحتوي على كمية من البول قد انفجر في يده، وتكسر السائل البرتقالي اللون الموجود داخله إلى كريات سابحة في القمرة بينما حاول هو ولوفيل الإمساك بها. مع ذلك، كانت روحهما المعنوية مرتفعة. عندما قال شيرا: «صارت لحيتك كبيرة.» رد بورمان قائلا: «ها نحن نساير الموضة ولو لمرة واحدة.» وعندما حمل خريجا الأكاديمية البحرية شيرا وستافورد لافتة: «سحقا للجيش.» أجاب بورمان، وهو خريج كلية وست بوينت، ببطاقة مكتوب عليها: «سحقا للبحرية.»

نامعلوم صفحہ