الإشادة بالكتاب
شكر وتقدير
مقدمة
1 - أسلحة ووندر ومعسكرات الاعتقال
2 - المبتكرون الأمريكان
3 - السباق إلى أرماجدون
4 - منتصف خمسينيات القرن العشرين
5 - «الروس يحرزون السبق!»
6 - مستقبل الفضاء الواعد في الصعود إلى القمر
7 - ما بعد الظهيرة في شهر مايو
8 - علامة فارقة
9 - حصيلة الرحلات الفضائية إلى القمر
10 - إلكترونات في الفراغ
11 - الفضاء في الثمانينيات
12 - نظرة على مستقبل الفضاء وآفاق التجديد
ملاحظات
مراجع
الإشادة بالكتاب
شكر وتقدير
مقدمة
1 - أسلحة ووندر ومعسكرات الاعتقال
2 - المبتكرون الأمريكان
3 - السباق إلى أرماجدون
4 - منتصف خمسينيات القرن العشرين
5 - «الروس يحرزون السبق!»
6 - مستقبل الفضاء الواعد في الصعود إلى القمر
7 - ما بعد الظهيرة في شهر مايو
8 - علامة فارقة
9 - حصيلة الرحلات الفضائية إلى القمر
10 - إلكترونات في الفراغ
11 - الفضاء في الثمانينيات
12 - نظرة على مستقبل الفضاء وآفاق التجديد
ملاحظات
مراجع
عد تنازلي
عد تنازلي
تاريخ رحلات
الفضاء
تأليف
تي إيه هبنهايمر
ترجمة
محمد سعد طنطاوي
مراجعة
هبة عبد المولى أحمد
برامج الصواريخ والفضاء على مستوى العالم، 1920-1995.
ألمانيا وأوروبا
البرنامج العسكري الأمريكي ووكالة الاستخبارات المركزية
البرنامج المدني الأمريكي ووكالة ناسا
الاتحاد السوفييتي
1920 - -
جودارد، كتيب «أسلوب بلوغ الارتفاعات الشاهقة» -
أوبيرت، كتاب «الصاروخ في عالم الفضاء بين الكواكب»
1925 - -
جودارد، أول صاروخ يعمل بالوقود السائل -
فيلم «امرأة في القمر»
تمويل جوجنهايم
جلشكو، محرك الوقود السائل
1930
نيبل، مطار الصواريخ -
جودارد -
أول صواريخ الوقود السائل
الجيش يدعم فون براون
الجيش الأحمر يمول مجموعة موسكو لدراسة حركة رد الفعل (موسجيرد)
صواريخ الوقود السائل لجورج بندراي
أولى الرحلات التجريبية لصواريخ الوقود السائل
أول صواريخ للجيش
جمعية الصواريخ الأمريكية
1935 - - - -
أولى خطط «إيه-4» بينامونده
فون كارمان، بحوث صواريخ في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا
إعدام توكاشيفسكي
السلاح الجوي يمول معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا
اعتقال كوروليف
1940 - - - -
رحلة «في-2» الأولى
شركة «ريأكشن موتورز» المتحدة «إيروجت»
جاهزية «في-2» للعمل
مختبر الدفع النفاث
1945
هزيمة ألمانيا
بولاي في «نورث أمريكان أفياشن» -
برنامج أوستينوف للصواريخ «في-2» في موقع الاختبارات «وايت ساندز» «في-2» في موقع «كابوستين يار» لإطلاق الصواريخ
اختبارات المحركات في سانتا سوزانا
القنبلة الذرية
1950 -
كيب كانافيرال - -
القنبلة الهيدروجينية
مجلة «كوليرز» المختصة برحلات الفضاء
محرك الصواريخ الباليستية العابرة للقارات لجلشكو
محركات «نافاهو» للصواريخ البايستية العابرة للقارات
ستالين يصادق على الصواريخ الباليستية العابرة للقارات
تقرير لجنة «تي بوت»؛ صاروخ «أطلس»
برنامج «آر-7» لكوروليف
1955 -
برنامج الصواريخ البالستية العابرة للقارات
برنامج «فانجارد»
القنبلة الهيدروجينية
فرنسا وأوروبا
البرنامج العسكري الأمريكي ووكالة الاستخبارات المركزية
البرنامج المدني الأمريكي ووكالة ناسا
الاتحاد السوفييتي وروسيا
1955 -
برامج «ثور» و«تايتان» و«جوبيتر» و«دبليو إس-117إل»، و«بولاريس» - -
برامج «مينتمان» و«كورونا»
ناسا تنظم أول برامج «أبولو»
أول صاروخ باليستي عابر للقارات؛ أولى مركبات «سبوتنيك»
إطلاق «لونا 3» إلى الجانب المظلم من القمر
1960 -
أقمار «ديسكفرر» الصناعية دحض مسألة «الفجوة الصاروخية»
أقمار «تيروس» و«إكو» الصناعية
كارثة ندلن
تشكيل منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية (الإلدو) والمنظمة الأوروبية لأبحاث الفضاء (إرسو)
أزمة الصواريخ الكوبية أول رحلة للقمر الصناعي «جامبت» لرصد صور عن قرب
كينيدي يتعهد بالصعود إلى القمر
يوري جاجرين يحلق في مدار فضائي
رحلات مشروع «ميركوري»، قمر «تلستار» الصناعي
فالنتينا تريشكوفا
تأثير مركبة «رينجر» القمرية
أول مركبة تحمل على متنها ثلاثة من رواد الفضاء
1965
فرنسا تطلق قمرا صناعيا
أولى رحلات «تايتان 3»
رحلات «جيميني» التي تحمل على متنها رائدي فضاء، القمر الصناعي «بيج بيرد»
أول عملية سير فضائي؛ أول رحلات «بروتون»
ثلاثة يلقون حتفهم على إثر حريق في مركبة «أبولو»
كوماروف يلقى حتفه في «سويوز 1»
مركز إطلاق بلدة كوروا في جويانا الفرنسية
أولى رحلات «ساتورن 5»
بعثات «زوند» إلى القمر
رواد فضاء يهبطون على القمر
انفجار صاروخ «إن-1» القمري
1970 -
إلغاء المختبر المداري المأهول
نظام إنتلسات يصبح عالميا «مارينر 9» يدور في مدار فضائي حول المريخ -
أولى رحلات «كيه إتش-9» (بيج بيرد)
نيكسون يوافق على المكوك الفضائي
عملية الإطلاق الأخيرة لصاروخ «إن-1»
محطة «سكايبلاب» الفضائية
محطة «ساليوت 3» العسكرية
1975
وكالة الفضاء الأوروبية؛ برنامج «آريان» - -
مركبة «ساليوت 4» المدنية
أولى رحلات «كيه إتش-11»
مركبة «فايكنج» تهبط على سطح المريخ
مركبات السبر «فوياجر» تصل المشتري وزحل
مركبة «ساليوت 6» لرحلات الفضاء الطويلة المدى
1980
أولى رحلات «آريان» - - -
أولى رحلات المكوك الفضائي
ريجان يوافق على المحطة الفضائية
1985 -
القوات الجوية تصدر أوامرها لبناء «تايتان 4» - -
كارثة «تشالنجر»
مركبة «مير» الفضائية المأهولة بصفة دائمة
القوات الجوية تصدر أوامرها ببناء الصاروخين «دلتا» و«أطلس»
رحلة «إنرجيا»
رحلة «بوران»
1990 «آريان» تهيمن على السوق التجارية - «ماجلان» تدور حول فينوس -
اتفاقية بوش ويلتسن
سقوط الشيوعية
جاهزية نظام تحديد المواقع العالمي للعمل
اتفاق جور وتشيرنوميردين حول محطة فضائية مشتركة «لوكهيد» تسوق صاروخ «بروتون»
1995 - - -
محركات روسية لصاروخ «أطلس»
إلى فيليس لافييتز، أم أطفالي
الإشادة بالكتاب
أفضل وأحدث وأشمل تأريخ مكتوب عن رحلات الفضاء.
دورية «التايمز» (لندن)
وصف واضح وشائق لتطور أنشطة الفضاء في الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ... وفيه أفضل ما يمكن أن تصادفه عن الفضاء في مجلد واحد.
مجلة «ساينتفك أمريكان»
كتاب «عد تنازلي» هو أفضل سرد تاريخي لرحلات الفضاء قرأته على الإطلاق؛ فهو كتاب مفصل ومكتوب بأسلوب واضح يناسب القارئ العادي، ومليء بالقصص المشوقة.
أدريان بيري، «ديلي تليجراف»
في هذا السرد السلس، يقدم الكاتب العلمي هبنهايمر نبذة تاريخية ملائمة وفي حينها للمبتكرين الأوائل والمهندسين، مع استعراض القوى الجغرافية السياسية التي كانت سببا في صعود الإنسان إلى القمر، ونشأة صناعة الفضاء الجوي الموجودة حاليا ... إنه تحليل عميق نوصي بشدة بقراءته واقتنائه.
لايبراري جورنال
أهم سرد قرأته لمغامرات الفضاء، بل وأكثرها حنكة من الناحية الفنية ... وفيه يركز هبنهايمر بدقة وثبات واضحين على العناصر الأساسية، سواء الفنية أو الإدارية، لبرامج الفضاء الأولى التي قام بها الإنسان.
لي آتوود رئيس شركة «نورث أمريكان أفياشن» ورئيس مجلس إدارتها سابقا
بمهارة الفنان الحاذق، يجمع هبنهايمر بين العوامل الاجتماعية والسياسية والعلمية والفنية والعسكرية والاقتصادية التي أثرت في تاريخ رحلات الفضاء وكأنها خيوط يغزلها ليكون منها نسيجا واحدا تتجلى فيه نقوش وتفاصيل رائعة.
بابلشرز ويكلي
شكر وتقدير
يأتي المؤرخ بيتر جورين على رأس الأشخاص الذين قدموا لي العون لتأليف هذا الكتاب؛ فقد أرشدني إلى المادة المصدرية، وأعد تراجم من اللغة الروسية، وشارك معي بسخاء معرفته الهائلة ببرامج الفضاء السوفييتية والروسية، وقرأ مسودات المخطوطة الكتابية لهذا الكتاب بعناية، مدونا ملاحظات بالأخطاء. ويجدر بي أن أذكر في إشارة مماثلة المؤرخ عاصف صديقي؛ حيث راجع هو أيضا مخطوطة الكتاب وأرسل إلي مادته الخاصة. وبالإضافة إلى ذلك، راجع ثيودور روكويل - وهو اختصاصي في مجال القوة النووية البحرية ومؤلف كتاب «تأثير ريك أوفر» - أجزاء من الفصل السابع. وشاركني اختصاصي آخر، هو جيمس هارفورد، مخطوطة كتابه القادم «كوروليف».
ثمة آخرون أعطوني كتبا وأوراقا بحثية، بعضها غير منشور، وهم: إفجينيا ألباتس، وجيه ليلاند آتوود، وأنيتا جيل، وألكسندر جرشتاين، وجون لوجزدون، وجون آر مور، وديل مايرز، وجيم أوبرج، ومارسيا سميث، وجورج ستون، وتشارلز فيك. وتلقيت دعما مماثلا من أمناء محفوظات من أمثال لي ساجسير من وكالة ناسا، ومايكل بيكر ونانسي ستلسون من «ردستون آرسنال»، وآن وارين من وكالة الاستخبارات المركزية.
كذلك أرسل إلي مسئولو العلاقات العامة في شركات عديدة مواد والتقوا بي في لقاءات شخصية؛ وأخص بالذكر هنا جويس لنكولن - وقد تقاعدت الآن من «روكيت داين» - لمساعدتها الطيبة على مدى عدة سنوات. وممن قدموا لي العون أيضا ميشيل لايل من «آريان سبيس»، وإيفلين سميث من «ماكدونل دوجلاس»، ومونتي ميل ودان ماكلين من «تي آر دبليو».
ساهم آخرون في الإخراج الفني والصور، وهم: دون ديكسون وهو زميل منذ أمد طويل، وكريستين كاسك من متحف الطيران والفضاء الوطني، وهيو مورجان من متحف القوات الجوية، ودان جوتييه، وتشارلز فيك. وبالنسبة إلى العمل التحريري والإنتاج، فإنني أخص بالذكر هنا روبرت تابيان وهو وكيل أدبي، وهانا لين وجون كوك وهما محرران في «جون وايلي»، وفيليس لافييتز سكرتيرتي.
هذا الكتاب نتاج عقود عديدة من الاهتمام الشخصي، واستقيت مادته من مقالات كتبتها لمجلات عديدة. ويسرني أن أتوجه بالشكر هنا إلى المحررين الذين شرفت بالعمل معهم في هذا الكتاب، وهم: جورج لارسون، وليندا شاينر، ودايان تديشي من مجلة «إير آند سبيس»، وريتشارد سنو وفرد ألين من «أمريكان هريتيدج»، وسكوت ديجارمو من «ساينس دايجست».
بينما كنت أجري أبحاثا لكتابة تلك المقالات، فضلا عن هذا الكتاب، أبدى عدد من الأشخاص قدرا كبيرا من الكرم وسماحة الخلق بإجراء مقابلات معي:
القوات الجوية:
الكولونيل إدوارد هول، جاك نيوفلد ، الجنرال برنارد شريفر، تشارلز ترهون.
دوجلاس إيركرافت:
سي جيه دورنباكر، جيم جنكل، بوب جونسون.
مختبر الدفع النفاث:
آل هيبس، دان شنايردمان.
لوكهيد:
ماكس هانتر، بن ريتش.
معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا:
ريتشارد باتين، هال لانينج.
نورث أمريكان أفياشن:
جيه ليلاند آتوود، سكوت كروسفيلد، جون آر مور، ديل مايرز، إد ردينج، هاريسون ستورمز.
وكالة ناسا:
جوزيف ألن، ماكس فاجت، روبرت فرايتاج، هانز مارك، جسكو فون بوتكامر، ديفيد سكوت.
ريأكشن موتورز:
بوب هولدر، بيتر بالن، بوب سيمان.
ردستون آرسنال:
كونراد داننبرج، كارل هيمبورج، المقدم لي جيمس، ويليام لوكاس، إرنست شتولينر، الجنرال جون زردت.
روكيت داين:
ديفيد ألدريتش، جيم برودستون، بول كاستنهولتس، توم ديكسون، بيل إزيل، سام هوفمان، دوم سانشيني.
تي آر دبليو:
ريتشارد بوتن، ألين دونوفان، جورج جلجهورن، فرانك ليهان، روبن متلر، جورج مولر، جورج سولومون، دولف ثيل.
موظفون في البيت الأبيض:
جورج كيوورث، جيم مونسي، دوج بويت، فيكتور ريس، الكولونيل جلبرت راي.
آخرون:
هارولد أجنيو، أوجين بولاي، السيدة جين بولاي، ولف دميش، فيليب كلاس، الأدميرال كنيرد ماكي، جوناثان ماكدويل، جون بايك، روبرت ترواكس.
أتوجه بالشكر أيضا إلى أصدقائي القدامى، وأخص بالذكر منهم دون ديكسون وأنيتا جيل وجيم أوبرج وديف روس؛ لما قدموه لي من مناقشات مفيدة ووافية.
تي إيه هبنهايمر
فاونتن فالي، كاليفورنيا
18 سبتمبر 1996
مقدمة
وسط أراضي المد المسطحة جنوب شرق هيوستن، في مركز جونسون للفضاء التابع للإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا)، يرى المرء مشهدا مؤثرا وحزينا؛ صاروخا قمريا كاملا، موضوعا على جانبه للعرض. إنه ليس نموذجا مبسطا أو نسخة طبق الأصل من صاروخ حقيقي. كان فيما مضى قادرا على الطيران، بخمسة محركات مرحلة أولى يبلغ طول كل منها تسع عشرة قدما، ومرحلة ثانية ممتدة قد تصل إلى مدار فضائي، ومرحلة ثالثة جاهزة لحمل بعثة إلى القمر. وفي الوقت الحالي، هو مأوى للبوم.
في متحف الطيران والفضاء الوطني بمدينة واشنطن العاصمة، يرى المرء معلما مشابها؛ إنه «سكاي لاب 2»، وهو نموذج طبق الأصل من محطة فضائية كاملة كانت قد بلغت مدارا فضائيا بينما كانت تحمل على متنها تسعة من رواد الفضاء خلال عامي 1973 و1974. علاوة على ذلك، لم تكن هذه المحطة الفضائية نموذجا مبسطا للتدريس، لكن ناسا لم تجد سببا لتبرير إطلاقها. وكان من الممكن أن تحلق من أعلى الصاروخ نفسه الرابض في هيوستن كقطعة من ديكور الحدائق؛ لكن، بدلا من ذلك، تبرعت بها ناسا لمتحف سميثونيان، وحاليا يتجول الأطفال داخلها.
لماذا آلت الأمور إلى ما آلت إليه؟ لماذا أولا سافرنا إلى القمر؟ لماذا أنشأت ناسا تلك المعدات الرائعة، ثم تركتها فريسة الإهمال؟ يتناول الكتاب هذه القضايا ثم يمضي إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فيقدم نظرة عامة على السمات الأساسية لأهم برامج الفضاء الأخرى في العالم، بما في ذلك برامج الفضاء في الاتحاد السوفييتي وأوروبا ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.
إنه لوقت ملائم لإلقاء نظرة عامة كتلك؛ إذ إن نهاية الحرب الباردة وانفتاح روسيا يقدمان حاليا قدرا هائلا من المعلومات الجديدة لمؤرخي الطيران والفضاء. وتتيح لنا هذه المعلومات تقديم وكالة الاستخبارات المركزية بوصفها قائدا تولى إدارة برنامج الفضاء الأمريكي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمرء الآن مناقشة الأنشطة السوفييتية على الأساس نفسه الذي نوقشت به أنشطة ناسا، وبالدرجة نفسها من الشمولية.
يتناول هذا الكتاب ازدهار برنامج الفضاء السوفييتي من خلال تتبع تجارب مؤسسه وقائده، سيرجي كوروليف، وهو لا يتمتع بشهرة واسعة في الولايات المتحدة؛ ففي وقت ما يرجع إلى عام 1979، اكتفى توم ولف في كتابه «مقومات أساسية»، بالإشارة إلى كوروليف بأنه «كبير المصممين» فحسب؛ لكن كوروليف يقف جنبا إلى جنب مع فيرنر فون براون في مصاف رواد الفضاء الذين لهم باع كبير في هذا المجال. لم يقتصر دور كوروليف على وضع البرنامج الفضائي الوطني لبلاده؛ إذ عندما وافق الرئيس كينيدي على برنامج «أبولو»، الذي كان يهدف إلى إنزال رواد فضاء على سطح القمر، لم تكن تلك الموافقة من جانبه إلا ردا على تحدي كوروليف.
يفتح الكتاب آفاقا جديدة من خلال التركيز على أهمية الاستطلاع عبر الأقمار الصناعية. ركزت باكورة مشروعات الفضاء الفعلية في أمريكا على هذا الهدف منذ عام 1955، وحصلت هذه المشروعات على أولوية فائقة. وضع مشروع القمر الصناعي المدني المبكر «فانجارد» في مرتبة أدنى لخدمة مصالح القوات الجوية ووكالة الاستخبارات الأمريكية، ونظرا لانخفاض أولوية مشروع «فانجارد»، أتيحت الفرصة لموسكو كي تصير الأولى في مجال الفضاء.
لكن الأولوية المرتفعة التي منحت لأقمار الاستطلاع الصناعية آتت ثمارها في وقت مبكر يرجع إلى عام 1961؛ حيث قدمت فكرة واضحة عن برنامج الصواريخ الروسي. ونظرا لأن إطلاق هذه المركبات الفضائية كان يتطلب صواريخ فعالة، فقد سرع ذلك من وتيرة تطوير أمريكا لصواريخ إطلاق المركبات الفضائية منذ خمسينيات القرن العشرين وحتى الوقت الحاضر. وفي الاتحاد السوفييتي، أسفر برنامج مبكر لأقمار الاستطلاع الصناعية عن صنع مركبة «فوستوك» الفضائية، التي حملت يوري جاجارين إلى مدار فضائي ليصبح أول إنسان يتمكن من السفر إلى الفضاء.
يعرض هذا الكتاب أيضا الجهد السوفييتي المبذول في برنامج رحلات الفضاء المأهولة إلى سطح القمر، الذي يضاهي الجهد الأمريكي المبذول في برنامج «أبولو». ويعرف الكثيرون الآن أن هذا السباق جاء نتاج خطة ماكرة أعدها رئيس الوزراء نيكيتا خروتشوف، مرر من خلالها موارده المحدودة إلى مجال الرحلات الفضائية المحدود، آملا في أن يوهم بوجود قدرة فنية عظيمة. ونرى من جانبنا أن هذه الخطة كادت تنجح؛ إذ كان الروس على وشك إنزال الهزيمة بالأمريكيين في سباق السفر إلى القمر، وأرسل السوفييت بعثة ناجحة إلى القمر عام 1968، ولم يكن ينقصهم إلا إرسال رواد فضاء، واقتضى الأمر أن تكثف ناسا جهودها في اللحظات الأخيرة حتى تفوز في هذا السباق.
يتخذ هذا الكتاب منظورا تاريخيا أيضا؛ ففي الإجابة عن سؤال «لماذا سافرنا إلى القمر؟» لا ينظر الكتاب إلى مشروع «أبولو» باعتباره دافعا نحو مستقبل جديد للإنسانية، لكن باعتباره علامة بارزة في حقبة تاريخية معينة؛ فقد شهدت هذه الحقبة نشاطا فيدراليا موسعا؛ إذ كنا بصدد إعلان الحرب على الفقر، وإجراء تغييرات اجتماعية شاملة. وجدير بالذكر أن ذلك العصر كان ينظر إلى واشنطن باعتبارها مصدر أكثر التقنيات الجديدة الواعدة، وخلال ستينيات القرن العشرين ، شملت هذه التقنيات الطرق السريعة بين الولايات، والطائرات النفاثة، ومحطات الطاقة النووية.
لكن كان ثمة جانب أكثر إظلاما في التزام كينيدي؛ إذ تحمل حزبه الديمقراطي عبء تولي السلطة عندما سقطت الصين في يد الشيوعيين عام 1949، وكان يعلم أن تكبد المزيد من الخسائر في العالم الثالث أمر غير مقبول، ورأى في الرحلات الفضائية السوفييتية دعاية قوية ربما تستميل الأنظمة المرتعشة وتحملها على تغيير موقفها؛ ومن ثم، استند «أبولو» إلى أساس منطقي رئيسي، وهو استخدامه كدعاية مضادة ربما تثني قادة العالم الثالث عن التطلع إلى موسكو. وكان ثمة أساس منطقي مشابه يكمن في حرب فيتنام؛ لذا، فلا عجب في أن التزامي أمريكا، تجاه فيتنام و«أبولو»، تناميا وتلاشيا معا.
ثمة موضوع رئيسي آخر يظهر الأهمية المتزايدة للإلكترونيات؛ يسمح نظام الدوائر الإلكترونية الحديثة ببناء مركبة فضائية فائقة القدرة، حتى إن عددا محدودا منها يكفي لتقديم خدمات كاملة على مستوى العالم في عدد من المجالات المهمة، مثل: الاتصالات، وتليفزيونات الكابل، ورصد الأحوال الجوية، والملاحة، ومراقبة الملاحة الجوية. كما حققت الإلكترونيات أيضا الأمل القديم في استكشاف الكواكب.
في المقابل، واصلت ناسا التركيز على الرحلات المأهولة؛ إذ يرى هذا الكتاب أنه بينما كان قادة ناسا ينظرون إلى الوكالة باعتبارها وكالة فائقة التكنولوجيا، كانت الوكالة تهدف من هذا الأمر إلى خدمة أهداف ترجع إلى وقت مبكر كثيرا، وينطبق هذا الأمر تحديدا على موضوع المحطات الفضائية.
نشأ مفهوم المحطة المدارية هذه في عام 1923، ثم جرى تطويره بالتفصيل بحلول عام 1929، في عصر لم يكن يتوافر فيه من الأجهزة الإلكترونية الحقيقية سوى الراديو. واقترح هذا المفهوم أن يناط برواد الفضاء تنفيذ مجموعة من الأنشطة المفيدة في الفضاء، مثل: تشغيل لوحات التحكم الهاتفية، ومراقبة القواعد العسكرية، ورصد أنماط الطقس. وكان من المنطقي بعد ذلك الجزم بضرورة أن يعيش كل هؤلاء الأشخاص في مركبة فضائية واحدة، وهي محطة مدارية توفر لهم سبل الراحة.
بيد أنه في تاريخ مبكر يعود إلى خمسينيات القرن العشرين، كان من الواضح أن هذه المهام ستتولاها المركبات الفضائية غير المأهولة من خلال الإلكترونيات. لكن مفهوم المحطة الفضائية ربما يكون مضللا؛ فالمرء يذكر العجلة الدوارة الهائلة في فيلم ستانلي كوبرك «2001: ملحمة الفضاء». ومع ذلك، لم يجد مؤيدو المحطة الفضائية ما يدعمها كثيرا، وهو ما يثير أسئلة مهمة حول ما إذا كانت ناسا تعيد اختراع الماضي وتسميه المستقبل؛ حيث سعت ناسا منذ عام 1984 إلى تطوير محطة فضائية باعتبار أن ذلك هو مشروعها الكبير القادم.
يرى هذا الكتاب أن المحطات المدارية تنطوي على عوار كبير؛ إذ إن تكلفتها تفوق كثيرا تكلفة الخدمات التي يمكن أن تقدمها. وينطبق هذا الانتقاد على المكوك الفضائي أيضا؛ ومن ثم، لا يمكن توقع أن الرحلات المأهولة ستعقب المركبات الفضائية غير المأهولة في الدخول إلى المجال التجاري، حيث يلتفت المشترون المحتملون إلى البعثات الفضائية لأنها تحقق عوائد قيمة. وبدلا من ذلك، ستظل المحطة الفضائية والمكوك الفضائي مسلاة للحكومات، يسعى إليها لتحقيق ميزة سياسية.
لكن، ربما تتداعى هذه الميزة أمام توجه حديث مهم، تندمج فيه برامج الفضاء الأمريكية والروسية في مشروع عالمي واحد. وبالفعل، تروج شركة «لوكهيد مارتن» لمركبة إطلاق روسية، تسمى «بروتون»، بينما تحتوي نسخة جديدة من صاروخها «أطلس» على محركات روسية. بالإضافة إلى ذلك، تسعى الدولتان إلى إقامة محطة فضائية كمشروع مشترك، وهو مشروع قد يضخم من حقيقة أساسية في عصرنا، وهي أن الحرب الباردة أفسحت المجال لعصر جديد من التعاون الدولي؛ ويعمل هذا التوجه حاليا على إحياء الأمل في إمكانية أن يكون القرن القادم حقا قرنا يسوده السلام.
الفصل الأول
أسلحة ووندر ومعسكرات الاعتقال
علم الصواريخ في عصر ستالين وهتلر
كان الوقت ظهرا في أحد أيام الخريف الصافية، في أوائل شهر أكتوبر من عام 1942 المعروف بعام الحرب. في بينامونده، وهو مركز صواريخ على ساحل بحر البلطيق في ألمانيا، وقف صاروخ جاهزا للإطلاق، بدا أشبه بمركبة فضائية تقليدية؛ كان رفيعا وطويلا وهيكله مستدق الطرف، ومثبتة في ذيله زعانف أنيقة. وكان يحيط بخزان الأكسجين السائل فيه شريط من الصقيع الأبيض، مخفيا على نحو جزئي النقوش البارزة المطلية بالأبيض والأسود التي تقسم سطح الصاروخ إلى أرباع دائرة، وتمر كابلات كهربية من قطب مجاور إلى مقبس قرب مقدمته. وباستثناء ذلك، كان الصاروخ يقف وحيدا في العراء.
فجأة برزت سحابة من فوهته، يلفها شرر من جهاز إشعال، وسرعان ما تحول الشرر إلى لهب، ثم إلى عادم أصفر مائل إلى الحمرة، وتجمع الدخان قرب قاعدة الصاروخ. انفصلت الكابلات وسقطت إلى أسفل، وحال لون اللهب سريعا إلى الأبيض المائل إلى الصفرة، وبدا نظيفا في مظهره، يضاهي الشمس في لونه وشدته. ومع سطوع الشمس، ارتفع الصاروخ وسرعان ما زاد من سرعته وتحليقه إلى أعلى.
كان إرنست شتولينر، وهو اختصاصي في توجيه الصواريخ، يتابع عمليات الإطلاق هذه على مسافة قريبة تصل إلى خمسمائة قدم، ويتذكر تلك العمليات قائلا: «كنا نشعر بحرارة الصاروخ على وجوهنا بمجرد تصاعد اللهب، وكان الصوت مدويا، ولم نكن نسمع بآذاننا فقط بل نستشعر الأمر بكامل أجسامنا وحواسنا كما لو أن الجلد كله طبلة أذن تهتز. وارتفع الصاروخ في سلاسة تامة، وتحرك كما لو أن شيئا لم يكن موجودا على الأرض. وتزايدت سرعة الصاروخ، بينما تطاولت ألسنة اللهب، وشق الصاروخ طريقه إلى أعلى في خط مستقيم، ثم بدأ يميل في سلاسة بالغة، وانطلق أعلى بحر البلطيق، كما لو لم تسبق ذلك أية حركة أخرى.»
1
ثم جاءت لحظة حرجة عندما انطلق الصاروخ بسرعة الصوت. لم تضطرب حركة الصاروخ بل واصل الانطلاق بدقة. وفجأة، وقعت الصدمة! تكون خط أبيض طويل خلف الصاروخ، وبدا شديد الوضوح على خلفية السماء الزرقاء. لم يكن هذا انفجارا، بل ذيلا من الدخان، تكون على نحو طبيعي نظرا لتكثف العادم في طبقات الهواء العليا الباردة. وضربت رياح عاتية، انتشرت على ارتفاع هائل، الذيل سريعا فبددته في صورة خط متعرج.
بعد دقيقة واحدة من الإطلاق، ظهرت خلال النظارات المكبرة نقطة حمراء صغيرة في مقدمة الصاروخ - الذي كان قد بلغ حينئذ مسافة عشرين ميلا تقريبا - حيث ارتفعت درجة حرارة مقدمته من جراء احتكاكه بالغلاف الجوي، وأرسلت أجهزة التحكم الأرضية إشارة توقف ، واختفت ألسنة اللهب، واختفى كذلك ذيل الدخان. وكانت ثمة نقطة براقة لامعة لا تزال تظهر عند ذيل الصاروخ، حيث واصلت فوهته السطوع من جراء الحرارة البيضاء.
كان فالتر دورنبرجر، مدير المشروع، يراقب المشهد مع الكولونيل ليو زانسن، مدير مركز بينامونده، وكتب دورنبرجر لاحقا يقول: «تركت نظارتي المكبرة آخذا نفسا عميقا. كان قلبي يدق بشدة. بكيت فرحا، ولم أستطع التفوه بكلمة لبرهة من الوقت؛ إذ كانت تنتابني مشاعر جياشة. والتفت إلى الكولونيل زانسن لأراه يمر بالحالة نفسها؛ كانت عيناه مغرورقتين، ومد يديه إلي مصافحا، فتلقيتهما في حرارة. ثم غمرتنا مشاعرنا بسرعة، فإذا بنا نصيح فرحا، ثم يحتضن كل منا الآخر كالصبية حين يعتريهم حماس عارم.»
في وقت لاحق من ذلك اليوم، ألقى دورنبرجر خطابا قصيرا على بعض زملائه، قال فيه: «نحن أول من يطلق صاروخا بسرعة 3300 ميل في الساعة؛ ومن ثم، فقد أثبتنا أنه من الممكن تماما بناء صواريخ أو مركبات موجهة تفوق سرعتها سرعة الصوت، ونجحنا في ذلك من خلال نظم التحكم الآلي، ووصل الصاروخ الذي أطلقناه اليوم إلى ارتفاع 60 ميلا تقريبا.
غزونا الفضاء بصاروخنا؛ وبرهنا بذلك على أن الدفع الصاروخي إجراء عملي في رحلات الفضاء. وما دامت الحرب مستمرة، فليس أمامنا مهمة أكثر إلحاحا من الإسراع بتطوير الصاروخ كسلاح، في حين ستكون مهمتنا في أوقات السلم هي تطوير الإمكانات الفائقة لهذا السلاح التي لا نستطيع تصورها بعد، وسيكون أول شيء نقوم به إذن هو أن نعثر على وسائل آمنة للإرساء بعد الرحلة عبر الفضاء.»
2
في عملية الإطلاق الأولى، كان ثمة عدد من الأشخاص الذين قادوا هذه التطويرات، منهم من كانوا حضورا، ومنهم من كانوا مشاركين إلى حد كبير في المشروع، وكان من بين هؤلاء مدير دورنبرجر الفني، فيرنر فون براون. ولم يكن سيرجي كوروليف - الشخص الذي كان بيده أن يحدد وتيرة بحث تلك الاحتمالات - موجودا في أي مكان في ألمانيا، بل كان يعمل على مسافة 1500 ميل شرق موقع الإطلاق، وكان سجينا لدى المفوضية الشعبية للشئون الداخلية؛ الشرطة السرية في عهد ستالين .
بالنسبة إلى كوروليف، وكذلك دورنبرجر وفون براون، كان ثمة أصل مشترك في هذه المسارات التي أدت إلى مواقفهم تلك، يعود إلى أعمال مدرس الرياضيات هيرمان أوبيرت الذي كان يتحدث الألمانية. درس أوبيرت في ميونخ وهايدلبرج، ثم عاد إلى مسقط رأسه في رومانيا، حيث عاش بين مجموعة من الألمان المغتربين، واشتغل بتدريس الرياضيات في المدرسة الثانوية المحلية؛ وبعد الحرب العالمية الأولى، أصبح شديد الشغف بالصواريخ.
كان الناس يصنعون الصواريخ منذ اختراع البارود، قبل سبعمائة عام تقريبا، واستخدم أفضلها في حروب القرن التاسع عشر، حيث قدمت صورة «وهج الصواريخ الأحمر» التي ألهمت فرانسيس سكوت كي فيما بعد ليكتب النشيد الوطني الأمريكي الذي تضمن تلك العبارة نفسها. ومع ذلك، أفضت التطورات اللاحقة في المدفعية ذات القدرة الفائقة إلى تضاؤل الاهتمام بالصواريخ. وكانت نقطة البداية التي انطلق منها أوبيرت تتمثل في مبدأ بسيط وقوي، وهو: عن طريق حرق مصادر الوقود الحديثة، مثل الجازولين والأكسجين السائل، قد يتفوق أداء أي صاروخ على أداء الصواريخ التي تعمل باستخدام البارود. وتأكيدا لذلك، قدم أوبيرت توصيات تتعلق باختيارات محددة للوقود، وقاس أداءها، وقدم اقتراحات لتصميم المركبة الصاروخية التي يمكن أن تستخدم تلك الأنواع من الوقود.
ثم مضى أبعد من ذلك، مشيرا إلى أن تطبيق هذا الأسلوب سيجعل الرحلات الفضائية المأهولة أمرا ممكنا. وفي استشراف منه لما سيحدث بعد ذلك بأربعين عاما، أشار إلى أن صاروخ وقود سائل زنة 400 طن متري يمكنه نقل رائدي فضاء إلى مدار فضائي. تأثر أوبيرت بأفكار كاتب الخيال العلمي كورد لاسفيتس، فأشار إلى أن رحلات الفضاء هذه قد تؤدي إلى بناء محطة مدارية، وهو ما قد يخدم أغراض الأرصاد على ارتفاعات شاهقة واتصالات الأقمار الصناعية؛ وربما تمثل أيضا هذه المحطات قاعدة للصواريخ الأخرى، التي قد تنطلق إلى الكواكب. وكلمسة أخيرة، اقترح أوبيرت بناء عاكسات شمسية عملاقة، من أجل «الحفاظ على الطريق البحري، المؤدي إلى موانئ شبتسبرجن وشمال سيبيريا، خاليا من الثلوج من خلال تركيز أشعة الشمس عليه، ولزيادة رقعة المناطق الصالحة للسكنى في الشمال ».
على الرغم من أن أفكار أوبيرت كانت مبتكرة تماما، فقد تلاءمت مع روح العصر. في العقود الأخيرة، كان محرك الاحتراق الداخلي قد أفسح المجال أمام اختراع الطائرات والسيارات؛ وكان التوربين البخاري - وهو الاختراع المعاصر لمحرك الاحتراق الداخلي - يشجع على ازدهار صناعة الطاقة الكهربية، وأدى إلى تطورات هائلة في حجم وسرعة السفن الحربية وسفن الركاب. وكان أوبيرت يشير إلى محرك جديد، وهو صاروخ وقود سائل، ويصفه بأنه هدف جديد أمام المخترعين؛ كما كان يطرح رؤيته الشاملة لتطبيقات واسعة النطاق.
في عام 1923، دون أوبيرت أفكاره وأعماله في كتاب بعنوان «الصاروخ في عالم الفضاء بين الكواكب»، ونشره غالبا على نفقته الخاصة، ولم يكن الكتاب يزيد عن كتيب ورقي يضم أقل من مائة صفحة، لكن سرعان ما بدأ في جذب الانتباه الذي كان أوبيرت ينشده. وكانت موسكو من بين الأماكن التي حظي فيها هذا الكتاب بالاهتمام؛ حيث كان البعض على دراية بأن مواطنا روسيا يدعى قسطنطين تسيولكوفسكي يروج لأفكار مماثلة.
كان تسيولكوفسكي مدرس رياضيات في أحد الأقاليم مثل أوبيرت، وكان يعمل في مدينة كالوجا، على مسافة مائة ميل من العاصمة. ولد تسيولكوفسكي عام 1857، وتولد لديه اهتمام قوي ومبكر بعلم الفلك، ثم حاول لاحقا اختراع سفينة جوية، واتبع في ذلك مسارا بحثيا قاده إلى بناء أول نفق هوائي روسي. وبعد عام 1895، جمع بين مجالي الاهتمام هذين وشرع في تصميم مركبة فضائية.
كان تسيولكوفسكي على دراية جيدة بعلم الفيزياء، وهو ما أتاح له تقديم أعمال تتسم بالمصداقية. قرر تسيولكوفسكي أن هذه المركبة ستحتاج إلى دفع صاروخي؛ فكتب عن استخدام أنواع وقود مشابهة للكيروسين، لكنه اكتشف إمكانية الحصول على أداء أفضل من خلال استخدام الأكسجين والهيدروجين السائلين. وكانت هذه خطوة جريئة حقا؛ فقد كان السير جيمس ديور البريطاني لا يزال بصدد تحضير العينات الأولى من الهيدروجين السائل على مستوى العالم، ولم يكن من الممكن إطلاق أي صاروخ باستخدام هذا الوقود الدفعي إلا بعد عام 1960. وعلى الرغم من ذلك، كانت أبحاث تسيولكوفسكي تشير بوضوح إلى إمكانية تنفيذ هذا الأمر إلى حد كبير.
شرع تسيولكوفسكي بعد ذلك في نشر نتائجه تلك، وبينما كان يعمل على بناء هذه السفينة الجوية، تلقى دعما قيما من ديمتري مندلييف، مكتشف الجدول الدوري في الكيمياء، بيد أن ذلك لم يساعده كثيرا في تجاربه؛ ففي عام 1898 أرسل بحثه إلى مجلة مهنية، هي «ساينس سيرفاي»، وظل محرر المجلة محتفظا بالبحث لمدة خمس سنوات قبل أن يقرر نشره. ولم يحظ البحث بالاهتمام الكافي، ولم تكن قاعدة قراء المجلة كبيرة، حتى داخل روسيا نفسها. واصل تسيولكوفسكي أبحاثه غير عابئ بذلك، وقبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بفترة قصيرة نشر بحثين آخرين في مجلة تحظى بجمهور أوسع من القراء، وحاز هذان البحثان اهتمام واحد من كبار الكتاب في المجال العلمي في روسيا، وهو ياكوف بيرلمان؛ وقد ساهم بيرلمان في التعريف بتسيولكوفسكي داخل روسيا على الأقل.
ظهر بعد ذلك كتاب أوبيرت في عام 1923، وشرع المسئولون في الحكومة البلشفية الجديدة، في غمرة حماسهم لإعلان ريادة بلادهم، في نفض الغبار عن ورقة تسيولكوفسكي البحثية المنشورة عام 1898، وأعادوا نشرها مع عبارة رثاء تقول: «هل علينا دوما أن نحصل من الأجانب على الأفكار التي ولدت في حدود بلادنا الشاسعة ثم ماتت وحيدة من جراء الإهمال؟» بالتأكيد لن يصبح عمله مهملا بعد الآن؛ إذ سرعان ما تشكلت جمعيات معنية بالصواريخ داخل موسكو وفي مدن أخرى.
قاد هذا المجال فريدريك تساندر، وهو مهندس لاتيفي وكان من أوائل المتحمسين لأعمال تسيولكوفسكي. وفي عام 1924، بدأ تساندر برنامجا من المحاضرات العامة حول رحلات الفضاء، سرعان ما أدى إلى تشكيل ناد لعلم الفضائيات، وهو جمعية دراسة الاتصال بين الكواكب. (كانت كلمة «علم الفضائيات»
astronautics
مشتقة من اللغة الفرنسية، ثم صارت جزءا من اللغة الإنجليزية في عام 1930.) وتبين أن جمعية تساندر لم تكن أكثر من لفيف من المتحمسين، إلا أن تشكيلا لاحقا، وهو قسم الاتصال بين الكواكب التابع لجمعية المخترعين، ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك من خلال رعاية معرض عام في موسكو خلال عام 1927. وكان هذا المعرض بمنزلة نسخة مبكرة من معرض ستار تريك؛ حيث كان يعرض أعمال جول فيرن وإتش جي ويلز بدلا من جين رودنبري، لكنه ساعد في الترويج لهذا المجال الجديد ونشر فكرته.
انضم بعد ذلك إلى مجموعة الهواة المتحمسين هذه سيرجي كوروليف، الذي ولد في أوكرانيا، وكان الطيران قد أسر لبه منذ الصغر؛ فوجد فيه غاية وهدفا جعلاه ينحو في حياته منحى كئيبا ومنعزلا غالبا. تزوجت أمه زواجا تقليديا بينما كانت لا تزال في مرحلة المراهقة، ولم يدم الزواج طويلا؛ إذ انفصلت قبل أن تبلغ عشرين عاما، وأرسلت طفلها ليعيش مع والديها، ولم تستعده إلا عندما تزوجت مرة أخرى. ومات والد سيرجي بينما كان لا يزال في ريعان شبابه، وكان محظوظا أن تبناه زوج أمه الجديد بوصفه ابن زوجته.
عند التحاقه بالمدرسة الثانوية في أوديسا، انضم إلى نادي طيران محلي، وكان يشارك بحماس في أنشطة النادي، حيث صمم طائرة شراعية تمكنت من التحليق بنجاح. وتعلم الرياضيات وعلم الفضائيات بنفسه دون أن يستعين بمعلم، لكنه لم يستطع الالتحاق بالجامعة؛ وبدلا من ذلك، انخرط في صناعات البناء. وعندما نجح في الالتحاق بالجامعة فيما بعد، قرر أن يكون ذلك في كييف، على الرغم من أنه كان يعلم أن موسكو تقدم فرصا أكثر بكثير، لكنه وجد فرصته عام 1926، وكان في التاسعة عشرة من عمره، عندما انتقلت أمه وزوجها إلى موسكو. رحل كوروليف عن كييف ليلحق بهما، ونجح في الالتحاق بمعهد من أهم المعاهد في البلاد، وهو معهد بومان الفني العالي في موسكو؛ وهناك أطلق العنان لكامل قدراته.
كان كوروليف يعمل في مصنع طائرات نهارا، ويتلقى الدروس في المعهد ليلا، كما كان يتعلم الطيران واستطاع الحصول على رخصة طيار. وجذبت موهبته انتباه أندريه تبوليف، أحد أهم مصممي الطائرات في الاتحاد السوفييتي، ومضى كوروليف يصمم وينشئ طائرة أخرى كتلميذ له. كما عمل مع مصمم آخر من المصممين الرائدين، وهو سيرجي إليوشن، حيث اخترع طائرة شراعية استطاعت التحليق عاليا لأكثر من أربع ساعات، وفازت في إحدى المسابقات الوطنية.
بالإضافة إلى ذلك، تنامى شغف عميق ودائم لدى كوروليف بالرحلات الفضائية. وكان قد وصل إلى موسكو في الوقت المناسب لحضور معرض عام 1927، وفي الوقت المناسب التقى أيضا تسيولكوفسكي في موسكو، وبعد تخرجه في المعهد الفني عام 1930 التقى مصادفة تساندر الذي كان وقتها يأمل في بناء محركات وقود سائل. وكان تساندر بصدد تشكيل جمعية جديدة من الشباب المهتمين بالصواريخ، وهي مجموعة موسكو لدراسة حركة رد الفعل (موسجيرد). وكان كوروليف قد اقترح تركيب أحد محركات تساندر في طائرة شراعية دون محرك، وحصل على دعم مالي محدود من منظمة «أوسوافياكيم» الحكومية التي كانت تشجع أنشطة الطيران.
اتخذت المجموعة من قبو خمور سابق مقر عمل لها، وكان ذلك في طابق أرضي مظلم ورطب لكنه كان واسعا، وشرعوا في العمل، لكنهم لم يحرزوا تقدما كبيرا. في الواقع، كان مستوى الدعم الذي تلقوه محدودا؛ فقد شكا أعضاء موسجيرد من أن الاسم المختصر لجماعتهم يعبر فعليا عن عبارة روسية مختلفة، تترجم من الروسية إلى «جماعة موسكو للمهندسين المتطوعين دون أجر». ومما أعاق تجاربهم أيضا أن الأجهزة الرئيسية التي كانوا يستخدمونها كانت عبارة عن ماكينتين متهالكتين، لكن كوروليف لم يرضخ للأمر ولم يسلم به على علته. إذا لم تكن «أوسوافياكيم» قادرة على تقديم الدعم لمجموعة موسجيرد على النحو الذي ينشده، فسيحاول الحصول على دعم أفضل من الجيش الأحمر.
كان مسئول التسليح في الجيش، ميخائيل توكاشيفسكي، مهتما جدا بالصواريخ، ورأى توكاشيفسكي في الصواريخ وسيلة للتغلب على القدرات المحدودة للأسلحة الثقيلة، من خلال إطلاق قذائف كبيرة للغاية من المتفجرات إلى أي مسافة. وبالإضافة إلى ذلك، كان يتوقع في وقت ما قبل اختراع المحرك النفاث أن ترفع الصواريخ «الحد الأقصى لارتفاع الطائرات الحربية إلى طبقة الستراتوسفير»، وهو ما سيسفر عن أداء غير مسبوق. وكان ينظر إلى توكاشيفسكي على نطاق واسع باعتباره من جهابذة الجيش الأحمر وأرجحهم عقلا، فضلا عن قوة إرادته وعزيمته. وكان يتمتع أيضا بمكانة مرموقة؛ ففي عام 1935، بعد إجراء عملية إصلاح عسكري داخل الجيش، حصل على رتبة مارشال، وهي رتبة لم يتلقها سوى خمسة جنرالات فقط، وكان يشرف أيضا على تمويل مجموعة مختصة بأبحاث الصواريخ في ليننجراد، وهي معمل ديناميكا الغازات.
انبثق معمل ديناميكا الغازات عن مجموعة سابقة تجاوزت في أبحاثها مجال صواريخ البارود التقليدية، من خلال التعامل مع البارود اللادخاني، وهو ما زود الصواريخ بطاقة أكبر. وكان هذا المركز البحثي يباشر أعماله كذراع لسلاح المدفعية في الجيش؛ حيث كانت توجد منصة اختبار لإطلاق صواريخ في قاعدة ليننجراد الرئيسية، وكان مديره ضابطا في سلاح المدفعية. وفي عام 1929، أدخل مهندس تابع لهذه المجموعة البحثية، يدعى فالنتين جلشكو، توسعات على برنامج معمل ديناميكا الغازات بإطلاق برنامج لإنتاج صواريخ وقود سائل. واستمر جلشكو في بناء محركات الصواريخ هذه بغرض إجراء عمليات إطلاق ناجحة، وهو ما أسفر عن قوة دفع بلغت أربعة وأربعين رطلا، من خلال حرق الجازولين مع الأكسجين السائل.
نظرا لأن «أوسوافياكيم» كانت على صلة وثيقة بالدوائر العسكرية، علم توكاشيفسكي بالأبحاث التي تجريها مجموعة موسجيرد منذ وقت مبكر جدا. في البداية، اكتفى بدعم أوسوافياكيم، لكن سرعان ما رأى أن مجموعة موسجيرد كانت في حاجة إلى دعم أكبر. ومن خلال العمل المباشر مع كوروليف، اتخذ توكاشيفسكي التدابير اللازمة لتمويل مجموعة موسجيرد مباشرة، ولدمج موسجيرد ومعمل ديناميكا الغازات في مؤسسة قوية واحدة. وبحلول شهر أغسطس من عام 1932، كانت إدارة الاختراعات العسكرية التابعة للجيش ترسل دفعات من التمويل المبدئي إلى مجموعة موسجيرد؛ وبالإضافة إلى ذلك، وفق كوروليف إلى استخدام موقع إطلاق صاروخي في قاعدة قريبة تابعة للجيش.
خلال العام التالي لذلك، بينما كانت مجموعة موسجيرد لا تزال تباشر عملها في قبو الخمور، واجه أعضاؤها حوادث مؤسفة تجاوزت المشكلات المعتادة في مجال أبحاث الصواريخ؛ ففي إحدى المرات، انقلبت شاحنة المجموعة في الثلوج الرطبة المبللة. وذات مرة أخرى، بينما كانت الشاحنة تحمل صاروخا إلى موقع الإطلاق، اصطدمت بحجر على متن الطريق وكادت تنقلب مجددا. وأخيرا، في أغسطس 1933، انطلق صاروخ اسمه «09» في أول رحلة له، وبلغ الصاروخ ارتفاع 1300 قدم، لكنه تعثر بعد ذلك في مساره وسقط متهشما بعدما احترقت إحدى حواف ذيله الناتئة . ومع ذلك، كان كوروليف مسرورا، وأعلن ذلك قائلا: «انطلق الصاروخ بالفعل، ولم يذهب جهدنا أدراج الرياح.»
بعد ذلك بثلاثة أشهر تحقق نجاح جزئي مشابه؛ حيث ارتفع صاروخ جديد يسمى «جيرد-إكس» إلى ارتفاع 250 قدما، ثم ما لبث أن استدار في حدة ليسقط على الأرض على مسافة 500 قدم. وحتى ذلك الوقت، كانت مجموعة موسجيرد ومعمل ديناميكا الغازات قد أكملا عملية اندماجهما في مؤسسة جديدة تدعى معهد الأبحاث العلمية في مجال الدفع المعاكس، وصار إيفان كليمنوف - الرئيس السابق لمعمل ديناميكا الغازات - مدير المؤسسة الجديدة، وصار كوروليف نائبا له، ولو في البداية على الأقل. وانتقلت مجموعة موسجيرد من قبوها المظلم إلى مصنع سابق لمحركات الديزل في ضواحي موسكو، وأعلنت عن إنتاج خلايا لاختبار محركات سرعان ما استخدمت فيما بعد في اختبار محركات الصواريخ؛ وانضم كوروليف، الذي كان مدنيا، إلى الجيش الأحمر وحصل على رتبة ضابط مكلف.
لم تكن ثمة دولة أخرى خلاف ألمانيا تبني صواريخ وقود سائل بدعم عسكري. وفي حقيقة الأمر، تطورت أنشطة تلك الدولة على غرار مثيلاتها في الاتحاد السوفييتي، من خلال كتابات هيرمان أوبيرت التنبئية التي أثارت موجة من الاهتمام بالصواريخ ورحلات الفضاء؛ موجة أدت أولا إلى فتح الباب أمام التجارب الدءوبة، ثم إلى تلقي الرعاية العسكرية المباشرة. ومع ذلك، تلقى مجال تطوير الصواريخ في ألمانيا تشجيعا خاصا من خلال فيلم الخيال العلمي «امرأة في القمر».
كان منتج الفيلم، فريتز لانج، أكثر من مجرد صانع أفلام؛ فقد كان رائدا في مجال الفن والثقافة في بلاده. وأشار الكاتب العلمي فيلي لاي إلى أنه في أحد العروض الأولى لأفلامه «كان من قبيل القاعدة الصارمة، وإن كانت غير مكتوبة، أن يرتدي المرء زيا مسائيا كاملا، وليس بدلة سهرة فحسب؛ وكان جمهور الحاضرين يضم في الواقع جميع الشخصيات المهمة في مجال الفن والأدب، مع حضور قوي لمسئولين حكوميين رفيعي المستوى.» وفي عام 1926، عرض لانج الفيلم الكلاسيكي «متروبوليس» الذي كان يؤدي دور البطولة فيه إنسان آلي، وكان من المنتظر أن يسير لانج على المنوال نفسه بالنسبة إلى رحلات الفضاء.
كتبت زوجته، الممثلة تيا فون هاربو، سيناريو الفيلم معتمدة بدرجة كبيرة على كتابات أوبيرت. وقد استعان لانج بأوبيرت نفسه كمستشار فني، ثم أقنعه أوبيرت بأن يتعهد بتمويل عملية بناء صاروخ حقيقي، سيكون في نهاية المطاف بمنزلة دعاية رائعة للفيلم إذا تزامنت تجربة إطلاقه مع اليوم الأول لعرض الفيلم. وبالفعل قدم لانج تمويلا بسيطا إلى أوبيرت؛ مما سمح له بتشكيل فريق فني مبدئي.
كان من أوائل من أجريت معهم مقابلات شخصية للانضمام إلى هذا الفريق؛ رجل حاد الملامح، يرتدي ملابس أنيقة للغاية، وتبدو عليه هيئة عسكرية صارمة، وقال مقدما نفسه: «اسمي رودلف نيبل، مهندس حاصل على دبلومة، وعضو في أقدم جماعة طلابية بافارية، وكنت طيارا حربيا سابقا في الحرب العالمية برتبة ملازم، وأسقطت سبع طائرات للعدو.» في واقع الأمر، كان نيبل حاصلا على مؤهلات هندسية محترمة لكن لم يسبق له قط أن عمل مصمما، وإنما كان يعمل مسئول مبيعات، يبيع رولمان بلي ثم أجهزة إنذار ضد السرقة؛ ومع ذلك، عينه أوبيرت على الفور ضمن الفريق.
حظي فيلم «امرأة في القمر» بتقدير قوي بين صفوف المهتمين بالصواريخ، وعندما انطلق صاروخ دورنبرجر بنجاح عام 1942، كان شعار الفيلم موضوعا عليه، حيث تظهر عليه صورة امرأة شابة تجلس على هلال. وبالإضافة إلى ذلك، قدم لانج العد التنازلي كأداة درامية: «خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد ... أطلق!» لكن الفيلم نفسه لم يحقق نجاحا تجاريا كبيرا، وكان السبب يدعو إلى السخرية؛ إذ قيل إن الفيلم لم يكن مواكبا لروح التكنولوجيا؛ كان فيلما صامتا، وبحلول وقت عرضه في أواخر عام 1929، كانت معظم المدن الألمانية تعرض الأفلام الجديدة الناطقة.
تعثر مشروع الصاروخ أيضا من جراء ذلك. كان المشروع يسعى إلى بناء صاروخ وقود سائل ينطلق إلى ارتفاع خمسة وعشرين ميلا، لكن على الرغم من نجاح نيبل في بناء محركات صغيرة بغرض اختبارها، فإنه لم يبن أي شيء في مقدوره التحليق على أية حال. ومع ذلك، أسفرت الجهود عن بناء أجزاء صغيرة من مشروع صاروخ وقود سائل ، حتى إن كان مشروعا صغيرا. وبعدما انتهى دعم لانج، قرر نيبل مواصلة المشروع وحده.
كان أوبيرت قد ترأس مجموعة من المهتمين بالصواريخ، وهي جمعية رحلات الفضاء، وكان للجمعية مكتب مسجل استطاع نيبل ممارسة العمل من خلاله، لكن كان يعوزه المال الذي يمكنه من تحقيق ما يريد، وبينما كان يبحث عن مصدر تمويل اهتدى إلى الكولونيل كارل بيكر، رئيس هيئة أسلحة الجيش. ومثل توكاشيفسكي، كان بيكر يعرف سلاح مدفعيته، ومثل نظيره السوفييتي، كان بيكر بصدد وضع أفكاره الخاصة حول الصواريخ العسكرية.
داخل هذا السلاح من الضباط البروسيين الضيقي الأفق، الذي ظل متعلقا بأساليبه التقليدية القديمة، تميز بيكر من خلال رغبته في التحرك في اتجاهات جديدة. كان بيكر يحمل درجة الدكتوراه في الهندسة، وكان أستاذه كارل كرانتس قد ألف كتاب ألمانيا الرائد حول الصواريخ الباليستية، وكان بيكر قد شارك بنفسه في مراجعة نسخة الكتاب التي صدرت عام 1926، مضيفا قسما مطولا عن الصواريخ، تضمن مناقشة حول صواريخ الوقود السائل. وبينما كانت المدفعية هي السلاح الأساسي في الحرب العالمية الأولى، تصور بيكر أن تلعب الصواريخ دورا كبيرا في الحرب القادمة. وعلى غرار زملائه الضباط، كان بيكر ينتظر الحرب القادمة بلهفة.
وضعت معاهدة فرساي، التي كانت قد أنهت الصراع الأخير، قيودا صارمة على حجم الجيش الألماني وعلى أسلحته؛ فقد حظرت هذه المعاهدة على ألمانيا تطوير أسلحة مدفعية ثقيلة - وهو تخصص بيكر - أو إنتاج غازات سامة، لكنها لم تضع أي قيود على إجراء أبحاث حول تطوير الصواريخ، وهو ما رأى فيه بيكر ثغرة يستطيع استغلالها؛ فربما تقدم الصواريخ الحربية نوعا جديدا من أسلحة المدفعية، وربما يمكنها أيضا إطلاق غازات سامة.
كان بيكر يدرك جيدا أن الجيش في حاجة إلى توخي الحذر أكثر من حاجته إلى استغلال الثغرات، وكان قادة الجيش ينظرون إلى معاهدة فرساي بازدراء بالغ، مخالفين إياها سرا متى استطاعوا، حيث كانوا على استعداد كبير لإعادة التسلح. وكانت لدى شركة «كروب»، وهي أكبر شركة سلاح في ألمانيا، تصميمات للجيل التالي من الدبابات؛ ومع ذلك، كانت أبسط قواعد الحذر تقتضي من قادة الجيش بحث عمليات التسلح القانونية وغير القانونية على حد سواء. وفي عام 1929، فوض وزير الدفاع بيكر لبدء برنامج صغير لدراسة الصواريخ، وكان التركيز الأساسي للبرنامج يتضمن إنتاج أنواع من البارود التجاري. وبالإضافة إلى ذلك، أصدر وزير الدفاع توجيها إلى نائبه، النقيب رتر فون هورستيج، كي يبحث جيدا إمكانية استخدام صواريخ الوقود السائل الجديدة.
بعد لقاء نيبل وبيكر، قدمت إدارة الأسلحة الحربية تمويلا صغيرا بمبلغ 5000 مارك ألماني، وهو ما يعادل 2000 دولار أمريكي تقريبا. وكان نيبل في حاجة إلى مكان لإجراء اختبارات الصواريخ، وعثر على مخزن ذخيرة مهجور قرب برلين، وكان جزء منه سبخا، لكن كانت له جدران وسواتر قوية بما يكفي لتحمل انفجار صاروخي. وكانت أبنية المخزن مملوكة للجيش، إلا أن نيبل استطاع بمساعدة مكتب بيكر اتخاذ التدابير اللازمة لتأجير الأبنية التي كان يحتاجها، مقابل عشرة ماركات فقط سنويا، وأطلق على المنطقة «راكتنفلوجبلاتس» (أي مطار الصواريخ)، وأعلن افتتاحها في سبتمبر 1930.
لكن سرعان ما وجد بيكر أن نيبل غريب الأطوار أكثر مما يطيق، وكان بيكر يكره ميل نيبل إلى الاستعراض، بينما كان ولع نيبل البالغ بكتابة المقالات الإخبارية المثيرة يتعارض بشدة مع إصرار بيكر على السرية التامة؛ ومن ثم، وجد نيبل نفسه محروما من تلقي تمويل إضافي من الجيش، في وقت كان يحتاج فيه إلى المعدات والفنيين المهرة. على الرغم من ذلك، كان نيبل يعرف كيف يعيش معتمدا على مهاراته، واستطاع أن يوظف موهبته كمسئول مبيعات في الحصول على الأمرين معا: العتاد والفنيين المهرة. على الرغم من كل شيء، كان نيبل يصنع ما من شأنه أن يحيل فكرة فيلم «امرأة في القمر» إلى حقيقة.
بدأ نيبل مشروعه بزيارة هيئة السكك الحديدية الحكومية، حيث جمع قطع الأخشاب المتخلفة من عربات القطارات، واستخدم هذه الأخشاب في رأب الجدران المتصدعة وتغطية الأرضيات. وعلى نحو مشابه، عثر على موقدين قديمين يصلحان للتدفئة في الشتاء، واشترى آلة كاتبة من متجر رهونات وبدأ في كتابة مئات الخطابات، التي سعى فيها إلى الحصول على دعم من الشركات والحكومة؛ وبهذه الطريقة، استطاع توفير مصدري طاقة وضوء مجانيين، وأكسجين سائل، وسبيكة ألومنيوم، وأواني طلاء، ومخرطة أخشاب صغيرة، وماكينة حفر.
امتدت قدرة نيبل على الإقناع إلى مصلحة الضرائب، التي أعفت مكتبه من دفع ضريبة إنتاج على الجازولين، وهو ما خفض نفقات المكتب بمقدار الثلثين تقريبا. بالإضافة إلى ذلك، كان نيبل يعرف كيف يغير الظروف لصالحه، وسوف يذكر فيرنر فون براون لاحقا كيف «استطاع إقناع مدير شركة «سيمنز هايسكه إيه جي» بتوفير كمية كبيرة من أسلاك اللحام، من خلال وصفه الواضح لأهمية رحلات الفضاء وضرورة التعجيل بها.» ويستطرد فيرنر قائلا: «كان استخدامنا لهذا النوع من الأسلاك محدودا للغاية، إلا أن نيبل قدم هذه الأسلاك إلى ورشة لحام في مقابل الاستعانة بجهود عمال اللحام المهرة، وهو ما كنا في أشد الحاجة إليه.»
توافرت القوى العاملة التي استعان بها على هذا النحو العفوي نفسه؛ فبعضهم كانوا أعضاء في جمعية رحلات الفضاء، وكان من بين هؤلاء فون براون نفسه. بالإضافة إلى ذلك، وفر مطار الصواريخ عملا للرجال المؤهلين الذين فقدوا وظائفهم أثناء فترة الكساد العظيم، ولم يكن في مقدور نيبل دفع رواتب لهم، لكنه استطاع أن يوفر لهم معسكرات إقامة دون إيجار في الأبنية التابعة له. وبالنسبة إلى الطعام، كان ثمة مصنع قريب تابع لشركة سيمنز يدير مطعما لتقديم الوجبات المجانية، وكان بعض هؤلاء الأشخاص يتلقون إعانات بطالة، وكانوا جميعا سعداء بالفرصة التي أتيحت لهم لمزاولة العمل والحفاظ على مهاراتهم.
كتب أحد الزائرين لاحقا يقول: «كان مطار الصواريخ يتألف من مجموعة صغيرة من الثكنات البسيطة للغاية، وكثير من الورش، وكان في مقدور المرء أن يستشف بسهولة التفاني الشديد الذي لدى رجال نيبل في العمل؛ كان معظمهم أشبه بضباط يعيشون وفق نظام صارم من الانضباط العسكري. كان هو وطاقمه يعيشون كالمتنسكين، ولم يكن أي من هؤلاء الرجال متزوجا.»
3
إنهم لم يكونوا مجرد هواة، بل هواة بلا عمل؛ ومع ذلك، باشروا عملهم بسرعة مذهلة.
بحلول منتصف مايو من عام 1931، بعد أقل من ثمانية أشهر، كان طاقم نيبل قد أعد صاروخا تجريبيا جاهزا للإطلاق، وفي ذلك الوقت كانوا قد انتهوا من بناء وتعديل نوعين من المحركات، وكان أكثرهما تطورا يشتمل على قميص تبريد مملوء بالماء. ووصف المؤلف فيلي لاي لاحقا كيف انطلق الصاروخ مصدرا «صوتا عاليا للغاية»:
ارتطم الصاروخ بسقف المبنى وانطلق مائلا بزاوية 70 درجة تقريبا، وبعد ثانيتين أو نحو ذلك بدأ في الالتفاف في حركة أنشوطية، وقذف كل المياه خارج قميص التبريد، وهبط بسرعة بالغة بقوة المحرك. وبينما كان يهبط سريعا تحطم جدار غرفة الاحتراق - التي لم تعد تبرد - في أحد الأجزاء، ومع وجود المحركين النفاثين المسئولين عن دوران الصاروخ، زادت سرعة الصاروخ بمعدل جنوني تماما، ولكنه لم يتحطم حيث نفد الوقود في اللحظة التي عدل فيها اتجاهه بعد عملية الانقضاض بقوة المحرك أثناء هبوطه قرب الأرض. وفي حقيقة الأمر، كاد الصاروخ يهبط هبوطا كاملا.
4
كان هذا هو صاروخ «ريبولسر 1»؛ استقى لي الاسم من روايات الخيال العلمي للكاتب كورد لاسفيتس. وكان صاروخ «ريبولسر 2» جاهزا للإطلاق بعده بأيام قليلة. ومثلما كتب لي لاحقا: «انطلق الصاروخ إلى ارتفاع 200 قدم تقريبا، ثم مال جانبا كما لو كان سيارة تسير في منحنى. وفي ذلك الوضع انطلق الصاروخ مندفعا في أرجاء المكان كله، وكان لا يزال ينطلق بكامل طاقته.» وحلق الصاروخ إلى ارتفاع 2000 قدم تقريبا قبل أن يصطدم بشجرة.
ومع صاروخ «ريبولسر 3»، بدأ القائمون بالتجارب في استخدام المظلات؛ في المحاولة الأولى، فتحت المظلة قبل أوانها وأدت إلى انحراف الصاروخ عن مساره قبل أن تتمزق. وبينما كان الصاروخ يصعد لأعلى كما لو كان قذيفة مدفع هاوتزر، اصطدم بنفس مجموعة الأشجار التي كان «ريبولسر 2» قد سقط عندها. لكن في شهر أغسطس من ذلك العام، وعلى حد قول لي، بلغ صاروخ أكثر تطورا «ارتفاع كيلومتر واحد تقريبا، وبدا مجرد نقطة صغيرة في السماء، وفجأة رأينا مظلة بيضاء صغيرة على خلفية السماء الزرقاء، واتجه «ريبولسر» برشاقة هابطا إلى الأرض».
خلال الأشهر التي أعقبت ذلك أجرت هذه المجموعة مزيدا من عمليات الإطلاق بصفة روتينية، حيث كانوا يطلقون الصواريخ كل بضعة أيام. وفي الوقت نفسه، كان الكولونيل بيكر يوسع من نطاق أنشطته؛ إذ كان يميل إلى انتقاء المساعدين المقربين الذين كانوا يشاركونه نفس خلفيته الثقافية، التي كانت تجمع بين درجة أكاديمية متقدمة وخبرة بسلاح المدفعية في فترات الحروب. وكان نائبه فون هورستيج له خلفيته الخاصة، وكذلك كانت الحال مع فالتر دورنبرجر الذي انضم إلى بيكر عام 1930. وفي ديسمبر من ذلك العام، حصل بيكر على تعهد بتوفير تمويل يسمح له بإجراء اختبارات على الصواريخ في منطقة لاختبار أسلحة المدفعية.
كان بيكر يعي تماما أوجه القصور التي تعاني منها الأسلحة المدفعية الحربية. كانت أضخم المدافع تستطيع إطلاق قذائف زنة طن واحد لمسافة 25 ميلا، بيد أن هذه المدافع كانت ثقيلة للغاية، وزنا وارتدادا، ولم يكن من الممكن حملها إلا على متن السفن الحربية؛ حتى الناقلات البحرية العملاقة لم تكن تستطيع أن تفي بالغرض. وبرا، كانت الحرب الأخيرة قد شهدت استخدام مدفع «بيج برثا» الذي يبلغ طوله 16,5 بوصة، لمدى تسعة أميال. ولكن، كل سلاح من هذه الأسلحة كان يقتضي استخدام اثنتي عشرة عربة من عربات السكك الحديدية عند تفكيكها، ويستغرق كل منها في تجهيزه عشرين ساعة. وعلى الجانب الآخر، كان مدفع باريس الشهير في عام 1918 قد قصف العاصمة الفرنسية على مسافة 80 ميلا تقريبا، ولم يكن وزن كل قذيفة يزيد عن 230 رطلا، وجزء صغير فقط منها هو ما كان قابلا للانفجار.
أعطت صواريخ الوقود السائل الأمل في تجاوز أوجه القصور هذه. لم تكن هذه الأسلحة في حاجة إلى حوامل ثقيلة من الصلب، بل إلى منصة إطلاق خفيفة ومتحركة؛ وإذا بنيت كطائرة، فقد تصبح ضخمة للغاية. وعلى الرغم من تسارعها البطيء، فقد تبلغ هذه الأسلحة سرعات هائلة وتنطلق لمسافات بعيدة بالتوازي مع ذلك؛ وبناء عليه، بعد انضمام دورنبرجر إلى طاقم بيكر، وضع بيكر له هدفا مستقبليا، وهو: «تطوير صاروخ وقود سائل يستطيع حمل قذائف أكثر من أي مدفع نمتلكه حاليا ضمن أسلحة المدفعية، عبر مسافة تزيد كثيرا عن أقصى مدى يبلغه أي مدفع».
خلال عام 1932، مع استمرار العمل في مطار الصواريخ، قرر بيكر إعادة النظر في أسلوب العمل داخل المطار، وظل نيبل نفسه شخصا غير مرغوب فيه؛ ليس فقط لأنه لم يكن يجري التجارب على النحو الذي يريده الجيش، بل أيضا لأنه كان يميل على نحو مزعج للغاية إلى تقديم وعود تفوق قدراته؛ وظل توفير تمويل جديد أمرا غير وارد على الإطلاق. ولكن، كان بيكر حينئذ متأهبا لوضع برنامجه الخاص لتصميم صواريخ وقود سائل، وتنفيذه في منشآت الجيش. كان مساعدو نيبل موجودين في برلين، وكان بيكر يرى أن في إمكانه الاستعانة بأفضلهم بسهولة؛ فعلى الرغم من كل شيء، كان في مقدور بيكر دفع رواتب في حين لم يكن نيبل يستطيع. بدأ بيكر في ضم واحد من أنبغ الأفراد وأبرزهم إلى فريقه، وهو فيرنر فون براون.
كان فيرنر ابن البارون ماجنوس فون براون، وهو أرستقراطي بروسي له جذور عميقة؛ إذ كان أحد أفراد عائلة فون براون قد حارب المغول في عام 1245، وبعدها بسبعة قرون خدم البارون لدى القيصر كموظف مدني رفيع المستوى، وبعد الحرب العالمية الأولى صار مصرفيا وأقام علاقات وثيقة مع المشير باول فون هيندنبورج، الذي قاد الجيوش أثناء الحرب وصار لاحقا رئيس جمهورية فايمار. وخلال عام 1932، أثناء الأشهر الأخيرة للجمهورية، خدم البارون كوزير للزراعة؛ وعلى الرغم من رجعيته الشديدة، فإنه لم يكن نازيا، وانتقلت مواقفه إلى ابنه. كان فيرنر يعمل عن كثب مع النازيين، لكنه كان يتفادى أن يصير واحدا منهم.
كانت والدة فيرنر من هواة دراسة علم الفلك المتحمسين، وظهر لدى ابنها شغف مبكر بهذا المجال. وكما قال لاحقا: «تأكيدا لولعي بعلم الفلك، لم أحصل على ساعة يد وبنطال طويل، مثل غيري من الصبية اللوثريين، وإنما حصلت على تليسكوب؛ إذ ظنت أمي أن التليسكوب هو أفضل هدية لي.» قاده علم الفلك إلى رحلات الفضاء، وهو ما أسر خياله سريعا. اشترى نسخة من كتاب أوبيرت، وصدم إذ وجده محتويا على مجموعة هائلة من المعادلات الرياضية؛ فقد كان يكره الرياضيات، بل كان يفشل في اجتياز اختباراتها في المدرسة؛ لكن مثلما يتذكر لاحقا: «قررت أنه إذا كان إلمامي بالرياضيات شرطا كي أفهم رحلات الفضاء وعلم الصواريخ، فلا بد إذن من دراسة الرياضيات.» وهذا ما فعله بالضبط، فقد أتقن تعلم الرياضيات حتى صار يساعد زملاءه في فهم الرياضيات والفيزياء عندما التحق بالمدرسة الداخلية.
كان معظم شباب الأرستقراطيين ينظرون إلى الدراسة في الجامعة باعتبارها فرصة لإقامة علاقات اجتماعية بينما يتلقون قدرا يسيرا من المعارف الكلاسيكية؛ وفي حياتهم المهنية اللاحقة، كان الموظفون المعينون هم من يؤدون العمل فعليا. أما فون براون، فاختار دراسة الهندسة في جامعة برلين الفنية، وانضم أيضا إلى فريق نيبل، حيث شارك بسعادة بالغة في عمليات إطلاق الصواريخ التي طورها الفريق. وبعد عمليات الإطلاق الناجحة، كان يحتفل عادة في أحد النوادي الليلية وسط المدينة، وعندما قابله دورنبرجر في عام 1932، كان مندهشا من «حيوية هذا الطالب الشاب الطويل ذي الشعر الأشقر، ومن ذكائه في العمل، ومن معرفته النظرية المدهشة». وعلى عكس نيبل، برهن فون براون على استعداده التام للتأقلم مع طبيعة الحياة العسكرية، وعندما منحه بيكر الفرصة، انضم إلى برنامج الصواريخ في الجيش ككبير الاختصاصيين المدنيين، وكان عمره آنذاك عشرين عاما.
واصل بيكر سعيه في تأهيل فون براون سريعا، وهو ما قاده لاحقا خلال سنوات قليلة إلى تقلد منصب المدير الفني في بينامونده؛ حيث تولى المسئولية الكاملة عن برنامج الصواريخ الطويلة المدى. وكانت السرية مهمة للغاية، وهو أمر التزم به فون براون بينما كان يواصل دراساته الجامعية. ثم انتقل إلى جامعة برلين، متجاوزا النصف الثاني من مقررات مرحلته الجامعية الأولى، وبدأ العمل على رسالة الدكتوراه؛ كان موضوع الرسالة يدور حول صواريخ الوقود السائل. وترأس أستاذه، إيريش شومان، مجموعة بيكر البحثية الرئيسية، وواصل فون براون العمل على الصواريخ التجريبية، وإن كان ذلك في المنطقة المخصصة لإجراء الاختبارات في الجيش بدلا من مطار الصواريخ.
يستغرق الأمر عادة سنوات كي يحصل الطلاب على درجة الدكتوراه من جامعة ألمانية كبيرة، لكن فون براون حصل على درجته العلمية بعد ثمانية عشر شهرا فقط، وكان موضوع الرسالة سريا، حتى إنه لم يكن مسموحا بالإعلان عن عنوانها، ومنحه أستاذه مرتبة الشرف الأولى. وكانت المسألة برمتها تتلخص في إجراء فون براون بحوثا عسكرية من خلال العمل كطالب دراسات عليا، لكن في حقيقة الأمر أثمرت الجهود المبذولة تصميم أول صواريخ تجريبية ناجحة للجيش.
في البداية، في عام 1933، كان يوجد الصاروخ «أجرجات-1»، أو «إيه-1». ومثلما يصف فون براون لاحقا: «استغرق بناء الصاروخ عاما ونصف العام، واستغرق نصف عام آخر لتفجيره.» أدخلت تعديلات كبرى على التصميم؛ مما أدى إلى تطوير الصاروخ «إيه-2». وعلى غرار سابقه، كان الصاروخ «إيه-2» يعمل بمحرك من تصميم فون براون، تبلغ قوة دفعه 650 رطلا، وقد حلق صاروخان من طراز «إيه-2» بنجاح في ديسمبر 1934، حيث وصلا إلى ارتفاع ميل.
بحلول ذلك الوقت كان النازيون على رأس السلطة، وكانوا على أتم الاستعداد لرفض معاهدة فرساي برمتها، ولم تكن لمشروعية بحوث الصواريخ أية ميزة؛ إذ كان نموذج الصاروخ الفائق الذي تصوره بيكر وخطط له يعتمد على فوائده العسكرية. ومثلما كشفت الأحداث خلال وقت قصير، بدت هذه الفوائد العسكرية هائلة، ولا يمكن تقدير قيمتها إلا من خلال وجهة نظر رجل عسكري ألماني.
قبل قرن مضى، قال نابليون إن بروسيا «خرجت من رحم قذيفة مدفعية». وكان الأمر ينطبق تماما على الدولة النازية؛ إذ كتب هتلر يقول: «سوف نتسلح مجددا!» وسرعان ما سيثبت بعد ذلك أنه رجل يفي بوعوده. تدفقت أموال عمليات إعادة التسليح بوفرة هائلة، وهو ما شجع جنرالات الجيش على إعادة التفكير في رغباتهم المؤجلة، وأيضا على المساهمة في جهود البناء؛ وبينما كان الوطن يبدأ في إحكام قبضته الحديدية استعدادا لمعركة أخرى، كان زملاء بيكر من خبراء المدفعية في مقدمة الصفوف.
كانت الحرب العالمية الأولى هي حرب مدفعية، وكان جنود سلاح المدفعية، الذين انتشروا في كل كتائب الجيش، يعون تماما أن التطورات في هذا المجال قد ساعدت بقوة في إنجاح الحرب. ودمرت مدافع بيج برثا - وهي إحدى نتائج عمليات التطوير في فترة ما قبل الحرب - مجموعة من الحصون البلجيكية القوية مما أفسح المجال أمام غزو فرنسا. وبحرا، أكدت السفن الحربية المزودة بالأسلحة الثقيلة على أهمية سلاح المدفعية من خلال البحرية الملكية في معركة يوتلاند، وهو ما اضطر البريطانيين إلى الانسحاب وأظهر ضعفا فادحا في طراداتهم الحربية، وهي فئة رئيسية من السفن الحربية. وربما كان صاروخ بيكر المقترح، الذي كان يتجاوز أوجه القصور في أسلحة المدفعية التقليدية، يبشر بمزيد من الانتصارات الساحقة.
بالإضافة إلى ذلك، كان خبراء المدفعية يعون جميعا الآثار الكارثية التي خلفتها سلسلة من القذائف المدفعية الثقيلة، وكانت تلك الآثار تتجاوز تمزيق أجساد الجنود إلى أشلاء وتشويه أجساد الناجين من عمليات القذف؛ إذ شملت أيضا الإصابة بصدمة القصف؛ وكان هذا رعبا يتجاوز حد الخوف، وهو ما كان ينشأ عن تجربة الرقود في خندق تحت وابل مستمر من المواد الشديدة الانفجار، مع انعدام القدرة على الاختباء أو الهرب. فماذا عساه أن يحدث إذن، إذا تمكنت صواريخ بيكر من حمل قذائف كهذه إلى باريس أو لندن؟
قذفت القوات الألمانية باريس بمدافعها التي تحمل أسماءها، واستخدمت طائرات زبلن الحربية لإسقاط القنابل على لندن. ولم تحدث تلك الهجمات إلا أثرا طفيفا، لكن مجرد مشاهدة مدفع بيج برثا زنة 98 طنا، الذي كان يجره ستة وثلاثون جوادا، أصاب مواطني مدينة ليج في بلجيكا بحالة من الصدمة جعلتهم يصمتون في ذعر شديد، ذعر زاد كثيرا عندما أدى إطلاق قذيفة واحدة من هذا المدفع إلى تحطم معظم النوافذ في المباني المجاورة. وبالمثل، ربما يقضي القذف الكثيف باستخدام صواريخ بيكر الطويلة المدى في حقيقة الأمر على إرادة باريس أو لندن في المقاومة.
يضاف إلى ذلك أيضا إمكانية الحصول على هذه الأسلحة بسرعة وبتكلفة زهيدة. ولم يكن أحد قد تصور بعد التكلفة المرتفعة وطول فترة التطوير التي ستتسم بها برامج تطوير الأسلحة المستقبلية بعد ذلك، لكن الجميع كان على دراية بالتقدم السريع والهائل في مجال الطيران الحديث. وربما يأتي صاروخ بيكر في صورة نوع جديد من الطائرات الحربية، يصمم بطريقة مباشرة ومعقولة، ثم ينتج بتكلفة غير باهظة وبأعداد هائلة.
في مارس 1936، بعد خمسة عشر شهرا فقط من عمليات الإطلاق التجريبية الناجحة لصواريخ «إيه-2»، كان دورنبرجر وفون براون على استعداد لتحقيق هدف بيكر المعلن من خلال مجموعة محددة من المتطلبات. وكانا يعملان في حقيقة الأمر على صاروخ «إيه-3» التجريبي، مستخدمين محركا بقوة دفع بلغت 3300 رطل، وكان الصاروخ التالي في السلسلة، «إيه-4»، هو نموذج الصاروخ الفعلي. وكانا قد أدركا أن محرك الصاروخ سيحقق قوة دفع تصل إلى 25 طنا متريا؛ أي ما يعادل 55 ألف رطل. اقترح دورنبرجر - الذي كان يصف نفسه بأنه «خبير قديم في المدفعية الطويلة المدى» - أن يحمل صاروخ «إيه-4» طنا من المواد الشديدة الانفجار إلى مسافة 160 ميلا، وهو ما يضاهي حمولة مدفع بيج برثا وحمولة أثقل المدافع البحرية أثناء الحرب، مع إطلاق قذائف يتجاوز مداها مدى مدفع باريس. وبعد مرور ست سنوات ونصف سنة، في ذلك اليوم الخريفي المشمس من عام 1942، دفع إطلاق هذا الصاروخ دورنبرجر إلى ذروة السعادة؛ حيث انطلق الصاروخ في أولى رحلاته الناجحة.
في تلك الأثناء، كان سيرجي كوروليف في موسكو يواصل أبحاثه بدعم من جيشه، وإن كان ذلك لتحقيق أهداف لم تكن على هذا القدر نفسه من الطموح؛ فلم يكن كوروليف يتصور إطلاق قذائف صاروخية موجهة نحو لندن، بل سار على نهج المارشال توكاشيفسكي وصار مهتما بالطائرات التي تعمل باستخدام الصواريخ. وفي عام 1934 ألف كوروليف كتابا سماه «رحلات الصواريخ في طبقة الستراتوسفير»، نشره الجيش الأحمر. كما واصل كوروليف أبحاثه وتجاربه في معهد البحوث العلمية للدفع العكسي الذي كان مؤسسا حديثا وقتها، والذي كان يسعى إلى جمع المهتمين بالصواريخ في موسكو وليننجراد.
لم تسر عملية دمج جمعيتي المهتمين بالصواريخ على ما يرام. وكان مختبر ديناميكا الغازات قد أنشئ في مقاطعة ليننجراد العسكرية، التي كان يرأسها توكاشيفسكي. لكن، كانت مجموعة موسجيرد ترجع في جذورها إلى تصورات توكاشيفسكي فيما يخص رحلات الفضاء، وكانت جماعة المهتمين بالصواريخ في ليننجراد، وهي جماعة متشددة، ترى في مجموعة موسجيرد لفيفا من الحالمين . ولم يساعد جماعة المهتمين بالصواريخ في موسكو كون مختبر ديناميكا الغازات الشريك الأساسي في عملية الدمج، والذي صار رئيسه السابق إيفان كليمنوف رئيسا للكيان المدمج. شغل كوروليف، الذي كان نائبا لكليمنوف في البداية، المنصب لبضعة أشهر فقط قبل التنازل عنه لخبير مدفعية آخر في مجموعة مختبر ديناميكا الغازات، وهو جورجي لانجماك. وواصل كوروليف عمله ككبير المديرين الهندسيين، لكنه لم يتول إدارة الأنشطة الكلية لجماعة معهد البحوث العلمية للدفع العكسي.
لكن، سرعان ما صار لدى كوروليف ما يثير قلقه أكثر من شئون السياسة الداخلية؛ فقد سيطرت حالة من الجنون على الاتحاد السوفييتي، في صورة إرهاب ترعاه الدولة في مختلف أنحاء البلاد؛ وأدى ذلك إلى انحسار الاهتمام بكوروليف ومشروعه إلى ما لا يزيد عن حصاة مسحوقة تحت حذاء ضخم جدا، وهو حذاء ستالين.
كانت جذور إرهاب ستالين تكمن في الدمار غير المسبوق الذي خلفته الحرب العالمية الأولى، وهو دمار قضى تماما على الصور المعتادة للنظام الاجتماعي والسياسي في روسيا. ونهضت الدولة الشيوعية من بين رماد الحرب، واضعة قوة مطلقة في خدمة سلطة غاشمة. وبعد تولي ستالين مقاليد الحكم، استخدم هذه القوة في فرض نظام التأميم الزراعي؛ ولم تكن سياسته إلا حربا لا هوادة فيها ضد شعبه، حربا أودت بحياة نحو عشرة ملايين شخص، وتطلب إنشاء المزارع الجماعية مصادرة واسعة النطاق للأراضي ذات الملكية الخاصة، وفرض العبودية على مائة مليون مزارع كانوا يظنون أنهم أحرار.
كان التغيير كاسحا، وكانت سلطة الدولة تمارس على نطاق واسع للغاية؛ مما أدى إلى وجود معارضة عنيفة تمثلت في قضاء المزارعين على ماشيتهم ومخزونهم من الأعلاف بدلا من تسليمها إلى الدولة. قمع ستالين هذه المعارضة بشراسة، في البداية من خلال استهداف طبقة المزارعين، ثم من خلال القضاء على أقسام كبرى من حزبه الشيوعي، كان قادتها قد تجرءوا على انتقاده في السنوات السابقة؛ وبعد ذلك، وجه ستالين هجومه إلى الجيش الأحمر. كان يعرف جيدا أن نظامه يرتكز على القوة فقط، حيث كان النظام يفتقر إلى سيادة القانون، وتغيب عنه أشكال الشرعية التقليدية مثل القبول الجماهيري والأعراف الراسخة. وكان ستالين يدرك أن السلطة المطلقة ستئول إلى كل من يقود قوات تستطيع الاستيلاء فعليا على الكرملين، وكان قادة الجيش هم أول من قد يحاول القيام بذلك. ربما يقر الجنرالات بالولاء الأبدي، لكن ستالين لم يكن يعبأ بذلك؛ فمن وجهة نظره أن الجنرالات كانوا يواجهون إغراء لا يقاوم للاستيلاء على السلطة باسم المزارعين، ثم الظفر بولائهم من خلال القضاء على المزارع الجماعية وإعادة الأراضي التي صادرتها الدولة إلى أصحابها.
كان توكاشيفسكي أحد أكثر هؤلاء الجنرالات تأثيرا، وكان ستالين يعد العدة بعناية للقضاء عليه، وكانت الاتهامات التي ستوجه إليه هي تهمة الخيانة العظمى من خلال تعاونه مع النازيين، وكان في مقدور ستالين أن يجعل هذه الاتهامات تبدو مقنعة من خلال الاعتماد على الاتصالات الموجودة بالفعل بين النازيين والمفوضية الشعبية للشئون الداخلية؛ شرطته السرية. تعاون هتلر وكبار مسئوليه طواعية، مدركين أن القضاء على توكاشيفسكي سيفضي إلى إضعاف الجيش الأحمر.
بناء على ذلك، كلف المسئولون الألمان أحد المزورين بإعداد ملف خطابات يفترض أنه كان يجري تبادلها بين توكاشيفسكي وعدد من أفراد فريق الأركان العامة التابع لهتلر، واستنسخ توقيع توكاشيفسكي من اتفاقية أبرمت عام 1926 بين جيشي البلدين، بينما استنسخت توقيعات الجنرالات الألمان من دفاتر شيكات. وفي مايو 1937، وصل هذا الملف إلى مكتب ستالين، واتخذ ستالين إجراءات سريعة؛ إذ اعتقلت الشرطة السرية عددا من كبار القادة العسكريين وأعدمتهم، فضلا عن توكاشيفسكي. كما أطلقت النار على أخويه ثم على زوجته لاحقا، واحتجزت أمه في أحد معسكرات التعذيب حيث قضت نحبها، وأخذت أيضا الأخوات الأربع وزوجتان سابقتان إلى معسكر الجولاج، وسمح لابنته بالعيش طليقة حتى بلغت ثمانية عشر عاما، ثم أخذت هي أيضا إلى أحد معسكرات الاعتقال.
واجه توكاشيفسكي بذلك تهمة الخيانة العظمى، ونظر إلى العاملين تحت حمايته، وفيهم قادة معهد البحوث العلمية للدفع العكسي، باعتبارهم متواطئين معه ومشاركين له في جريمته؛ ومن ثم، كان يجب إطلاق النار عليهم أيضا. لاقى كليمنوف هذا المصير، مثلما لاقاه لانجماك نائبه، ولم يعبأ أحد بأن لانجماك أمر بتطوير سلاح مهم، هو صاروخ المدفعية «كاتيوشا»، الذي صار ركيزة أساسية في الحرب التالية. وتعرض هؤلاء المسئولون للضرب والتعذيب، حيث أجبروا على إدانة زملائهم قبل أن ينالوا مصير الإعدام.
حولت الشرطة السرية اهتمامها إلى قادة آخرين في معهد البحوث العلمية للدفع العكسي، حيث ألقت القبض على مصمم الصواريخ فالنتين جلشكو. كان جلشكو قد بنى أول محرك وقود سائل ناجح في البلاد، ودافع كوروليف عن صديقه الصدوق، لكن تحت ضغط تحقيقات الشرطة السرية، أدان جلشكو كوروليف أيضا. وفي يونيو 1938، ألقت الشرطة السرية القبض على كوروليف ووضعته رهن الاعتقال.
ألقت الشرطة السرية بكوروليف في سجن بوتيركي، وهو مبنى بارد رطب مشيد من الأحجار يعود إلى عصر سجن الباستيل. هناك، خضع كوروليف لشكل من التحقيقات يطلق عليه «التحقيق المتناوب المستمر»؛ حيث كانت مجموعة من الضباط، يعمل كل منهم لمناوبة لا تزيد عن بضع ساعات، تستجوبه باستمرار على مدى أيام وليال دون انقطاع. وبعد ثلاثة أشهر، مثل كوروليف أمام وكيل النيابة فاسيلي أولريك الذي كان قد أشرف على محاكمات ستالين الصورية للقادة الشيوعيين، والذي كان قد أدان توكاشيفسكي وزملاءه الجنرالات في العام الماضي.
يصف المؤرخ روبرت كونكويست أولريك بأنه «رجل سمين، له لغد أشبه بلغد الكلب البوليسي الضخم، وعينان صغيرتان كعيني الخنزير، وكان رأسه المحلوق ذا قمة مدببة، ورقبته تبرز فوق ياقة زيه. وكان صوته ناعما ومراوغا.» نظر أولريك قضية كوروليف في عشرين دقيقة، وأصدر حكما بعشر سنوات من الأشغال الشاقة في مناجم كوليما، في أعماق سيبيريا.
من بين المجازر الجماعية التي وقعت في هذا القرن، تبرز كوليما باعتبارها واحدة من أسوأ ساحات القتل؛ إذ مات ما يقرب من ثلاثة ملايين «زك» (سجين سياسي) تحت حكم ستالين، بعضهم مات بإطلاق النار عليهم، وكثيرون ماتوا من جراء الأمراض والتضور جوعا. وعلى الرغم مما كان يعانيه السجناء من برودة قاسية خلال شتاء ممتد لمعظم فترات العام، وكميات الناموس الهائلة التي كانت تحيط بهم في الصيف، فقد منعوا من ارتداء ملابس تدفئهم وأحذية مناسبة ، وكانوا يتلقون حصصا شحيحة من الطعام؛ ومع ذلك، كانوا يؤمرون بتنفيذ كل ما يعهد إليهم من أعمال، وهو ما كان يتطلب حصصا أكبر من الطعام لم تكن توفر لهم. وعلى سبيل معاقبتهم على عدم إنجاز الأعمال الموكلة إليهم، كان الحراس يقتطعون على نحو سافر من حصص الطعام الشحيحة المخصصة إليهم، وكان السجناء السياسيون يصابون بالضعف ويموتون، ولكن كان هناك دائما سجناء جدد يحلون محلهم، ويلقون المعاملة نفسها.
صرح كوروليف لاحقا: «لم تكن ثمة تحقيقات بالمعنى الصحيح للكلمة. اتهمت بصورة فجة بأنني أجريت أبحاثا لتطوير تكنولوجيا جديدة، ولم أكن أتصور تهمة أكثر عبثية وأبعد عن التصديق من تلك التهمة.» لكن الشرطة السرية كانت ماهرة للغاية في إظهار معتقليها في أسوأ صورة ممكنة. وجه أحد المحققين كلامه إلى كوروليف قائلا: «لا تحتاج بلادنا إلى ألعابك النارية، أو لعلك تصنع الصواريخ في محاولة لاغتيال قائدنا؟»
لم يذهب كوروليف إلى كوليما مباشرة، بل قضى الأشهر الثمانية التالية في سجن في نوفوتشركاسك، وهي مدينة في الجنوب. وفي تلك الأثناء، جاء مدير جديد للشرطة السرية، حيث كان المدير السابق، نيوكلاي يزوف، قد مات رميا بالرصاص أمام إحدى فرق إطلاق النيران التي كانت تعمل تحت قيادته. وأصدر خليفة يزوف؛ لافرنتي بريا، أوامر جديدة، وكان من نتائج ذلك أن أصدر أولريك تعليمات إلى جهاز الشرطة السرية بإعادة كوروليف إلى موسكو، لكن كوروليف كان بعيدا في ذلك الوقت، حيث كان قد بدأ رحلته قبل أسبوعين إلى كوليما.
اجتاز كوروليف البلاد بالقطار، في عربة ماشية قذرة ومزدحمة، وكان من المنتظر بعد ذلك أن يمضي في رحلة عبر بحر أوكوتسك في مخزن سفينة تقل سجناء، وكانت الروائح الكريهة تفوح من السجناء السياسيين؛ إذ لم تكن ثمة حمامات أو مراحيض. وفي أغسطس 1939، بلغ كوروليف وجهته المقصودة، وهي معسكر مالدياك للتعدين، في أقصى أعماق البلاد، ولم يمض وقت طويل حتى تدهورت صحته ودخل في مرحلة احتضار بطيء؛ فقد أصيب بمرض الإسقربوط، الذي أصابه بنزيف في اللثة وأفقده الكثير من أسنانه، وكان فكه قد انكسر خلال عملية تعذيب سابقة، وها هو يصاب بجروح في رأسه على إثر لكمة يسددها إليه أحد الحراس؛ وكان ذلك في شهر نوفمبر، ولا تزال أيام الشتاء القادمة تنذر بمزيد من الطقس السيئ.
في تلك الأثناء، وصل أمر جديد من الشرطة السرية إلى معسكر مالدياك، ليعود كوروليف أدراجه عبر الطريق الطويل الذي كان قد قطعه من موسكو، وكانت الخطوة الأولى في طريق العودة تتمثل في عبور بحر أوكوتسك، وأدرج كوروليف بالفعل في قائمة سفر على متن سفينة «إنديجيركا»، وهي سفينة تابعة للشرطة السرية. ووسط الطقس العاصف، خرجت السفينة عن مسارها واصطدمت بالصخور قرب اليابان، ورفض قائد السفينة فتح أبواب السجن بالسفينة؛ مما تسبب عمدا في أن لقي أكثر من ألف سجين سياسي حتفهم غرقا، ولم يكن كوروليف من بين هؤلاء؛ إذ لم يتمكن من بلوغ ميناء ماجادن في الوقت الملائم لركوب السفينة.
قضى كوروليف فترة الشتاء في ماجادن، حيث كان يصلح الأحذية ويقوم بأعمال أخرى صغيرة. وحملته سفينة أخرى إلى فلاديفوستوك، آخر محطة على المحيط الهادئ في خط السكة الحديدية العابر لسيبيريا. وفي كاباروفسك، في الشرق الأقصى، تلقى كوروليف الرعاية الطبية وبدأ يستعيد قدرا من صحته، ثم أعادته الشرطة السرية إلى سجن بوتيركي الشديد الازدحام في موسكو، حيث صدر ضده حكم آخر في منتصف عام 1940 بقضاء ثمانية أعوام أخرى؛ ولكن لم يعد كوروليف إلى كوليما، بل استفاد من قرار آخر من قرارات بريا.
يشير المؤرخ ألكسندر جرشتين قائلا: «كان الجولاج - نظام معسكرات الاعتقال - مصدرا رئيسيا لعمالة السخرة. لم يقرر بريا توفير عبيد لأداء الأعمال البدنية فحسب، بل استحضر أيضا عبيدا لأداء الأعمال الفكرية.» شكل بريا مجموعة من الفرق ذات مهارات فائقة في مجال تصميم الطائرات للعمل خلف الأسلاك الشائكة، مستعينا بالسجناء السياسيين في المناصب الرئيسية، وكان أفراد هذه الفرق يعملون في مكاتب هندسية تقليدية، حيث ينفذون المهام المعتادة في تخصصاتهم، لكنهم لم يكونوا يعودون في المساء إلى عائلاتهم، بل كانوا يقضون الليل في الثكنات؛ حيث يرافقهم حراس طوال الوقت. وكان يطلق على هذه المعاهد اسم «شاراجاس»، وهي كلمة مشتقة من لفظة عامية تعني «خدعة» أو «لعبة خداع» أو «مجموعة من الأشخاص المعدومي الفائدة». وداخل تلك المعاهد، كان بريا يتوقع أن يصمم السجناء طائرة جديدة تستطيع أن تحقق انتصارا حربيا مؤكدا، وكان خيار الترحيل إلى كوليما مطروحا دائما في حال ما لم يتمكنوا من إنجاز مهمتهم.
كان من بين السجناء وقتها معلم كوروليف القديم، أندريه تبوليف، الذي كان قد أشرف على نموذج الطائرة الذي صممه كوروليف بينما كان في معهد بومان الفني العالي. وكان تبوليف قد خالف أوامر ستالين خلال الحرب الأهلية الإسبانية، عندما حقق المقاتلون الألمان تفوقا ساحقا على نظرائهم السوفييت. وكان تبوليف قد صمم قاذفات، وليس مقاتلات، لكن ذلك لم يحدث فارقا؛ إذ زج ستالين بكبار مصممي الطائرات الذين عملوا تحت إشرافه في غياهب السجن على نحو عشوائي. أصدر بريا تعليماته إلى تبوليف بتشكيل فريق تصميم تابع للشرطة السرية، سماه تبولفسكايا شاراجا، وتذكر تبوليف تلميذه القديم كوروليف، الذي سرعان ما انضم إليهم. كما انضم إلى الفريق أحد زملائه المهندسين، ويدعى ليوند كربر، وكتب لاحقا عن ذلك يقول: «اصطحبنا إلى غرفة الطعام، والتفتت الرءوس تجاهنا، وعلت موجة من الهتافات المفاجئة، وأسرع الناس نحونا. كانت ثمة وجوه كثيرة مألوفة وصديقة، وكنا نرى على الموائد تبوليف وبتلياكوف ومياسشتشيف وكوروليف وكثيرين غيرهم من صفوة مبتكري تكنولوجيا الطائرات الروسية. ولم يكن مرجحا أن يكون قد ألقي القبض عليهم جميعا؛ فهم جميعا سجناء، وهو ما كان يمثل كارثة في حق الطيران السوفييتي!»
5
في حقيقة الأمر، لم يكن الأمر كذلك؛ ربما كان بريا شخصا شريرا لا يعرف الرحمة، لكنه لم يكن أحمق وكان يعلم كيف يوفر لهؤلاء السجناء ما يتيح لهم إنجاز مهمتهم. ومع ذلك، يتذكر كربر لاحقا كوروليف ويصفه بأنه «شخص سوداوي ومتشائم، يتسم بنظرة شديدة القتامة عن المستقبل». لم يخف كوروليف ازدراءه للنظام، وكان من المتوقع أن يقتل رميا بالرصاص، وكثيرا ما كان يتمتم قائلا: «سنختفي جميعا بلا أثر. سوف يبيدوننا تماما عن وجه الأرض دون أن تذكرنا الصحف حتى في خبر على إحدى صفحاتها.»
وجد كوروليف في عمله متنفسا وسلوى له. يتذكر أحد زملائه في السجن لحظة سماعه هو وكوروليف لمعزوفة كونشرتو الكمان في الإذاعة، حيث شعر كلاهما بحنين شديد إلى الوطن: «ذرفت الدموع على وجنتي، ونظرت حولي لأرى كوروليف يقف بجواري وعيناه مغرورقتان بالدموع؛ فأجهشت في البكاء بمرارة شديدة، وعاد هو إلى المكتب، وعندما عدت كان يجلس إلى مكتبه منهمكا في العمل الذي يؤديه.»
أثناء العمل في مكاتب تبوليف في موسكو، استعاد فريق السجناء السياسيين العامل تحت إشرافه سمعة قائدهم الطيبة، من خلال نجاحه في تصميم قاذفة ذات محرك مزدوج، وهي قاذفة «تي يو-2». ومع اندلاع الغزو الألماني النازي في يونيو 1941، سادت حالة من الانصراف العام عن الأنشطة البحثية في مجال الطيران. ذهب تبوليف وفريق شاراجا التابع له إلى أومسك شرقا، وأسفرت جهودهم المضنية عن بناء مصنع لإنتاج قاذفات «تي يو-2». وفي بعض الأوقات، كان كوروليف ينجح في الحصول على زجاجة مسروقة من زيت الفرامل المستخدم في الطائرة، الذي كان يحتوي على الكحول، وكان زيتا مطلوبا للغاية. كان مذاق هذا الزيت مريعا، لكنه كان الشراب الكحولي الوحيد المتوفر، واستخدمه كوروليف في بعض الأحيان لرشوة أحد الحراس، حيث نجح في الترتيب لقضاء ليلة مع إحدى النساء.
في تلك الأثناء، كان فالنتين جلشكو قد أنهى أيضا فترة عقوبته بالسجن، وأصبح يدير فريق شاراجا الخاص به في كازان، حيث كان يبني صواريخ الوقود السائل. وكانت هذه الصواريخ عبارة عن وحدات صغيرة، تهدف إلى المساعدة في إقلاع القاذفات ذات الحمولات الثقيلة، وكان كوروليف يعرف جيدا أن جلشكو هو أحد زملائه السابقين الذين خانوا ثقته؛ إذ كتب في خطاب بعثه من السجن: «شوهت سمعتي بشدة من قبل مدير المعهد كليمنوف، ونائبه لانجماك، والمهندس جلشكو.» لكن، كان كوروليف قد تخطى مرحلة أخذ مسألة الخيانة على محمل شخصي، وعندما علم كوروليف بعمل جلشكو، طلب من الشرطة السرية أن تنقله إلى مجموعته؛ ونقل بالفعل في خريف عام 1942. وعلى الرغم من أنه كان لا يزال سجينا، فقد قضى ما تبقى من فترة الحرب منخرطا في هذه المهمة الجديدة.
كانت النجاحات القيمة التي أسفرت عنها مساهمات كوروليف كافية لأن ينال حريته، في منتصف عام 1944، عندما أنهت الشرطة السرية فترة عقوبته في السجن؛ لكنه واصل على الرغم من ذلك العمل مع جلشكو؛ لأن هذه كانت مهمته وقت الحرب. وكان قد ترك زوجة وابنة في موسكو، لكنه لم يرهما مجددا إلا في أغسطس 1945، بعد أربع سنوات من تركه لهما وذهابه إلى أومسك، وبعد سبع سنوات من إلقاء القبض عليه.
في ذلك الوقت، كان عالم تطبيقات الصواريخ مهتما للغاية بإنجازات ألمانيا خلال الحرب في السنوات العشر الماضية. في البداية، كانت مصالح طيران ألمانيا النازية (سلاح لوفتفافا) والجيش الأحمر قد التقت في اهتمام كليهما بالصواريخ من خلال بحث خطة لبناء طائرة اعتراضية صاروخية. ولم يكن الرادار قد اخترع بعد، وكان المسئولون في سلاح لوفتفافا يخشون أن يرصدهم العدو دون دراية منهم، فيضربهم من خلال قاذفات تحلق على ارتفاعات شاهقة. كانت الطائرات الحربية التقليدية تحتاج إلى وقت طويل للغاية للتحليق على هذه الارتفاعات، بينما كانت الطائرات الصاروخية تصل إلى تلك الارتفاعات بسرعة بالغة، وتشتبك مع القاذفات في غضون فترة قصيرة من إصدار الأوامر إليها بذلك.
مع انتشار مفاهيم الصواريخ وظهور بوادر جهود على المستوى القومي، كانت القوات المسلحة في حاجة إلى منشأة كبرى جديدة تتولى إجراء عمليات التطوير والاختبار، ولم تكن أراضي الجيش القديمة المخصصة لإجراء الاختبارات كبيرة بما يكفي. بالإضافة إلى ذلك، ومثلما أشار فون براون لاحقا، فقد أفقدته الاختبارات التي كانت تجريها قوات قريبة على بنادق آلية جديدة التركيز في إحدى عملياته الحسابية؛ لذا، شرع فون براون في البحث شخصيا عن موقع مناسب، موقع يوفر غطاء من السرية الكاملة، بالإضافة إلى مدى إطلاق مفتوح؛ وبدا أن ساحل بحر البلطيق يقدم الخيار الأمثل لذلك الموقع.
عثر فون براون على موقع جيد في جزيرة روجن، لكن حركة «القوة من خلال السعادة» النازية كانت قد اتخذت بالفعل من هذا الموقع وجهة لقضاء العطلات. ثم حل كريسماس عام 1935، الذي قضاه في المنزل مع عائلته؛ قالت أمه: «فيرنر، ذكر والدك، في حديثه إلينا عن الأماكن البعيدة النائية، أنه كان معتادا على صيد البط في أوزدم، قرب بينامونده ...» وكانت هذه البقعة النائية المتمثلة في جزيرة أوزدم، المتاخمة لساحل شمال شتاتين، مثالية. وسرعان ما تبرع سلاح لوفتفافا وفيرماخت، الجيش الجديد القوي، بمبلغ قدره أحد عشر مليون مارك ألماني لتمويل المرحلة الأولى من إقامة مركز صواريخ بينامونده.
تطور المركز ليصير مكانا رائعا لا نظير له في أي مكان في العالم. وكانت منصة الاختبار 1، التي كانت عبارة عن منشأة ضخمة يزيد ارتفاعها عن الأشجار القريبة، مزودة بمحركات صاروخية تزيد قوة دفعها عن 200 ألف رطل؛ بينما كانت منصة الاختبار 7، التي كان ارتفاعها مائة قدم، تستطيع حمل صاروخ «إيه-4» كامل في وضع إشعال استاتيكي لمحركه، ثم تعود إلى الوضع السابق استعدادا للانطلاق. سعت هيئة القياسات، وهي مركز متخصص في استخدام الأدوات المتطورة، إلى وضع نظم توجيه تعمل بأسلوب التحكم الآلي. وكان ثمة مصنع لإنتاج الأكسجين السائل، ونفق هوائي بسرعات تفوق سرعة الصوت، وموقع رادار، ومنصة لإطلاق الصواريخ البحرية غير المأهولة، فضلا عن منشآت إنتاج لتصنيع صواريخ «إيه-4»، يعادل طول كل منها ارتفاع مبنى من أربعة طوابق، من خلال خط تجميع. بالإضافة إلى وجود معسكر لأسرى الحرب، الذين كانوا يخدمون كعمال في المركز.
كانت بينامونده في حاجة إلى هذه المختبرات البحثية؛ إذ كان المهندسون والعلماء العاملون في المركز، أثناء مباشرة عملهم في تصميم صاروخ «إيه-4»، يقدمون ابتكارات غير مسبوقة في عدة مجالات. وقد استحوذ محركه الصاروخي على الاهتمام مبكرا؛ فقد كانت قدرة المحرك تتجاوز 800 ألف حصان، وكان يتعين تبريده مثل أي محرك، وكانت خزانات التبريد المملوءة بالمياه ثقيلة للغاية، لكن كان لدى والتر ثيل، الذي كان مسئولا عن تطوير الصواريخ، أسلوب مختلف، ألا وهو التبريد الاسترجاعي. كان هذا النوع من التبريد يقتضي تدفق الوقود، ممثلا في الكحول، عبر أنابيب رفيعة تحيط بغرفة الدفع والفوهة من الخارج، ثم يمتص الوقود الحرارة، وعندما ترتفع درجة حرارته بشدة، يحترق بقوة مولدا مزيدا من الطاقة.
على الرغم من ذلك، أظهرت تجارب ثيل أن هذا الأسلوب وحده لم يكن كافيا؛ فالمحركات التي يجري تبريدها بأسلوب التبريد الاسترجاعي كانت تحترق في المواضع الساخنة من المحرك، وتصدر عنها انفجارات هائلة، وكان الحل هو عمل ثقوب صغيرة قرب نهاية الفوهة، في أضيق مواضع المحرك وأكثرها سخونة. ويعمل الكحول، المتسرب عبر هذه الثقوب، كطبقة تبريد عازلة وواقية فوق لوح الفوهة المعدني؛ ويعرف هذا الأسلوب في التبريد باسم التبريد الغشائي. وبالفعل نجح هذا الأسلوب وساعد في بناء محرك يمكن التعويل عليه.
بالإضافة إلى ذلك، ظهرت مشكلة أخرى وهي كيفية تزويد هذا المحرك بوقود دفعي بمعدل السرعة المطلوبة، وهو 275 رطلا في الثانية. حققت الخزانات المكيفة الضغط نجاحا في الصواريخ الصغيرة، لكن في الخزانات الكبيرة لصواريخ «إيه-4»، اقتضى الأمر تصنيع خزانات ثقيلة للغاية حتى تستطيع مقاومة الضغط الناتج. وكان من بين البدائل المطروحة استخدام مضخة توربينية، وهي عبارة عن مضخة تعمل بتوربين بخاري خفيف الوزن؛ الأمر الذي بدت متطلبات تحقيقه مخيبة للآمال.
زار فون براون أحد مصانع المضخات وقدم مواصفاته المطلوبة، وكان المطلوب هو تصنيع مضخة توربينية تعمل بضغط عال مقداره 300 رطل لكل بوصة مربعة، بينما تضخ كمية 50 جالونا في الثانية لأعلى. ولكن الأمر اقتضى تركيبا خاصا حتى تحقق المضخة درجة عالية من الموثوقية؛ فلا بد أن تصل المضخة إلى كامل سرعتها في غضون ثوان معدودة، ثم تحافظ على ضغط التصريف ومعدل التدفق المتوفرين بها دون أي تغيير تقريبا. وبالإضافة إلى ذلك، كان يشترط أن تكون خفيفة الوزن للغاية.
توقع فون براون أن يعترض المصممون في المصنع ويزعمون أنه يطلب المستحيل، لكنهم أخبروه أن ما كان يطلبه لم يكن سوى المضخة التي يستخدمها رجال المطافئ؛ إذ كانت المواصفات المطلوبة واحدة في الحالتين: تصميم بسيط، سرعة في الأداء، معدل تدفق مرتفع جدا، ضغط تصريف ثابت يسمح لرجل المطافئ بحمل خرطوم المياه في ثبات. وكانت المضخات المتوافرة تقدم الأساس لما كان يريده فون براون.
كان التوربين البخاري الذي سيحرك المضخة يمثل مشكلة أخرى؛ فلم يكن من الصعب تطوير التوربينات نفسها، بل كانت المشكلة تكمن في توليد التدفق القوي من البخار الساخن ذي الضغط المرتفع لتشغيل المضخة؛ وتمثل حل هذه المشكلة في بروكسيد أكسيد الهيدروجين. وبتوخي الحذر اللازم، أمكن تخزين محلول نقي تماما بأمان، محلول من شأنه أن يعمل في الحال عند تحلله على توليد تدفق البخار بالمعدل المطلوب، وسيكون مولد البخار بدوره أخف كثيرا وأكثر انضغاطا وأكثر قوة وأسرع أداء من أية غلاية. وهكذا، توفر حل فني لهذه المشكلة، ولم يكن حلا عمليا فحسب، وإنما كان أيضا حلا رائعا.
كانت مسألتا التوجيه والتحكم تمثلان صعوبات أكبر؛ فالحفاظ على استقامة الصاروخ أثناء توازنه مع تدافع العادم النفاث منه، بعد عملية الإقلاع مباشرة، يشبه الحفاظ على مكنسة في وضع قائم أثناء توازنها على ظهر اليد. يجب الانتباه جيدا إلى أي ميل في بدايته أو حال الشعور به، ثم التدخل بحركة معينة لتصحيح هذا الميل. في مجال علم الصواريخ، تعمل البوصلات الجيرسكوبية كأجهزة استشعار وترسل إشارات إلى جهاز التحكم يتغير على أساسها مسار عادم الصاروخ؛ مما يوفر قوة تصحيحية. لكن، يجب أن يلتفت في عملية توجيه الصواريخ إلى التعامل مع هبات الرياح؛ إذ يجب إمالة الصاروخ في عمليات التحليق البعيد المدى، والمحافظة على ثبات الصاروخ بينما يقوم بذلك؛ كما يجب مواءمة الوزن المتغير للصاروخ مع احتراق الوقود الدفعي الخاص به، وتغير موضع مركز ثقل الصاروخ، فضلا عن الخواص الديناميكية الهوائية التي تتغير مع تجاوز الصاروخ سرعة الصوت.
قدمت نظم الطيران الآلي التي استخدمت في ثلاثينيات القرن العشرين نقطة بداية جيدة. لكن، لم يكن أحد قد بنى نظم توجيه كهذه من قبل، واستغرق الأمر عدة سنوات لإقامة مزيج من المختبرات الموجودة داخل المؤسسات وفي شركات صناعة الصواريخ والجامعات، يكون في إمكانه معالجة مسألة التوجيه هذه. فشلت المحاولة الأولى لتوجيه الصواريخ التي من طراز «إيه-3» فشلا ذريعا، ولم تستطع عملية التوجيه حتى التعامل مع الرياح القوية . وأظهرت الأبحاث اللاحقة أن المشكلات فاقت في صعوبتها كل التوقعات، وهو ما استجاب فون براون له بإنشاء مختبر التوجيه الخاص به. وعلى الرغم من المعادلات الرياضية التي كان حلها يساعد في تصميم نظام التوجيه، فإنها كانت معادلات صعبة للغاية في تطبيقها. وحدث تطور مهم عندما صمم أحد العلماء العاملين في مختبر فون براون نموذجا مبكرا لجهاز كمبيوتر تناظري إلكتروني يستطيع حل المعادلات الرياضية؛ وتبين أن تطوير نظام توجيه أمر صعب للغاية، حتى إن فون براون صمم نوعا جديدا تماما من الصواريخ، هو «إيه-5»، لاختبار النظم التجريبية. وحتى عندما دخلت صواريخ «إيه-4» مرحلة اختبارات التحليق، كان الاعتماد ينصب في البداية على نظم التوجيه المؤقتة التي كانت في حاجة إلى مزيد من التطوير.
وصل أول صاروخ تجريبي إلى منصة الإطلاق في يونيو 1942 لكنه سقط، ثم تلاه صاروخ تجريبي ثان ولاقى المصير نفسه. أما محاولة الإطلاق الثالثة، فكانت هي المحاولة الناجحة؛ فقد ارتفع الصاروخ في سماء أكتوبر الزرقاء وبلغ ارتفاع 118 ميلا، وهو ما كان يقترب على نحو مشجع من الارتفاع الذي كان دورنبرجر يهدف إلى بلوغه، وهو 160 ميلا. ولكن لم يتذكر الناس هذه المحاولة إلا لفترة وجيزة. وأجريت خلال الأشهر الستة التالية إحدى عشرة عملية إطلاق أخرى، لكن لم تكن أي منها مطابقة في أدائها لمحاولة إطلاق الصاروخ التجريبي الثالثة. ولم يبدأ صاروخ «إيه-4» في التحليق بثبات وبلوغ المدى الكامل للتحليق حتى ربيع 1943.
في ذلك الوقت، كان الوضع العسكري الألماني يزداد سوءا، وكان من بين نقاط التحول الرئيسية التي حدثت في وقت مبكر من ذلك العام الهزيمة التي تكبدها الجيش الألماني في معركة ستالينجراد، التي قضت على أي أمل في تحقيق النصر على الجبهة الشرقية؛ فجوا، كانت قاذفات قوات الحلفاء تقذف أهدافها بقوة متزايدة، وكانت مدينة الرور الصناعية هدفا خاصا. وصرح هيرمان جورنج، قائد سلاح لوفتفافا، مفاخرا في عام 1939: «لن تتعرض الرور لقذيفة واحدة.» ولكن القوات الجوية الملكية شنت عليها ستا وعشرين غارة مكثفة خلال ربيع 1943. بالإضافة إلى ذلك، في إنجاز رائع، أحدثت قوة القاذفات المجهزة تجهيزا خاصا صدعا في سدين من أكبر السدود في البلاد، وهما سدا مونه وإدر، وهو ما أسفر عن تدفق ثلث كمية المياه في الخزانين، التي تقدر بمليار طن، بسرعة تدفق هائلة عبر مدينة الرور. وسرعان ما تفاقمت الأمور وازدادت سوءا؛ ففي شهر يوليو، دارت معركة الدبابات الكبرى في كورسك، وهي المعركة التي بادر فيها السوفييت بالهجوم وواصلوا عملياته. وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، أدت مجموعة من الغارات الجوية البريطانية المكثفة على مدينة هامبورج إلى إضرام النيران في كل مكان؛ مما أدى إلى احتراق المدينة عن بكرة أبيها. وكانت هامبورج هي المدينة الأولى التي تحترق على هذا النحو، لكنها لم تكن الأخيرة.
ظل هتلر على مدار سنوات يمول عددا من مشروعات التطوير المكلفة، ومنها مشروعات تصنيع الأسلحة المتطورة، وكانت أربعة مشروعات منها قد بلغت مراحل متقدمة وأصبحت جاهزة لدخول طور الإنتاج؛ ألا وهي: الطائرة النفاثة طراز «مسرشميت مي 262»، وطائرة صاروخية اعتراضية طراز «مي 163»، وصاروخ باليستي طراز «إيه-4»، وصاروخ «كروز» نفاث طراز «فيزلر في-103». وقدمت هذه الأسلحة الفائقة، التي أطلق عليها «أسلحة ووندر»، احتمالات مغرية حقا. وكان التصور الموضوع وقتها أنه إذا استطاعت ألمانيا بناء هذه الأسلحة بكميات كافية، فربما تتمكن الطائرات الألمانية من صد الهجمات الجوية المتزايدة التي تشنها قوات الحلفاء، وربما توفر الصواريخ سلاحا ألمانيا جديدا، يستخدم في قصف لندن بقوة هائلة، ويعيد للألمان الموقف الهجومي. لاقى طراز «إيه-4» استحسانا خاصا؛ إذ كان في مقدوره الطيران بسرعة تزيد خمس مرات عن سرعة الصوت، ولم يكن ثمة أي نظام دفاعي قائم بإمكانه صده.
مع ذلك، عندما جرت الموافقة على إنتاج الصاروخ «إيه-4» واستخدامه على نطاق واسع، لم يكن السبب في ذلك أن الصاروخ أثبت كفاءة في الأداء، بل لأن هتلر ومعاونيه كانت لديهم رغبة متزايدة لتجربة أي شيء. وصف دورنبرجر موقف هتلر ابتداء من شهر يوليو ذلك، عندما التقى هو وفون براون مع الفوهرر لشرح الوضع الحالي للصاروخ «إيه-4». وخلال ذلك الاجتماع، تجاوز هتلر مرحلة الأمل إلى عالم اللامعقول.
قال هتلر، متجاهلا من كان السبب الأول في الحرب: «لو كانت هذه الصواريخ قد توافرت لدينا في 1939، لما خضنا هذه الحرب. من الآن فصاعدا، ستصبح أوروبا - بل العالم أجمع - أصغر كثيرا من أن يحتوي حربا واحدة، ولن تستطيع الإنسانية تحمل ويلات هذه الأسلحة وآثارها.» دعا هتلر إلى إقامة غرف محصنة لتكون بمنزلة مواقع إطلاق وأضاف قائلا: «ستجتذب هذه الملاذات طياري العدو كانجذاب الذباب نحو آنية العسل، وكل قنبلة تسقط عليهم سيكون مفادها سقوط قنبلة واحدة على الأقل على ألمانيا.»
بعد الإقرار بقدرة الصاروخ «إيه-4» على حمل حمولة حربية زنة طن، سأل هتلر ضيوفه عن إمكانية زيادة هذه الكمية إلى عشرة أطنان؛ فأجاب دورنبرجر أن حمولة عشرة أطنان من الرءوس الحربية سوف تقتضي تصميم صاروخ أكبر بكثير، وهو ما قد يستغرق سنوات في تطويره. لمعت عينا هتلر عندما رد قائلا: «لكنني أريده دمارا، دمارا شاملا!» وعندما أجاب دورنبرجر قائلا: «لكنني لم أكن أفكر في إحداث دمار شامل.» استدار هتلر إليه في غضب عارم وقال: «أنت! أعلم أنك لم تفكر في ذلك، لكنني فكرت!»
6
ماذا قدم دورنبرجر، على أية حال، في هذا الاجتماع؟ ماذا كان ذلك السلاح الذي كان يفتقر إلى القدرة التدميرية الشاملة بينما لا يزال يمثل سلاحا حربيا مريعا لا تستطيع الإنسانية تحمل آثاره؟ كان هتلر قد سمع عن أن القنبلة الذرية ربما تصبح ذات يوم سلاحا ممكنا، وكان قد أخبر المارشال إرون روميل قبل ذلك بعام عن مادة متفجرة ستظهر في المستقبل تستطيع «إسقاط رجل أرضا عن صهوة جواده لمسافة تتجاوز الميلين». وبالطبع، استطاع الصاروخ «إيه-4» أن يترك انطباعا أقوى من هتلر لدى الأشخاص الأقل ميلا إلى الخيالات، وعندما رأى ديتر هوزيل - أحد زملاء فون براون - بعض هذه الأسلحة للمرة الأولى عن كثب، ظن أنها «قادمة إلى الأرض من وحي فيلم الخيال العلمي «امرأة على القمر».»
في حقيقة الأمر، خلال سنوات ما بعد الحرب، قدم صاروخ «إيه-4» تصورات حول إمكانية تصنيع مركبات فضائية قوية في المستقبل؛ لكن آمال هتلر كانت تمضي في اتجاه مختلف، وهو تصنيع أسلحة دمار شامل. ومع ذلك، فبالنسبة إليه، ومثلما كانت الحال بالنسبة إلى الكثيرين، استحضر الصاروخ تصورات حول الشكل الذي ستكون عليه الأمور في المستقبل. وكما كان الصاروخ مصدر إلهام لجيل من رواد الفضاء المرتقبين، فقد كان مصدر إلهام مشابها لهذا الرجل المصاب بجنون العظمة الذي حلم ببناء ترسانة من الأسلحة القوية القادرة على تدمير العالم.
بارك هتلر هذه الأسلحة الأربعة جميعها، وحظي الصاروخ «إيه-4» والصاروخ «كروز» طراز «في-103» بأولوية كبيرة. انفرد الصاروخ «كروز» طراز «في-103» بميزة خاصة؛ لأن تكلفته لم تكن باهظة ويمكن إنتاجه بأعداد كبيرة. وضع جوزيف جوبلز، وزير الدعاية، لمسته الخاصة على هذه المشروعات؛ حيث أطلق عليها «أسلحة الانتقام». أما عن صواريخ «كروز»، فقد دخلت الخدمة باسم «في-1»، وصار اسم الصاروخ «إيه-4» - وهو السلاح الأكثر فاعلية - هو «في-2»؛ مما يوحي بتطوير أسلحة أكثر فتكا.
أصبح إنتاج الأسلحة من المسائل المهمة التي تحتل مكانة الصدارة، واتضح على إثر غارة جوية بريطانية شنت على بينامونده في أغسطس 1943 ضرورة إقامة منشآت جديدة لاستيعاب الجهود المبذولة في تطوير الصاروخ «في-2». عثر مدير الإنتاج، جيرهارد ديجينكولب، على ضالته في مستودع لتخزين النفط تحت الأرض في منطقة جبال هارتس قرب نوردهاوزن. وللبدء في إنتاج هذا الطراز من الصواريخ بأعداد كبيرة، وإدخاله حيز التنفيذ الفعلي، لجأ النازيون إلى نظام عمال السخرة. كانت فرقة القوات الخاصة هي المسئولة عن إدارة العاملين بالسخرة في الرايخ الثالث؛ وصار الكولونيل هانز كاملر، المنتمي إلى هذه الفرقة، شخصية رئيسية في برنامج صواريخ «في-2». وكانت مؤهلاته رائعة؛ فقد أدى دورا مهما في تدمير الأحياء اليهودية في وارسو، وصار مسئولا فيما بعد عن تصميم المحارق وبنائها في أوشفيتس.
كانت المنشآت التي شيدت تحت الأرض في حاجة إلى توسعات، وشرع سجناء كاملر في أعمال التوسيع باستخدام الفئوس؛ حيث تعرضوا للاختناق من جراء الغبار الذي كان يحتوي على النشادر اللامائية. ولم يكونوا يغتسلون ولم توفر لهم مراحيض، وكانوا يقضون حاجتهم حيث هم واقفون ، ومن ثم كانت تفوح من المكان رائحة نتنة مثل رائحة المصرف الصحي. كان السجناء يعيشون في معسكر اعتقال يسمى دورا، أحد فروع بوخنفالد، وكانوا يتعرضون للضرب ويعانون من سوء التغذية والإجهاد من جراء العمل الزائد، وكانت أمراض الالتهاب الرئوي والتيفود والدسنتاريا والسل منتشرة بينهم، وعلى الرغم من أن معسكر دورا لم يكن معسكر إبادة، كانت فرقة القوات الخاصة تنفذ أحكام إعدام متكررة. وفي البداية، كان الموتى ينقلون إلى بوخنفالد لدفن جثثهم، ولاحقا صار دورا معسكرا صالحا لدفن الموتى، ولاقى نحو عشرين ألف شخص حتفهم هناك. عندما ذهب المسئولون البريطانيون إلى المعسكر في نهاية الحرب، وجدوا نقالات مشبعة تماما بالدم، فضلا عن حفرة كبيرة ممتلئة برفات جثث بشرية.
إلى أي مدى كان فون براون على دراية بتلك الأوضاع ومتى عرف بها؟ كان يعرف الكثير؛ إذ كان يزور هذه المعسكرات على نحو متكرر، وكان أخوه ماجنوس يعمل مديرا في مصنع نوردهاوزن. ومع ذلك، كان فون براون المدير الفني في بينامونده، وهو ما كان يعني أنه يدير عمالة عالية المهارة لم تكن تعتمد على عمال السخرة. وعلى الرغم من معرفته بالفظائع التي كانت ترتكب في نوردهاوزن، فلم يكن مسئولا عنها وتجنب الانخراط الشخصي فيها، وهو ما أعفاه من المسئولية عن جرائم كاملر ضد الإنسانية. وفي عام 1945، لقي كاملر حتفه رميا بالرصاص على يد معاونه، وهو مصير فضله كاملر على خزي الوقوع في الأسر.
انطلقت الصواريخ الأولى من طراز «في-1» في يونيو 1944 مستهدفة لندن، لكن ثبت ضعفها أمام الدفاعات الجوية البريطانية. وبنهاية الصيف، كانت إنجلترا قد استطاعت الحد كثيرا من تهديد تلك الصواريخ. وتباينت هذه النتيجة مع حملة قصف قوات الحلفاء، التي ظلت تكتسب مزيدا من القوة.
كان الصاروخ «في-2» مختلفا؛ فلم تستطع أي دفاعات جوية إسقاطه، لكنه لم يدخل الخدمة إلا في سبتمبر 1944، في وقت كانت الجيوش الأمريكية والبريطانية قد استردت باريس وكانت تقاتل في شراسة للاستيلاء على الراين. نجح الألمان في إطلاق حوالي 3225 صاروخا طراز «في-2» خلال الأشهر العديدة التالية، حيث وجهوا عددا أكبر من الصواريخ نحو أنتويرب مقارنة بما وجهوه نحو لندن. وعلى الرغم من أن الكثير من تلك الصواريخ أخفق في إصابة أهدافه، فإن حمولة المواد المتفجرة الناتجة التي كانت تزن أكثر من 3000 طن تماثل حمولة 1500 قنبلة تقريبا لقاذفة القنابل طراز فلاينج فورترس، وهي الطائرات الحربية التقليدية في مسرح العمليات الأوروبية.
على الرغم من ذلك، تمثل هذه الأرقام الأثر الإجمالي الذي أحدثه الصاروخ «إيه-4» خلال فترة الحرب بأسرها، ولم يتخط سقف الإنتاج أكثر من 700 صاروخ شهريا، وهو ما كان يماثل على أقصى تقدير غارة جوية كبيرة نوعا ما كل بضعة أسابيع. مع ذلك، كان سلاح القاذفات التابع لقوات الحلفاء يشن 363 غارة جوية على برلين وحدها، في ظل غياب أسلحة ووندر. وأشار ونستون تشرشل إلى أنه في حالة الصاروخين «في-1» و«في-2»، «بلغ متوسط الخطأ أكثر من عشرة أميال. وحتى إذا استطاع الألمان الحفاظ على معدل إطلاق قدره مائة وعشرون قذيفة يوميا، فإن الأثر الذي يحدثه ذلك سيكون مماثلا لأثر قنبلتين أو ثلاث زنة طن واحد لكل ميل مربع أسبوعيا». وكان اللورد تشرويل، المستشار العلمي لتشرشل، يعتقد لفترة أن الصاروخ «في-2» كان يمثل خدعة كبرى؛ إذ لم يكن مقتنعا أن تهدر ألمانيا مواردها في سلاح قليل الفاعلية كهذا.
كانت أسلحة هتلر الأخرى - المتمثلة في الطائرة المتطورة - أقل فاعلية، وكانت طائرة «مي 262» طائرة مقاتلة نفاثة بمعنى الكلمة، فهي ذات كفاءة جيدة تكفي لأن تحارب جنبا إلى جنب مع الطائرات الأمريكية النفاثة لفترة ما بعد الحرب في الحرب الكورية. لكن إذا كانت طائرة «مي 262» قد قدمت رؤية عن الصراع المقبل؛ فقد أثبتت أيضا عدم فاعليتها في الصراع المعول عليه، وهو الحرب العالمية الثانية. ولم يكن لها نظير في مناوراتها الجوية، لكنها كانت تفتقر إلى قوة التحمل، وكانت تحلق لفترات قصيرة في الجو، وكانت هدفا يسهل اصطياده على الأرض. وفي حقيقة الأمر، كانت قواعد طائرات «مي 262» هي ما جذب طياري قوات الحلفاء كانجذاب الذباب نحو آنية العسل. وفي نهاية الحرب، أعلنت القوات الجوية الأمريكية أن طائرات «مي 262» أسقطت لها 52 قاذفة، فضلا عن 10 طائرات مقاتلة. وكان سجل الآثار التي خلفتها الطائرة الاعتراضية الألمانية «مي 163» أثناء الحرب أكثر سوءا؛ حيث أسقطت تسع طائرات، كان من بينها حالتان غير مؤكدتين.
هل كانت هذه النتائج حتمية الحدوث؟ بالطبع كان من المنتظر أن تكون هذه الأسلحة أكثر فاعلية لو أنها شاركت في المعارك في تاريخ مبكر عن ذلك، أو لو كانت ألمانيا قد نجحت في مد فترة الحرب. لكن، أجرت طائرة «مي 163» الاعتراضية رحلة تجريبية في عام 1941، حيث بلغت سرعتها 624 ميلا في الساعة في وقت لم يكن ثمة الكثير من الطائرات المقاتلة التي تستطيع تخطي حاجز 400 ميل في الساعة. ونجحت الطائرة الاعتراضية «مي 262» في التحليق بنجاح في يوليو 1942، بينما نجح الصاروخ «إيه-4» في الانطلاق بعد ذلك ببضعة أشهر. انطلاقا من هذا المنظور، لم يكن المهم هو معرفة إن كان هتلر قد أطلق برنامج إعادة تسليح جاد في فترة مبكرة من عام 1935، أو أن الحرب قد بدأت في عام 1939؛ إذ كان التوقيت المناسب هو في ربيع وصيف 1943، عندما تحولت أحداث الحرب على نحو حاسم ضد الألمان. وربما كانت الأسلحة جاهزة في وقت مبكر عن ذلك، لكن لكي يحدث ذلك، كان لا بد أن تعطى الأولوية مبكرا لتلك الأسلحة. يتعارض هذا المسار بشدة مع الميل الطبيعي لدى جميع قادة الحرب نحو استخدام الأسلحة التي ثبتت كفاءتها وجاهزيتها.
إنه لقائد متهور حقا الذي يخاطر بمصير بلاده نظير ما هو غير مألوف وغير مؤكد. هذا ما فعله هتلر، فقد أعطى الأولوية لأسلحة الانتقام، في لحظة من اليأس والتهور لم يفصله فيها عن الهزيمة المحققة إلا فترة تقل عن عامين. وحدد هذان العامان، في مقابل الأعوام الستة للحرب كلها، الوقت الذي كان بمقدور صواريخ وطائرات هتلر المتطورة أن تحقق بصمتها خلاله. ولم يكن الوقت كافيا.
على الرغم من ذلك، إذا كان الصاروخ «في-2» قد بدا غير فعال في ربيع 1945، فإنه لم يعد كذلك في الصيف؛ فقد طرح ظهور القنبلة الذرية المفاجئ الاحتمال المباشر بوجود سلاح ووندر حقيقي، وهو صاروخ باليستي بعيد المدى يحمل رأسا نوويا. وزاد هذا الاحتمال كثيرا من أهمية اللجنة الفنية المشتركة، وهي مجموعة عليا من اختصاصيين سوفييت في علم الصواريخ، كانوا في ألمانيا سينهلون قدر استطاعتهم من تكنولوجيا الصواريخ في هذه البلاد. وفي سبتمبر 1945، ذهب كوروليف إلى برلين بوصفه أحد أعضاء اللجنة.
شارك أعضاء اللجنة مراقبين في ثلاث من عمليات إطلاق الصواريخ «في-2»، بينما كانت القوات البريطانية توجه الأسلحة بعيدا صوب بحر الشمال. وفي ذلك الوقت، كان كوروليف يحمل رتبة مقدم في الجيش، لكنه كان لا يزال في رتبة أدنى مما يسمح له بحضور عملية الإطلاق الميدانية؛ لذلك، كان مضطرا إلى مراقبة عملية الإطلاق من خلف السياج. لكن، أعدته هذه المهمة لقيادة برنامج تطوير الصواريخ في بلاده.
يروي المؤرخ جرشتين قائلا: «نحن الروس لدينا مثل يقول: أنا ديك، وظيفتي أن أصيح. وإن لم تشرق الشمس، فلا آبه بذلك.» ولكن كوروليف كان عنيدا، ويتصرف وفق ما تمليه عليه نفسه على أية حال؛ كان فظا وصريحا في الدفاع عن وجهة نظره خلال المناقشات مع زملائه. بادر بوضع الإطار العام لبرنامج الصواريخ الذي كان يعتمد على ما أنجز في المشروع الألماني، كما كان يتحمل مسئوليات متزايدة في الاضطلاع بأنشطة اللجنة.
في ذلك الوقت تحديدا، كان ستالين بصدد إصدار تعليمات إلى وزير التسليح لوضع برنامج صواريخ مماثل. وكان الوزير، ديمتري أوستينوف، قد حاز الأفضلية من خلال حملات التطهير الواسعة التي أجراها ستالين في المناصب الحكومية العليا؛ وكان قد ارتقى سريعا في المناصب الحكومية من خلال شغل المناصب الشاغرة، وصار وزيرا في المجلس الوزاري عام 1941، في سن الثانية والثلاثين، وأدار بعد ذلك برامج الإنتاج الواسع النطاق التي كانت تزود الجيش بالأسلحة اللازمة لخوض الحروب.
في عام 1946، سافر أوستينوف إلى ألمانيا، والتقى كوروليف، ثم أعلن إعجابه به. على الرغم مما تعرض له كوروليف مؤخرا من السجن، فإنه لم يكن شخصا متملقا أو منافقا؛ بل كان يطرح وجهات نظره بشجاعة ويدافع عنها، حتى إذا عارضه أوستينوف الرأي واختلف معه. وكان زملاؤه من المهندسين يعرفون عنه أنه قد يعنف المرء لإهماله أو عدم انتباهه، لكن غضبه لم يكن يستمر طويلا، ولم يكن يضمر ضغينة لأحد؛ وكان سريع الصفح والعفو. بالإضافة إلى ذلك، حاز ولاء زملائه وإخلاصهم له؛ لأنه لم يكن يتردد في الثناء على من يستحق الثناء، كما كانت لديه خطة لإقامة منظمة صواريخ تنفذ توجيهات ستالين.
عين أوستينوف كوروليف رئيس قسم في معهد بحثي جديد يسمى «إن آي آي-88»، وكانت مسئولية المعهد تنصب في تنفيذ مجموعة كبيرة من الأنشطة في مجال تطوير الصواريخ، وكانت مسئولية كوروليف تكمن تحديدا في الصواريخ البعيدة المدى. وعندما جاء إلى المعهد كان مديرا في المستوى الإداري الأوسط، حيث يشرف على طاقم فني مكون من اثنين وخمسين مهندسا، وتفصل بينه وبين أوستينوف أربعة مستويات إدارية؛ ومع ذلك، كان في موقع يسمح له بتوسيع مجال عمله المحدود إلى ما هو أكبر، حيث كان ستالين مهتما آنذاك بالصواريخ البعيدة المدى. وبالطبع، لم يعد كوروليف سجينا سياسيا. وبينما كان في ألمانيا، أعجب بالسيارات القوية في تلك البلاد؛ واقتنى إحداها بالفعل. وكان الناس يطلقون عليه «كورول»؛ أي الملك.
كان جهد كوروليف المباشر يتمحور حول الصاروخ «في-2» السوفييتي الصنع، وشكل هذا الصاروخ نقطة ارتكاز في إنتاج الصواريخ وتدريب قوات الصواريخ الميدانية، لكنه لم يكن سلاحا واعدا. وفي أحد الاجتماعات في الكرملين في أبريل 1947، ذكر جورجي مالينكوف، أحد معاوني ستالين، وزير الطيران قائلا: «لن نخوض حربا مع بولندا. يجب ألا نغفل أن ثمة محيطات شاسعة تفصل بيننا وبين عدونا المحتمل.»
في اليوم التالي، مع استئناف الاجتماع، تلقى ستالين تقريرا موجزا حول احتمالات إطلاق صواريخ عابرة للقارات، وأجاب قائلا: «هل تدركون الأهمية الاستراتيجية الهائلة لآلات من هذا النوع؟ ربما تمثل تلك الآلات أداة فعالة لتقييد قدرات ذلك التاجر المثير للصخب هاري ترومان. أيها الرفاق، يجب أن نسبق الآخرين إلى ذلك؛ فصنع صواريخ عابرة للأطلنطي مسألة شديدة الأهمية بالنسبة إلينا».
7
وسيكون لكوروليف دور رائد في صنع تلك الصواريخ.
الفصل الثاني
المبتكرون الأمريكان
ازدهار صناعة الصواريخ في أمريكا
بالإضافة إلى هيرمان أوبيرت وقسطنطين تسيولكوفسكي، كان ثمة رائد ثالث من رواد رحلات الفضاء، وهو روبرت جودارد، من مدينة وورسستر في ولاية ماساتشوستس الأمريكية. ظهر جودارد بوصفه أكاديميا حاصلا على درجة الدكتوراه في الفيزياء من جامعة كلارك في مدينته الأم، وكان قسم الفيزياء في جامعة كلارك صغيرا لكنه متميز. في عام 1907، بينما كان لا يزال جودارد في الجامعة، حصل رئيس القسم وقتها - وهو ألبرت ميكلسون - على جائزة نوبل في الفيزياء ليكون أول أمريكي يفوز بها. ومكث جودارد في كلارك حتى صار أستاذا، وبينما اكتفى أوبيرت وتسيولكوفسكي في معظم الوقت بالكتابة عن الصواريخ الفائقة الأداء، أخذ جودارد خطوات واسعة في سبيل جعلها حقيقة.
بدأ أولا بحلم الطيران إلى المريخ في عام 1899 بينما كان عمره سبعة عشر عاما، بعد قراءة رواية إتش جي ويلز «حرب العوالم». وقادته دراساته في الفيزياء إلى دراسة علم الصواريخ، ووضع برنامج من التجارب، سرعان ما صار مكلفا على نحو فاق راتبه الذي كان يبلغ وقتها 1000 دولار أمريكي سنويا. لكنه كان يعرف أن معهد سيمثونيان له سجل حافل في دعم أبحاث الطيران؛ فتقدم بطلب وفاز بمنحة قدرها 5000 دولار أمريكي، وعندما وصله شيك بمبلغ الألف دولار الأولى عبر البريد، صاحت أمه في انفعال: «فكر في الأمر! ترسل إلى الحكومة بضع أوراق مكتوبة على الآلة الكاتبة وبعض الصور، ثم يرسلون إليك 1000 دولار أمريكي ويخبرونك أنهم سيرسلون إليك أربعة آلاف أخرى.» استمرت علاقة جودارد بمعهد سيمثونيان بقية حياته.
ظهرت نتيجة مبكرة لتلك العلاقة في عام 1920، حيث نشر المعهد أفكار جودارد المبكرة حول الصواريخ في كتيب من تسع وستين صفحة بعنوان «أسلوب بلوغ الارتفاعات الشاهقة». وفي ملاحظة هامشية نوعا ما، ضمن جودارد في الكتيب مناقشة موجزة حول صاروخ ينطلق إلى القمر، ويعلن عن وصوله من خلال تفجير شحنة متفجرة من البارود اللامع. نشر معهد سيمثونيان هذه الرحلة الفضائية في بيان صحفي، بل ألقي أيضا مزيد من الضوء عليها في صحف كبرى، من بينها صحيفة «نيويورك تايمز»، التي نشرت الخبر تحت عنوان: «الهدف العاشر للصعود إلى القمر على متن صاروخ جديد». صدم جودارد الذي كان يكره المبالغات الدعائية؛ فقد كان خجولا بطبيعته، وكتوما ومتحفظا، وازداد الأمر لديه الآن. وخلال العقود التالية لتلك الواقعة، لم يكن ينسحب من الأضواء العامة فحسب، بل من رفقة المهندسين المحترفين الذين ربما كان يعاملهم بوصفهم أندادا له.
ساهمت أبحاث جودارد المبكرة في تطوير أداء صواريخ الوقود الصلب على نحو بالغ؛ فقد اتجه جودارد إلى استخدام الوقود السائل، وفي مارس 1926 أطلق أول صاروخ وقود سائل في العالم، قبل خمس سنوات من تجربة الألمان، وقبل سبع سنوات من طرح طراز «09» الذي أطلقه كوروليف. وبلغ الصاروخ ارتفاع 184 قدما؛ احترق جزء من الفوهة، لكن هذه الرحلة القصيرة كانت كافية لإثبات أهمية ما قام به وتأكيد السبق له. لكن، من اللافت للنظر أن جودارد لم يصرح بأي بيان يعلن فيه عن هذه الرحلة.
كانت المنطقة التي أجرى فيها جودارد تجربة الإطلاق عبارة عن مزرعة فراولة في مدينة أوبرن القريبة، وهي مزرعة مملوكة لإحدى قريباته من بعيد وتدعى «العمة» إيفي وارد. كانت طويلة، ذات شعر رمادي تعقصه على هيئة كعكة؛ لم يسبق لها الزواج، وكان منزلها مليئا بالقطط، كما كانت تتمتع بروح نضرة، إذ كانت تستقبل جودارد بابتهاج وتسمح له بتخزين معداته في حظيرة دجاج خالية. كان مدير دائرة الإطفاء المحلية أقل ترحيبا؛ ففي أعقاب عملية إطلاق مشابهة لصاروخ آخر في عام 1929، صدرت الأوامر إلى جودارد بالتوقف عن إجراء تجاربه. وعثر جودارد بعد ذلك على موقع إطلاق آخر، في قاعدة فورت ديفنز التابعة للجيش؛ وبدعم من معهد سيمثونيان، حصل على تصريح لاستخدام هذا الموقع.
في تلك الأثناء، كان الطيار تشارلز لندبرج يصوغ أفكاره حول إطلاق رحلات فضائية باستخدام مركبات صاروخية، وكانت تجربة جودارد التي أجراها عام 1929 قد أحدثت حالة من الاهتمام الجماهيري القصير الأجل، وهو أمر لاحظه لندبرج نفسه. وبعدها بفترة وجيزة، أخبر جودارد زوجته: «تلقيت مكالمة مشوقة من تشارلز لندبرج.» فأجابته قائلة: «بالطبع، بوب. وأنا أيضا تناولت الشاي مع ماري ، ملكة رومانيا.»
سرعان ما قاد لندبرج جودارد إلى هاري جوجنهايم، وهو وريث ثروة في مجال صناعة النحاس ومدير مؤسسة كانت لها جهودها النشطة في الترويج للأبحاث الجديدة في علم الطيران، وسمح الدعم الذي أسفرت عنه هذه العلاقة لجودارد بترك جامعة كلارك وإقامة برنامج جاد لأبحاث الصواريخ في نيو مكسيكو؛ حيث كانت توجد وفرة من الأراضي، فضلا عن الخصوصية التي كان يتطلع إليها. وكان جودارد يعمل بمفرده باستثناء مساعدة زوجته إستر ومجموعة صغيرة من الميكانيكيين الذين سبق أن عملوا معه في ماساتشوستس. وعلى الرغم من هذا الدعم الهزيل، استطاع جودارد أن يقطع شوطا كبيرا في أبحاثه.
كان أول نجاح مهم حققه في ديسمبر 1930، عندما انطلق صاروخ بسرعة 500 ميل في الساعة، وهو ما كان يفوق سرعة أي طائرة في ذلك الوقت، وبلغ ارتفاع 2000 قدم. ولم يستخدم أي أجهزة تبريد في محرك الصاروخ، بل كان الاعتماد عوضا عن ذلك على بطانة داخلية من الخزف مقاومة للحرارة. بالإضافة إلى ذلك، لم يتضمن الصاروخ أي نظام توجيه؛ حيث اعتمد في تسارعه في البداية على انطلاقه على طول قضبان حديدية داخل برج إطلاق، ثم على زعانف لإعطائه ثباتا كثبات السهم عند انطلاقه في الهواء. وفي الجولة التالية من تجاربه، أضاف جودارد نظام تبريد وبوصلة توجيه جيروسكوبية.
كان نظام توجيه جودارد يستبق في ميزاته التصميمات الألمانية اللاحقة؛ حيث كان يستخدم بوصلة لاستشعار الانحرافات عن المحور الرأسي، مصححا إياها من خلال غمس الأرياش المقاومة للحرارة في عادم الصاروخ. وكانت هذه الأرياش تستعيد حركة الصاروخ في مساره الرأسي بعد تبديد العادم. ولتبريد المحرك، استبق جودارد أبحاث فالتر ثيل الألماني باختراع نظام التبريد الغشائي؛ ومن خلال هذه الإضافات، بلغ صاروخ جودارد ارتفاع 7500 قدم في عام 1935، وعلقت إستر على ذلك بقولها: «كان الأمر يشبه سمكة تسبح عبر الماء لأعلى.»
حتى ذلك الحين، كان جودارد قد ضغط خزانات الوقود الدفعي لتغذية محركات الصواريخ. وفي أثناء بحثه عن وسيلة لبناء صواريخ كبيرة حقا، طور جودارد مضخات توربينية خفيفة الوزن استبقت مجددا النماذج الألمانية ، كما بدأ في بناء محرك يستخدم نظام التبريد الغشائي ويبلغ حجمه ضعف حجم المحرك الأول، وقوة دفعه 700 رطل. ولم ينجح تماما في مسعاه؛ إذ مال أفضل صاروخ أطلقه في أغسطس 1940 على الفور بعد انطلاقه، وتحطم على الأرض على مسافة 400 قدم فقط. وبعد ذلك، بعدما دخلت الولايات المتحدة الحرب، ترك جودارد نيو مكسيكو للانضمام إلى مشروع صواريخ في سلاح البحرية في أنابوليس.
يقول رئيسه، روبرت ترواكس، الذي بدأ العمل على مشروع الصواريخ الخاص بالبحرية بعد تلقيه تفويضا من الأكاديمية البحرية بذلك: «كان في مقدوره دائما أن يجعلنا ننصت إليه في اهتمام بالغ، لكنه لم يكن يتحدث عن الصواريخ مطلقا؛ وأعتقد أنه كان يخشى أن يسرق أحد أفكاره. ولم تكن الأدوات التي استعان بها جيدة. كان فيزيائيا؛ ومن ثم كانت قدرته على أداء الأعمال الهندسية محدودة للغاية، ولم تكن تعوزه الرؤية بكل تأكيد، وما من شيء تقريبا جرى تطويره بنجاح لاحقا إلا وكان لجودارد السبق في تجربته، ولو لمرة واحدة على الأقل، لكنه كان شخصا شديد العزلة. وفشل مرة تلو مرة، حتى إنني مندهش من نجاحه في إطلاق صاروخ من برج الإطلاق.»
1
لكن، على الرغم من أنه لم تكن لديه سوى ورشة ماكينات متواضعة استعان بها في تجاربه، فإن نتائج تجاربه كانت تضاهي أفضل النتائج التي توصل إليها فيرماخت في ألمانيا قبل عام 1942؛ فقد بلغ ارتفاع صاروخه في عام 1940 اثنتين وعشرين قدما؛ مما وضعه في فئة واحدة مع صاروخي فون براون «إيه-3» و«إيه-5». وكان نظام التوجيه الذي وضعه أبسط إلى حد كبير؛ إذ لم يكن يتطلب سوى الحفاظ على مسار رأسي. وعلى النقيض من ذلك، ركزت الجهود الألمانية على تصميم نظام توجيه يعمل عبر مسار محسوب بدقة يستهدف هدفا مثل لندن. ونجح جودارد مرارا في إطلاق رحلات موجهة خلال عام 1935، بينما فشل فون براون مرارا في إطلاق صاروخ «إيه-3» الموجه في أواخر عام 1937. بالإضافة إلى ذلك، نجحت الرحلات التي قام بها جودارد عام 1935 في استخدام محركات تعمل بنظام التبريد الغشائي، بينما كان صاروخا «إيه-3» و«إيه-5» اللاحقان يعتمدان اعتمادا كاملا على نظام التبريد الاسترجاعي، وهو ما كان أسهل في تطويره لكن نطاق استخدامه كان محدودا في الصاروخ «في-2» الأكبر حجما. ومن خلال استخدام المضخات التوربينية عوضا عن الخزانات المضغوطة، أدخل جودارد ميزة متطورة لم يكن الألمان يستخدمونها إلا مع الصاروخ «في-2» نفسه.
استولى الأمريكيون على الصاروخ «في-2» ونقلوه إلى أنابوليس في عام 1945، وتولى جودارد وطاقم عمله فحصه. قال أحد معاونيه: «دهشت؛ فقد كان بالطبع أكثر تطورا وأكبر حجما بكثير من الصواريخ التي جربناها، لكنه بدا مألوفا جدا على أية حال.» وقال معاون آخر: «إنه يبدو مثل صواريخنا، دكتور جودارد.» وأجابه دكتور جودارد قائلا: «نعم، يبدو كذلك.» وفي تلك اللحظة، لم يكن أمامه سوى بضعة أسابيع ليحياها حيث كان مريضا بالسرطان، ومات في أغسطس 1945 عن عمر يناهز اثنين وستين عاما.
خلال حياته، كان جودارد صاحب رؤية مستقبلية ولم يلق حظا وافرا من التكريم؛ إذ كان نادرا ما يحضر اجتماعات الجمعيات الفنية، ولم يكن ينشر كثيرا من الأبحاث. وبعد نشر بحثه الأحادي الموضوع في مجال الصواريخ في عام 1920، لم ينشر أي أبحاث حتى عام 1936، عندما أصدر تقريرا ثانيا لصالح معهد سيمثونيان، استعرض فيه أبحاثه منذ عام 1920 وحتى عام 1935، فيما لا يزيد عن عشر صفحات. وكان يحيل المهتمين بأبحاثه إلى براءات الاختراع المسجلة باسمه لمعرفة مزيد من التفاصيل.
سجل جودارد الكثير من براءات الاختراع المهمة؛ فعندما وصل إلى أنابوليس، كان يحمل ثمانيا وأربعين براءة اختراع في مجال تصميم الصواريخ، وكان كثير منها يتضمن ميزات رئيسية سابقة على الميزات الموجودة في الصاروخ «في-2»، بما في ذلك نظام التبريد الغشائي، واستخدام البوصلة الجيروسكوبية في نظام التوجيه، والمضخة التوربينية الصالحة للاستخدام مع الأكسجين السائل. وخلال سنوات الحرب، قدم طلبات لتسجيل مزيد من البراءات؛ مما أسفر عن خمس وثلاثين براءة اختراع جديدة، كان من بينها براءة اختراع محرك متعدد نظم الدفع، وبراءة أخرى تتضمن وصفا كاملا للصاروخ الذي صممه عام 1940. وبعد وفاته، نظمت أرملته أبحاثه الشخصية لنشرها لاحقا ، وحصلت على ما يزيد عن 130 براءة اختراع إضافية، ومنحت آخرها في عام 1957.
كان كثير من هذه الاختراعات يمثل تأملاته وأفكاره، وليست مجرد أجهزة بناها بأسلوب عملي. ومع ذلك، فقد أحسن الألمان استغلالها؛ ففي عام 1945، قال أحد الجنرالات في سلاح لوفتفافا، أثناء استجوابه على أيدي أحد المحققين الأمريكيين: «لماذا لا تسألون رجلكم هذا الذي يدعى الدكتور جودارد؟» في عام 1950، صرح فون براون قائلا: «انبهرت للغاية بدقة أبحاث جودارد وشموليتها، ووجدت أن الكثير من حلول التصميم الموضوعة في الصاروخ «في-2» قد تناولتها براءات الاختراع المسجلة باسم جودارد.»
رثاه كاتب سيرته الذاتية، ميلتون ليمان، بأبيات من قصيدة للشاعر روبرت براونينج:
إن الرجل البسيط ليسعى إلى تحقيق شيء بسيط،
فيراه ويحققه،
بينما يسعى الرجل العظيم إلى تحقيق شيء عظيم،
فيموت قبل أن يدركه ...
على الرغم من ذلك، حال تحفظ جودارد المهني دون أن يكون له دور رائد في بناء المؤسسات والكيانات، التي بحلول عام 1945 كانت تضع بالفعل حجر الأساس للتطور الذي شهده علم الصواريخ الأمريكي لاحقا؛ وكان من بين هذه المؤسسات المهمة اتحاد مهني ظل جودارد عازفا عن الانضمام إليه، وهو نادي الصواريخ الأمريكي.
تشكلت هذه الجمعية في شهر أبريل من عام 1930 من جمهرة من الكتاب الذين قدموا مقالات للنشر في مجلة هوجو جرنزباك «ساينس ووندر ستوريز»، وهي من أولى مجلات الخيال العلمي التي كانت تنشر على ورق خشن من لب الخشب ذي حواف غير مقصوصة؛ وكان مؤسسها وأول رئيس لها، ديفيد لاسر، مراسلا لصحيفة «هيرالد تريبيون» في نيويورك، لكنه كان يكتب لصالح جرنزباك كنشاط إضافي. وبدأت مجموعة الكتاب هذه في نشر صحيفة إخبارية متخصصة تصدر في عدة نسخ؛ حيث كانوا يجتمعون كل أسبوعين في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي.
كان أول اسم أطلق على مجموعة الكتاب هو الجمعية الأمريكية للرحلات الكواكبية، وهو يعكس تخصصها الأصلي في مجال الخيال العلمي. وواصل لاسر الكتابة في هذا الموضوع، فنظم في أوائل عام 1931 اجتماعا عاما في متحف التاريخ الطبيعي تحت عنوان «رحلة على متن صاروخ إلى سطح القمر »، وكان مصدر انجذابه الأساسي نسخة إنجليزية من الفيلم الألماني «امرأة في القمر». وبعد أن حذف مشاهد الحب الموجودة في الفيلم، أعلن لاسر عن الفيلم في نسخته الإنجليزية قائلا: «إنه يصور الرحلة الحقيقية لصاروخ خيالي، لكنه ممكن من الناحية العلمية، إلى سطح القمر.» وأعلن عن الاجتماع من خلال تعليق عشرات اللوحات الإعلانية في محطات مترو أنفاق نيويورك. وكان حضور الاجتماع مجانا، وبلغ عدد الحاضرين نحو ألفي شخص تقريبا، لكن قليلا منهم هم من انضموا إلى الجمعية.
كان من بين أصدقاء لاسر شخص شغوف بعلم الصواريخ يدعى جي إدوارد بندراي. ولاحقا في عام 1931، قام بندراي وزوجته بجولة عبر أوروبا، وكان موضوع أبحاث الصواريخ يستحوذ كثيرا على اهتمامهما. في برلين، زارا راكتنفلوجبلاتس، حيث منحهما رودلف نيبل ما وصفه بندراي بأنه «أكثر التجارب التي لا سبيل إلى نسيانها على مدار الرحلة بأسرها»، وكان يقصد بتلك التجربة اختبارا استاتيكيا لمحرك وقود سائل صغير؛ ولم يكن بندراي قد رأى تجربة كهذه من قبل، وعندما عاد إلى نيويورك عقد العزم على بناء هذه الصواريخ بنفسه. ولم يسر لاسر على نهج تصميمات نيبل فحسب، بل اتبع أيضا أساليبه في تطوير صواريخ زهيدة التكلفة.
تلقى بندراي مساعدة هائلة من هيو بيرس، أحد أعضاء الجمعية والذي كان يعمل سابقا في سلاح البحرية، ويضع على جسده علامات بالوشم تبرهن على ذلك، ولكنه في ذلك الوقت كان يعمل في بيع التذاكر إلى الركاب في مترو أنفاق نيويورك. تدرب بيرس في سلاح البحرية على العمل كميكانيكي، وأبدى استعدادا لبناء مكونات صاروخية في ورشة في الطابق السفلي من المبنى الذي كان يقطن فيه في برونكس. عمل بيرس في هذا المشروع بلا أجر، وكان يستخدم ورشة العمل دون إيجار، وكان جزء من عمله يتضمن معالجة سبائك الألومنيوم، التي حصل عليها كهدايا من أحد المديرين في شركة الألومنيوم الأمريكية (ألكوا).
لم تكلفه الصمامات شيئا أيضا، بعد أن طلب عضو آخر عينات مجانية من أحد الموردين. واستعان بخلاط يستخدم في تحضير مشروبات الكوكتيل كقميص مياه لتبريد المحرك ، واشترى من أحد المتاجر المتنوعة الأقسام قطعة من الحرير لا يزيد ثمنها عن خمسة دولارات أمريكية، واستخدمها كمظلة للصاروخ، وكان حاملها عبارة عن قدر صغير. وفي شركة «إير ريداكشن»، التي كانت تعمل في مجال معالجة الغازات المسالة، باع لهم أحد مسئولي الشركة أسطوانة أكسجين سائل مستعملة مقابل خمسة عشر دولارا أمريكيا، واتفق على ملئها مجانا؛ ودفع هذا الكرم بندراي إلى أن يقترح إنشاء فريق للإشادة بالشركة، «يعمل أعضاؤه على الإشادة بشركة «إير ريداكشن» طوال ساعات النهار والليل، عندما لا تكون لديهم أعمال أخرى».
بلغت التكلفة الفعلية لهذا الصاروخ الأول أقل من خمسين دولارا أمريكيا، بيد أن بندراي اكتشف أن النتائج التي حصل عليها كانت متواضعة، شأنها شأن هذه التكلفة الزهيدة؛ فقد أظهرت الاختبارات الأرضية أن الصاروخ قيد التجربة كان هشا وغاية في التعقيد، وهو ما تطلب بدوره إعادة بناء شاملة. وانطلق الصاروخ المعاد تصميمه، أو حاول الانطلاق، في جزيرة ستاتن في مايو 1933؛ وعلى حد قول بندراي، فقد «بلغ الصاروخ ارتفاع 250 قدما تقريبا، بعد ثانيتين تقريبا من انطلاقه، وكانت الأمور تسير على ما يرام حتى انفجر خزان الأكسجين». وعلى إثر ذلك، توقف المحرك عن العمل وسقط الصاروخ في الخليج المجاور، حيث تمكن صبيان في قارب من انتشاله.
على الرغم من ذلك، ومثلما قال بندراي لاحقا، فإن هذا الصاروخ كان «أول صاروخ وقود دفعي سائل يراه أي منا وهو ينطلق محلقا لأعلى». وكان انطلاق الصاروخ علامة أيضا على ما أحرزته الجمعية من تقدم نقلها من بداياتها التي كانت تعتمد على الخيال العلمي، نحو المهنية بمعناها الحقيقي. وكانت الجمعية قد توقفت عن إصدار صحيفتها الإخبارية المتخصصة الصادرة في عدة نسخ لتنشر مجلة جذابة، أطلق عليها اسم «أسترونوتيكس» (أي علم الفضاء). بعد عملية الإطلاق، في الاجتماع السنوي في أبريل 1934، اتخذت الجمعية اسما جديدا وهو نادي الصواريخ الأمريكي، وشرع الباحثون التجريبيون في الجمعية في الإعداد لإطلاق صاروخ جديد تماما.
كان محرك الصاروخ الجديد من تصميم جون شستا، وهو عضو في الجمعية طويل القامة وسمته التحفظ ، حاصل على شهادة علمية في مجال الهندسة المدنية من جامعة كولومبيا. وكان محرك شستا يحتوي على أربع فوهات تغذى جميعا من غرفة دفع مشتركة. تمت عملية الإطلاق التجريبية في سبتمبر 1934، في جزيرة ستاتن مجددا، وبعد ثوان معدودة من عملية الإطلاق، احترقت إحدى الفوهات؛ فمال الصاروخ وأحدث صوتا مدويا عبر المياه بسرعة تقترب من سرعة الصوت، وغاص في مياه الخليج على مسافة ربع ميل من موقع الإطلاق، فيما كان محرك شستا لا يزال يعمل بقوة.
اتخذت ترتيبات لإجراء أبحاث أخرى، لكن بندراي أشار إلى أنه «في محيط مدينة نيويورك، لم يكن السكان مرحبين بعمليات إطلاق الصواريخ أو اختبارات المحركات، ولم تبد الشرطة موافقتها على إجرائها، ولم يكن ثمة طريقة للحصول على تصريح للاستمرار في إجراء هذه التجارب دون إزعاج. وبناء على ذلك، أجرت الجمعية كثيرا من هذه التجارب في ظل بعض المضايقات، ورأت أن التغيير المتكرر وغير المعلن لموقع الاختبار خطوة حكيمة، وفي بعض الأحيان إجراء احترازي ضروري».
2
على الرغم من هذه الصعوبات، اعتمدت الأنشطة التجريبية لنادي الصواريخ الأمريكي على جهود طالب لامع في جامعة برنستون يدعى جيمس وايلد. في عام 1935، خلال السنة النهائية له بالجامعة، عرف وايلد بأمر الجمعية، وبحث عن رقم هاتفها في دليل هاتف مانهاتن، وسرعان ما صار منغمسا للغاية في أنشطتها المختصة بمجال الصواريخ. ثم تخرج وحصل على وظيفة، لكنه كان يمارس عمله في أبحاث الصواريخ في وقت فراغه؛ حيث كان هدفه يتمثل على وجه التحديد في العثور على أفضل طريقة لتبريد المحركات. ورأى وايلد أن نظام التبريد الاسترجاعي نظام مبشر، وانتقل إلى جرينتش فيلدج وأقام ورشة في مخزن للمؤن ملاصق لحجرته المستأجرة. وفي عام 1938، فقد وظيفته ووجد لديه فجأة مزيدا من الوقت لتنفيذ هذا المشروع.
أنهى وايلد العمل على محرك بلغت قوة دفعه أكثر من تسعين رطلا، ولم يكن يزن أكثر من رطلين، وعند اختباره في ديسمبر 1938، كانت الأضرار التي وقعت من جراء حرارة الاحتراق أقل بكثير مما حدث في أي محرك صممه زملاؤه . وحصل وايلد بعد ذلك على وظيفة جديدة ونحى صاروخه جانبا، إلا أنه عاد إلى العمل فيه في عام 1941، وأدخل تعديلات عليه، وأكدت الاختبارات الإضافية، التي أجريت في صيف ذلك العام، موثوقية هذا الصاروخ وأداءه المرضي تماما.
في تلك الأثناء، كان ثمة عضو آخر في الجمعية، يدعى لوفيل لورانس، يعمل في واشنطن واعتقد أنه ربما يتمكن من إبرام عقد مع إحدى الهيئات الحكومية؛ فوضع محرك وايلد في حقيبته؛ إذ كان صغيرا بما يكفي لأن يحمله في يده، وبدأ جولاته لدى الهيئات الفيدرالية. أثار لورانس حماس المسئولين في مكتب الملاحة الجوية التابع للبحرية، لكنه اكتشف أن المكتب لا يبرم عقودا مع أفراد عاديين. لكن الوضع كان سيختلف تماما إذا كان لورانس يمتلك شركة؛ لذا أقام لورانس شركة على الفور، وتولى هو رئاستها وعين فيها بيرس ووايلد وشستا كمسئولين ومديرين وموظفين وحاملي أسهم. وفي أوائل عام 1942، حصل لورانس على العقد.
أطلق وايلد على الشركة اسم «ريأكشن موتورز»، مستفيدا من اسم «جنرال موتورز»، وكان رأس المال المبدئي 5000 دولار أمريكي. كان مقر الشركة في البداية في مرأب مملوك لصهر شستا، لكن سرعان ما انتقلوا إلى ناد ليلي سابق في منطقة بومبتون بلينز بولاية نيو جيرسي، وكانت مقاعد البار لا تزال في موضعها عندما انتقلوا إلى النادي الليلي. ولاختبار محركاتهم، بحثوا عن منطقة معزولة قرب فرانكلين ليكس، وشيدوا مبنى خرسانيا مجهزا بأكمله بزجاج مقاوم للكسر.
كانت البحرية الأمريكية مهتمة بالصواريخ التي يمكن أن تساعد في إقلاع الطائرات ذات الحمولات الثقيلة، وساهمت الأبحاث التي أجراها روبرت جودارد أثناء الحرب في أنابوليس في هذا الموضوع، كما لعبت شركة «ريأكشن موتورز» دورا في ذلك. وكانت المهمة العاجلة في البحرية تتمثل في تطوير نماذج أكبر حجما من محرك وايلد، تعمل بقوة دفع 1000 رطل، ثم لاحقا 3000 رطل، وهو ما نفذته الشركة بنجاح. وفي عام 1945، بالاستعانة بجميع العاملين في الشركة - وعددهم خمسة وثلاثون شخصا - حصلت الشركة على تكليف جديد من البحرية، وهو تصميم محرك طائرة صاروخية تستطيع كسر حاجز الصوت.
كانت هذه الطائرة طراز «إكس-1» مشروعا مشتركا بين سلاح القوات الجوية بالجيش وشركة «بيل إيركرافت» في بافلو بولاية نيويورك. علم أحد مهندسي شركة «بيل»، وهو بنسون هاملين، بالمهمات التي كانت شركة «ريأكشن موتورز» تؤديها لصالح سلاح البحرية، وأدرك أن هذه الشركة تستطيع بناء ما يحتاجه بسرعة. كان المحرك الذي صممته الشركة، وهو محرك «إكس إل آر-2»، نتاج نقاشات دارت على الغداء والعشاء في مطعم تراينجل جريل، وهو المطعم المفضل لدى موظفي شركة «ريأكشن موتورز». وذكر أحد المشرفين لاحقا أنه في أعقاب وجبات الغداء تلك، كانوا جميعا يعودون إلى المكتب «ويعملون بجد بالغ، يستمر في بعض الأحيان حتى الساعة العاشرة أو الحادية عشرة مساء. وفي بعض الأحيان، كان جون شستا يحضر معه لوحة تصميمات ويدخل تعديلات في الحال».
ظهر المحرك في نموذج بسيط؛ حيث كان يحتوي على أربع وحدات طراز وايلد، كل منها تبلغ قوة دفعها 1500 رطل. ولم يكن المحرك يتضمن صمام اختناق، لكن كان بإمكان قائد الطائرة «إكس-1» إشعال غرف الاحتراق واحدة تلو الأخرى، بنسبة 25 أو50 أو 75 أو 100 في المائة من كامل قوة الدفع البالغة 6000 رطل. وكان من المفترض أن يتضمن الصاروخ مضخة توربينية، إلا أنها استغرقت وقتا في تطويرها. وكبديل مؤقت، اعتمدت الطائرة «إكس-1» على خزانات وقود دفعي مضغوط سميكة الجدران؛ مما زاد من الوزن عند الهبوط بمقدار طن. وعلى الرغم من ذلك، كانت لدى المحرك طاقة احتياطية يدخرها؛ واستخدم تشاك ييجر - أحد طياري القوات الجوية - هذا المحرك للتحليق بطائرته التي اخترقت حاجز الصوت في أكتوبر 1947، ليكون بذلك أول طيار يحلق بسرعة تتجاوز سرعة الصوت.
طور نادي الصواريخ الأمريكي وشركة «ريأكشن موتورز» والمحرك «إكس إل آر-2» التجارب التي أجروها لإعطاء نتائج أفضل. ومع اندلاع الحرب، تخلى نادي الصواريخ الأمريكي عن تجاربه وصار جمعية تضم المهندسين المحترفين، وازدهرت أنشطته وسط برامج الصواريخ والرحلات الفضائية الممتدة في سنوات ما بعد الحرب؛ وفي عام 1963 أدمج مع معهد علوم الطيران، وصارت الجمعية الهندسية التي تمخضت عن عملية الدمج هذه - التي سميت بالمعهد الأمريكي لعلوم الفضاء والطيران - الجمعية الرائدة في مجال الفضاء على مستوى البلاد.
ازدهرت أنشطة شركة «ريأكشن موتورز» أيضا بعد الحرب، واشترى الممول لورانس روكفلر حصة حاكمة عام 1947، موفرا بذلك الكثير من رأس المال العامل. ووفرت البحرية أيضا منطقة اختبارات دائمة، في مستودع ذخيرة في ليك دنمارك بولاية نيو جيرسي، وصارت الشركة تصنع محركات معظم الطائرات الصاروخية في البلاد في عقود ما بعد الحرب، وصار المحرك «إكس إل آر-2» هو المحرك المستخدم لأي شخص يرغب في محرك بحجمه، بسيط وموثوق فيه.
نفذت شركة «ريأكشن موتورز» مشروعين كبيرين وجديدين ميزا أنشطتها في سنوات ما بعد الحرب، وهما محرك بقوة دفع 20 ألف رطل لاستخدامه في صاروخ الأبحاث «فايكنج» في البحرية الأمريكية، ومحرك بقوة دفع 57 ألف رطل لاستخدامه في أكثر الطائرات الصاروخية تطورا في القوات الجوية، وهي الطائرة «إكس-15». وفي عام 1958، دمجت الشركة مع شركة «ثيوكول كيميكال» الأكبر حجما بكثير. وعلى الرغم من ذلك، فشلت الشركة في إبرام أي عقود كبرى وأوقفت نشاطها نهائيا عام 1972، ولكن بفضل النجاح الذي حققه الصاروخ «إكس-1» بعد الحرب مباشرة، صنعت شركة «ريأكشن موتورز» اسما لها بوصفها مقوما أساسيا في صناعة الصواريخ الناشئة.
في تلك الأثناء، كان أستاذ في علوم الفضاء، يدعى تيودور فون كارمان، يرسي دعائم أسس أخرى في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. درس فون كارمان على يد الألماني لودفيج برانتل، الذي أسس علم ديناميكا الهواء ووضع بعضا من أهم أفكاره الثاقبة، وتولى آخرون من تلامذة برانتل تحضير مستلزمات بناء المحركات النفاثة، والتوربينات الغازية، وأنفاق الرياح التي تتجاوز سرعتها سرعة الصوت، والأجنحة لضمان طيران فائق السرعة.
انضم فون كارمان إلى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتيك) عام 1930، وكان رئيسه آنذاك، روبرت ميليكان، ثاني أمريكي يفوز بجائزة نوبل في الفيزياء. وكان من بين أعضاء هيئة التدريس الذين عينهم ميليكان في المعهد الكثير من الشخصيات ذات الأسماء اللامعة، أمثال: ألبرت أينشتاين، والكيميائي لاينوس بولينج، وروبرت أوبنهايمر الذي أشرف لاحقا على تطوير أول قنابل ذرية، وتشارلز ريختر الذي اخترع مقياس الزلازل. وقدم فون كارمان من خلال هذا المنصب إسهامات مهمة في مجال الطيران بسرعات تفوق سرعة الصوت، واشتهر بأنه الرجل رقم واحد في مجال علوم الطيران الأمريكية.
لم تكن تستحوذ على فون كارمان فكرة القيام برحلة فضائية إلى المريخ، أو فكرة تحويل الخيال العلمي إلى حقيقة واقعة، بل كان ينظر إلى علم الصواريخ باعتباره موضوعا ضمن عدد من الموضوعات المشوقة التي تقع على هامش مجال الطيران. ومع ذلك، أدى عمل زملائه إلى إقامة مؤسستين كبيرتين، هما مختبر الدفع النفاث وشركة «إيروجت جنرال»، التي مع مرور الوقت ستتفوق على شركة «ريأكشن موتورز» بوصفها إحدى الشركات العاملة في مجال بناء الصواريخ ومحركاتها.
بدأت هذه التطورات عام 1936، عندما اتصل طالب دراسات عليا، يدعى فرانك مالينا، بفون كارمان ورتب لتصميم واختبار صواريخ لرسالته، وانضم إليه شخصان آخران متحمسان للفكرة من باسادينا، هما: إدوارد فورمان، ميكانيكي مخضرم؛ وجون بارسونز، كيميائي وخبير مفرقعات. ولم يستطيعوا إطلاق صواريخهم في معهد كاليفورنيا نفسه، الذي كان معزولا مثل الدير، لكن مالينا عثر على المساحة المفتوحة التي كان يحتاج إليها على مسافة بضعة أميال من حرم المعهد في مقاطعة أرويو سكو، التي تعني «المجرى الجاف».
زار مالينا روبرت جودارد في نيو مكسيكو، ولكن على الرغم من الاستقبال الجيد الذي لقيه من جودارد، لم يكن جودارد على استعداد لمشاركة خبرته من أجل مساعدة طالب دراسات عليا في الحصول على درجة الدكتوراه فحسب. عاد مالينا إلى باسادينا وطور معرفته مستغلا كل الفرص المتاحة، فدرس المؤلفات الفنية الهزيلة المتوافرة، وسعى وراء الحصول على مصادر تمويل ومعدات بمساعدة زملائه الطلاب. وفي مايو 1938، استقبل فون كارمان الجنرال هنري «هاب» أرنولد، الذي كان قد تولى مؤخرا منصب قائد سلاح القوات الجوية. (حمل سلاح القوات الجوية ثلاثة أسماء خلال أقل من عقد من الزمان؛ كان يسمى السلاح الجوي التابع للجيش حتى عام 1941، ثم القوات الجوية التابعة للجيش خلال سنوات الحرب، وفي عام 1947 انفصل السلاح عن الجيش وصار هيئة مستقلة، عرفت باسم القوات الجوية الأمريكية.) وكان يعتقد أن مستقبل القوة الجوية يكمن في الأبحاث، وكان يعرف أن معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا هو المكان الذي سيعثر فيه على ضالته.
أعجب أرنولد ببحوث مالينا حول الصواريخ؛ ومثل نظرائه في البحرية، رأى أرنولد أن الصواريخ يمكن أن تساعد في إقلاع الطائرات. وفي خريف عام 1938، دعا إلى عقد اجتماع للجنة استشارية شملت فون كارمان، اختار أعضاؤها عددا من المشروعات الواردة في قائمة من المشروعات البحثية؛ وكان أحد هذه المشروعات يتعلق بعلم الصواريخ، بينما كانت إذابة الجليد في الزجاج الأمامي للطائرات مشروعا آخر. قال جيروم هانساكر، رئيس قسم علوم الطيران في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: «سوف نركز أبحاثنا على مسألة الرؤية، وسيتولى كارمان مهمة باك روجرز.»
لم يكن هانساكر الوحيد الذي ينظر إلى الصواريخ على هذا النحو. رتب أرنولد لحصول معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا على منحة مبدئية قدرها 10 آلاف دولار أمريكي، لكن الحصول على هذه المنحة كان مثار شك حتى بالنسبة إلى أعضاء فريق عمله أنفسهم. وزار مساعد أرنولد فون كارمان في أواخر عام 1939، وسأله قائلا: «هل تعتقد حقا أن سلاح القوات الجوية سينفق هذا المبلغ الطائل من الأموال، الذي يصل إلى عشرة آلاف دولار أمريكي، على شيء مثل الصواريخ؟» كان ثمة سبب وراء هذا التشكك؛ فعلى الرغم من أن مالينا لم يكن يسعى إلى ما هو أكثر من مجرد بناء وحدات وقود صلب للمساعدة في الإقلاع، فقد بدا حتى هذا الهدف المتواضع بعيد المنال.
كانت صواريخ الوقود الصلب التي كان الناس يعرفونها تشبه صواريخ الألعاب النارية، التي تحترق في انفجار مفاجئ. وعلى النقيض من ذلك، كانت وحدات مالينا الصاروخية تحترق في بطء، وهو ما كان يوفر قوة دفع متواصلة لمدة عشرين ثانية؛ وأدت الاختبارات التجريبية إلى انفجارات متكررة، لكن الميزة الأساسية في تجارب فون كارمان كانت تكمن في النظرية الرياضية، وفي عام 1940 وضع هو ومالينا مجموعة من المعادلات التي أرشدتهما إلى كيفية المتابعة والمضي قدما. وتشجع سلاح القوات الجوية للفكرة، فضاعف مبلغ المنحة إلى 22 ألف دولار أمريكي للسنة المالية 1941.
مع توافر هذه الأموال المفاجئة، رتب مالينا لاستئجار عدة فدادين في منطقة أرويو سكو من مدينة باسادينا، وأقام هناك بضعة مبان خشبية صغيرة ذات أسقف من المعدن المقوى، ولم تكن هذه المباني تحتوي من الداخل على مصدر تدفئة، بل كانت باردة وضيقة. انضم خريج جديد آخر، يدعى مارتن سمرفيلد، إلى المجموعة وشرع في بناء محرك وقود دفعي سائل، إلا أن مساحة المكان كانت محدودة، حتى إن سمرفيلد كان يعمل لفترة من الوقت في المقعد الخلفي من سيارته.
كانت المهمة الأولى للمجموعة تتمثل في بناء وحدات وقود صلب موثوق فيها، وتحقيقا لهذا الغرض كانوا يستعينون بجميع المعلومات المتوافرة بشأن الوقود والمواد المتفجرة. حققت المجموعة نجاحا مبدئيا في أغسطس 1941، عندما ركبوا مجموعة من الصواريخ التجريبية على طائرة إركوب زنة 750 رطلا، وهي من أخف الطائرات المتوافرة وزنا؛ وكتب فون كارمان لاحقا: «أقلعت الطائرة كما لو كانت أطلقت من مقلاع، ولم يكن أي منا قد رأى طائرة تنطلق بهذه الزاوية الحادة.» مع ذلك، تبين أن هذه الوحدات غير ملائمة للاستخدام العسكري؛ إذ كانت حالتها تتدهور عند التخزين؛ مما يحدث فرقعات تؤدي إلى وقوع انفجارات.
لم تفلح الأبحاث اللاحقة في اكتشاف أي مزيج من الوقود الدفعي التقليدي يستطيع تنفيذ مهمة الإقلاع، ثم خطر خاطر عابر لجون بارسونز، كبير الكيميائيين. كانت معظم المواد المستخدمة في هذا الوقود عبارة عن مساحيق من البارود، سهلة التفتت بطبيعتها وعرضة لحدوث فرقعات؛ فماذا يحدث لو استخدم وقود لا يحدث فرقعة، مثل الأسفلت أو قار الرصف؟ صهر بارسونز كمية من ذلك في إناء، ثم مزجها في كمية كبيرة من فوق كلورات البوتاسيوم، الذي كان بمنزلة مادة مؤكسدة. نجحت التجربة! وكان الوقود يشبه الأسفلت الصلب؛ وأعطى قوة دفع جيدة ولم يحدث فرقعة. وفي الواقع، كان هذا الوقود الصلب يزداد ليونة وانسيابية في درجات الحرارة المرتفعة، وهو ما كان يتطلب تخزين الوحدات الجاهزة للعمل بحيث تكون فوهتها لأعلى.
كان هذا تطورا كبيرا في مجال الوقود الدفعي الصلب. وبالإضافة إلى ذلك، كان مارتن سمرفيلد يحقق تقدما ملموسا في تجاربه حول الوقود الدفعي السائل، الذي كان مصمما أيضا للمساعدة في إقلاع الطائرات. وكان باحثا البحرية، جودارد وجيمس وايلد، يسيران على نهج تقليدي يستخدم الأكسجين السائل، لكن هذا السائل الفائق البرودة لا يمكن تخزينه؛ لأنه يتبخر في الحال عند امتصاصه الحرارة، وكان الجيش في حاجة إلى أنواع وقود دفعي قابلة للتخزين؛ لذا، شرع سمرفيلد في بناء محرك صاروخي يستخدم هذه المواد.
أشار عليه بارسونز أن يجرب استخدام حمض النتريك الأحمر كعامل أكسدة، بمعنى أن يستخدم حمض النتريك التجاري مع مزيج من ثاني أكسيد النيتروجين. وكان سمرفيلد يأمل في تسخين هذا الحمض مع الجازولين أو الكيروسين، اللذين كانا يمثلان نوعين مألوفين من الوقود، لكنه لم يستطع استخدام المزيج بنجاح؛ إذ كانت محركات الصواريخ التي استخدمها تحدث صوت أزيز مكتوم شديد، ووسط مستويات الضغط المتذبذبة بسرعة، كانت المحركات تتوقف عن العمل أو تنفجر.
لم يكن أحد في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا يعرف حلا لهذه المشكلة؛ لذا، سافر مالينا إلى أنابوليس للقاء صديقه ورفيق دربه في الاهتمام بمجال الصواريخ، وهو روبرت ترواكس، الذي كان يدير وقتئذ برنامج الصواريخ في البحرية. بدا ترواكس، الذي كان رئيس جودارد، متجاوبا تماما، واقترح أحد مساعديه من الكيميائيين حرق الأنيلين مع حمض النتريك، واشتعل هذا المزيج تلقائيا عند خلطه، دون حاجة إلى جهاز إشعال منفصل. وكان مالينا يأمل في أن عملية الإشعال السريعة هذه ستؤدي إلى عملية احتراق سريعة، وهو ما سيسفر عن أداء أكثر سلاسة للمحرك.
جرب سمرفيلد هذا الخليط من الوقود، وعلى حد قول فون كارمان: «كانت النتائج مبهرة؛ إذ امتزج حمض النتريك والأنيلين على نحو رائع، وكان اللهب المتولد في المحرك عن هذا الامتزاج ثابتا تماما.» وكان هذا الإنجاز في مجال صواريخ الوقود السائل مماثلا للإنجاز الذي حققه بارسونز في مجال الوقود الصلب. ولم تقتصر جهود مالينا وسمرفيلد على هذا الاختراع المهم لصاروخ وقود سائل يعمل بوقود دفعي قابل للتخزين، بل أظهرا أيضا كيف يمكن أن يسمح هذا المزيج من الوقود التلقائي الإشعال بتشغيل محرك على هذا النحو الثابت والموثوق فيه.
بحلول ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة قد دخلت الحرب، وصارت البحرية مهتمة أيضا بهذا النوع من التجارب. وفي أوائل عام 1942، أبرمت البحرية عقدا التزم مالينا وزملاؤه بموجبه بتطوير وحدات صاروخية للمساعدة في إقلاع الطائرات من حاملات الطائرات؛ وكان من الواضح أن هيئات القوات المسلحة تقدم سوقا للبضائع الجاهزة التي كان يجري إنتاجها من هذه الوحدات؛ وكان من الواضح أيضا أنه لا سبيل لأية شركة تجارية أن تجد لها مكانا وسط الأبراج العاجية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. على أية حال، كان من الممكن أن تختفي هذه المشكلة إذا أسس الباحثون في مجال الصواريخ شركة منفصلة عن الجامعة.
بناء على ذلك، أشار مالينا على فون كارمان أن يبادر إلى تأسيس هذه الشركة، ورأى الجنرال أرنولد أنها ستكون فكرة جيدة، وسعى كارمان إلى طلب المساعدة من أندرو هيلي - أحد الأصدقاء الذي كان محاميا أيضا - والتقيا مرارا في غرفة معيشة كارمان، وكان برفقتهما مالينا وسمرفيلد وبارسونز وفورمان. كانت الشركة الجديدة في حاجة إلى اسم، واقترح هيلي ومالينا اسم «إيروجت». وكان من المقرر أن تبيع الشركة صواريخ، لا طائرات نفاثة، لكن الاسم كان يعكس شغفا متزايدا بالدفع النفاث، بينما يدل في الوقت نفسه على الابتعاد عن هالة باك روجرز التي كانت لا تزال مرتبطة بالصواريخ. ملأ هيلي بيانات أوراق تأسيس الشركة في شهر مارس، وصار فون كارمان رئيسا لها؛ وفيما يتعلق بمقر الشركة، استقرت المجموعة على معرض بيع سيارات في وسط مدينة باسادينا.
لم تكن الشركة أكثر من بداية مشروع، لكنها أحدثت تأثيرا ونفوذا في أماكن مرموقة، واتضح ذلك عندما استدعي هيلي للخدمة في الجيش كمستشار قانوني. ولم تكن لدى فون كارمان معرفة جيدة بالأعمال التجارية، واكتشفت إيروجت فجأة أن من يرأسها لا دراية له بالعقود والقانون التجاري، ومن ثم لم تتلق الشركة أي طلبيات جديدة من وزارة الحربية؛ وكان الحل هو استعادة خدمات هيلي، لكن لم يكن بمقدور أحد سوى الجنرال أرنولد أن يحرره من الخدمة في الجيش. أجرى كارمان اتصالا هاتفيا بأرنولد، وبعدها بست ساعات صار هيلي مدنيا من جديد ، وأصبح مؤهلا لتولي رئاسة «إيروجت»؛ ومثلما قال كارمان لاحقا: «إن عجائب الكفاءة العسكرية في بعض الأوقات تكون مدهشة للغاية.»
لكن، على الرغم من أن شركة «إيروجت» نجحت في مزاولة عملها بسهولة في واشنطن، فإنها لم تنجح في هذا الأمر بنفس السرعة في المصارف المحلية؛ فعلى غرار ما حدث لشركة «ريأكشن موتورز»، كانت «إيروجت» في حاجة إلى رأس مال عامل. ومثلما حدث مع هذه الشركة في نيو جيرسي، كان المصرفيون في لوس أنجلوس ينظرون إلى علم الصواريخ باعتباره نشاطا مشكوكا في نتيجته؛ مما يصعب معه تبرير فتح خط ائتمان له. عالج هيلي هذه المشكلة أيضا؛ إذ كان مكتب المحاماة الخاص به يضم وكلاء مثل شركة «جنرال تاير آند رابر» الكائنة في مدينة أكرون بولاية أوهايو، وكان هيلي يعلم باهتمام مسئوليها بعمليات الاستحواذ؛ فرتب هيلي لشراء شركته من قبل هذه الشركة ودمجهما في كيان واحد. وواصلت شركة «هيلي» عملها تحت اسمها الجديد، الذي صار الآن «إيروجت جنرال».
بحلول ذلك الوقت، كان طاقم عمل فون كارمان من جماعة المهتمين بالصواريخ يدير مكتبا هندسيا في معرض سيارات باسادينا، الذي كان عبارة عن مصنع إنتاج في مدينة أزوسا القريبة، فضلا عن منشآت بحثية في أرويو سكو. وكان الوصول إلى أرويو يتم من خلال السيارة؛ حيث كان المرء يقود سيارته في طريق ترابي تغسله المياه عند هطول الأمطار، وإذا وصل المرء إلى هناك، فإنه يجد حفرا اختبارية للصواريخ تحدها عوارض سكك حديدية. وأشار أحد الموظفين إلى أن الممرات في المكتب ضيقة على نحو «يجعلك عرضة لأن تفقد أسنانك» إذا فتح أحدهم بابا أثناء سيرك في أحد الأروقة. لكن على الرغم من أن هذه المنشآت قد بنيت في عجالة أثناء الحرب، فإن أهميتها سرعان ما تزايدت.
خلال عام 1943، علم المحللون في استخبارات الجيش أن ألمانيا كانت تبني صواريخ بعيدة المدى، واقترح فون كارمان مهمة تطوير ربما كانت تؤدي إلى بناء صاروخ يبلغ مداه خمسة وسبعين ميلا. وساند النقيب روبرت ستيفر - من فرقة المعدات الحربية بالجيش، وهو ضابط اتصال في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا - هذا الاقتراح مساندة قوية، ورفعه عبر القنوات المعنية إلى الكولونيل جرفايز ترايكل، الذي كان يرأس لواء الصواريخ في فرقة المعدات الحربية. وفي يناير 1944، طلب ترايكل من كارمان تولي مسئولية برنامج كامل للصواريخ الموجهة، كان من المنتظر أن يتضمن نظام توجيه؛ ووافق كارمان ثم سرعان ما أبرم معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا عقدا آخر.
على الرغم من ذلك، فإنه على غرار ما حدث عند إنتاج «إيروجت» وحدات صاروخية للإقلاع المعزز، لم يصل هذا الجهد الجديد إلى أن يصير مشروعا في الجامعة. وكان قسم علوم الطيران في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا على استعداد لتولي مسئولية موضوعات بحثية مثل تطوير أنواع جديدة من الوقود الدفعي، وتطوير مواد تؤدي عند حرقها إلى تشغيل المحرك بسلاسة. ولكن، بالنسبة إلى هذا القسم كان القيام بعملية تطوير مكثفة، يمكنها أن تطرح شيئا بهذا التحديد كالسلاح الحربي، أمرا مختلفا. وكان من المنتظر إحراز تقدم في مسار العمل في أرويو سكو، وخلال عام 1944 أعيد تنظيم المنشأة كمركز لأبحاث الصواريخ الموجهة، تحت اسم مختبر الدفع النفاث.
خلال عامي 1944 و1945 توسع الجيش في إقامة منشآت جديدة بلغت قيمتها 3 ملايين دولار أمريكي؛ مثل: المختبرات، ومنصات اختبارات الصواريخ، ومبنى إداري جديد، ونفق هوائي بسرعات تتخطى سرعة الصوت. وأثار هذا الأمر استياء أعضاء مجلس مدينة باسادينا؛ إذ كانت المدينة قد أبرمت اتفاقا لتأجير موقع أرويو سكو خلال فترة الحرب فقط، وبدا أن المنشآت الجديدة ستكون دائمة؛ وتسببت هذه المباني التي تبدو مثل الثكنات وأصوات الأزيز المرتفع الناشئ عن الصواريخ التي هي قيد الاختبار، في وقوع صدام كبير مع سكان الضواحي الأثرياء الذين كانوا يشيدون منازل جديدة في مدينتي ألتادنا وفلنتريدج القريبتين.
عندما سعى الجيش إلى تجديد عقد الإيجار، لم يوافق مجلس مدينة باسادينا؛ إذ أعلن رئيس مجلس المدينة أن المنشآت تخالف «المبدأ الأول من مبادئ التقسيم السليم المعمول بها في المناطق السكنية»، ورد مسئولو الجيش على ذلك بالتهديد بمصادرة الأراضي بموجب حق مصادرة الأملاك؛ فأذعن مجلس المدينة. وسرعان ما انتقلت اختبارات الصواريخ إلى مكان آخر، وإن ظل مختبر الدفع النفاث حيث هو.
في تلك الأثناء، أعطى اهتمام هذا المركز بالصواريخ الحربية المستخدمة في ميادين القتال أملا جديدا بإمكانية إنتاج صواريخ وقود سائل. وكانت شركتا «إيروجت» و«ريأكشن موتورز» قد شرعتا في إجراء تجارب حول الإقلاع المعزز، لكن لم تكن هذه التجارب تقدم توقعات كبيرة بالنجاح في المستقبل. وسرعان ما صارت حاملات الطائرات مجهزة بآلات بخارية تشبه المنجنيق تستطيع إطلاق طائرات دون أي صاروخ دفع إضافي، بينما تخلت القوات الجوية عن التعزيز الصاروخي عن طريق بناء مدارج إقلاع أطول، ومحركات نفاثة أقوى. ووجدت شركة «ريأكشن موتورز» مكانا مناسبا لها في السوق، من خلال توريد محركات إلى عدد صغير من الطائرات الصاروخية المستخدمة في أبحاث الطيران الفائق السرعة. وشكلت الصواريخ الحربية مسارا منفصلا، وهو ما حدد ملامح مستقبل مختبر الدفع النفاث خلال العقد القادم.
مع ذلك، تضمن مسار آخر صواريخ التجارب، التي كانت تحمل معدات إلى ارتفاعات غير مسبوقة تصل إلى مائة ميل وأكثر. وبعد الحرب، عقد الكثير من العلماء الأمل على إجراء أبحاث على هذه المعدات؛ فأراد علماء الفلك أن يرصدوا ضوء الشمس في نطاق الأشعة فوق البنفسجية البعيدة التي تمتص أطوالها الموجية في طبقات الجو السفلى؛ وتوقع الفيزيائيون أن يكتشفوا أشعة كونية، كان من المتوقع أن تمتص أيضا في الغلاف الجوي؛ وتطلع علماء الأرصاد الجوية إلى قياس درجات الحرارة والضغط في طبقة الجو العليا؛ وكان كثير من الناس يتوقون إلى معرفة شكل الأرض عند تصويرها فوتوغرافيا من هذه الارتفاعات، وهي ارتفاعات شاهقة تفوق بكثير ما كان يمكن بلوغه بواسطة أي طائرة أو بالون.
لم تكد الحرب تضع أوزارها حتى هيأ الجيش الأجواء لبذل مزيد من الجهد الضخم في هذا المجال؛ حيث استحضر أفضل مساعدي فيرنر فون براون إلى هذه البلاد، فضلا عن جلب كمية هائلة من الوثائق والمعدات المهمة. وفي مارس 1945، أرسل الكولونيل ترايكل في البنتاجون طلبا إلى الكولونيل هولجر توفتوي، رئيس جهاز الاستخبارات الفنية التابع لفرقة المعدات الحربية في أوروبا، طالبا إرسال مائة صاروخ طراز «في-2» جاهز للعمل، وذلك بهدف إجراء اختبارات إطلاق عليها في الولايات المتحدة. ولمساعدة توفتوي، أرسل ترايكل روبرت ستيفر، الذي صار الآن رائدا في الجيش، وكان قد ساهم في تأسيس مختبر الدفع النفاث قبل عام ونصف العام؛ وكان عليه جمع المخططات والوثائق، وتشكيل الفريق الذي سيتولى تنفيذ المشروع.
لم تكن صواريخ «في-2» الكاملة الجاهزة للإطلاق موجودة في واقع الأمر، لكن توفتوي جمع ما يكفي من المكونات لتنفيذ جانب كبير من طلب ترايكل، وحدد ستيفر بدوره أكفأ الأشخاص في بينامونده، فضلا عن مجموعة كبيرة من الوثائق القيمة. لم يكن فون براون والآخرون سجناء؛ إذ لم يجر توجيه أي اتهامات إليهم، ولم تسع الولايات المتحدة إلى احتجاز العلماء العسكريين في ألمانيا من خلال عمليات اعتقال مباشرة؛ إذ كان لهؤلاء الأشخاص، في حقيقة الأمر، وفقا لقانون الاحتلال، مطلق الحرية في البقاء في ألمانيا إذا كانوا يرغبون في ذلك. وبذلك، التقى توفتوي شخصيا بخبراء الصواريخ، واتخذ الترتيبات اللازمة لتوفير سبل الإعاشة لعائلاتهم والتفاوض حول العقود التي سيأتون بموجبها للعمل في الولايات المتحدة. وخلال الأشهر التالية، ترأس فون براون فريقا من 115 اختصاصيا مختارين بعناية، عبروا الأطلنطي وانتقلوا إلى منزل مؤقت في فورت بليس، بولاية تكساس، في الصحراء قرب مدينة إل باسو.
كانت مهمة العلماء العاجلة تتمثل في بناء صواريخ «في-2» من المكونات المتوافرة لديهم، وإطلاقها كصواريخ تجارب، وكانت منطقة الاختبارات - وهي ميدان اختبارات وايت ساندز - قريبة من فورت بليس، وتغطي جزءا من أراضي نيو مكسيكو يقارب في حجمه وشكله ولاية فيرمونت. وعلى الرغم من تخطي صواريخ «في-2» حاجز المائة ميل، فإنها في بعض الأحيان على الأقل لم تكن مناسبة تماما لهذا الغرض.
لم يكن الجيش يعتزم إنتاج صواريخ «في-2» مجددا، وعندما نفدت الكمية المحدودة الواردة من ألمانيا، لم تكن ستعقبها كميات أخرى؛ بالإضافة إلى ذلك، لم يتم التحكم فعليا في نظام التوجيه إلا خلال عمليات الإطلاق المعزز. وبعد توقف المحرك، لم تكن ثمة طريقة لتوجيه المركبة في أي اتجاه ، مثل الشمس؛ ففي حقيقة الأمر، كان الصاروخ يتعثر أو يتخذ مسارات بهلوانية بدلا من الطيران في وضع مستقيم، والأكثر من ذلك أن الصاروخ كان مصمما لحمل رأس حربية زنة طن واحد، وكان في حاجة إلى هذا الوزن الكبير في المقدمة، وإلا لم يكن نظام التوجيه سيعمل حتى خلال مرحلة التعزيز. ولم تستطع المعدات التي استعان بها العلماء بلوغ هذا الحاجز؛ لذا كانت صواريخ «في-2» تحمل أوزانا ثقيلة من الرصاص لتحقيق التوازن. ومثلما جاء على لسان أحد مديري المشروع: «كلما زاد الوزن، قل الارتفاع. وكنا نرى انحرافات بالأميال في الارتفاعات المحتمل أن يبلغها الصاروخ «في-2» مع كل رطل من الرصاص يسكب في الفوهة، ووصل وزن الرصاص المسكوب في إحدى المرات إلى 1100 رطل.»
في مختبر الدفع النفاث، كانت خطط إطلاق صواريخ تجارب صغيرة متوافقة تماما مع برنامج الصواريخ الشامل في المختبر. واستهل المختبر تجاربه في أواخر عام 1944 بالصاروخ «برايفت»، وهو صاروخ وقود صلب بارتفاع ثماني أقدام ابتكره جون بارسونز، والوقود فيه عبارة عن مزيج من الأسفلت وفوق كلورات البوتاسيوم. وكان الصاروخ التالي في جدول أعمال البرنامج هو الصاروخ «كوربورال»، الذي يبلغ طوله تسعا وثلاثين قدما، ويزيد مداه على ستين ميلا. اشتمل هذا الصاروخ على نظام توجيه، وانطلق من خلال احتراق وقود سمرفيلد الدفعي، الذي انبعث عنه دخان أحمر من حمض النيتريك والأنيلين. ودفع هذا البرنامج المقترح رئيس أبحاث المعدات الحربية في الجيش، اللواء جلاديون بارنز، أن يسأل فون كارمان عن أقصى رتبة يريد أن يبلغها، وأجابه كارمان قائلا: «بالتأكيد ليس أكثر من كولونيل؛ فهذه هي أكثر الرتب نجاحا.»
لكن، كان تطوير كوربورال يتطلب قفزة كبرى، ورأى مالينا أنه يتعين على مختبر الدفع النفاث تنفيذ برنامج مؤقت، ألا وهو بناء صاروخ وقود سائل أصغر يستخدم أي محرك متوافر ولا يتطلب توجيها. وكان هذا المشروع سيضع الأساس لبناء صاروخ «كوربورال» بالحجم الكامل؛ إذ كان سيحلق أيضا كصاروخ تجارب على ارتفاع شاهق، محققا بذلك الأمل الذي طالما كان يراود مالينا منذ بداية تجاربه في عام 1936. وبعد الحصول على موافقة الكولونيل ترايكل، كان يتعين تحديد اسم للصاروخ الجديد، وكان من المفترض أن يكون أبسط وأكثر إيجازا من مسمى «كوربورال». أطلق طاقم العمل في مختبر الدفع النفاث على الصاروخ اسم «دبليو إيه سي كوربورال»، على غرار سلاح الجيش النسائي (الذي يشار إليه أيضا بالاختصار «دبليو إيه سي»)، على الرغم من أن الجيش أعلن على نحو رسمي لاحقا أن «دبليو إيه سي» تعني «دون نظام تحكم في الوضع».
كان ارتفاع الصاروخ «دبليو إيه سي كوربورال» ست عشرة قدما، ووزنه 655 رطلا عند تزويده بالوقود، وهو ما جعله مساويا تقريبا لحجم صاروخ جودارد الذي صممه عام 1940، لكنه كان أبسط كثيرا؛ حيث لم يكن يتضمن نظام توجيه ومضخات توربينية. ومع ذلك، ففي حين كان تصميم صاروخ جودارد نتاج جهوده الفردية ولم تفلح قط تجربة إطلاقه، كان الصاروخ «دبليو إيه سي كوربورال» نتاج الأبحاث التي أجريت وقت الحرب في كل من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ومختبر الدفع النفاث. وانطلق الصاروخ على نحو رائع في محاولة إطلاقه الأولى في أكتوبر 1945، وزاد الصاروخ سرعته من خلال الانطلاق بسرعة داخل أحد الأبراج، ثم اعتمد على الزعانف للانطلاق بثبات كالسهم، حيث بلغ ارتفاع أربعة وأربعين ميلا.
لكن، على الرغم من أن الصاروخ «في-2» لم يكن ملائما تماما للاستخدام كصاروخ تجارب، كان الصاروخ «دبليو إيه سي كوربورال» أصغر مما ينبغي، ولم يكن يستطيع أن يحمل أكثر من خمسة وعشرين رطلا من المقذوفات الصاروخية؛ وكان هذا القصور مثار قلق في مركزين من مراكز أبحاث البحرية، هما مختبر أبحاث البحرية ومختبر الفيزياء التطبيقية في جامعة جونز هوبكنز. كانت العلاقة بين مختبر الفيزياء التطبيقية والجامعة الأم تقريبا كالعلاقة بين مختبر الدفع النفاث ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا؛ علاقة مختبر عسكري يعمل بموجب عقد. في مختبر الفيزياء التطبيقية، طلب اثنان من كبار المديرين من عالم في المختبر، يدعى جيمس فان ألن، أن يجري بحوثا على صواريخ التجارب المتوافرة، ويقرر إذا كان ثمة ضرورة لتطوير صاروخ جديد.
أجرى فان ألين سلسلة من التحقيقات قادته إلى شركة «إيروجت»، التي كانت تبني في ذلك الوقت الصاروخ «دبليو إيه سي كوربورال». دعا فان ألين الشركة إلى إعداد عرض، وفي مايو 1946 أبرم مكتب المعدات الحربية في البحرية عقدا مع «إيروجت» لبناء صاروخ تجارب جديد، يسمى الصاروخ «إيروبي». وكان الصاروخ الجديد يشبه الصاروخ «دبليو إيه سي كوربورال» كثيرا، وانطلق من منطقة وايت ساندز أيضا، لكنه كان أكبر إلى حد ما، وكان يحمل 150 رطلا من المعدات لمسافة سبعين ميلا. حققت عملية الإطلاق الأولى، التي أجريت في نوفمبر 1947، نجاحا جزئيا على الرغم من أن الصاروخ اقترب من الارتفاع الذي بلغه الصاروخ «دبليو إيه سي كوربورال». وبلغ الصاروخ في عملية الإطلاق الثانية، التي كانت في شهر مارس التالي، ارتفاع ثلاثة وسبعين ميلا، وأحرز نجاحا كاملا.
بالنسبة إلى القائمين بأبحاث الصواريخ في وايت ساندز، كانت عمليات الإطلاق هذه تمثل لحظات مشرقة في واقع كئيب؛ فلم يكن مركز إطلاق الصواريخ أكثر من موقع بعيد وسط شجيرات الميرمية، ملاصق لطريق سريع من حارتين يمتد عبر الصحراء المترامية الأطراف إلى ألاموجوردو، وكان ثمة كوخ على طراز كوانست استخدم كحظيرة طائرات، وكانت معظم المباني الأخرى عبارة عن ثكنات من طابق واحد، وكان يمكن تفقد أرجاء القاعدة بأكملها في غضون خمس دقائق فقط. كان الطقس حارا عاصفا، وفي بعض الأوقات كانت حصص الطعام تقتصر على الفول والجبن فقط، وكان بعض العاملين يقضون الوقت في لعب البوكر طوال الليل، بينما كان البعض الآخر يعبر الحدود لقضاء ليلة في خواريس. لكن سرعان ما انضم إليهم آخرون؛ إذ كان ثمة مشروع إطلاق صاروخ تجارب جديد في طور التنفيذ، وهو الصاروخ «فايكنج» في مختبر أبحاث البحرية.
اختار ثور برجسترال، وهو أحد العلماء العاملين في المشروع، اسم الصاروخ. وكان الصاروخ «فايكنج» بمنزلة خطوة أولى نحو الأمل الذي كان يراود مختبر أبحاث البحرية في أن تدخل البحرية ذات يوم مجال الصواريخ البعيدة المدى من خلال إطلاقها من السفن. وعلى غرار الطائرات الموضوعة على متن حاملات الطائرات، كانت هذه الصواريخ ستجمع بين مدى انطلاقها ومدى السفن التي تحملها. وضع ملتون روزن - أحد علماء مختبر أبحاث البحرية الذي كان مهتما للغاية بالصواريخ الموجهة - تصورات المشروع، وبدأ جهود استصدار الموافقات اللازمة لتنفيذه. وكان تخصصه في مجال الإلكترونيات، وفي البداية كان لا يكاد يفرق بين صاروخ وحفرة في الأرض (وهي الحفرة التي سرعان ما صنعتها صواريخ التجارب التي كانت تنطلق من قاعدة وايت ساندز). حصل روزن على دورة مدتها سبعة أشهر في ورش مختبر الدفع النفاث؛ حيث تعلم أدوات المجال الجديد من خلال الخبرة العملية المباشرة، وأعطته هذه الدورة معلومات تمهيدية مفيدة؛ لكنه، مثل كثيرين غيره في هذا المجال، كان يتعلم ما يحتاج إليه كلما قطع شوطا.
كان هدفه المبدئي هو حمل خمسمائة رطل لمسافة مائة ميل، وهو ما كان يتطلب تصميم صاروخ يقترب في أدائه من أداء الصاروخ «في-2». بنى الألمان صواريخهم من الصلب الثقيل لتتحمل حرارة دخول الغلاف الجوي وتهبط بسلام دون أن تتحطم، بينما بني الصاروخ «فايكنج» من الألومنيوم لتخفيف الوزن، وكان وزنه خمسة أطنان عند ملء خزان الوقود عن آخره، وهو ما لا يكاد يعادل ثلث وزن «في-2». وفي شركة «ريأكشن موتورز»، قاد جون شستا جهود تصميم محرك الصاروخ، الذي بلغت قوة دفعه عشرين ألف رطل.
فتح «فايكنج» آفاقا جديدة في مجال التوجيه والتحكم. عند تصميم أي نظام توجيه خاص بالصواريخ، كانت ثمة مشكلة دائمة تتمثل في تحديد القيم الملائمة لمعلمات النظام. وأدى أسلوب جديد في التحليل طوره ألبرت هول - وهو أستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا - إلى تيسير إجراء العمليات الرياضية المعقدة؛ وعلى حد تعبير روزن: «استطعنا التنبؤ بما سيحدث» خلال رحلة تحليق فعلية.
من خلال هذا الأسلوب الرياضي أصبح من الممكن التفوق على الأسلوب المتبع في توجيه الصاروخ «في-2» أثناء التحليق، الذي كان يعتمد على غمس أرياش مقاومة للحرارة مصنوعة من الكربون في عادم الصاروخ لتبديده وإخراجه عن مساره، وهو ما كان يمثل إهدارا للطاقة أدى إلى تقليص قوة الدفع في الصاروخ «في-2» بنسبة 17 في المائة. استخدم الصاروخ «فايكنج» محرك صواريخ مزودا بجيمبال، كان يعلق بين دعامات مرتكزة على محور، تهتز بحيث توجه عادم الصاروخ في اتجاه ملائم. وأتاح تحليل هول الإمكانية لحساب ديناميكية الصاروخ ومحركه المزود بجيمبال، وضمان وضع تصميم ناجح. وبعد الصاروخ «فايكنج»، صارت جميع صواريخ الوقود السائل الكبيرة تستخدم المحركات المزودة بجيمبال.
حقق «فايكنج» أيضا حد تكلفة لم يستطع بلوغه إلا عدد محدود من مشروعات الصواريخ اللاحقة؛ حيث لم تتجاوز تكلفة البرنامج بأكمله خمسة ملايين دولار أمريكي. واستخدم هذا المبلغ في تطوير محرك ونظام توجيه جديدين تماما، لإصدارين من الصاروخ، وفي تنفيذ اثنتي عشرة عملية إطلاق. وتمكن الإصدار الثاني، الذي كان يحمل كمية أكبر من الوقود، من رفع معدات زنة 825 رطلا إلى مسافة 158 ميلا في أفضل رحلاته، في مايو 1954. وأثبت الصاروخ «فايكنج» إمكانية التعويل الكاملة عليه. وبعد عمليات الإطلاق الثلاث الأولى التي توقف خلالها المحرك قبل إتمام عملية الإطلاق، نجحت سبع من عمليات الإطلاق التسع المتبقية في البرنامج نجاحا مذهلا، بينما فشلت محاولة إطلاق واحدة فشلا تاما.
كتب روزن قائلا: «كان ثمة اثنا عشر رجلا فقط ضمن طاقم إطلاق «فايكنج»، ولم تقدم شركة «مارتن»، التي تولت بناء الصاروخ، أكثر من أربعة وعشرين مهندسا للقيام بأعمال التصميم. ولم يتجاوز عدد المشاركين في بناء الصاروخ أكثر من خمسين رجلا فقط. وأخيرا، كان فريق المشروع المعين من قبل الحكومة يتألف من رجلين في البداية، ولم يتجاوز العدد أربعة أشخاص. وضع هؤلاء الأشخاص المواصفات الفنية، وتفاوضوا بشأن أوامر التعديل، وحللوا بيانات الرحلات والاختبارات، وكتبوا جميع التقارير النهائية حول «فايكنج»؛ ولذلك، يمكن شراء صاروخ «فايكنج» مقابل 250 ألف دولار أمريكي، وإجراء عملية إطلاق كاملة مقابل 500 ألف دولار أمريكي.»
3
حازت صواريخ التجارب هذه السبق في جوانب أخرى؛ ففيما يتعلق بحمل الكاميرات، المزودة في بعض الأحيان بأفلام ملونة، كانت هذه الصواريخ تحمي الأفلام المعرضة للضوء في حاويات قوية تستطيع تحمل عملية الهبوط على سطح الأرض، وكانت تلتقط صورا على غرار المشاهدات التي رصدها رواد الفضاء، ولكن قبل وقت طويل من وجود رواد فضاء. وعلى ارتفاع شاهق من أل باسو ، حيث كان الأفق يمتد لما يزيد عن ألف ميل، اخترقت الكاميرات على متن «فايكنج» الأجواء في المكسيك ورصدت المحيط الهادئ، فيما وراء ولاية باجا كاليفورنيا. وكان أداء الصاروخ «إيروبي» أفضل؛ ففي عام 1954، على ارتفاع مائة ميل، التقط «إيروبي» صورا فوتوغرافية لعاصفة استوائية فوق الأجزاء الجنوبية من ولاية تكساس، وكانت عاصفة أشبه بالإعصار، وكان خبراء الأرصاد في محطات الرصد الأرضية على دراية بأن الطقس عاصف، لكنهم لم يتمكنوا من معرفة السبب. قدمت هذه الواقعة دليلا دامغا على أن الصور الملتقطة على هذه الارتفاعات الشاهقة يمكن أن تصبح ذات فائدة كبيرة في علم الأرصاد الجوية، وكانت تستبق فكرة إطلاق أقمار صناعية لرصد الأحوال الجوية.
ترك الصاروخان «في-2» و«دبليو إيه سي كوربورال» بصماتهما أيضا. اتحد الصاروخان في نموذج واحد ليشكلا معا أول صاروخ ذي مرحلتين؛ حيث كان الصاروخ الأصغر موضوعا على صاروخ الدفع الإضافي. وكانت عملية تصنيف مراحل الصاروخ من المتطلبات الفنية الملحة؛ حيث كان يجب أن يتصدى صاروخ المرحلة العليا للضغط المرتفع والتسارع القوي اللذين يحدثان في صاروخ الدفع الإضافي قبل إشعال المحرك عند بلوغ الارتفاعات الشاهقة، وهي عملية كانت بعيدة تماما عن متناول الفنيين. ولكن، استخدم الصاروخ «دبليو إيه سي كوربورال» محركا مغذى تحت الضغط، فضلا عن وقود دفعي كان يشتعل عند التلامس. ولم يكن هذا الصاروخ يتطلب نظام إشعال أو مضخة توربينية أو نظام توجيه، بل كل ما كان مطلوبا هو فتح صمامات المحرك في الوقت المناسب؛ وبهذه الطريقة، بلغ الصاروخ ارتفاع 244 ميلا في فبراير 1949، وهو ارتفاع لم تستطع أية مركبة فضائية لاحقا أن تتخطاه على أية حال، وسجل رقما قياسيا في الارتفاع لم يتجاوز حتى عام 1956.
بناء على ذلك، تشكلت مجموعة من الاختصاصيين الأمريكيين في مجال الصواريخ، تأثروا بأعمال جودارد، وانبثقوا عن الباحثين الهواة الذين علموا أنفسهم بأنفسهم في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ونادي الصواريخ الأمريكي، واعتمدت هذه المجموعة على التمويل الفيدرالي وحققت مكانة متواضعة لكن هادفة في مجالي صواريخ التجارب والصواريخ الحربية. ولكن هذا العمل كان بعيدا تماما عن فكرة بناء صواريخ دمار شامل تستطيع حمل قنبلة نووية. استطاع كثيرون تخيل الوضع مع هذه الأسلحة، في أعقاب واقعتي بينامونده وهيروشيما، ولكن واشنطن لم تكن مهتمة بالأمر. وأشار فانفار بوش، الذي تولى إدارة مكتب البحث العلمي والتطوير وقت الحرب، إلى ذلك بوضوح في شهادته أمام مجلس الشيوخ في ديسمبر 1945:
انتشرت أقاويل كثيرة عن صاروخ يبلغ ارتفاع 3000 ميل بزاوية ميل عالية. وفي رأيي، هذا أمر مستحيل وسيظل مستحيلا لسنوات عديدة؛ فهؤلاء الأشخاص الذين كانوا يكتبون عن هذه الأمور التي تزعجني كانوا يتحدثون عن صاروخ يصل إلى ارتفاع 3000 ميل بزاوية ميل عالية، منطلقا من قارة إلى أخرى حاملا على متنه قنبلة ذرية، وموجها على نحو يجعله سلاحا دقيقا يهبط بالضبط في موضع معين مثل هذه المدينة.
من الناحية الفنية، لا أعتقد أنه يوجد في العالم من يعرف كيفية صنع صاروخ كهذا، وأثق أن هذا الأمر لن يحدث إلا بعد فترة زمنية طويلة للغاية. وأعتقد أننا يجب أن نسقط هذا الأمر من تفكيرنا، وأتمنى أن يسقط الأمريكيون هذا الأمر من تفكيرهم.
4
لم يكن أحد يراوده الشك في أن صواريخ من هذا النوع كانت تتطلب ما هو أكثر بكثير من بضعة الملايين من الدولارات التي كانت تكلفة الصاروخ «فايكنج». بلغ وزن القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا عام 1945، بنوعيهما المصنوعين من اليورانيوم والبلوتونيوم، خمسة أطنان. وكان يجب أن يصل وزن الصاروخ الذي سيحمل قنبلة واحدة إلى موسكو عدة مئات من الأطنان، مقارنة بالقنبلة التي تزن أربعة عشر طنا والتي كان صاروخ «فايكنج» يستطيع حملها. وكانت مقدمة الصاروخ المخروطية، التي تلج إلى الغلاف الجوي بسرعة أربعة أميال في الثانية، ستحترق كالنيزك بفعل حرارة ديناميكا الهواء. وفي المدى العابر للقارات، لم يكن ثمة نظام توجيه يضمن إصابة الهدف بدقة، وكان المسمى الإنجليزي لكلمة «قذيفة»، وهو
missile ، معبرا تماما؛ إذ كانت تخطئ هدفها وهو ما يعبر عنه المقطع الأول من الكلمة الإنجليزية
miss . حتى إذا استطاعت الرأس الحربية المثبتة على الصاروخ الصمود عند اختراق الغلاف الجوي، فستهدر طاقته في إصابة الأبقار والفلاحين في المزارع الجماعية القريبة، تاركا موسكو دون أن يصيبها بأي أضرار.
على الرغم من ذلك، كانت وجهة نظر بوش تعتمد على حجة أكبر، وهي أن الولايات المتحدة لم تكن في حاجة إلى هذه الأسلحة الصاروخية؛ فقد أثبتت القوات الجوية العشرون زعامتها للقوة الجوية، بإحراقها اليابان من خلال شن غارات واسعة بقاذفات «بي-29»، ثم إدارة عملية الضربة القاضية في هيروشيما وناجازاكي. بالإضافة إلى ذلك، كانت الولايات المتحدة تتخطى بالفعل قاذفات «بي-29»؛ إذ كانت قاذفات «بي-50» تكافئ قاذفات «بي-29» بل تتفوق عليها في استخدام محركات ذات قدرات أعلى كثيرا. ثم سرعان ما انضمت إلى اختبارات الطيران القاذفة «بي-36»، التي كانت تستخدم ستة من هذه المحركات مقارنة بأربعة محركات فقط في «بي-50». وكان بإمكان القاذفة «بي-36» عبور المحيط الأطلنطي من الساحل الشرقي، وإلقاء قنبلة بلوتونيوم على موسكو، ثم العودة إلى قواعدها، وذلك كله في رحلة واحدة دون الحاجة إلى إعادة التزود بالوقود.
خلال السنوات العديدة التي أعقبت ذلك، حدثت تطورات جديدة صبت في مصلحة مؤيدي تطوير القاذفات؛ فوفقا لرؤيتهم، كان من المنتظر أن تعمل عمليات إعادة التزود بالوقود أثناء الطيران على توسيع المدى الذي تبلغه هذه الطائرات. وكان من المتوقع أن تقدم القاذفات النفاثة سرعات أكبر وتحلق على ارتفاعات أعلى، وهو ما يزيد من صعوبة إسقاطها. وزادت قواعد ما وراء البحار، الكائنة قرب الحدود السوفييتية، من احتمالات خروج المقاتلات النفاثة مع القاذفات، وهو ما كان يوفر لها مزيدا من الحماية. والأهم من ذلك حقيقة بسيطة، وهي أننا كنا الطرف الذي في حوزته القنبلة وليس أعداؤنا. وإلى أن يمتلك أعداؤنا قنبلة، وحتى يمثلوا تهديدا استراتيجيا جسيما، كانت الصواريخ البعيدة المدى ستواصل تطورها في انتظار اليوم الذي تستخدم فيه.
مع ذلك، بينما لم تكن القوات الجوية تضمر أية نية مباشرة في بناء هذه الصواريخ، بدا من الحكمة فهم ما هو مطلوب تحديدا لبنائها. وفي أكتوبر 1945، قبل خمسة أسابيع من مثول فانفر بوش أمام الكونجرس، أرسلت قيادة الخدمات الفنية الجوية خطابات إلى المسئولين في شركات الطائرات الأمريكية الرئيسية ، داعية إياها إلى إعداد عروض لوضع برنامج مدته عشر سنوات لتطوير أربعة طرازات من الصواريخ. وكانت هذه الصواريخ تتنوع ما بين صواريخ قصيرة المدى تصل إلى عشرين ميلا، وصواريخ طويلة المدى تصل إلى خمسة آلاف ميل. وفي شركة «كونفير» في سان دييجو، جذبت الدراسة التي وضعت استجابة لهذه الدعوة انتباه اختصاصي في هياكل الطائرات، يدعى كاريل بوسارت، وكان الجميع يطلق عليه اسم تشارلي.
نشأ بوسارت في بلجيكا، وبعد حصوله على شهادة علمية في هندسة التعدين من جامعة بروكسل عام 1925، انضم إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في منحة زمالة، وتعرف من خلال المعهد على علم الطيران، وواصل عمله حتى صنع اسما لنفسه في مجال تصميم هياكل الطائرات، التي كانت تتطلب تحقيق أقصى متانة مع أقل وزن ممكن. قضى بوسارت سنوات الحرب كاختصاصي في مجال الطائرات، وعندما علم بأمر الصاروخ «في-2»، رأى في ذلك إهدارا هائلا للأموال؛ لكن عندما وصل عقد دراسة القوات الجوية، رأى بوسارت فيه تحديا لم يستطع مقاومته، وذهب إلى كبير المهندسين وتولى مهمة تنفيذ العقد.
اقترح فريق بوسارت ثلاثة مشروعات، تهدف جميعها إلى بناء صواريخ يبلغ مداها 5000 ميل. وكان المشروع «أ» عبارة عن الصاروخ «كروز»، وهو طائرة نفاثة بلا طيار تحلق أثناء مهمتها الأحادية الاتجاه بالاعتماد على طيار آلي متطور. وكان المشروع «ب» عبارة عن صاروخ تجريبي يشبه إلى حد ما الصاروخ «في-2»، وكان سيسمح لشركة «كونفير» باكتساب خبرة في المجال الجديد لصواريخ الوقود السائل الكبيرة. أما المشروع «ج»، فكان عبارة عن صاروخ طويل المدى، وهو ما أعرب فانفر بوش عن ازدرائه له. كانت هذه التصورات الثلاثة في حاجة إلى أسماء، وقدم هذه الأسماء مهندس الدفع بيل لستر؛ فأطلق اسم تيتوتلر (أي الممتنع عن المكسرات) على صاروخ المشروع «أ»؛ إذ كان نموذج الصواريخ الوحيد ضمن النماذج الثلاثة الذي لم يكن يستخدم الكحول كوقود. وأطلق على صاروخ المشروع «ب»، الصاروخ التجريبي، اسم «أولد فاشوند» (أي قديم الطراز)، نظرا لتشابهه مع الصاروخ «في-2»، وكان من المفترض أن يحمل صاروخ المشروع «ج »، الصاروخ العابر للقارات، اسم «أتوميك بومب» (أي القنبلة الذرية)، وهو الصاروخ الذي أطلق لستر عليه اسم «مانهاتن».
قدمت القوات الجوية تمويلا بقيمة 1,9 مليون دولار أمريكي، وكان بوسارت يعتقد أن ذلك كان يكفي لشراء بعض المعدات. ولم يكن ثمة أمل في بناء مانهاتن، لكن كان بناء الصاروخ «أولد فاشوند» الأصغر حجما في المتناول. وحصل الصاروخ «أولد فاشوند» على اسم ثالث، «إم إكس-774»، وهو الاسم الذي أطلقته القوات الجوية على الدراسة بأكملها. وبدأ بوسارت العمل في عزم لحل ما رآه المشكلة الرئيسية، ألا وهو توظيف خبرته في تصميم هياكل الطائرات لتقليل وزن الصاروخ إلى أدنى حد. وكان ثمة أشخاص آخرون يتحدثون عن ضرورة تصميم محركات قوية، بيد أن بوسارت كان يعلم أن استغلال تخصصه بمهارة ربما يؤدي إلى تصميم صاروخ خفيف الوزن يستطيع بلوغ موسكو بسهولة بالغة.
كان فون براون قد بنى الصاروخ «في-2» من الصلب، مقويا إياه عن طريق إضافة هيكل داعم وبناء خزانات الوقود كحاويات منفصلة داخل هذه الطبقة الخارجية. ورأى بوسارت أن من الممكن تقليص الوزن في المناطق الثلاث بأكملها؛ وبطبيعة الحال، قرر أن يستخدم الألومنيوم، وسمح للطبقة الخارجية بتأدية مهمة مزدوجة عن طريق الاحتفاظ بوقود الدفع، مستغنيا من ثم عن سعة الخزان الداخلي. ومضى بوسارت في إضافة المزيد من التعديلات، فرأى أن من الممكن أيضا التخلي عن الإطار المقوي، والعمل بدلا من ذلك على تقوية الطبقة الخارجية وحمايتها من التداعي من خلال ضغط جوانبها الداخلية باستخدام النيتروجين؛ ومن ثم، كان صاروخه يشبه البالون، الذي لم يكن في حاجة إلا إلى ضغط داخلي محدود للحفاظ على شكله بصورة فعالة تماما. وكان من المنتظر أن يصبح حجم الصاروخ ثلثي حجم نموذج الصاروخ «في-2»، ولكن أكبر قليلا من ثمن وزنه فارغا.
كانت ثمة مخصصات مالية في الميزانية لتصميم نظام توجيه بسيط يعتمد على طيار آلي، لكن فيما يتعلق بمحرك الصاروخ «إم إكس-774»، كان على بوسارت أن يستخدم كل ما كان متوافرا. ومرة أخرى، كانت شركة «ريأكشن موتورز » هي التي تصدت لتنفيذ تلك المهمة، طارحة نموذجها من المحرك «إكس إل آر-2» ذي غرف الاحتراق الأربع، وهو النموذج الذي اختاره مصممو الطائرة «إكس-1» التجريبية، الذين كانوا يعملون بميزانية محدودة، لتنفيذ مشروع صاروخهم. وكان هذا النموذج يستخدم مضخة توربينية بغرض تغذية الوقود بمعدلات تدفق أسرع، من خلال ضغط الغاز، فيما يبدو، لتعزيز قوة الدفع لتصل إلى 8000 رطل. وحاكى بوسارت شكل نموذج الصاروخ «في-2» عمدا، وهو ما سمح للاختصاصيين في مجال ديناميكا الهواء بين أفراد فريقه باستخدام بيانات أنفاق الرياح الألمانية في دراساتهم.
بعد ذلك، ألغت القوات الجوية عقد «كونفير» تحت وطأة تخفيضات الميزانية. ولكن، كان لدى الشركة بعض الأموال غير المنفقة، التي استطاعت أن تستخدمها بالإضافة إلى أموالها الخاصة، وحصل بوسارت على تصريح لبناء ثلاثة صواريخ طراز «إم إكس-774»، انطلقت من قاعدة وايت ساندز خلال عام 1948. وكانت مصممة لبلوغ ارتفاع مائة ميل، بيد أن الصواريخ الثلاثة توقفت محركاتها ولم تفلح في الانطلاق، ولم تبلغ أكثر من ثلاثين ميلا فقط. وبعد عملية الإطلاق الثالثة، استطاع مهندسو بوسارت تحديد المشكلة وأملوا في إجراء محاولة أخرى ربما تسفر عن نجاح كامل. ولم يكن الأمر متعلقا بالميزانية.
كانت «كونفير» قد خسرت عقد بناء الصاروخ «كروز» البعيد المدى «تيتوتلر»، وهو العقد الذي فازت به شركة «نورثروب إيركرافت»، الشركة التي بنت طائرة مشابهة بلا طيار باسم «سنارك». حاولت «كونفير» الترويج لصاروخها «إم إكس-774» باعتباره صاروخ تجارب، لكنه خسر المنافسة أمام الصاروخ «فايكنج» الأكبر حجما والأكثر قدرة. وفي الوقت المناسب، صمم الصاروخ «مانهاتن» على غرار «أطلس»، وهو أول صاروخ باليستي أمريكي حقيقي عابر للقارات، وكان يعتمد في تصميمه إلى حد كبير على نموذج صواريخ «إم إكس-774» لبوسارت. ولكن، هذا كله كان لا يزال في المستقبل البعيد، ويقع خارج إمكانات خطط القوات الجوية وقتئذ. بذل بوسارت مجهودا بطوليا واكتسب خبرة ثبت في نهاية المطاف أنها لا تقدر بثمن، إلا أن ما كان يعوقه في تلك الأثناء هو عدم اهتمام القوات الجوية بالصواريخ الكبيرة، وهو ما حتم عليه الانتظار إلى حين تحسن الأحوال .
سرعان ما نما اهتمام القوات الجوية بالصواريخ، بيد أنها كانت صواريخ نفاثة طراز «كروز»، وكانت في حقيقة الأمر عبارة عن طائرات بلا طيار. كان الصاروخ «سنارك» الذي يبلغ مداه 5000 ميل أحد هذه الصواريخ، وكان ثمة صاروخ آخر هو الصاروخ «ماتادور» من إنتاج شركة «مارتن»، الذي كان يبلغ مداه 600 ميل. استطاعت هذه الطائرات التحليق باستخدام المحركات النفاثة التقليدية، دون حاجة إلى صواريخ، ولم تكن تنطوي على مشكلة الاحتراق مثل النيازك. وكانت هذه الطائرات تحتاج إلى نظم طيران آلية عالية القدرة؛ إذ كان يتعين على نموذج «سنارك» التزام مسار ثابت لمدة عشر ساعات أو أكثر، بينما لم تكن نظم الطيران الآلي في الحرب العالمية الثانية تستطيع الحفاظ على طائراتها في مسار ثابت لأكثر من خمس عشرة دقيقة أو ما يقرب من ذلك. لكن في معظم الجوانب الأخرى، بدت المتطلبات الفنية لصواريخ «كروز» هذه تقليدية تماما.
مع ذلك، توافرت الفرصة لاستغلال هذا الاهتمام بصواريخ «كروز» باعتبارها انطلاقة نحو جهد بحثي طموح كان يمكن فعليا أن يضع الأساس لتطوير صواريخ باليستية عابرة للقارات. انتهزت هذه الفرصة شركة «نورث أمريكان أفياشن»، وقاد جهود التطوير ويليام بولاي؛ حيث رسمت جهوده المسار الرئيسي في علم الصواريخ الأمريكي.
ولد بولاي في ألمانيا عام 1911، وكان الاسم هيجونوتيا في الأصل؛ إذ كان أسلافه قد فروا من الاضطهاد الديني في فرنسا أثناء فترة حكم لويس الرابع عشر، وكان والده ضابطا في الجيش الألماني. ثم في عام 1924، وسط الأضرار البالغة للتضخم في فترة ما بعد الحرب، رحلت عائلته عن منزلها في شتوتجارت، وهاجرت إلى إيفانستون بولاية إلينوي؛ حيث وجد بولاي الذي كان طالبا في السنة النهائية في المرحلة الثانوية عملا في مخزن فحم. وأقام بولاي الشاب في مدينته الأم، حيث انضم إلى جامعة نورثوسترن؛ وفي عام 1933، مثلما تذكر أرملته جين: «جاء ذات يوم يقفز عبر حرم الجامعة وعيناه تلمعان، وكان قد حصل وقتها على منحة بقيمة 300 دولار أمريكي من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.»
كان لا يزال أمامهما عام على الزواج، بيد أنها تبعته إلى الساحل الغربي، مسجلة نفسها لإتمام سنتها النهائية في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، بينما التحق هو بكلية الدراسات العليا. وتتذكر ذلك قائلة: «كنت أذهب إلى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في عطلة كل أسبوع، مستقلة الترام. في المعهد، لم يكن ثمة وقت كثير للخروج معا. وفي معظم الوقت، كنت أجلس إلى جانبه بينما كان يستذكر دروسه.» جذب عمله اهتمام فون كارمان، الذي اتخذه مساعدا له؛ وأجريا عمليات حسابية لإقامة قبة مرصد ماونت بالومار، وحاولا فهم هيدروديناميكا آبار البترول. وتواصل جين ذكرياتها قائلة: «كان فون كارمان يبدأ في طرح أفكاره في الساعة العاشرة مساء تقريبا، ويواصلان العمل حتى الساعة الثالثة صباحا. ثم كان بيل يعود بعينين أجهدهما التعب، ويذهب إلى الصف في تمام الساعة الثامنة صباحا في اليوم التالي.»
5
أعجب بولاي أيضا بفرانك مالينا، وكان من المعتاد أن ينظم طلاب الدراسات العليا حلقات دراسية، وبالفعل نظم بولاي حلقة دراسية حول بناء طائرة صاروخية تبلغ سرعتها 1200 ميل في الساعة. وانضم أيضا إلى مالينا في أرويو سكو، حيث جثم وراء كومة من أجولة الرمل لإجراء اختبار صاروخي مبكر. لكن على الرغم من اهتمامه بالصواريخ، لم يكن يعتزم أن يبدأ حياته المهنية من خلال مجال لا تزال معالمه غير واضحة. وكان موضوع رسالته في الدكتوراه عبارة عن بحث على غرار بحوث فون كارمان حول نظرية الأجنحة، ولم يكن يتناول شيئا مستقبليا أكثر من مجال ديناميكا الهواء التقليدي. ظل بولاي فترة يعمل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا كمدرس شاب، ثم التحق بجامعة هارفرد عضوا حديث السن في هيئة التدريس. وفي هارفرد بنى نفقا هوائيا، في الطابق السفلي لأحد مباني الجامعة، مستخدما محركات كهربية إضافية من مترو أنفاق بوسطن.
مع ذلك، استطاع بالكاد أن يفلت من نذر الحرب التي كانت تلوح في الأفق. وكان النازيون يمتلكون منظمة تضم مناصري الولايات المتحدة؛ المنظمة الألمانية- الأمريكية، وهي المنظمة التي اتصل أحد أعضائها ببولاي، آملا في أن تسهل أصول بولاي الألمانية انضمامه إلى المنظمة. وتتذكر جين رده قائلة : «كان بيل مستاء للغاية من فكرة مساعدتهم، فخرج وتبع أخاه يوجين، الذي كان قد انضم قبل ذلك إلى قوات الاحتياط في البحرية.» وكان يوجين عالم أرصاد عرضت عليه البحرية الانضمام إلى مكتب الأرصاد الجوية التابع لها؛ أما ويليام، فعرضت البحرية عليه وظيفة في مجال الصواريخ.
في سبتمبر 1941 استدعته البحرية في مهمة، ووصل إلى واشنطن ووجد أن عليه التعامل مع أدوات ربط الأجزاء المعدنية مثل الصواميل والمسامير، ولم يرق الأمر له، لكنه كان مستعدا لاستخدام علاقاته. وكان بعض زملائه في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا قد صاروا ضباط بحرية في رتب عالية، فطلب بولاي المساعدة منهم؛ وفي غضون يومين، جرى نقله إلى فرع تطوير محطة توليد الطاقة في مكتب الملاحة الجوية في أنابوليس.
كان هذا المكتب هو مركز البحوث الذي يجري فيه روبرت ترواكس بحوثا على الصواريخ بالتعاون مع روبرت جودارد، بينما كان يتولى إدارة شئون العقود مع شركتي «ريأكشن موتورز» و«إيروجت»؛ وصار ترواكس وبولاي صديقين حميمين. وكان ثمة مدير آخر يتولى مسئولية مشابهة عن المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي. وظفر بولاي نفسه بالمنصب الأهم، في مجال المحركات النفاثة. وكان المركز يتميز بتوفيره هيكلا تنظيميا صغيرا يضم حفنة من الأشخاص، يوجهون من خلاله عمليات التطوير المباشرة لأنواع المحركات الثلاثة، وهي العمليات التي كان بولاي يسير على خطاها سيرا حثيثا.
كان المحرك النفاث ذو الدفع الهوائي، أو «المصرف الطائر»، واعدا بصورة خاصة؛ إذ كان أبسط محرك يمكن تصوره على الإطلاق. وكان عبارة عن أنبوب ذي طول معين مصمم بعناية ومزود بحواقن وقود؛ وعند السرعات المرتفعة، كان الهواء يندفع في المقدمة، ثم يحرق الوقود المحقون ويصير ساخنا. وكان تيار الهواء الساخن المتدفق يدفع المؤخرة؛ مما يولد قوة دفع.
كانت التجارب الأولية على المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي تمضي قدما على النحو الارتجالي نفسه الذي كانت التجارب الصاروخية تمضي فيه، بيد أنها كانت تسفر عن نتائج. وفي مختبر الفيزياء التطبيقية في مدينة بلتيمور القريبة، لم يتجاوز ما استخدمته إحدى مجموعات العمل كأنبوب في المحرك النفاث ذي الدفع الهوائي أكثر من مجرد أنبوب عادم في طائرة مقاتلة. ووفرت مجموعة من صواريخ الوقود الصلب الصغيرة قوة الدفع المبدئية، وهو ما كان يزيد سرعة المحرك النفاث ذي الدفع الهوائي إلى مستوى سرعة تجعل عملية اندفاع الهواء في مقدمة المحرك تؤتي ثمارها في عملية الدفع. وفي يونيو 1945 عملت هذه التعديلات البديلة على زيادة السرعة إلى 1400 ميل في الساعة، وهو ما يقترب من ضعف سرعة الصوت وأكثر من ضعف سرعة أسرع المقاتلات النفاثة على الإطلاق في ذلك الوقت.
ركزت تجارب بولاي على تصميم المحركات النفاثة التوربينية وإنتاجها. وكان مخترع بريطاني، يدعى فرانك وتل، قد بنى النماذج الأولى من هذه المحركات، وكان بولاي متحمسا لإنتاجها. ومع نهاية الحرب، كانت البحرية تسعى جديا إلى تطوير الطائرات النفاثة، وكانت شركة «نورث أمريكان أفياشن» في لوس أنجلوس تطور نموذج «إف جيه-1 فيوري»، الذي صار من أوائل نماذج المقاتلات النفاثة المحمولة على متن حاملة طائرات.
قاد مشروع المقاتلات هذا بولاي إلى شركة «نورث أمريكان»، حيث كون أول فريق في البلاد لتطوير الصواريخ. ويتذكر جيه ليلاند آتوود، رئيس الشركة بعد عام 1948، أن نهاية الحرب شهدت تراجعا مفاجئا في توقعات شركة «نورث أمريكان» وتطلعاتها. وخلال الحرب، كانت الشركة مصدرا أساسيا لإنتاج الطائرات في البلاد أثناء الحرب؛ يقول آتوود: «كان لدينا 90 ألف موظف في ذروة نشاط الشركة.» لكن بحلول خريف عام 1945، في خضم مجموعة هائلة من إلغاءات عقود الإنتاج، تقلص عدد الموظفين إلى ما لا يزيد عن 5000 موظف. وأثناء فترات الركود، لم يكن لديها سوى بضع عشرات من طلبات إنتاج الطائرات.
على الرغم من ذلك، كان ثمة مجال محدود للنشاط، وكان ذلك في المجال الجديد لإنتاج المقاتلات النفاثة والقاذفات. بالنسبة إلى آتوود ورئيسه، رئيس الشركة جيمس «داتش» كيندلبرجر، كان العمل في هذا المجال يمثل الطريق إلى المستقبل، وكما قال آتوود: «كان جليا للغاية أن البلاد ستحتاج إلى طائرة عسكرية جديدة، وكنا سنشارك في صناعتها.»
كانت الحرب قد تمخضت عن مجموعة من التكنولوجيات المبتكرة؛ مثل: الطائرات النفاثة، والصواريخ، والرادار ، والأجهزة الإلكترونية الأخرى، ونظام التحكم الآلي، والطاقة الذرية. ورأى كيندلبرجر أن يدعو أفضل عالم يمكنه العثور عليه ويطلب منه تأسيس شركة مختبرات بحثية جديدة يعمل لديها خبراء في هذه المجالات، واقترح على أحد مسئولي التوظيف التنفيذيين، في منطقة واشنطن، توظيف بولاي.
وصل بولاي وزوجته جين، وبصحبتهما ابنتهما الرضيعة ميلودي، إلى لوس أنجلوس بحلول عيد الشكر في عام 1945، واشتريا منزلا كبيرا مترامي الأطراف على الحدود القصوى في حي باسيفك باليسيدز، يفصله شارع عن الشاطئ. وأسس بولاي الشركة المزمع إنشاؤها في مبنى شركة جديدة قرب المطار، وأطلق على الشركة اسم «مختبر الفيزياء الجوية»، بعد أن كان قد أطلق عليها اسم «مبنى التزويد بالأدوات اللازمة».
بينما كان بولاي لا يزال يرتب أوضاعه، كان معلمه القديم تيودور فون كارمان يشير إلى الطريق نحو مستقبل القوات الجوية. وبناء على طلب قائده، هاب أرنولد، كتب كارمان تقريرا بعنوان «نحو آفاق جديدة»، وتوقع أن يأتي المستقبل بنماذج مقاتلات نفاثة تتجاوز سرعتها سرعة الصوت، وصواريخ بعيدة المدى تحمل قنابل نووية، وأقمار صناعية تدور في مدارات فضائية. وشعر الجنرال أرنولد بسعادة بالغة تجاه التقرير، فأخبر كارمان أن التقرير سيستخدم «لفترة من الوقت كأداة استرشادية يستعين بها القائد العام في الاضطلاع بمسئولياته في مجالي البحث والتطوير». وكان التمويل المتوفر لتنفيذ هذه الجهود ضئيلا، لكن من خلال دعم أرنولد استطاع بولاي وزملاؤه مواصلة أبحاثهم.
بدأ مشروع بحثهم الصاروخي في ساحة انتظار السيارات في إحدى الشركات؛ حيث كانت السيارات المنتظرة على مسافة بضع ياردات منهم. وكان النصل الصلب لجرافة أحد البلدوزرات يحمي المهندسين في حالة انفجار المحرك، وكان بعض المحركات غاية في الصغر، حتى إن صوتها كان أقرب إلى الصفير منه إلى الهدير، ويقول آتوود متحدثا عن ذلك: «كانت لدينا صواريخ تصفر ليل نهار طوال عامين.» وفي هذا المختبر الجديد، شيد بولاي، الذي كان قد بنى نفقا هوائيا في هارفرد، نفقا هوائيا تجاوزت سرعة الهواء فيه سرعة الصوت. كما بدأ في جلب اختصاصيين في مجال نظم التوجيه الجيروسكوبي والإلكترونيات وعلم الصواريخ؛ وكان من بين هؤلاء جون بارسونز، الاختصاصي في مجال الوقود الدفعي من شركة «إيروجت». يقول آتوود: «كنا نتلمس طريقنا، ولم تكن لدينا خطة مفصلة، لكن كل ما نجمعه كان يتمحور حول الدفع أو ديناميكا الهواء أو التحكم. وكانت هذه هي الدعائم أو القوائم التي تجرى على أساسها عمليات التطوير.»
6
كانت الصواريخ الصغيرة المصنوعة منزليا توفر لطاقم عمله مقدمة أساسية في المجال، لكن بولاي كان يعرف حق المعرفة أن أفضل خبراء صواريخ في العالم هم الاختصاصيون الذين يعملون ضمن فريق فيرنر فون براون، الذين كانوا في ذلك الوقت لا يفعلون شيئا في فورت بليس. وضم بولاي عددا كبيرا منهم، وفيهم ديتر هوزيل، الذي كان يعمل مساعدا لفون براون. ثم سرعان ما صار الخبراء في شركة «نورث أمريكان» يباشرون عملهم على مخططات «في-2» الأولية؛ حيث كانوا يبنون نسخا من محركه الصاروخي ويجرون اختبارات عليها.
كان المحرك الذي صمموه أقوى محرك صاروخي في العالم، بيد أن بولاي كان يرى إمكانية إجراء الكثير من التعديلات. وكان أحد الموضوعات الخلافية المتكررة يكمن في استعداده لحقن وقود الدفع وخلطه داخل غرفة الدفع؛ إذ كان الصاروخ «في-2» الكبير قد أدى هذه المهمة الضرورية باستخدام تكنولوجيا بسيطة مستوحاة من محرك الصاروخ «إيه-3» الأصغر حجما. وكان الصاروخ «إيه-3» قد استخدم «كأس احتراق»، وهو عبارة عن كأس مقلوبة ذات رأس نحاسي يبرز من المنتصف. وكان الكحول يتناثر في الداخل من خلال ثقوب صغيرة في جدار الكأس، بينما كان الأكسجين السائل يتدفق إلى الخارج نحو الكأس من خلال ثقوب مشابهة في الرأس المركزي، وهو ما كان يتلاءم مع قوة دفع محرك «إيه-3» البالغة 3300 رطل. لكن محرك «إيه-4» الأكبر حجما كان في حاجة إلى ما هو أكثر من ذلك.
كان محرك «إيه-4» في حاجة إلى حاقن، وهو عبارة عن طبق دائري مسطح يوضع أعلى غرفة الدفع وتتخلله قنوات، مثل رأس دش ذي ثقوب. وكان الوقود والأكسجين السائل، اللذان كانا يتناثران من القنوات كما يتدفق رذاذ المياه من الدش، يختلطان ويحترقان. ولكن الحواقن تستغرق وقتا لتطويرها، وكان فالتر تيل، رئيس قسم تطوير المحركات، في عجلة من أمره، ولكي يحقن وقود الدفع الخاص بمحرك «إيه-4»، استقر رأيه على وضع ثماني عشرة كأس احتراق تقليدي في محرك «إيه-3» أعلى غرفة الدفع. وكان لكل كأس قناة الأكسجين السائل الخاصة بها، وهو ما جعل أحد الزملاء يشير إلى «محرك الثماني عشرة كأسا» هذا باعتباره «شيئا رهيبا في حجمه وقوته وتعقيده، وكابوسا لأي سمكري». حاول تيل بناء حاقن حقيقي لكنه واجه صعوبات، ومثلما كتب أحد القادة قائلا: «الحرب لن تنتظر د. تيل.» ومات تيل في غارة قصف جوي بريطانية في عام 1943، وكانت الحرب على وشك الانتهاء قبل أن ينجح مهندسوه في بناء نموذج ناجح وقابل للتشغيل.
بالنسبة إلى بولاي، كان تصميم حاقن مناسب يمثل ما هو أكثر بكثير من تصميم محرك أبسط؛ فمن الممكن أن يمهد هذا الحاقن الطريق لتصميم صواريخ ذات قوة دفع أكبر؛ نظرا لأن حواقن تلك المحركات ربما تأتي في شكل مجموعة من التحسينات المباشرة في التصميم الأساسي. بيد أن بولاي لم يتمكن من إجراء الاختبارات اللازمة في ساحة انتظار السيارات التي كان يجري فيها أبحاثه؛ إذ كان يحتاج إلى مجموعة كبيرة من منشآت اختبارات الصواريخ.
يتذكر آتوود تلك الأحداث قائلا: «أجرينا بحثا واسعا في المنطقة، ولم تكن مكتظة بالسكان آنذاك، وعثرنا على هذه الأرض في سانتا سوزانا باس، أعلى التل.» كانت هذه الأرض ملكا لعائلة تدعى دانداس، وكانت قد سمحت لطواقم أفلام هوليوود باستخدامها لتصوير الأفلام الغربية. وكانت الأرض مقفرة وقاحلة، ومليئة بالجلاميد المستديرة المائل لونها إلى الحمرة؛ مما يوفر إطلالات رائعة على وادي سان فرناندو المجاور. ولكن الأرض كانت شديدة الوعورة، حتى إن زملاء بولاي كانوا يستخدمون سيارة جيب للتنقل في أرجائها.
في أوائل عام 1947، استأجرت شركة «نورث أمريكان» الأرض، ثم أقامت مركزا لاختبارات صواريخ بتكلفة 713 ألف دولار أمريكي من أموال الشركة، وهو ما كان يعتبر مبلغا طائلا في ضوء ندرة المال في فترة ما بعد الحرب؛ لكن الأمر كان يستند إلى تصريح بأن الصواريخ تمثل مستقبل الشركة ، وأن آتوود وكيندلبرجر كانا عاقدي العزم على أن يكونا في الصدارة وأن يقودا جهود التطوير.
في تلك الأثناء، كان بولاي يضع أسلوبا مبتكرا للغاية لعلاج مشكلة تصميم الصواريخ الموجهة البعيدة المدى، وكان بولاي يعي تماما اهتمام القوات الجوية بصواريخ «كروز» ذات الدفع النفاث، لكنه كان يعلم أن هذه الصواريخ ستحلق بسرعة أقل من سرعة الصوت، وربما يسهل إسقاطها بواسطة الصواريخ الاعتراضية أو نيران المدفعية المضادة للطائرات. وكان من المتوقع أن يحلق صاروخ باليستي عابر للقارات على ارتفاع شاهق وبسرعة بالغة بما يتعذر معه إسقاطه، بيد أن مشكلاته الفنية حالت دون إنتاجه، وأعطى أسلوب بولاي الأمل في إمكانية الجمع بين بعض من أكثر الخصائص جاذبية في كلا النوعين من الصواريخ.
دعا بولاي إلى تصميم صاروخ مجنح ينطلق بسرعة كبيرة باستخدام المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي، وكان من المتوقع أن يحلق هذا الصاروخ على ارتفاع أعلى وبسرعة أكبر مما لو كان يعتمد على استخدام المحركات النفاثة التوربينية، وألا تتمكن نيران العدو من إسقاطه بسهولة. ولكن، لم تكن سرعته كبيرة للغاية؛ مما يجعله يحترق كالنيزك. وواصل نظام التوجيه في هذا الصاروخ الاعتماد على نظم التوجيه الآلي في الطائرات، وربما لا تكون عملية التوجيه على القدر نفسه من الأهمية مثلما في عملية توجيه صاروخ باليستي عابر للقارات. كما كان من المتوقع أن تكون هذه المحركات الصاروخية في حقيقة الأمر أقل تعقيدا بكثير بحيث يبدأ العمل عليها فورا، وأطلق على النموذج اسم «نافاهو»، وهو ما كان يعكس نزوع شركة «نورث أمريكان» إلى إطلاق أسماء تبدأ بحرفي «إن إيه»، وهما نفس الحرفين اللذين يبدأ بهما اسم الشركة. وبدعم قوي من القوات الجوية، سرعان ما برز الصاروخ «نافاهو» باعتباره محور تركيز أعمال تطوير الصواريخ في مرحلة ما بعد الحرب.
أوضح التصميم المبكر للصاروخ «نافاهو» أن طريقة تفكير بولاي ظلت تعبر عن التأثير القوي لنموذج «في-2»؛ فقد كان «نافاهو» عبارة عن صاروخ كبير يشبه نموذج «في-2»، وبه محرك وحيد في الذيل، فضلا عن زوج من الأجنحة القصيرة وزعانف رأسية علوية وسفلية. وكانت كل زعنفة توضع على محرك نفاث ذي دفع هوائي عند الطرف، على غرار محركات باك روجرز. وكان الألمان قد بنوا نموذجا مجنحا مشابها من الصاروخ «في-2» في عام 1945، وإن كان دون الاعتماد على المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي. وحلق «نافاهو» بسرعة تزيد عن 2600 ميل في الساعة، مما جعله يتفوق على الصاروخ «في-2» في مداه ليصل إلى 750 كيلومترا، وهو ما كان يكفي لبلوغ جلاسكو. وباستخدام المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي، توقع بولاي أن يصل مدى «نافاهو» إلى ألف ميل.
لم يحاول بولاي بناء محركات نفاثة ذات دفع هوائي؛ إذ تركت القوات الجوية هذا الجانب من المسألة إلى شركة «رايت إيرونوتيكال كوربوريشن»، وهي شركة كبيرة في مجال بناء محركات الطائرات. لكن مهمة بناء الصواريخ كانت موكلة إليه بالكامل. وقال المقدم إدوارد هول، الذي كان يمول تلك الأبحاث من خلال مركز التطوير في قاعدة «رايت-باترسون» التابعة للقوات الجوية، إن «نافاهو كان يمثل المحور الرئيسي لأي عمليات تطوير؛ إذ إنه على الرغم من» كونه صاروخ «كروز كنا نستطيع أن نضع فيه محرك صاروخ كبيرا؛ مما يسمح لنا بإنتاج محركات تقترب في حجمها من المحركات التي نحتاجها في صاروخ باليستي». وكان واضحا منذ البداية أن «نافاهو» سيسهم في وضع الأساس لبناء صاروخ باليستي بعيد المدى.
بالاشتراك مع نظرائه في القوات الجوية، استقر رأي بولاي على تصميم صاروخ بقوة دفع 75 ألف رطل، وهو ما كان يعتبر بمنزلة تعديل في قوة دفع الصاروخ «في-2»، التي كانت تبلغ 56 ألف رطل. ومع ذلك، صار واضحا خلال عام 1949 أن العمل على هذا التصميم لم يكن يسير على ما يرام؛ ويتحدث جيم برودستون، مدير الاختبارات، عن ذلك قائلا: «يميل المهندسون إلى إعادة التصميم مرة بعد أخرى.» ومن ثم، كان بولاي في حاجة إلى مدير يتخذ قرارات ويدفع المشروع قدما، ووجد بولاي بغيته في سام هوفمان، وهو مهندس متوقد الذكاء في مجال تصميم محركات الطائرات، وكان يعمل كبير مهندسين، ثم صار أستاذا في جامعة ولاية بنسلفانيا، وكان قد تعامل مع بولاي أثناء الحرب، وكان يماثل بولاي في جمعه بين الخبرة الصناعية والأكاديمية.
قال هوفمان: «تمثلت مهمتي في تصميم صاروخ، وكان لدى بيل مجموعة من الزملاء الشباب الأذكياء الذين يفتقرون إلى الخبرة العملية، ولعل هذا هو ما ساعدهم في التعامل مع الأمور المستجدة. وأراد بيل أن يضمني إلى مجموعته نظرا لما كان لدي من دراية بكيفية بناء المحركات وما بنيته منها بالفعل، وكنت مصدر الخبرة العملية بالنسبة إلى هذه المجموعة من الشباب. وكانوا جميعا من جيل تال لي، وكان لدي عمل سابق، بينما لم يسبق لأي من هؤلاء الشباب العمل من قبل، باستثناء أنهم كانوا يخدمون في الجيش والبحرية.»
7
بحلول شهر مارس من عام 1950، كان النموذج الأول من محرك بولاي جاهزا للاختبار بكامل قوة الدفع في سانتا سوزانا، وبدا المحرك صغيرا للغاية لا يكاد يرى وسط خزانات الوقود المكشوفة والعوارض الصلب الكبيرة في منصة فحصه الضخمة. لم يكن شكل المنصة جذابا، لكن ثبت تكامل بنيانها وجدواها في خدمة الغرض الذي أقيمت من أجله. وكان شكل المنصة يتباين على نحو واضح مع التشكيلات الصخرية المائلة إلى الحمرة في «الحوض»، وهو عبارة عن واد يشبه حفرة صغيرة محاطة بحافة مرتفعة كان يستخدم كمنطقة اختبارات. وكان ذلك في حضور العديد من المسئولين، وفيهم فون براون. وكان من المنتظر إذا صارت الأمور على ما يرام أن ينطلق لأسفل من بين العوارض الصلب لهب أبيض مائل إلى الاصفرار في صورة سيف براق؛ مما سيؤدي إلى اهتزاز الصخور من جراء صوت المحرك، وهو صوت سيزداد ارتفاعا مع تردد صداه بين جنبات الوادي.
صاح المسئول عن الاختبار قائلا: «صمام الأكسجين مفتوح!» ثم تطايرت أجزاء الصاروخ في انفجار مفاجئ. وكان أحد المصممين قد أوصى بأن يصنع جزء مهم من الصلب غير المقوى، غير مدرك أن هذا المعدن الشائع الاستخدام يصير هشا عند تبريده باستخدام الأكسجين السائل، ويتعرض للتهشم والكسر. بحث كيندلبرجر - الذي كان في ذلك الوقت رئيس شركة «نورث أمريكان» - بإصرار عن المهندس السيئ الحظ حتى وجده ووجه إليه اللوم قائلا: «كان يجب أن تصنع الصاروخ المنفجر من الذهب الصلب!» أجريت تغييرات في مواصفات جسم الصاروخ بحيث يصنع من الصلب الذي لا يصدأ، والذي كان شديد الاحتمال للبرودة الشديدة. وفي وقت لاحق في ربيع ذلك العام، كان المحرك يعمل بصورة جيدة في الاختبارات.
بحلول ذلك الوقت، كان بولاي والقوات الجوية بصدد إجراء تغييرات جوهرية في تصميم الصاروخ «نافاهو»، وهو أمر تمكنا من تنفيذه عن طريق تجاوز الأساليب التقليدية التي تعتمد على نموذج «في-2» القديم؛ فاستطاعوا أن يسبقوا غيرهم في زيادة مداه زيادة هائلة ليصل إلى 3000 ميل، بل إلى 5500 ميل أيضا. ولكن، لم يكن الصاروخ «نافاهو» الجديد صاروخا مجنحا يتضمن محركات مساعدة، بل صار طائرة بلا طيار تفوق سرعتها سرعة الصوت، ذات مظهر أنيق على نحو مدهش.
كان هذا الصاروخ يتكون من أجنحة طراز «دلتا»، وأجنحة أمامية إضافية صغيرة، وذيل رأسي مزدوج، وجسم طويل ونحيف ومدبب.
منظر مقطعي للصاروخ «نافاهو» مع صاروخ الدفع الإضافي الملحق به (المصدر: جيمس جيبسون).
كان ثمة اثنان من أكبر المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي - يبلغ قطر كل منهما أربع أقدام - سيوفران قوة الدفع. وكان نظام التوجيه ينتقي نجوما محددة حتى خلال النهار ويستخدمها في الملاحة؛ إذ كانت هذه النجوم توفر نقاطا مرجعية تحافظ على محاذاة البوصلات الجيروسكوبية وتوجه إشارتها إلى الاتجاهات الصحيحة. وكان من المفترض أن يبلغ الصاروخ ارتفاع 60 ألف قدم بسرعة 1800 ميل في الساعة، وربما يتعثر في مساره أو يتعرج أثناء صعوده. ومع احتراق وقوده بالكامل، كان من المفترض أن يبلغ ارتفاع 80 ألف قدم المستهدف. ومن خلال استخدام أجهزة استشعار الأشعة فوق الحمراء، كان بإمكان هذا الصاروخ أن يستشعر دفء الجو في مدينة ما في ظل إطفاء الأنوار فيها خلال غارة جوية.
كان هذا الصاروخ يحتاج إلى قوة دعم أكبر في صاروخ الدفع الإضافي الملحق به، تزيد عما يوفره محرك بقوة دفع 75 ألف رطل؛ لذا قرر بولاي أن يصمم محركا بقوة دفع 120 ألف رطل. وكان من المتوقع أن يوفر هذان المحركان ، اللذان وضعا في قاعدة صاروخ دفع إضافي أكبر، قوة دفع للصاروخ «نافاهو» أثناء عملية الإطلاق. وأثناء صعوده في السماء، كان الصاروخ الذي يعتمد على محرك نفاث ذي دفع هوائي سيوضع على ظهر صاروخ الدفع الإضافي هذا، مثلما يمتطي المكوك الفضائي خزان الوقود حاليا؛ وعندما يصل إلى طبقة الستراتوسفير وتفوق سرعته سرعة الصوت، تتولى المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي دفع الصاروخ «نافاهو»، وينفصل الصاروخ عن صاروخ الدفع الإضافي الملحق به كي يواصل رحلته.
عند تطوير هذا المحرك الجديد، كان المهندسون يعتمدون على خبرتهم في مجال تصميم الحاقن في المشروع السابق؛ ولكن محلل إجهاد، يدعى ماثيو إك، أشار إلى وجود مشكلات في غرفة الدفع والفوهة، وكانت هذه المشكلات تتمثل في اتباع ممارسة سابقة تبنى من خلالها غرفة الدفع والفوهة في صورة طبقات، واحدة داخل الأخرى، مع وضع أنابيب فيما بينهما لإجراء عمليات التبريد الاسترجاعي. وأشار إك إلى أن هذا الأسلوب القياسي المتبع سيؤدي إلى حدوث إجهاد سيقلل قوة الدفع والضغط داخل الغرفة، ومن ثم سيقلل من قدرة المحرك.
لم يكن الحل البديل يتطلب أكثر من بناء المحرك بالكامل من هذه الأنابيب، مع لحام هذه الأنابيب معا. وكان المصمم إد نوي في شركة «ريأكشن موتورز» يشجع بشدة اتباع هذا الأسلوب؛ وعليه، لم يكن سيستخدم جدار من الألواح المعدنية لعزل ممرات التبريد عن حرارة الاحتراق الهائلة. ولكن بهذا الشكل من التصميم، ومع وجود الحلقات المعدنية التي تحيط بالأنابيب الملحومة بالنحاس لتقوية هيكلها، كان من الممكن زيادة حجم المحركات في المستقبل إلى أي حجم مطلوب، وهو ما قد يوفر مستويات غير مسبوقة من قوة الدفع.
في ظل هذا التطور الأخير، قدم المحرك الذي بلغت قوة دفعه 120 ألف رطل صورة واضحة لتصميم محركات الصواريخ في أمريكا مستقبلا، وكان هذا المحرك يعتمد على الكحول كوقود، ثم أفسح المجال لاستخدام نموذج أكثر تطورا يستخدم أنواعا من الوقود تحتوي على طاقة أكبر يتم الحصول عليها من الكيروسين. وبمرور الوقت، صار هذا النموذج - الذي كانت قوة دفعه تتزايد - يستخدم في معظم صواريخ الوقود السائل التي تصدرت المشهد في خمسينيات القرن العشرين، بما في ذلك الصاروخ «أطلس» الباليستي العابر للقارات. وصارت هذه المحركات توفر قوة دفع لإطلاق الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية، بداية من أواخر خمسينيات القرن العشرين وحتى الوقت الحالي. ومن خلال إدخال بعض التحسينات على تصميمه الأساسي، بنى مهندسو طاقم بولاي نموذج «إف-1»، الذي بلغت قوة دفعه 1,5 مليون رطل، واستخدم هذا النموذج في إطلاق الصاروخ «ساتورن 5» الذي كان في بعثة إلى القمر في ستينيات القرن العشرين، حاملا على متنه رواد فضاء إلى القمر.
بحلول عام 1950، صار مختبر الفيزياء الجوية شركة تجارية كبيرة، تضم أكثر من 1600 موظف، وبعدها بأعوام قليلة خرج من عباءة الشركة قسمان تابعان رسميا لشركة «نورث أمريكان»؛ وهما «روكيت داين» و«أوتونتكس». وصار قسم «روكيت داين» الشركة الأولى في بناء محركات الوقود السائل على مستوى أمريكا، متفوقا بذلك على شركة «إيروجت جنرال»، الشركة المنافسة الحقيقية الوحيدة لها؛ في حين صار قسم «أوتونتكس» شركة رائدة في مجال تصميم أنظمة التوجيه. ومن خلال هذين القسمين الداخليين، استفادت شركة «نورث أمريكان» من خبرتها في تصميم الصاروخ «نافاهو» وأضافت عليها لتصير الشركة الرئيسية على مستوى البلاد في مجال بناء الصواريخ والمركبات الفضائية المأهولة.
في عام 1950، كان كل هذا التطوير لا يزال في المستقبل البعيد، وفي تلك الأثناء كان بولاي يحافظ على علاقاته مع العالم الأكاديمي ويوطدها؛ حيث شغل وظيفة أستاذ في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، بدوام جزئي. ويتحدث بول كاستنهولتس - أحد الطلاب الذين استعان بهم بولاي ضمن فريقه في عام 1949 - عن ذلك قائلا: «كان شخصا هادئا صريحا، ولم يكن جذابا، لكنه كان مباشرا. كان بيل طويلا ونحيفا ومفعما بالنشاط، وكان المرء حين يراه يشعر بأنه شخص مفعم بالحيوية، على أهبة الاستعداد للانتقال إلى أي مكان.» ويصفه جيم برودستون بأنه «شخص جذاب، وكان يبدو مهندسا حقا في حلته الأنيقة». تستخدم جين بولاي الصفات نفسها التي كان كاستنهولتس يستخدمها في الإشارة إليه: «كان هادئا، ويفكر في الأمور مليا. وكان ودودا للغاية، وكانت مشكلتي الوحيدة معه أنه كان يشرد بعيدا في عالم آخر. وكان لديه حس فكاهي ماكر ذو طابع إنجليزي ضمني.»
ظل بولاي في أعماقه أكاديميا، ومثلما كانت الحال مع فون كارمان، كان يسره كثيرا اجتذاب الأشخاص ذوي الذكاء الحاد الذين لديهم أفكار جديدة ويدعمهم ويرقبهم بينما يتطورون. ويتحدث أخوه، يوجين، عن ذلك قائلا: «جلب بيل إلى نورث أمريكان مجموعة استثنائية من الأشخاص ذوي الموهبة المرتفعة. وكانوا جميعا مثله، يسعون سعيا محموما نحو تحقيق الصدارة في مجالات تخصصهم.»
كان شونسي ستار، الذي صار رائدا على مستوى البلاد في مجال الطاقة الذرية، واحدا منهم. وكان من بينهم أيضا سام هوفمان، الذي بنى محركات صاروخية لبرنامج «أبولو» للهبوط على القمر؛ وديل مايرز، الذي صار مدير الرحلات الفضائية المأهولة في وكالة ناسا؛ وبول كاستنهولتس، الذي صمم المحركات الرئيسية للمكوك الفضائي الذي هبط على سطح القمر؛ وجون آر مور، الذي صار رئيس شركة «أوتونتكس». وكان ثمة آخرون أيضا في مجالات التوجيه والتحكم وديناميكا الهواء ومجالات أخرى.
على الرغم من ذلك، مع تنامي مشروع «نافاهو»، وجد بولاي أنه كثيرا ما يدخل في خلاف مع رئيسه لاري ويت، الذي كان نائب رئيس إحدى الشركات. ويقول توم ديكسون، أحد مديري برنامج الصواريخ لديه: «كان بولاي يميل إلى الأساليب الجامعية، ولم يكن مهتما بنظم الإدارة. وكان لاري ويت شخصا عنيدا؛ إذ كان يختلف مع بيل حول طريقة إدارته للأمور، ولم يستطع بيل الانسجام معه.» ويتحدث لي آتوود، الذي كان رئيس ويت، عن ذكريات مشابهة: «تخرج لاري في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكان متمكنا من الناحية الفنية، لكن ما كان ينبغي أن يتولى ذلك المنصب. وفي نهاية المطاف، نقلناه إلى إدارة العقود والتسعير.»
في عام 1951، عندما بلغت خلافاتهما ذروتها، ترك بولاي شركة «نورث أمريكان» ومشروع «نافاهو»، وأقام شركة جديدة وصار مشغولا تماما ببناء الصواريخ الحربية لصالح الجيش، وتوقف عن الانشغال الدائم بأنشطة تطوير محركات الصواريخ.
في ذلك الحين، كان يفصل القوات الجوية ثلاث سنوات فقط عن التعهد ببناء الصاروخ «أطلس » الباليستي العابر للقارات، وإيلائه أعلى مراتب الأولوية العسكرية.
الفصل الثالث
السباق إلى أرماجدون
القوى العظمى تطلق إشارة بدء برامج الصواريخ
في نهاية الحرب، تسيدت القوة الجوية والبحرية الأمريكية العالم مثل كيان ضخم لا تخطئه عين. كانت قاذفات القوات الجوية التابعة للجيش، بمساعدة البحرية الأمريكية، قد كسرت إرادة اليابان وأرغمتها على الاستسلام دون أن تطأ أراضيها قدم جندي أمريكي واحد. وكان ستالين يمتلك أقوى جيش في العالم استطاع أن يسحق النازيين، لكنه لم يكن يمتلك أي قوة بحرية أو جوية يستطيع التحدث عنها، وكان يخشى أن تستخدم أمريكا القنبلة الذرية لشن حرب ضد بلاده، وكان في حاجة إلى أسلحة نووية وقاذفات بعيدة المدى، لكنه كان يعاني نقصا شديدا فيها، ورغب بشدة في كسر احتكار أمريكا للأسلحة النووية.
في سعيه إلى تحقيق هدفه، أظهر ستالين طريقة التفكير الأحادية نفسها التي بنى من خلالها القاعدة الصناعية التي دعمت جيشه، وصرح قائلا بعد إطلاق أولى خططه الخمسية في عام 1928: «إن تباطؤ الخطوات يعني التخلف عن الآخرين، ومن يتخلف يهزم. لا نريد أن نهزم. لا، لا نريد أن نكون مهزومين. إننا متخلفون عن ركب البلاد المتقدمة بخمسين أو مائة عام، ويجب أن نعوض هذا التأخر خلال عشر سنوات؛ إما أن ننجح أو يسحقونا.»
1
لتعويض التأخر، قبل الحرب، اعتمد ستالين بشدة على التجسس الصناعي، وعملت آمتورج - وهي منظمة تجارية في نيويورك - كواجهة للشرطة السرية الروسية في هذا الصدد. ونظرا لأن الاتحاد السوفييتي لم يكن يمتلك أي صناعة حديثة في البداية، لم تكن غالبا العمليات التي أراد ستالين الكشف عنها سوى عمليات أساسية في حقيقة الأمر؛ إذ لم تكن تتضمن هذه العمليات أكثر من إنتاج عناصر كيميائية صناعية شائعة. وكانت العمليات المطلوبة متوافرة للشراء مقابل الحصول على ترخيص، لكن موسكو كانت تعاني نقصا في احتياطي العملة الصعبة؛ ووفر التجسس الصناعي تكلفة دفع رسوم ترخيص.
عندما حلت الحرب، قدم جواسيس ستالين في المجال الصناعي قاعدة قوية له، استطاع من خلالها الكشف عن أسرار جهود بناء القنبلة الذرية الأمريكية ، واستحوذت الشرطة السرية الروسية على حوالي عشرة آلاف صفحة من الوثائق الصناعية. ومع ذلك، عجز مدير البرنامج الذري الروسي، إيجور كرتشاتوف، عن الحصول على التمويل اللازم الذي يسمح له باتخاذ الخطوات الأولى المكلفة نحو بناء الأسلحة؛ فقد كانت احتمالات بناء قنبلة ذرية غير مؤكدة على نحو كبير أعاق تبرير توفير دعم مالي كبير.
في نهاية الحرب، أدرك كرتشاتوف ما يتعين عليه فعله، فقد درس بعناية مجموعة التقارير القيمة المسروقة التي حصلت عليها الشرطة السرية؛ لكن لم يكن لديه ما يفعله بهذه التقارير. ثم جاءت واقعتا هيروشيما وناجازاكي، اللتان سرعان ما زادتا المخاوف من الأسلحة النووية إلى أعلى المستويات، واستدعى ستالين المسئولين المختصين وقال: «أسألكم طلبا واحدا، أيها الرفاق. وفروا لنا أسلحة ذرية في أقرب وقت ممكن. اصنعوا القنبلة؛ إنها ستزيح عنا خطرا داهما.»
كان ستالين في حاجة أيضا إلى قاذفات بعيدة المدى، وكان مصمم الطائرات أندريه تبوليف يجري أبحاثا حول هذا الموضوع. وكما فعل كرتشاتوف، كان تبوليف يتابع أعماله من خلال نسخ التصميمات الأمريكية، لكنه كان يتفوق على كرتشاتوف بميزة أخرى؛ حيث كان يمتلك تحت يديه نماذج عديدة من قاذفات «بي-29»، وهي أفضل قاذفات في العالم؛ فقد أجبرت إحدى قاذفات «بي-29» على الهبوط قرب فلاديفوستوك في يوليو 1944، وفي وقت لاحق من ذلك العام، سقطت قاذفتان أخريان في أيدي السوفييت بالطريقة نفسها. وكانت طائرة مشابهة قد حملت القنبلتين الذريتين الأوليين، وكان نموذج تبوليف، «تي يو-4»، يحمل أسلحة مشابهة أيضا.
يشير المؤرخ ستيفن زالوجا قائلا: «بدت قاذفة «بي-29» كما لو كانت جسما قادما من المستقبل. كانت أبراج القذف آلية ولم تكن مزودة بالقبة الزجاجية الواقية المعتادة، وكان يجري التحكم فيها عن بعد من محطات قذف مركزية، وكانت الطائرة تحتوي على نظم إلكترونية عديدة لا نظير لها في الطائرات السوفييتية، بما في ذلك رادارات الملاحة. وعلى الرغم من أن مصممي المحركات السوفييتية كانوا قد حاولوا تصميم شواحن توربينية لمحركات الطائرات، لم تبلغ أي منها في تعقيدها أو أدائها نظم جنرال إلكتريك في محركات «بي-29».»
2
وللتغلب على تلك الصعوبات، منح ستالين جهود تطوير «تي يو-4» أعلى سلطة حكومية.
كان أول مفاعل يشيده كرتشاتوف، في رحلة سعيه لبناء قنبلة ذرية، نموذجا مكررا من تصميم أمريكي يرجع تاريخه إلى عام 1944، باستثناء أن المفاعل الروسي كان يتطلب كمية أكبر من اليورانيوم لتعويض حجم شوائب مفاعل كرتشاتوف. وكانت قنبلة البلاتينيوم التي صممها تنطوي على مشكلة الانفجار الداخلي العويصة، وهي أن قلب القنبلة القابل للانشطار محاط بمواد شديدة الانفجار تنفجر على نحو دقيق؛ مما يسفر عن موجة كروية مفاجئة تضغط على قلب القنبلة وتؤدي إلى انفجارها في الداخل بدلا من تفجيرها إلى الخارج. اعتمد كرتشاتوف هنا أيضا على تجربة لوس ألاموس، وكرر تصميمه النهائي من السلاح «فات مان» الذي استخدم في ناجازاكي.
اعتمد السوفييت غالبا، في دخولهم مجال الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، على نموذج «في-2» كنقطة بداية. ولكن السوفييت هنا، فعلوا ما هو أكثر من مجرد استنساخ نماذج؛ ففي البداية، كانوا يبنون على جهود الألمان في إنتاج «في-2» مرة أخرى في نطاق المنطقة التي يحتلونها في ألمانيا. وبينما كانوا يفعلون ذلك، أقامت وزارة التسليح عددا من مراكز الهندسة والتطوير بما يتيح لهم بناء صواريخ «في-2» وإطلاقها على الأراضي السوفييتية أيضا.
لم تستمر الجهود الألمانية عند نهاية الحرب. صارت بينامونده مهجورة، بعد الاستيلاء على الوثائق والمعدات الموجودة فيها؛ حيث كانت القوات الألمانية تدمر مرافقها الأساسية عمدا أثناء تقهقرها. وكان نوردهاوزن - وهو موقع مركز إنتاج هانز كاملر، في وسط ألمانيا - يقع داخل المنطقة التي يسيطر عليها السوفييت. وبالإضافة إلى ذلك، واصل المركز إنتاج صواريخ «في-2» حتى وصلت القوات الأجنبية؛ ولكن هذه القوات كانت أمريكية، فاستولى الأمريكيون على كل ما في هذا المركز أيضا. وظلت بعض المنشآت القليلة جاهزة لاستخدام السوفييت، ونخص بالذكر هنا مركزا لاختبار المحركات في ليستن كان يقع في وسط ألمانيا أيضا؛ لكن الجيش الأمريكي تحفظ على أهم العاملين في المركز، فضلا عن معظم الوثائق ومكونات الصاروخ «في-2» المتوافرة.
مع ذلك، لم تستول الولايات المتحدة على كل شيء، وكانت المستندات والمعدات القليلة المتبقية كافية لتلبية حاجات السوفييت. وفي حين كان أهم الأفراد في طريقهم إلى الولايات المتحدة، ظل عدد كبير من الموظفين الأدنى مستوى، يملكون معلومات قيمة، وإن كانت معلومات متناثرة هنا وهناك. وكانت لا تزال بعض الشركات تمارس نشاطها، بما في ذلك مصنع في برلين بنى نظم تحكم صاروخية.
بالإضافة إلى ذلك، اختار واحد من كبار المديرين - يدعى هيلموت جروتروب - التعاون مع الروس، وكان يعمل نائبا لإرنست شتاينهوف، الذي كان مسئولا عن التوجيه والتحكم ونظم القياس عن بعد، وكان يستطيع بسهولة مصاحبة شتاينهوف بوصفه عضوا في المجموعة التي شكلها الكولونيل هولجر توفتوي. لكن أراد جروتروب أن يبقى في ألمانيا، ولم يحب كثيرا شروط الانضمام إلى مجموعة توفتوي، وهو ما جعله يقبل عرضا من بوريس تشرتوك، أحد أعضاء اللجنة الفنية المشتركة في موسكو، الذي كان يحاول إعادة البدء في إنتاج الصاروخ «في-2» في مركز نوردهاوزن. ولم يكن جروتروب شيوعيا بالتأكيد - ليس في ألمانيا النازية - لكنه بدا متقبلا للأمر عندما عرض عليه السوفييت فرصة ليس فقط للبقاء في بلاده، بل أيضا لتولي دور قيادي في تطوير الصواريخ.
وضعت اللجنة هدفين مباشرين، هما إعادة بناء مجموعة كاملة من تصميمات إنتاج صواريخ «في-2»، وإنتاج هذه الصواريخ من خلال خط إنتاج تجريبي؛ وسرعان ما كلف جروتروب من جانب الألمان بمسئولية إدارة جميع برامج تطوير الصواريخ في منطقة النفوذ السوفييتي. بالإضافة إلى ذلك، في وقت مبكر يعود إلى سبتمبر 1945، أعيدت منصة اختبارات في ليستن إلى العمل، في الوقت الذي بدأ فيه متخصص ألماني آخر - يدعى يواخم آمفنباخ - في تدريب طواقم فالنتين جلشكو لاختبارات الصواريخ على إجراءات تشغيل محرك «في-2». وبعد عام على ذلك، صارت التصميمات الهندسية اللازمة متوافرة، بينما بنى المصنع التجريبي خمسة عشر نموذجا كاملا من الصاروخ «في-2»، فضلا عن مكونات خمسة عشر صاروخا آخر.
خلال عام 1946، بدأت أيضا الحكومة السوفييتية في إقامة المراكز الأولية لبدء برنامج صواريخ محلي، وشيد المركز الرئيسي «إن آي آي» في ضاحية كالينينجراد في موسكو، في موقع مصنع معدات مدفعية سابق. اقتضى تصميم المركز إقامة مصنع إنتاج تجريبي ألماني، جرى نقله بالكامل، فضلا عن مركز هندسي، ومركز للعلوم التطبيقية؛ مثل التوجيه وعلم ديناميكا الهواء. وكانت المجموعة الهندسية تتضمن أقساما عديدة تعمل على تطوير نماذج الصواريخ المختلفة، وكان سيرجي كوروليف يرأس القسم رقم 3، الذي كان يتعامل مع تصميمات الصواريخ البعيدة المدى.
كانت ثمة مراكز أخرى تدعم مركز «إن آي آي-88». وصار فالنتين جلشكو - الذي كان قد رأس أحد برامج شاراجا لتطوير الصواريخ أثناء الحرب في كازان - مديرا لأحد المراكز الكبرى لتطوير المحركات في مدينة خيمكي، على بعد أميال قليلة من مركز «إن آي آي-88». وطورت مجموعات هندسية منفصلة نظم توجيه، ومعدات توجيه ببوصلات جيروسكوبية، ومعدات دعم أرضية لإطلاق الصواريخ؛ وكان مديرو هذه المجموعات جميعا قد شاركوا في عمل اللجنة في ألمانيا، مثلما فعل جلشكو وكوروليف.
على الرغم من أن كوروليف كان مديرا في المستوى الأوسط، فإنه سرعان ما لفت الانتباه إليه؛ فقاد جهود تشكيل فريق عمل، هو مجلس الرؤساء، الذي شمل أعضاؤه جلشكو فضلا عن مديري أربع مجموعات هندسية أخرى. ويذكر أحد المشاركين، فلاديمير بارمن، أن «اجتماعات المجلس كانت تجرى عادة في مكتب التصميمات الذي كان مجال عمله موضوع المناقشة؛ إذا كانت المناقشة، على سبيل المثال، تدور حول المحركات، كانت المقابلة تجرى في مكتب جلشكو. وكان كوروليف يشرف على الاجتماعات ويرأسها دوما». ولعب أعضاء هذا المجلس أدوارا محورية في مشروعات الصواريخ والفضاء في السنوات العشرين التي أعقبت ذلك.
استدعت الجهود الملحة بناء صواريخ «في-2»، وكانت هذه الصواريخ قصيرة المدى وأصغر بكثير من أن تحمل القنبلة الذرية، لكن مثلما كانت الحال مع نموذج تبوليف «تي يو-4»، كان المفترض أن يعمل هذا المشروع على توسيع نطاق ما كانت الصناعة السوفييتية تستطيع تنفيذه خلال السنوات الأولى في فترة ما بعد الحرب. وعلى الرغم من صعوبة الحصول على أجزاء ومواد كثيرة، اكتمل أول نماذج صواريخ «في-2» المصنوعة في موسكو خلال عام 1947، وتطلب إنتاج صواريخ «في-2» لاحقا إقامة ثمانية عشر مصنعا، فضلا عن خمسة وثلاثين مركزا هندسيا وعلميا . على الجانب الآخر، كان فون براون في الولايات المتحدة يبني نماذج «في-2» من المكونات المتوافرة، في ظل دعم صناعي محدود.
شمل عمل موسكو أيضا زملاء جروتروب؛ ففي أكتوبر 1946، أجرت القوات السوفييتية عملية تعبئة واسعة النطاق للألمان ذوي القدرات الفنية المرتفعة، الذين كانوا يعملون في منطقة النفوذ السوفييتي، وأرسلوهم إلى روسيا. وانقسم زملاء جروتروب إلى مجموعتين، إحداهما تصاحبه إلى مركز «إن آي آي-88» قرب موسكو، بينما الثانية تتمركز في جزيرة جورودومليا في بحيرة على مسافة 200 ميل تقريبا. وفي حين أقام جروتروب وعائلته في فيلا مكونة من ست غرف، وكان لديه سائق خاص، لم يلق الآخرون معاملة جيدة على هذا النحو.
خصص العاملون ضمن مجموعة جروتروب في موسكو غرفة واحدة للعائلة المكونة من ثلاثة أفراد، وغرفتين للعائلة المكونة من أربعة أفراد، وحصل خريجو الجامعات على غرفة إضافية. ولكن كان زملاء جروتروب أفضل حالا من مهندسي كوروليف، الذين كانوا يعيشون في ثكنات عسكرية وخيام، وكان نصف طاقم عمل كوروليف على الأقل ضمن قائمة انتظار للحصول على غرفة لعائلاتهم. وفي جورودومليا، كان الوضع أكثر سوءا. كانت الجزيرة تمتلك مرافق بحثية راقية، بما فيها نفق هوائي بسرعة 5 ماخ، ومنصة اختبارات صاروخية، ومختبر إلكترونيات؛ ولكن الأوضاع المعيشية كانت مروعة.
كان العاملون يعيشون في أكواخ كريهة الرائحة، وأشارت إرمجارد - زوجة جروتروب - إلى أن هذه الأكواخ كانت مبنية من «ألواح خشبية غير مطلية ذات شقوق كبيرة، وكان يمكن كنس الغبار نحو الشقوق مباشرة؛ ولكن على الجانب الآخر، كان لا يمكن التخلص من الحشرات». وكانت مياه الصنبور غير صالحة للشرب؛ إذ كانت تحتوي على الأتربة، والأعشاب البحرية، وحيوانات بالغة الصغر، وكان الأفراد ينقلون الماء من البحيرة، ولم يكن ثمة أي مرافق صرف صحي. وكان اللحم، إذا توافر، عبارة عن عظام غالبا، وكانت الوجبات تعتمد بصورة كبيرة على حساء الكرنب. وكانت المواقد مصنوعة من الطين والأحجار، وخلال أيام الشتاء القارص وفي الليالي الطويلة في الشمال، كانت النوافذ نادرا ما تغلق جيدا، ولم تكن لدى الأطفال أحذية مناسبة.
وعودة إلى ألمانيا ، استخدم هؤلاء المهندسون والفنيون الصاروخ «في-2» لمساعدة الروس في تعلم أمور الصواريخ. وفي مركز «إن آي آي-88» وفي جورودومليا كان من المفترض أن يتجاوزوا نموذج «في-2» بإجراء دراسات حول تصميم صواريخ أكثر تطورا؛ ومع ذلك، لم يكن من المنتظر أن يشارك هؤلاء في التصميمات المفصلة لهذه الصواريخ، فضلا عن بنائها وتطويرها. وكان الهدف الرئيسي من وجود الألمان أن يستغل الروس أفضل ما لديهم كي يطوروا لهم أفكارا لخدمة الأغراض السوفييتية. ولم يطلع هؤلاء على التطورات السوفييتية، ومع تقادم خبراتهم وتضاؤلها أكثر فأكثر، كان الروس يكلون إليهم مهام أكثر هامشية. ورحلت مجموعة مركز «إن آي آي-88»، وفيهم جروتروب نفسه، عن موسكو إلى الفضاء الشاسع حول جورودومليا؛ وبعدها بسنوات قليلة، أعادهم سادتهم السوفييت إلى شرق ألمانيا.
على الرغم من ذلك، في ظل وجود زملاء جروتروب واستعدادهم للمساعدة، بدأ كوروليف في التخطيط جديا لإدخال تعديلات جوهرية على نموذج «في-2»، حتى قبل أن تصبح الصواريخ الأولى التي بناها الألمان جاهزة للإطلاق. وفي أوائل صيف 1946، بينما كان زملاء جروتروب لا يزالون في ألمانيا، بدأ هؤلاء المهندسون في تقديم اقتراحات بإدخال تعديلات على الصاروخ «في-2» بالاعتماد على تصميمات كانت قد وضعت في بينامونده؛ وبعد الاستقرار في روسيا، صرفوا انتباههم نهائيا عن الصاروخ «في-2»، مقترحين تصميم صاروخ جديد تماما يتجاوز مداه مدى الصاروخ «في-2» بمقدار ثلاث مرات.
بالنسبة إلى جروتروب، كان الطريق إلى الصواريخ البعيدة المدى يتطلب نفس الأفكار الجديدة المبتكرة التي كان نظراؤه الأمريكيون يطورونها على نحو مستقل. وتصدرت قائمة رغبات جروتروب مجموعة من المضخات التوربينية تستخدم أول أكسيد الهيدروجين، ويجري تشغيلها من خلال غازات غرف الاحتراق. وفي شركة «نورث أمريكان أفياشن»، صارت «دورة مولد الغاز» جزءا من محرك صاروخ بولاي الذي تبلغ قوة دفعه 120 ألف رطل، وساهم هذا التصميم في تقليل وزن الصاروخ. وإمعانا في تقليل الوزن، تخلى صاروخ جروتروب الجديد عن خزانات وقود الدفع الداخلية في الصاروخ «في-2»؛ مما سمح للطبقة الخارجية للصاروخ بتخزين الوقود مباشرة. وكان من المنتظر أن ينخفض الوزن على نحو أكبر عن طريق فصل الرأس الحربية أثناء عملية الطيران، حيث سيتمكن جسم الصاروخ حينئذ من تجنب الحاجة إلى زخم الاندفاع عند الولوج مرة أخرى إلى المجال الجوي. وكان من المنتظر أيضا زيادة قوة الدفع داخل المحرك من خلال تعزيز معدل تدفق الوقود.
بينما كان جروتروب يواصل تطوير هذه التصميمات خلال عامي 1947 و1948، طور كوروليف، الذي كان يعمل بصورة منفصلة، تصميما يحقق تحسنا مشابها في تصميم هيكل خفيف الوزن لكنه لا يوفر قوة دفع مماثلة. وعلى أية حال، كانت محركات كوروليف مستوحاة من جلشكو، الذي لم يكن مستعدا للانتقال إلى مرحلة تصميم دورة مولد غاز، بل كان يفضل الاستمرار في استخدام أول أكسيد الهيدروجين المستخدم في الصاروخ «في-2». ومن خلال حسم عمليات خفض الوزن على هذا النحو، كان من المنتظر أن يبلغ مدى هذا الصاروخ ستمائة كيلومتر؛ أي ضعف مدى الصاروخ «في-2» إن لم يكن ثلاثة أضعاف مداه. ولكن الصاروخ كان لا يزال غير قادر على حمل قنبلة ذرية. وعلى الرغم من أن هيكله الخفيف الوزن كان يمثل ميزة مهمة، فإن اعتماده على تكنولوجيا محرك «في-2» كان يعني أن النموذج الجديد لم يكن يمثل إلا نصف خطوة فقط نحو المستقبل. وفي وقت مبكر يرجع إلى أبريل 1947، قدم كوروليف فكرة تصميم مبدئي إلى وزير التسليح أوستينوف، ودخل التصميم الجديد طور التطوير تحت اسم «آر-2».
في تلك الأثناء، في خضم دراسات التصميم هذه، ظلت مسألة إطلاق بعض صواريخ «في-2» التي كان يجري إنتاجها معلقة. وكان الاتحاد السوفييتي في حاجة إلى موقع اختبارات، وعثر المسئولون في وزارة أوستينوف على ضالتهم قرب مدينة كابوستن يار، على مسافة خمسة وسبعين ميلا شرق ستالينجراد، وكان ثمة خط سكة حديد يمر عبر الموقع، إلا أن المنطقة كانت مهجورة تماما لدرجة أنه لم تكن ثمة أي مدينة أخرى قرب طريقها. وكتب أحد الأشخاص الذين زاروا الموقع واصفا إياه: «سهول جرداء، لا حياة فيها، تهب عليها رياح جافة تثير الأتربة المتراكمة وبقايا النباتات في كل مكان ؛ وهي خالية تماما من الماء .» وكان يشيع وجود الجمال. وعاش العاملون في خيام، بينما اتخذ موظفو المشروع الأوفر حظا أماكن إقامة لهم في عربات القطارات. وكان الأمن الصناعي في أدنى مستوياته؛ فلم يكن يعبأ إلا قليلون عندما كان أحد العمال يلقى حتفه من جراء السقوط من سقالة مرتفعة، أو عندما كانت إحدى العوارض الصلب تنحل وتقع على أحد عمال اللحام، وتقضي عليه.
أصبح لدى أوستينوف في ذلك الوقت دفعتان من صواريخ «في-2»، إحداهما من ألمانيا والأخرى من مركز «إن آي آي-88»، وبدأت اختبارات الإطلاق في أكتوبر 1947. كانت عملية الإطلاق الأولى مهمة بما يكفي لجذب أنظار أوستينوف إلى كابوستن يار، وعندما ارتفع الصاروخ «في-2» بنجاح إلى أعلى وهبط سالما باتجاه أفقي، عانق أوستينوف كوروليف عناقا حارا وراقصه. وتذكر السيدة جروتروب أن المسئولين الكبار «قفزوا لأعلى ولأسفل مثل الأطفال الصغار، ثم أمسكوا بزجاجات الفودكا وثملوا تماما.» كان لدى أوستينوف ما يدعوه للاحتفال؛ فبعد عامين فقط من انتهاء الحرب، صار على وشك تحقيق إنجاز يضاهي الإنجاز الألماني في مجال الصواريخ.
على الرغم من ذلك، اقترح كوروليف خططا تتجاوز كثيرا ما كان يستطيع بناءه وإطلاقه، وأجريت تجربة الإطلاق الأولى لنموذج «آر-2» التجريبي بعد ذلك بعامين، ولم يكن من المقرر إجراؤها حتى سبتمبر 1949. لكن خلال أواخر عام 1947 وعام 1948، بدأ كوروليف يفكر بصورة متزايدة في صاروخ يبلغ مداه 3000 كيلومتر باسم «آر-3»، في إطار عمل مكتب التصميمات الخاص به، وكجزء من العمل المكمل لمجموعة جروتروب. وكان من المنتظر أن يظل هذا الصاروخ مفتقرا لإمكانية بلوغ المدى العابر للقارات، ولم يكن يستطيع إصابة أهداف في الولايات المتحدة، ولكنه كان دفعة في توسيع نطاق ما يمكن أن يسعى كوروليف إلى تحقيقه.
مع استمرار الحرب الباردة، واصل مصمم الطائرات أندريه تبوليف تقديم نماذج محسنة من الصاروخ «تي يو-4» الذي يعمل باستخدام المكابس، المحاكي لقاذفة «بي-29» الأمريكية. وبشرت النماذج الجديدة بآماد أبعد، لكن سرعاتها البطيئة كانت تعرضها للإسقاط من قبل الصواريخ الاعتراضية النفاثة. وأثار هذا الأمر استياء ستالين، فدعا إلى عقد اجتماع في الكرملين في يوليو 1949، وتحدث إيجور كرتشاتوف عن أبحاثه الأخيرة حول القنبلة الذرية، التي لم يكن يفصلها عن أول اختبار ناجح سوى شهر واحد، وغطى تقريره على تقرير كوروليف، الذي لم يكن نموذج صاروخه «آر-3» موجودا إلا في صورة دراسات خاصة بالتصميم.
قال ستالين: «نريد سلاما طويلا، راسخا. لكن تشرشل داعية حروب من الطراز الأول، ويخاف ترومان من الأمة السوفييتية مثلما يخشى الشيطان رائحته النتنة. إنهم يهددوننا بشن حرب ذرية، لكننا لسنا اليابان؛ لذا، أيها الرفيق كرتشاتوف، وأنت، أيها الرفيق أوستينوف، وأنت أيضا (مستديرا نحو كوروليف) يجب أن تسرعوا! هل ثمة أسئلة أخرى؟»
3
في ديسمبر 1949، استجاب كوروليف إلى أمر ستالين بتقديم اقتراح رسمي حول نموذج الصاروخ «آر-3» بمدى 3000 كيلومتر. وصمم كوروليف النموذج كصاروخ من مرحلة واحدة، متفاديا بذلك مشكلة تشغيل مرحلة ثانية. واعتمد كوروليف كذلك على دراسات أجراها جلشكو على نموذج محرك جديد، كان يطمح إلى تحقيق قوة دفع تبلغ 260 ألف رطل، وهو ما كان خطوة جريئة حقا، تتجاوز مجال التصميم الذي كانت توفر فيه الخبرة المستقاة من نموذج الصاروخ «في-2» دليلا استرشاديا. وبالإضافة إلى ذلك، لم يكن ثمة ما يضمن أن تتيح الوسائل المتوافرة إمكانية تحويل هذا النموذج إلى صاروخ حقيقي جاهز للعمل.
على الرغم من ذلك، دخلت فرحة جديدة في عالم كوروليف الشخصي؛ إذ كان زواجه قد بدأ يفقد بريقه، خاصة عندما دخلت حياته مطلقة شابة وجميلة، تدعى نينا كوتنكوفا، وكانت تعمل لديه مترجمة، ووقعت في غرامه. وكانت زوجته، زينيا، تعيش في وسط مدينة موسكو، بينما كان كوروليف يقيم في شقة قرب عمله، خارج المدينة، في المبنى الذي كانت شقة نينا تقع فيه. وفي عام 1948 طلق كوروليف زينيا التي شعرت بحنق شديد حيال ذلك، ثم تزوج نينا في العام التالي.
شهد شهر أبريل من عام 1950 لحظة مشرقة في حياة كوروليف المهنية؛ إذ حصل كوروليف على ترقية. وكان فريق التصميم الذي يشرف عليه تحت اسم القسم 3، يعمل ضمن القسم الهندسي في مركز «إن آي آي-88». أصبح كوروليف مديرا للقسم كله؛ حيث أصبح مسئولا عن الصواريخ على اختلاف مداها. ومع تقدم العام، أطلق مشروعين جديدين كانا سيتوليان بناء أول صاروخين في بلاده قادرين على حمل رءوس نووية، وهما «آر-11» و«آر-5».
كان السبب في مشروع «آر-11» حالة الاستياء التي انتشرت بين المسئولين في الجيش حيال الصاروخ «في-2»، ثم الصاروخ «آر-2» الذي ظهر بعده؛ فكلا الصاروخين كان في حاجة إلى التزود بالأكسجين السائل، وهو وقود سريع التطاير وربما يصعب توفيره أثناء العمليات الحربية. وعلى عكس القذائف المدفعية التي يجري تحميلها بالوقود ثم تترك في وضع استعداد لإطلاقها، لم يكن من الممكن تزويد الصاروخ «في-2» أو الصاروخ «آر-2» بالوقود مسبقا ثم تركه على المنصة لأجل زمني غير محدد، انتظارا للإطلاق. وكان ضمن فريق كوروليف اختصاصي في مجال الصواريخ، يدعى ألكسي إيزاييف، كان يتابع تجارب الألمان وقت الحرب حول استخدام حمض النيتريك كمادة مؤكسدة؛ ومثلما حدث في مختبر الدفع النفاث في كاليفورنيا، بشر هذا الأسلوب بإمكانية توفير أنواع وقود قابلة للتخزين، ونجح أول محرك صممه إيزاييف باستخدام هذا النوع من الوقود في اختبارات الإطلاق التي أجريت خلال شهر أغسطس من عام 1950. واتخذ الصاروخ الذي استخدم حمض النيتريك - الصاروخ «آر-11» - شكل صاروخ بعيد المدى على غرار الصاروخ «كوربورال». أطلق حلف الناتو على هذا الصاروخ اسم «سكود»، وهو الذي صار يستخدم على نطاق واسع في حروب العالم الثالث، بما في ذلك حرب الخليج عام 1991، التي أطلقت خلالها العراق بقيادة صدام حسين صواريخ «كروز» مرة تلو الأخرى على مدينة تل أبيب.
ظهر الصاروخ «آر-5» في صورته النهائية خلال عام 1952، عندما بدا أن الصاروخ «آر-3»، الذي يبلغ مداه 3000 كيلومتر، لا يزال أمامه شوط طويل من التطوير. وكان من المنتظر أن يحقق الصاروخ «آر-5»، الذي بلغ مداه 1200 كيلومتر، ضعف مدى الصاروخ «آر-2» وأربعة أضعاف الصاروخ «في-2». وتحقق ذلك من خلال محرك صممه جلشكو مثل شكل التطوير النهائي في تكنولوجيا الصاروخ «في-2»؛ ولكنه كان أول صاروخ بعيد المدى يمتلك قدرات استراتيجية؛ حيث كان يستطيع الانطلاق من أراض سوفييتية لتوجيه ضربة نووية ضد قواعد جوية أمريكية في إيطاليا وغرب ألمانيا.
استمرت مشكلة «آر-3» المؤرقة، الذي كانت محركاته تمثل مسألة خلافية صميمة. حاول جلشكو تطوير تكنولوجيا «في-2» لبناء محرك بقوة دفع 260 ألف رطل، لكن خلال عامي 1950 و1951 توالت حوادث انفجار النماذج التجريبية على نحو متكرر، ولم يكن هذا الأمر جديدا في حد ذاته، لكن ما كان مقلقا حقا هو أن القدرات اللازمة في المحرك كانت تتجاوز أحدث ما توصل إليه علم المعادن. لم يستطع المحرك تحمل الحرارة والاهتزاز المصاحبين لقوة دفعه، ولم يكن ثمة أي احتمالات قريبة لتحقيق تطورات في علم المعادن يمكن من خلالها التغلب على تلك الصعوبات.
بالنسبة إلى جلشكو وكوروليف، كان الأمر أشبه بالعودة إلى المربع رقم واحد مجددا. وجد كوروليف أملا في التجارب الجديدة لألكسي إيزاييف، التي كانت تبشر فيما يبدو بتصميم محرك بقوة دفع 140 ألف رطل. وعلى إثر ذلك، صمم كوروليف الصاروخ «آر-3 إيه»، وهو نموذج معدل من نموذج الصاروخ «آر-2» يمكن من خلاله اختبار عناصر تصميم الصاروخ «آر-3». واستفاد كوروليف أيضا من نطاق تخصصه المهني الواسع بإثارة سؤال بعيد الأثر: هل يتعين بالضرورة أن تكون الصواريخ البعيدة المدى من طراز «كروز» التي تحلق في الغلاف الجوي، بدلا من الاعتماد على الصواريخ الباليستية العابرة للقارات؟ كان كوروليف يعرف أن القوات الجوية الأمريكية تستثمر معظم أموالها في الصاروخ «نافاهو» الذي يعتمد على المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي؛ فطلب من مصمميه أن يبحثوا إذا كان تصميم صاروخ مشابه يعتمد على محركات نفاثة ذات دفع هوائي من شأنه أن يخدم احتياجات البلاد على نحو أفضل أم لا. وكان الصاروخ «نافاهو» لا يزال بعيدا كل البعد عن مرحلة اختبارات الطيران، ولم يكن كوروليف مستعدا بأي حال من الأحوال لمحاكاة تصميمه، على غرار ما فعله تبوليف مع القاذفة «بي-29». ولكن، كان لدى كوروليف اعتقاد راسخ تماما في أن شركة «نورث أمريكان أفياشن» في سبيلها إلى تقديم نموذج مبتكر حقا.
خلال عام 1952، حققت تجارب جلكشو تقدما ملحوظا. لم يكن جلشكو يفضل استخدام محركات متعددة ذات قوة دفع متواضعة في الصاروخ «آر-3»؛ حيث كان تعدد المحركات يعني مزيدا من فرص الفشل، وكانت فرص الفشل تتمثل تحديدا في المضخات التوربينية، التي ظلت تعتمد على أول أكسيد الهيدروجين، على غرار الصاروخ «في-2». ومع ذلك، لم يكن ثمة ما يستوجب قانونا أن تكون لكل غرفة دفع مجموعة المضخات الخاصة بها، ورأى جلشكو إمكانية بناء محركات ذات قوة دفع هائلة حقيقية، بالحصول على مجموعة واحدة من المضخات التوربينية تغذي عدة غرف دفع بالوقود.
كان هذا الأسلوب رائعا للغاية؛ حيث عالج المشكلات الراهنة معالجة دقيقة. وكان من الممكن زيادة حجم المضخات التوربينية وقدرتها؛ لأن تلك التصميمات كانت أمرا يمكن تحقيقه. وكان من الممكن أيضا تصغير كل غرفة دفع بما يكفي لتحمل الحرارة والاهتزاز دون أن تتجاوز حدود ما هو متاح في تكنولوجيا اللحام وعلم المعادن. ومع تبلور تصميم جلشكو الجديد، رأى كوروليف إمكانية استخدام هذا الأسلوب في إنقاذ الصاروخ «آر-3»، بل الأفضل من ذلك أنه كان يمكنه تجاوز نموذج الصاروخ «آر-3» واقتراح نموذج صاروخ باليستي عابر للقارات، قادر على إصابة أهداف في الولايات المتحدة.
في تلك الأثناء فقط، في نهاية عام 1952، كان الوضع الاستراتيجي السوفييتي ضعيفا على نحو بالغ، وكانت الحرب الجوية في كوريا قد أثبتت أن القاذفة «بي-29»، التي كان الأمريكيون يستخدمونها بصورة روتينية، لا تستطيع تفادي إسقاطها من قبل مقاتلات نفاثة إلا إذا كانت ترافقها طائرات نفاثة. وفي ضوء ذلك، شرعت القيادة الجوية الاستراتيجية سريعا في إجراء عملية إحلال للقاذفات «بي-29»، واستخدمت بدلا منها قاذفات نفاثة ذات إمكانيات مرتفعة. ولكن قوة القاذفات في موسكو كانت تتألف بصورة كاملة تقريبا من القاذفات «بي-29»، في صورة القاذفات «تي يو-4». وكان ستالين قد طلب من تبوليف بناء قاذفة نفاثة بعيدة المدى، بيد أن المحركات التي كان من المفترض أن يستخدمها تستهلك كميات وقود أكثر بكثير من نظيراتها الأمريكية؛ وأقصى ما استطاع تبوليف تقديمه هو قاذفة ذات محركات توربينية الدفع، تدعى «تي يو-95». وافق ستالين على هذه القاذفة، لكنه كان لا يزال يريد طائرة نفاثة ، فانتقل إلى صهر تبوليف؛ فلاديمير مياسشتشيف. شرع هذا المصمم الكبير في بناء قاذفة نفاثة ذات أربعة محركات، أطلق عليها حلف الناتو اسم بيزون، ولكنه لم يستطع التغلب على مشكلة المحرك، وكان مدى القاذفة التي صممها لا يكفي لمهاجمة أهداف في الولايات المتحدة.
في نوفمبر 1952، فجر العلماء الأمريكيون القنبلة الهيدروجينية الأولى، وهو ما أسفر عن موجات انفجارية أكثر بمقدار ألف مرة مما تمخضت عنه قنبلة هيروشيما. وفي فبراير 1953، قبل ثلاثة أسابيع من وفاته، وقع ستالين أمرا يكلف فيه مركز «إن آي آي-88» بتطوير صاروخ عابر للقارات، وكان السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل الصاروخ سيكون من نوع «كروز»، أم سيكون صاروخا باليستيا؟ وفي شهر أبريل من ذلك العام، عدل مجلس الوزراء على المستوى الوزاري أمر ستالين بسحب برنامج صواريخ «كروز» من مركز «إن آي آي-88» ونقلها إلى شركات صناعة الطائرات.
تنافس مركزان في مجال تصميم طائرات، أولهما يرأسه مياسشتشيف والآخر يرأسه سيميون لافوتشكن، على بناء صاروخ يعتمد على محرك نفاث ذي دفع هوائي، وكان كلا المركزين من المراكز القوية ذات الكفاءة. ظفر مياسشتشيف برضاء ستالين الشخصي، وقاد جهود التطوير الخاصة بالقاذفة النفاثة التي كان يطورها، بينما تولى لافوتشكن مشروع صواريخ مضادة للطائرات نزولا على أمر مباشر من ستالين، وركز كوروليف جهوده في تلك الأثناء لتطوير صواريخ بعيدة المدى. كان كوروليف يملك الورقة الرابحة؛ حيث أصبح في مقدوره الآن اقتراح استخدام محرك جلشكو الجديد لبناء صاروخ باليستي حقيقي عابر للقارات؛ وفي حقيقة الأمر، صنع ما هو أكثر من ذلك؛ فقد أوصى أن تتوقف الحكومة عن دعم الصاروخ «آر-3»، الذي لم يكن يستطيع بلوغ الولايات المتحدة، والانتقال مباشرة إلى تطوير قدرات صواريخ عابرة للقارات.
ذهب كوروليف إلى اجتماع في الكرملين للنقاش حول الصاروخ «آر-3»، وتوقع المسئولون أن يمضي قدما في عملية التطوير، ثم يستخدم تكنولوجيا الصاروخ «آر-3» كأساس لبناء صاروخ باليستي بعيد المدى، وهو ما كان سيمثل استمرارا للأسلوب التدريجي الحذر الذي كان قد أدى إلى سلسلة الصواريخ ابتداء من «في-2» مرورا ب «آر-2» ثم «آر-5»، مع تفادي أخطاء مثل التي وقعت مع محرك جلشكو الأولي في الصاروخ «آر-3». لكن كوروليف رأى شيئا آخر؛ فقال في شجاعة موجها حديثه إلى مستمعيه: «ظهر تصميم جديد، ولن يلبي تصميم الصاروخ «آر-3»، الذي يبلغ مداه ثلاثة آلاف كيلومتر، حاجاتنا على المدى البعيد؛ لذا، توصلنا بالإجماع إلى النتيجة الراسخة التي تقول بأن ثمة فرصة لتجاوز الصاروخ «آر-3»، وبدء العمل على نموذج صاروخ عابر للقارات.»
4
يقول المؤرخ عاصف صديقي إن «جميع من كان حاضرا في هذا الاجتماع أصابته صدمة»؛ فقد كانوا ينتظرون في شغف خروج الصاروخ «آر-3» إلى الوجود، على الرغم من أنه كان موجودا فقط على الورق، وتوجسوا جميعا خيفة من خطوة كوروليف الجريئة. قوبل كوروليف بمعارضة قوية، وعارضه الوزير فياتشسلاف ماليشيف معارضة شديدة. كان ماليشيف مسئولا، في ضوء منصبه الوزاري، عن برنامج الأسلحة النووية، وكان يعلم أن كوروليف مهتم بالرحلات الفضائية، وهو ما كان ينظر إليه باعتباره خيالا جامحا، واتهمه بعقد الآمال على بناء صاروخ إطلاق فضائي معدوم الفائدة من الناحية العسكرية. وأصر ماليشيف على أن يواصل كوروليف إجراء التجارب على «آر-3».
قال كوروليف: «أرفض ذلك. لا قبل للدولة بالتدخل في هذا الشأن.»
أجاب ماليشيف قائلا: «حقا؟ الأشخاص ليسوا معصومين من الاستبدال، ويمكن العثور على أشخاص غيرهم.»
كان أوستينوف - وليس ماليشيف - مسئولا عن برنامج الصواريخ الاستراتيجية، وكان أوستينوف يفضل خطة كوروليف ولو بشيء من الحذر على الأقل، ولم يكن يملك السلطة اللازمة لقبول خطة كوروليف مباشرة كأساس للسياسة العامة، لكنه استطاع تشكيل لجنة استعراض لفحص الأمر وبحثه.
في المستويات العليا داخل الحكومة، يعتبر انعقاد هذه اللجان ضربا من الفن، وعندما تشكل هذه اللجان كما ينبغي، فإنها كانت تتضمن أعضاء لا غبار على سمعتهم ويتمتعون بسلطات واسعة، وتتطابق وجهات نظرهم مع رئيس اللجنة. ووقع اختيار أوستينوف على كونستانتين رودنيف - أحد نواب وزير الدفاع الذي كان قد رأس مركز «إن آي آي-88» - رئيسا للجنة، وكان يعرف كوروليف جيدا، ومن زملائه في اللجنة المارشال ميتروفان ندلين، قائد سلاح المدفعية ، الذي كان يدعم أيضا اقتراح كوروليف.
استدعى هذا الصاروخ الباليستي البعيد المدى وجود قلب مركزي يجري تشغيله من خلال محرك جلشكو مكون من أربع غرف دفع، تولد قوة دفع 170 ألف رطل؛ وكان من المفترض أن يربط أربعة من الصواريخ المعززة حول القلب، كل منها يحتوي على وقود، ومزود بمحرك مشابه؛ وكان من المفترض تشغيل محركات جميع الصواريخ في منصة الإطلاق؛ مما يعمل على تفادي مشكلات الإشعال أثناء الطيران. وكانت قوة الدفع الإجمالية، التي بلغت 900 ألف رطل، لا تقارن بقوة دفع أكبر الصواريخ السوفييتية التي انطلقت حتى ذلك الحين، التي تبلغ 100 ألف رطل، ويمثلها الصاروخ «آر-5». وكان من المنتظر أن تنفصل الصواريخ المعززة بعد عملية الإطلاق؛ مما يجعل الصاروخ الرئيسي يواصل الانطلاق حاملا رأسه الحربية النووية.
أفادت الدراسات التي أجريت على «آر-3» من المشاركة المباشرة لأهم علماء الرياضيات في البلاد، وهو مستيسلاف كلديش. مثل كلديش أمام لجنة أوستينوف وأكد على أن تحليلاته أثبتت أن تصميم كوروليف سليم؛ وتوفر مزيد من الدعم من جلشكو، الذي أشار إلى إمكانية بناء مجموعة المحركات التي صممها من خلال الاعتماد على الممارسات الهندسية القائمة. وأصدرت هذه اللجنة تقريرها الذي جاء في صالح كوروليف، ونجح أوستينوف في تحقيق هدفه. وفي 20 مايو 1954، تلقى موافقة نهائية على البدء في تطوير الصاروخ الباليستي البعيد المدى الذي صممه كوروليف.
أطلق على الصاروخ اسم «آر-7»، على الرغم من أن الآخرين أطلقوا عليه «سميوركا» (رقم 7). ولكنه لم يكن الصاروخ الوحيد العابر للقارات؛ حيث واصل مياسشتشيف ولافوتشكن مشروعي صاروخي «كروز» اللذين يعملان باستخدام المحرك النفاث ذي الدفع الهوائي. وكان من المقرر أن يتنافس المصممون الثلاثة؛ بحيث إذا تخاذل أحدهم، يمضي الآخران قدما؛ إذ كانت موسكو عازمة على إحراز النجاح.
ما الذي كانت تفعله الولايات المتحدة في تلك الأثناء؟ أسرعت الولايات المتحدة بتسريح عدد كبير من أفراد الجيش بعد الحرب، مع خفض ميزانية الدفاع إلى 14,4 مليار دولار أمريكي في عام 1949. وكانت برلين هي محل اهتمام الحرب الباردة، وتوقع ستالين أن يحتفظ بشرق ألمانيا، وأن يجعل من أوروبا الشرقية منطقة عازلة، ويفرض الحكم الشيوعي على هذه البلاد على الرغم مما يلاقيه من معارضة واسعة، ويصد أي تهديد بالغزو من جانب الغرب. وكان الجيش الذي جهزه ستالين يشكل تهديدا هجوميا قويا؛ حيث كان أكبر بكثير مما ينبغي لتنفيذ هذه المهام، وأشار وزير الخارجية الأمريكي، جورج مارشال، إلى أن السوفييت كانوا يمتلكون أكثر من 260 كتيبة نشطة، بينما كانت قوات الاحتياط الأمريكية تتألف من «كتيبة ونصف كتيبة في أنحاء الولايات المتحدة بأسرها».
كان ترومان يسعى إلى حفظ التوازن بين القوات من خلال تصنيع القنبلة الذرية، والاحتفاظ بها كعامل توازن. وخلال عام 1949، فجر كرتشاتوف قنبلته الخاصة وقوض تلك السياسة أيضا. وفي الوقت نفسه، سقطت الصين في يد الشيوعيين الموجودين فيها، وهي الواقعة التي أثارت شبح استحواذ قوة عالمية على أسلحة نووية، تتلقى تسليحها من الصناعة السوفييتية التي كانت قد هزمت هتلر، وتستعين بقوات الاحتياط غير المحدودة للقوى البشرية الصينية.
كان رد فعل ترومان المبدئي هو ترسيخ ميزته النووية؛ فوافق على خطط التوسع في إمدادات اليورانيوم والبلوتونيوم اللذين يدخلان في صناعة القنابل النووية، وزاد معدل إنتاج القنابل الذرية، وأطلق برنامجا كبيرا لبناء القنبلة الهيدروجينية. وفي أبريل 1950، صدق على ورقة سياسة عامة وضعها مجلس الأمن القومي تعرف باسم «إن إس سي-68»، ونصت الورقة على أن الولايات المتحدة ستكرس ما يصل إلى 20 في المائة من ناتجها القومي الإجمالي لصالح الأغراض العسكرية، وستقاوم أي تهديد شيوعي في أي مكان في العالم.
بعد ذلك بشهرين، اندلعت الحرب الكورية؛ مما زاد من ضرورة إنتاج القنابل النووية إلى أقصى درجة، ووصل مخزون القنابل النووية في الولايات المتحدة - الذي بلغ 56 قنبلة ذرية في عام 1948 - إلى 300 قنبلة نووية في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، ثم وصل إلى 832 قنبلة نووية بعد ذلك بعامين. وزاد كثيرا نشاط القيادة الجوية الاستراتيجية التي كانت تنتج هذه القنابل. ونظرا لأن الدفاعات الجوية السوفييتية كانت ضعيفة، كانت القاذفة «بي-36» تعتبر قاذفة لا تقهر، على الرغم من أنها كانت تعمل عن طريق المكابس وكانت بطيئة الحركة نسبيا. بالإضافة إلى ذلك، اشترت القوات الجوية أكثر من ألفي قاذفة نفاثة طراز «بي-47»؛ وفي ظل إمكانية تزويد القاذفات «بي-47» بالوقود أثناء تحليقها، أمكن زيادة مداها كيفما اتفق. وفي عام 1952، انطلقت القاذفة «بي-52» في أول رحلة لها، وسادت مجال القذف الاستراتيجي لمدة عقود، حتى وضعت الحرب الباردة أوزارها أخيرا.
في ظل هذا التركيز الهائل على القوة الجوية، لم يطرأ سوى تغيير طفيف على خطوة أمريكا الأولى نحو الصواريخ البعيدة المدى؛ وحدث ذلك في مدينة هانتسفيل في ألاباما، وهي مدينة زراعية صغيرة تشتهر بنبات البقلة، والقطن، والناموس. وبالقرب من المدينة، كان الجيش الأمريكي قد بنى ترسانة حربية لتصنيع الغازات السامة والأسلحة الكيماوية. وبعد الحرب، شاركت إدارة التسليح في الجيش في عمليات الإنتاج والتطوير في هذه الترسانة، وكانت إدارة التسليح في حاجة إلى مركز صواريخ، وبدت منشآت هانتسفيل - المعروفة باسم ترسانة «ردستون» - موقعا جذابا. وعلى أي حال، إذا كان سكان المدينة الطيبون قد استطاعوا التكيف مع إنتاج غاز الفوسجين وغاز الخردل، فربما لن يعترضوا إذن على هذه الصواريخ، خاصة إذا كان البديل هو جمع القطن مقابل دولار أمريكي واحد لكل مائة رطل. وكان كثير من المواطنين يعيشون في أحياء فقيرة - حي بوجرتاون للبيض، وحي هانيهول للسود - ولم تكن سوق العمل المحلية كبيرة بما يكفي.
فتح مركز صواريخ إدارة التسليح الجديد أبوابه في يونيو 1949، وكانت المهام الأولى للمركز تتمثل في تطوير صواريخ حربية: صاروخ «كوربورال» من إنتاج مختبر الدفع النفاث، وهو صاروخ وقود صلب يسمى «أونست جون»، وسلسلة صواريخ «نايكي» المضادة للطائرات التي كان يجري إنتاجها بموجب عقد مع شركة «بيل لابس». وسرعان ما صدق سكرتير الجيش على انتقال فيرنر فون براون وزملائه المخضرمين - الذين كانوا يمرون بحالة من فتور الهمة في فورت بليس منذ نهاية الحرب - في بينامونده إلى «ردستون». ووصلوا إلى «ردستون» في أبريل 1950، ثم أثير سؤال حول أوجه الاستفادة بهم المحتملة، وكانت الإجابة هي إمكانية الاستعانة بهم في البحوث المستمرة على النماذج الصاروخية الممكنة التي تنبني على الصاروخ «في-2»، والتي كانت تجريها شركة جنرال إلكتريك منذ عام 1946، دون أن تحقق تقدما ملموسا. وبفضل فون براون، اكتسب هذا النموذج الصاروخي بالفعل اهتماما كبيرا، وهو الاهتمام الذي ترجم إلى صاروخ باسم «ردستون».
كان من المتوقع أن يحمل الصاروخ «ردستون» رأسا حربية نووية، بيد أن مداه الذي كان يبلغ مائتي ميل جعله لا يزيد عن مجرد نموذج مطور للصاروخ «في-2». وكان محرك الصاروخ «ردستون» عبارة عن محرك قديم مستعمل في القوات الجوية، وهو محرك بقوة 75 ألف رطل كان ويليام بولاي قد صممه في شركة «نورث أمريكان أفياشن» لاستخدامه في صاروخه «نافاهو»، ثم توقف عن تطويره عندما تزايدت متطلبات دفع الصاروخ. وعندما بحثت إدارة التسليح في الجيش عن شركة لبناء الصاروخ «ردستون»، اكتشف المسئولون في الإدارة أن شركات صناعة الطائرات لم تكن مهتمة؛ فقد كان المديرون التنفيذيون في هذه الشركات يعتقدون، عن حق، أن الجيش لن يواصل طريقه في تطوير صواريخ الوقود السائل الكبيرة حتى النهاية، ولن يقدم عقودا جديدة. وحصلت شركة «كرايسلر» على العقد، وهي إحدى شركات السيارات الثلاث الكبرى التي تولت تطوير ردستون باعتباره مهمة إنتاج بسيطة.
كان من المنتظر أن يصبح الصاروخ «ردستون» جاهزا عندما تحتاج إليه البلاد، ليس للأغراض الحربية بل لإطلاق أول قمر صناعي أمريكي في عام 1958، ولإرسال أول رائد فضاء أمريكي، وهو آلان شبارد، إلى الفضاء في عام 1961. وبالإضافة إلى ذلك، ساعد تطوير صاروخ «ردستون» في إبقاء فون براون وزملائه منشغلين سنوات عديدة، بينما كانوا ينتظرون فرصة قيادة الجهود داخل البلاد للصعود إلى الفضاء. ومع ذلك، كانت أهمية الصاروخ تتضاءل عند مقارنتها بقاذفات القوات الجوية.
الصواريخ الأمريكية في فترة ما بعد الحرب: الصاروخ «في-2» من تصميم شركة «دبليو إيه سي كوربورال»، الصاروخ «إيروبي»، الصاروخ «فايكنج»، الصاروخ «كوربورال»، الصاروخ «ردستون» (دان جوتيه).
كانت هذه القاذفات في حقيقة الأمر هي موضوع التفاوت الرئيسي بين تباطؤ القوات الجوية في دخول مجال الصواريخ البعيدة المدى وحماس السوفييت إلى بنائها في أقرب وقت ممكن. بالنسبة إلى ستالين ومساعديه المقربين، كانت أهم مشكلة استراتيجية تكمن في العثور على طريقة لتوجيه ضربة إلى الولايات المتحدة، وكانوا يخصصون اعتمادات مالية هائلة لصالح أي مشروعات تخدم تلك الأغراض، مثل القاذفات النفاثة، وصواريخ «كروز» التي تعتمد على المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي، والصواريخ الباليستية العابرة للقارات التي هي من تصميم كوروليف. ولم يكن الأمر على هذا القدر من الأهمية بالنسبة إلى القوات الجوية؛ إذ كانت البلاد تمتلك ما تحتاج إليه في القيادة الجوية الاستراتيجية. وكانت هذه المواقف المتعارضة تشبه ما كانت عليه الأوضاع عام 1943، عندما أجبرت قاذفات قوات الحلفاء ذات التكنولوجيا البسيطة هتلر على المجازفة باستخدام الطائرات الاعتراضية النفاثة والصواريخ الألمانية.
غازلت القوات الجوية لفترة قصيرة شركة «كونفير» لتطوير صواريخ «إم إكس-774»، لكنها مع ذلك لم تواصل سعيها في المشروع. وظلت مؤسسة «راند» - وهي مركز بحثي يقع مقره في لوس أنجلوس - تضع هذا المجال نصب عينيها. وفي ديسمبر 1950، أشارت مؤسسة «راند» في أحد تقاريرها إلى أن تصميم صواريخ بعيدة المدى صار أمرا غير بعيد المنال؛ وبعدها بشهر، منحت القوات الجوية شركة «كونفير» عقدا لإجراء دراسة جديدة، داعية شارلي بوسار وزملاءه إلى إعادة تقييم نموذج الصاروخ الباليستي البعيد المدى الذي كان قد وضع تصميمه في وقت سابق. وفي أغسطس 1951، أطلق بوسار على الصاروخ اسم «أطلس»، على غرار اسم الشركة الأم لشركة «كونفير»؛ شركة «أطلس كوربوريشن».
كان حجم الصاروخ هائلا؛ فوزنه كان 670 ألف رطل وارتفاعه 160 قدما، وكان يستخدم سبعة محركات جديدة من محركات بولاي بقدرة 120 ألف رطل. وهكذا، كان حجم الصاروخ «أطلس» غاية في الضخامة؛ مما جعله أساسا لإجراء مزيد من الدراسات أكثر من كونه نموذجا يصلح كسلاح عملي. ومع ذلك، كان علامة فارقة؛ فهذه كانت المرة الأولى التي تمتلك فيها القوات الجوية تصميم صاروخ يتخطى مداه خمسة آلاف ميل، وهو هدف كان في مقدور القوات الجوية أن تمضي قدما نحو تحقيقه باستخدام محركات الصواريخ التي كان يجري تطويرها بالفعل.
لم يصدق على مشروع الصاروخ «نافاهو» مثلما حدث مع الصاروخ «ردستون»، لكنه كان لا يزال في مرحلة البحث والتطوير. ومع ذلك، كان تطوير الصاروخ «أطلس» يجري على مستوى أدنى في الدراسات الهندسية، وهو ما كان يعني أنه يتعين توفير مصادر تمويل لمحركات الصواريخ بأساليب غير ذلك، عرفت باسم إعادة توجيه نشاط التمويل. وشرح مفهوم عملية إعادة توجيه نشاط التمويل على نحو ملائم بأنها عملية الاستحواذ على الأموال التي كانت مخصصة لتمويل أحد الأنشطة وتوجيهها إلى نشاط آخر. وتولى مراقبة عمليات التمويل المقدم إدوارد هول، الذي كان مسئولا عن أنشطة تطوير الصواريخ في القوات الجوية انطلاقا من قاعدة رايت-باترسون التابعة للقوات الجوية. يتذكر المقدم هول تلك الأوقات قائلا: «واجهنا صعوبات جمة في تمويل مشروع الصاروخ «أطلس». صار مشروع الصاروخ «نافاهو» بندا في الميزانية منذ وقت مبكر جدا، حيث تولينا تمويله. وكانت أنشطة التطوير التي تجرى على الصواريخ لصالح الصاروخ «أطلس»، وكذلك تلك الأنشطة التي تجرى لتطوير الصاروخ «نافاهو» التي صارت تستخدم في مشروع الصاروخ «أطلس»؛ تقع جميعا في إطار برنامج تطوير الصاروخ نافاهو.»
5
أدرك هول سريعا أن محركات «أطلس» كانت ستختلف عن محركات «نافاهو»؛ فمحركات «نافاهو» كانت تستطيع حرق الكحول، الذي كان يستخدم في الصاروخ «في-2». وكان الكحول يتميز بسهولة امتزاجه مع الماء؛ مما يعمل على تخفيض درجة الحرارة في غرفة الاحتراق ويسهل عملية تبريدها؛ ولكن خواص التبريد في المحرك الذي بلغت قوة دفعه 120 ألف رطل كانت قد تحسنت بما يكفي لحرق الكحول بكامل قدرته تقريبا. وخلال عام 1952، أظهرت الدراسات إمكانية تعديل هذا المحرك بحيث يتمكن من حرق وقود آخر غير مخفف، ألا وهو الكيروسين. وكان من المتوقع أن استخدام الكيروسين سيؤدي إلى توليد طاقة أكبر من الكحول، وكان هول يعلم أن «أطلس» سيحتاج إلى هذه الطاقة للوصول إلى هذا المدى الذي وصل إليه.
عثر هول على فرصته في خطط لتصميم صاروخ «نافاهو» متطور، وهو ما كان يتطلب مستوى أداء أعلى في صواريخه. كان سام هوفمان يدير مشروع الصواريخ في شركة «نورث أمريكان»، ويتذكر هول قائلا: «اتصلت به هاتفيا. كنا كثيرين على الهاتف. قلنا : «سام، نريدك أن تصمم محرك وقود هيدروكربوني؛ إذ نريد أن نتوقف عن استخدام الكحول كوقود.» صدم سام، وكانت لديه أسباب وجيهة لذلك؛ إذ كان الوقود الهيدروكربوني عبارة عن مجموعة من العناصر المتعارضة التي لا يدري المرء حقا طبيعة الآثار التي ستنجم عنها. وشعر سام بالاستياء، وأخبرنا بذلك؛ فقلنا: «يجب أن تصمم هذا المحرك، نريد محركا بقوة دفع 120 ألف رطل».» «مرت أسابيع عديدة قبل أن يدرج الصاروخ «نافاهو» ضمن الميزانية، وأخبرنا سام أننا نقدر تماما ما قامت به شركة «نورث أمريكان» من جهود في تطوير المحرك الذي بلغت قوة دفعه 75 ألف رطل؛ لكن إذا لم تقبل شركته تطوير المحرك الهيدروكربوني الذي تصل قوة دفعه إلى 120 ألف رطل، فسنضطر إلى إسناد الأمر إلى شركة أخرى. ثم رضخ سام ووافق مضطرا.» وفي يناير 1953 أطلق برنامجا باسم برنامج تطوير محركات الصواريخ، لحل المشكلات التي قد تنشأ عند التحول من استخدام الكحول إلى الكيروسين كوقود في محرك «نافاهو».
كان وقود الكيروسين التقليدي المستخدم في القوات الجوية هو الوقود النفاث؛ «جيه بي-4»، إلا أن مواصفاته كانت تسمح بتنوع كبير في الكثافة، وهو ما كان سيؤدي إلى اختلافات غير مقبولة في وزن صاروخ مزود بوقود، تجري فيه عملية التزويد بالوقود وفقا للحجم. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت عمليات الإطلاق التي أجريت من منصات الاختبارات باستخدام الوقود «جيه بي-4»، أن الوقود يمكن أن يتسبب في انسداد ممرات تبريد المحرك الرفيعة برواسب لزجة أو بالكربون؛ مما يؤدي إلى إتلاف المحرك. ويرجع السبب في ذلك إلى المكونات الموجودة في الوقود التي لم تتسبب في أي مشكلات في المحركات النفاثة، لكن صار يتعين الآن التخلص منها بعناية. وأثبت الوقود الناتج؛ «آر بي-1»، الخالي من الملوثات الذي يتميز بكثافته الثابتة، أنه وقود ذو مواصفات خاصة.
حقق محرك «أطلس» الذي جرى تطويره ضمن برنامج تطوير محركات الصواريخ، والذي استخدم في البداية ضمن محركات «نافاهو»، قوة دفع أكبر مما كان يريدها هول؛ حيث بلغت قوة دفعه 135 ألف رطل. وخلال السنوات القليلة التي أعقبت ذلك، صار هذا المحرك لا يستخدم فقط في الصاروخ «أطلس»، بل في معظم صواريخ الوقود السائل الأمريكية الكبيرة الأخرى. ولكن حتى ذلك الوقت، لم يكن الصاروخ «أطلس» النموذج الذي قد تتطلع القوات الجوية إلى شرائه.
وفقا للتصميم الأصلي للمحرك عام 1951، فإنه يستطيع حمل رأس حربية زنة 8000 رطل. وخلال عام 1952، قلصت القوات الجوية الوزن المتوقع إلى 3000 رطل، ومن ثم أدت إلى خفض الوزن المتوقع لهذا الصاروخ وتكلفته المحتملة على نحو مقبول. ولكن، ظلت هناك نقطة عالقة، وهي دقة الصاروخ.
كان طيارو القاذفات المتمرسون في القوات الجوية يستطيعون إلقاء قنابل ذرية على مسافة 1500 قدم من هدف محدد، عند استخدام أجهزة تصويب قنابل رادارية جيدة لتوجيه ضربات ليلا من ارتفاعات شاهقة، لإصابة أهداف أسفل منها مباشرة. وكان البنتاجون يرى أن الصاروخ «أطلس» يستطيع أيضا إنجاز هذه المهمة طوال رحلته إلى موسكو، وكانت هذه الدقة تماثل ضرب كرة جولف مسافة ميل وإسقاطها في الحفرة تماما، دون أن تتدحرج أو تقفز. وكان من المفترض أن يؤدي «أطلس» تلك المهمة من خلال عملية تحكم آلي كاملة، ولكن لم يستطع «أطلس» تحقيق هذا المطلب، وإن لم يكن بالمعنى الكامل للكلمة؛ فقد كان الصاروخ «أطلس» يخطئ الهدف بمسافة أميال؛ مما يجعله بلا جدوى كسلاح حقيقي.
في 1 نوفمبر 1952، انفجرت القنبلة الهيدروجينية الأولى في جزيرة إنيوتوك في المحيط الهادئ، وقال أحد المراقبين: «كان الانفجار هائلا؛ فقد بدا كما لو أنه يسد الأفق بالكامل، وكنت أقف على مسافة ثلاثين ميلا.» وأشار مصمم الأسلحة تيودور تايلور إلى الانفجار بأنه «انفجار هائل وغاشم للغاية، كما لو كانت جميع الأمور قد خرجت عن نطاق السيطرة. وبلغت الحرارة المراقبين، ظلت جاثمة طويلا، لا لثوان بل لدقائق». وأسفر الانفجار عن شظايا زنة عشرة ميجا طن، مقارنة بثلاثة عشر كيلوطنا في هيروشيما؛ فقد تمخض هذا الانفجار العاصف في عام 1945 عن كرة نار قطرها ثلث ميل. أما في إنيوتوك، فقد اتسع قطر كرة النار كثيرا وبسرعة هائلة للغاية؛ مما أخاف المراقبين الذين كانوا يقفون على مسافة بعيدة، وصارت الكرة تتمدد حتى تجاوز قطرها ثلاثة أميال. وأفضى الانفجار إلى طمس معالم جزيرة بأكملها، مخلفا فوهة بعمق مائتي قدم ويزيد عرضها عن ميل.
كانت هذه القنبلة أثقل وزنا بكثير من أن تصلح سلاحا، وفي غضون شهرين توصل مصمما أسلحة رائدين، هما جون فون نيومان وإدوارد تلر، إلى إمكانية إنتاج قنابل هيدروجينية خفيفة الوزن. وفي أوساط ضباط القوات الجوية الواسعي الاطلاع، مثل هذا الرأي حلا فوريا لمشكلة التوجيه؛ فربما كان الصاروخ «أطلس» يخطئ هدفه، مسلحا بهذه القنبلة الهيدروجينية، بمقدار عدة أميال، ولكنه لا يزال يدمر هدفه من خلال الأسلوب البسيط المتمثل في تدمير كل شيء بين الهدف ومكان سقوط القنبلة. ولكن، حتى يتطور مشروع الصاروخ «أطلس» إلى برنامج كبير، كان المسئولون في حاجة إلى معلومات حول الحجم والوزن والقوة التفجيرية للقنابل الهيدروجينية التي كان إنجازها سيتحقق على الأرجح خلال الأعوام القليلة القادمة.
كان تيودور فون كارمان يرأس المجلس الاستشاري العلمي التابع للقوات الجوية، وشكل لجنة لبحث هذه المسائل، وعين نيومان - الذي كان أحد أهم الرياضيين في العالم - رئيسا للجنة. كان فون نيومان هو الرجل الذي اخترع البرمجة الحاسوبية، وكان رائدا في مجال إجراء العمليات الحسابية الصعبة اللازمة لصنع قنبلة البلاتينيوم الأولى، وكان أول من يستخدم أجهزة الكمبيوتر الأولى في إجراء العمليات الحسابية، ثم انتقل إلى معالجة العمليات الحسابية الشديدة التعقيد التي كانت القنبلة الهيدروجينية تتطلبها. وكان من بين زملائه في اللجنة مجموعة من مصممي القنابل المتميزين؛ أمثال: هانز بيته، وجورج كستياكوسكي، وإدوارد تيلر الذي كان قد اخترع القنبلة الهيدروجينية، ونوريس برادبري الذي كان وقتها مدير مختبر «لوس ألاموس» النووي.
اكتسب هذا العمل أهمية جديدة في أغسطس 1953، عندما فجر السوفييت قنبلتهم الجديدة، الأمر الذي نتجت عنه شظايا انفجار بلغت أربعمائة كيلوطن. واعتمدت هذه القنبلة على تجارب الفيزيائي أندريه ساكاروف، الذي أثبت كيف يمكن لكمية قليلة من المادة النووية الحرارية، المضمنة في قنبلة ذرية، إطلاق كمية هائلة من النيوترونات تعمل على تعزيز عملية الانفجار على نحو بالغ، من خلال التسبب في انشطار المزيد من ذرات اليورانيوم أو البلوتونيوم. ونظرا لأن اسم ساكاروف مشتق من «ساكار» (أي «سكر»)، أطلق زملاء ساكاروف على عملية الانشطار اسم عملية «التسكير» لأنها كانت تجعل قنابلهم أكثر قبولا وملاءمة.
درس العلماء الأمريكيون الغبار النووي الناتج من اختبار الانفجار النووي لهذه القنبلة، ونجحوا في تحديد آثار الانفجار، وفي إعادة بناء المكونات الرئيسية في تصميمها؛ وخلصوا إلى أن القنبلة كانت بمنزلة تقدم هائل على القنابل السوفييتية السابقة، على الرغم من كونها ليست قنبلة هيدروجينية حقيقية. بالإضافة إلى ذلك، كانت استخبارات القوات الجوية قد علمت بشأن الدراسات السوفييتية في مجال الصواريخ البعيدة المدى. وبالنظر إلى هذين التطورين معا، فإنهما كانا يشيران حتما إلى احتمال شروع موسكو في بناء صواريخها الكبيرة قريبا.
كانت لجنة فون نيومان قد توصلت مؤخرا إلى أن الرءوس الحربية في الصواريخ الباليستية العابرة للقارات الموجهة، التي تزن 3000 رطل، من شأنها أن تولد انفجارا زنة 500 كيلوطن. وفي سبتمبر، أضاف مركز الأسلحة الخاصة التابع للقوات الجوية تقريره الخاص، مؤكدا على أن القنابل التي يتولد عنها هذا الأثر لن يزيد وزنها عن 1500 رطل؛ ومن ثم، كان يمكن إنتاج الصاروخ «أطلس» بما لا يزيد عن 240 ألف رطل، وهو ما يكاد يعادل تقريبا ثلث الوزن المقترح في تصميم عام 1951.
كان هذا التطور إنجازا كبيرا، غير من جميع التوقعات المستقبلية لعلم الصواريخ وللصواريخ الباليستية العابرة للقارات. وبالإضافة إلى ذلك، تحقق هذا الإنجاز في وقت كانت فيه إدارة آيزنهاور المنتخبة حديثا تتبنى سياسة دفاعية تسمى «النظرة الجديدة»، التي كان من شأنها أن تعزز اعتماد البلاد على الأسلحة النووية. وعلى الرغم من ذلك، لم يفض احتمال إنتاج قنابل خفيفة الوزن وقوية إلى الموافقة الفورية على إطلاق برنامج كبير جديد في مجال الصواريخ الاستراتيجية؛ إذ كانت سياسة النظرة الجديدة تسعى إلى خفض الميزانية وإلغاء البرامج القائمة إن أمكن، لا إلى إطلاق برامج جديدة. ولكن، كان من شأن هذا الاحتمال بالطبع أن يبرر النظر بعين جديدة إلى المشروعات الحالية في الدولة.
كان لدى قائد القوات الجوية هارولد تالبوت مساعد خاص يدعى تريفور جاردنر، وكان يتولى مسئوليات واسعة في مجالي البحث والتطوير؛ ونجح جاردنر في أن يصنع له اسما بوصفه مديرا للمشروعات الفنية في إحدى الخدمات العسكرية التي برز معظم قادتها بوصفهم قادة عمليات في الحرب. وكان الصدام الثقافي حتميا؛ حيث لم يرحب هؤلاء الجنرالات كثيرا بفكرة تلقي أوامر من مدني حديث العهد بالشئون العسكرية. كذلك، لم تساعد شخصية جاردنر كثيرا في إنجاح الأمر؛ إذ وصفه آخرون بأنه «ذكي، حاد الطبع، سريع الغضب، بارد المشاعر، ثقيل الظل، مشكوك في أصله». مع ذلك، فقد حظي جاردنر بدعم تالبوت القوي؛ وعلى الرغم من أن الجنرالات كانوا يفضلون القنابل، أراد جاردنر أن يمضي قدما في تطوير الصواريخ.
مرة أخرى، تبلور تأييده لهذه السياسة بصورة أساسية في تشكيل لجنة استعراض عليا، هي مجموعة تقييم الصواريخ الاستراتيجية، سماها جاردنر لجنة «تي بوت». عين جاردنر فون نيومان مرة أخرى رئيسا للجنة، وضم إليها كستياكوسكي، ثم أضاف إليه مجموعة مدهشة من عناصر موهوبة من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا وشركة «هيوز إيركرافت» و«بيل لابس» ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وعلى حد قول جاردنر: «كان الهدف هو إعداد تقرير يبدو غاية في الإلحاح والأهمية بما لا يتيح مجالا للاستخفاف به.» التقى أفراد المجموعة خلال خريف وشتاء عام 1953 وعام 1954، وركزوا بصفة أساسية على الصاروخين «نافاهو» و«أطلس». وعلى غرار لجنة الاستعراض التي شكلها ديمتري أوستينوف، وكانت تباشر أعمالها في موسكو في نفس الوقت تحديدا؛ كانت لجنة «تي بوت» تبحث الفوائد المترتبة على اتخاذ خطوة جريئة نحو تصميم صاروخ باليستي عابر للقارات، آخذة في الاعتبار أن الصاروخ «كروز» الذي يعمل بالمحرك النفاث ذي الدفع الهوائي ربما يمثل بديلا مقنعا.
لم يكن جاردنر يشعر بحماس كبير تجاه الصاروخ «نافاهو»، لكنه كان متحمسا تجاه الصاروخ «أطلس»، ودعم تقرير فون نيومان، الذي صدر في فبراير 1954، وجهتي النظر هاتين بقوة. ومما زاد من القوة الإقناعية للتقرير اعتماده على بحوث مؤسسة راند، التي كان لتوصياتها ثقل وأهمية.
في ذلك الوقت تحديدا، في أوائل عام 1954، لم يكن تصميم الصاروخ «نافاهو» قد اكتمل بعد، وكانت شركة «نورث أمريكان » تطور محركات الصاروخ لتوفير الدفع المبدئي له، بينما كانت شركة «رايت إيرونوتيكال كوربوريشن» تبني النماذج التجريبية من المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي. وكان ثمة نظام توجيه أيضا قيد التطوير للصاروخ «نافاهو». بالإضافة إلى ذلك، كانت شركة «نورث أمريكان» قد بنت طائرة أخرى بلا طيار، هي الطائرة «إكس-10»، التي اعتمدت على المحركات التوربينية؛ وكان لدى الشركة الشكل التفصيلي للصاروخ «نافاهو» المزمع إنتاجه، وكانت ستجري اختبارات على الصاروخ لاختبار ديناميكا الهواء عند سرعات تفوق سرعة الصوت.
على الرغم من ذلك، ذكرت لجنة «تي بوت» أنه «لم يكن من المنتظر في ذلك الوقت أن يستفيد برنامج الصاروخ «نافاهو» من محاولة واسعة للإسراع من إيقاع العمل في البرنامج ككل». وأوصت اللجنة بأن تختار القوات الجوية شركة أخرى لضمان توفير «محركات نفاثة ذات دفع هوائي بأداء وكفاءة ملائمين»، ودعت إلى اتخاذ «قرار فوري» فيما يتعلق باختيار شركة تتولى بناء «مكونات توجيه نافاهو المعقدة». وكان من المفترض أن يمضي الصاروخ «كروز» قدما، لكنه لم يكن ليدخل مرحلة تطوير جادة إلا في حال تراجع أهمية الصاروخ «أطلس».
فيما يتعلق بالصاروخ «أطلس»، واجهت مجموعة فون نيومان مأزقا؛ إذ كان من المفترض أن تتمكن اللجنة من التوصية بمواصلة العمل في البرنامج مباشرة، بدعوة شركة «كونفير» إلى بناء الصاروخ؛ ولكن، على الرغم من أن شركة «كونفير» كانت من كبرى الشركات العاملة في مجال بناء القاذفات، فقد كانت تنقصها الكفاءة اللازمة لتولي بناء صاروخ باليستي عابر للقارات، وكان ثمة مهندسون كثيرون في الشركة، لكنها كانت في حاجة إلى مواهب علمية كالتي جلبها ويليام بولاي إلى «نورث أمريكان». وكانت أوجه المقارنة بين الشركتين معبرة للغاية. وحتى في ظل توافر هذه المواهب، كان الصاروخ «نافاهو» الذي كانت شركة «كونفير» تطوره متوافرا فقط في صورة مكونات تجريبية، بينما بدت عملية إطلاق نموذج كامل إلى الفضاء مسألة ستستغرق سنوات. ومع ذلك، كانت متطلبات الصاروخ «نافاهو» أبسط منذ البداية مقارنة بمتطلبات الصاروخ «أطلس»، وهو ما جعل القوات الجوية تسعى إلى تطويره. كيف إذن كانت ستنجح شركة «كونفير» الأقل كفاءة من الناحية الفنية في بناء الصاروخ «أطلس» الأكثر تعقيدا؟
لم يخف التقرير شيئا: «في حين أن كثيرا من الفضل يرجع إلى شركة «كونفير» بسبب تجاربها الرائدة، ثمة قناعة راسخة لدى اللجنة بضرورة إجراء عملية إعادة تنظيم جذرية للمشروع - وهو ما يتجاوز إطار عمل شركة «كونفير» - إذا كان الهدف هو الحصول على مركبة مفيدة للأغراض العسكرية خلال فترة زمنية معقولة.» طالب التقرير بإجراء سلسلة جديدة من الدراسات التصميمية «تستند إلى العلم الأساسي على نحو ملائم»، كما طالب التقرير أيضا باختيار إدارة جديدة، واقترح أن تناط إليها مسئولية توجيه المشروع بالكامل. ووضع التقرير بعد ذلك مجموعة من التوصيات المحددة: «ترى اللجنة أنه في الوقت الحالي لا يمكن تسريع إيقاع العمل في المشروع على نحو فعال من خلال توفير مصادر تمويل ضخمة، والتجميد المبكر لعمليات التصميم، وتخطيط الإنتاج. ومع ذلك، تتوقع اللجنة أن المجموعة الجديدة المشار إليها أعلاه ستصبح في غضون عام واحد في وضع يمكنها من تقديم توصية تفصيلية بوضع برنامج موسع معاد توجيهه، يتضمن جداول زمنية أكثر تقاربا، وهو ما سيتطلب على الأرجح زيادة الدعم المالي وإيلاء المشروع أولوية مرتفعة.»
6
استجابة إلى الإنجاز الذي تحقق في تصميم الأسلحة النووية، أشار التقرير على وجه خاص إلى المسافات المسموح بها في إخطاء الهدف، أو بلغة القوات الجوية، احتمال الخطأ الدائري: «يجب تقليل قيمة احتمال الخطأ الدائري في المعدات العسكرية من الارتفاع الحالي (1500 قدم) إلى ميلين، وربما ثلاثة أميال بحرية على الأقل.» وكان من المفترض بذلك أن تخلف الرأس الحربية في الصاروخ «أطلس» آثارا انفجارية تصل إلى نصف ميجا طن.
منح تقرير لجنة «تي بوت» أساسا لجاردنر لاتخاذ خطوات عملية، ولكي يمضي مشروع «أطلس» قدما، ويظفر بالأولوية اللازمة، كان يحتاج إلى دعم من رئاسة الأركان ومجلس الأمن القومي والرئيس؛ ولكن، في خضم الأحداث الأخيرة، صار من المحتمل التصديق على توصيات التقرير سريعا والعمل في برنامج الصاروخ «أطلس» بأقصى سرعة.
في أبريل 1950، بعد أشهر قليلة من اختبار أول قنبلة ذرية سوفييتية، كانت وكالة الاستخبارات المركزية قد قدمت تقريرا مفاده أن مائتي قنبلة ذرية قادرة على هزيمة الولايات المتحدة في أي حرب، وأن موسكو ربما تمتلك هذا العدد من القنابل «في الوقت ما بين منتصف عام 1954 ونهاية عام 1955»؛ وهو ما جعل عام 1954 عاما خطرا. وفي مايو 1950، أشار كيرتس لوماي، رئيس القيادة الجوية الاستراتيجية، إلى عام 1954 باعتباره «العام الحاسم الذي يجب أن نكون مستعدين فيه لمضاهاة القوة العسكرية الكاملة للاتحاد السوفييتي والرد عليها بفاعلية». وبالفعل، حل العام الخطر على البلاد، وزادت القنبلة السوفييتية القوية التي جرى اختبارها بنجاح في أغسطس 1953 من خطورة التحذير من عام 1953.
كان ثمة خطر إضافي يتمثل في تطوير الصواريخ؛ ففي مارس 1953، انطلق للمرة الأولى الصاروخ «آر-5»، الذي بلغ مداه الأولي ألف كيلومتر. ونصت مسودة تقرير لجنة «تي بوت» - مشيرة إلى أن «المعلومات الاستخبارية جرى تقديمها إلى اللجنة» - على أن «معظم الأعضاء يعتقدون أن الروس ربما يسبقوننا كثيرا في مجال الصواريخ الباليستية العابرة للقارات». وكان الروس يبنون أيضا قاذفات جديدة؛ فقد انطلق نموذج «بيزون»، الذي يعمل باستخدام محرك نفاث، في رحلته الأولى في يناير 1953. وبالإضافة إلى ذلك، كان أندريه تبوليف قد ظفر بموافقة ستالين على بناء أسطول من القاذفات «تي يو-95» ذات المحركات التوربينية، التي يكفي مداها لتوجيه ضربة إلى الولايات المتحدة.
حذر تقرير لوكالة الاستخبارات المركزية في منتصف عام 1953 من أن «الولايات المتحدة تخسر، إن لم تكن قد خسرت بالفعل، حصانتها المتواجدة منذ حين، في هجوم يشل قدراتها، وتخسر معه ميزتها الاستراتيجية الهائلة في قدرتها على إجراء عمليات نشر القوات الواسعة النطاق والمدبرة عادة، التي أجرتها بعد يوم بدء العملية». وأضاف تقرير متابعة، في فبراير 1954، أن السوفييت قد يتمكنون في غضون ثلاث سنوات من نشر خمسمائة قاذفة «تي يو-95»؛ ومن ثم، إذا قامت الحرب، فمن المنتظر أن تحارب أمريكا بأسلحة متوافرة فعليا.
عند مراجعة قرارات السياسة في ذلك الوقت، يجد المرء مواقف كارثية تتعارض مع المنطق الحديث كثيرا؛ على سبيل المثال: عند إعداد تقرير مجلس الأمن القومي الصادر عام 1950، الذي صار يعرف باسم «إن إس سي-68»، كان المستشار الرئاسي بول نيتشه قد كتب أن نظام ستالين «يحركه اعتقاد أخرق جديد، يتعارض مع اعتقادنا، ويسعى إلى فرض سلطته المطلقة على بقية دول العالم». وفي إطار مطالبته بتطوير «سريع ومستدام للقوة السياسية والاقتصادية والعسكرية للعالم الحر»، أكد نيتشه على أن «اعتبارات الميزانية يجب أن تلي في أهميتها الحقيقة الجلية التي تتمثل في أن استقلالنا كأمة ربما يكون معرضا للخطر».
7
لم يكن هذا خطابا للسيناتور جو ماكارثي، بل كان وثيقة توجيهية رصينة أعدت بناء على طلب الرئيس. وبالمثل، في مذكرة لآيزنهاور بعنوان «سياسة الأمن القومي الأساسية» (إن إس سي-162 / 6)، نص مخططو سياسة النظرة الجديدة بوضوح على أنه «في حالة وقوع اعتداءات، ستبحث الولايات المتحدة مسألة توفير الأسلحة النووية لاستخدامها مثل الأسلحة الأخرى». وتحدث وزير الخارجية جون فوستر دالاس، مخاطبا مجلس العلاقات الخارجية في أوائل عام 1954، عن هذه السياسة باعتبارها تمثل «قوة انتقامية كاسحة»، تستطيع أمريكا من خلالها «الرد بقوة في الأماكن وبالطرق التي تختارها».
ثمة ما يدفعنا إلى النظر إلى هذه العبارات باعتبارها تعكس ذعر رجال خائفين يخلطون في سرعة بالغة بين ستالين الانتهازي إلى حد لا يعرف الرحمة، وبين هتلر العدواني إلى حد التهور. لكننا نتبنى هذه الرؤية من منطلق مرور ثلاثين عاما على التعايش أعقبت أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962؛ عقود تفادى خلالها قادة القوتين العظميين الوعيد والتهديد، بينما أحجمت كل منهما عن تحدي المصالح الرئيسية للأخرى. وكان على صانعي السياسات في خمسينيات القرن العشرين بحث قدرات موسكو، بغض النظر عن نواياها المعلنة، وكانوا يعرفون أن الحرب الباردة قد خرجت عن إطار سوء الفهم الدبلوماسي. وعاش صانعو السياسات في ظل القناعة المذهلة بأنهم إذا أخطئوا، فقد تقوض أسس الأمة.
بشر نجاح الأمريكيين في تصميم قنبلة هيدروجينية بإمكانية وضع نظام ردع فعال، وهو ما بدا واضحا على نحو كبير خلال شهري مارس وأبريل من عام 1954؛ إذ انفجرت عدة أنواع مختلفة من القنابل في بيكيني في جزر مارشال. وكان الاختبار الذي تم في عام 1952، باسم مايك، قد استخدم ديوتريوم مسالا، كان أكثر برودة بكثير من الأكسجين المسال وأكثر صعوبة في تناوله؛ وقد استخدمه مصممو الاختبارات لأنه ساهم في تبسيط فيزياء الأسلحة. وصارت القنابل الجديدة تستخدم ليثيوم الدتريد، وهو مسحوق جاف يشبه الملح، يمكن تخزينه لفترات غير محدودة.
تم تفجير أول قنبلة تجريبية، وهي قنبلة «برافو»، في 1 مارس 1954؛ وكانت قد صممت بحيث تخلف آثار تفجير زنة 5 ميجا طن، لكن الباحثين في لوس ألاموس كانوا قد أخفقوا في اكتشاف تفاعل نووي رئيسي في الليثيوم كان من شأنه أن يزيد من القدرة التفجيرية للقنبلة؛ ومن ثم خرجت «برافو» عن السيطرة، وأسفرت عن آثار تفجيرية زنة خمسة عشر ميجا طنا؛ أي أكثر حتى من الآثار التفجيرية التي خلفها اختبار مايك. كما خرج سلاح مشابه آخر، وهو «روميو»، عن السيطرة للسبب نفسه، وبلغت آثاره التفجيرية أحد عشر ميجا طنا. وأشار هذا التفاعل غير المتوقع وقتها إلى أن الرءوس الحربية المستقبلية يمكن أن تكون أصغر بكثير من المتوقع، وهو ما يقلص من الدقة المطلوبة في الصاروخ «أطلس»، ويجعله أكثر جاذبية. وأظهرت عملية تفجير تجريبية أخرى في بيكيني، من خلال قنبلة «نكتار»، أن إنتاج قنبلة خفيفة الوزن مسألة غير بعيدة المنال؛ حيث لم تكن هذه القنبلة تزن إلا 6520 رطلا، ولكنها مع ذلك خلفت آثارا تفجيرية بلغت 1,69 ميجا طن.
كان من بين مناصري الصاروخ «أطلس» - إلى جانب جاردنر وتالبوت - الجنرال توماس وايت نائب رئيس الأركان، ودونالد كوارلس مساعد وزير الدفاع للبحث والتطوير. وجدير بالذكر أن كوارلس كان قد انضم إلى البنتاجون قادما من «بيل لابس»، وكانت خلفيته تشبه خلفية جاردنر؛ ومن ثم، كان هو وتالبوت في وضع يسمح لهما بالظفر بدعم وزير الدفاع، تشارلز ويلسون، الذي سيسعى فيما بعد إلى الحصول على موافقة من مجلس الأمن القومي. وفي تلك الأثناء، حصل جاردنر ووايت على الموافقات اللازمة من جنرالات القوات الجوية، ومن هؤلاء ناثان تويننج، رئيس هيئة أركان القوات الجوية وعضو هيئة الأركان المشتركة.
ألقى وايت بالكرة في ملعب هيئة أركان القوات الجوية، التي كانت مسئولة عن إصدار توصيات بالموافقة على البرامج الجديدة. وعلى حد تعبير أحد المراقبين، أخبر وايت أعضاء هيئة الأركان أن «الصواريخ الباليستية ستظل موجودة لفترة طويلة، ومن الأفضل بالنسبة إلى الهيئة إدراك هذه الحقيقة والتعامل معها». وفي 14 مايو، بعد الحصول على موافقة من وزير الدفاع ويلسون، أعطى وايت الصاروخ «أطلس 1-إيه» الأولوية القصوى لدى البنتاجون، وأصدر أمرا بتسريع الجدول الزمني للبرنامج «إلى أقصى مدى تسمح به التكنولوجيا». وصرح جاردنر، الذي كان تالبوت قد جعله ممثله المباشر في التعامل مع الأمور المتعلقة بالصاروخ «أطلس»، قائلا: عنى ذلك ضرورة «بذل أقصى مجهود ممكن دون وضع حدود للتمويل».
لكن، إذا لم تستطع «كونفير» إدارة هذا البرنامج، فمن هي الشركة التي ستتولاه إذن؟ كان تقرير لجنة «تي بوت» قد طالب بتأسيس «هيئة تنمية إدارية» تضع «عملية التوجيه الفني الكلية في أيدي مجموعة من العلماء والمهندسين أصحاب الكفاءات الاستثنائية؛ ممن يستطيعون وضع نظم تحليلية، والإشراف على المراحل البحثية، والتحكم بصورة كاملة في المراحل التجريبية وتوريد المعدات في البرنامج». وكان مشروع «مانهاتن» قد بنى بالفعل مركزا للريادة الفنية في لوس ألاموس، وأراد جاردنر تأسيس مركز مماثل لمشروع الصاروخ «أطلس».
كان ينقص مركز التطوير التابع للقوات الجوية؛ قاعدة «رايت-باترسون» الجوية، الكفاءات اللازمة. وكانت المشكلة الأولى تتمثل في التجهيزات الإلكترونية، وربما كانت «بيل لابس» أو «آر سي إيه» أو «آي بي إم» ملائمة لتوفير تلك التجهيزات. ولكن كان من المتوقع أن يرغب رؤساء هذه الشركات في التنافس للحصول على عقود مشروع الصاروخ «أطلس»؛ مما يعرضهم إلى شكل من تضارب المصالح، إذا كانوا سيتولون أيضا إدارة مشروع الصاروخ «أطلس» ككل. وهو تضارب ربما ينشأ من الإغراء المتمثل في اتخاذ قرارات على مستوى البرنامج، بطرق قد تؤدي إلى توفير فرص أعمال أكثر لصالح الشركة الأم.
واصل جاردنر بناء مركز على غرار مركز «لوس ألاموس» من خلال الاستعانة بجهود اثنين من أعضاء لجنة «تي بوت»، هما سايمون رامو ودين وولدريدج. كان هذان العالمان قد صنعا اسميهما في شركة «هيوز إيركرافت» من خلال قيادة القوات الجوية نحو مجال جديد من الإلكترونيات، عن طريق بناء نظم رادارية للتحكم في الإطلاق، صارت تجهيزات ثابتة في الطائرات الاعتراضية الأولى في تاريخ البلاد. وشرع العالمان في بناء نظام توجيه إلكتروني، مترجمين نجاح النظام إلى عقد مع شركة «فالكون» لصناعة صواريخ جو جو. ثم في عام 1950، حققا نجاحا ساحقا بالتغلب على نحو عشرين شركة متنافسة في الفوز بعقد كبير لتصميم نظام ملاحة وتحكم في الإطلاق، وهو النظام الذي كان من المنتظر أن يستخدم في مقاتلات «إف-102» التي تفوق سرعتها سرعة الصوت؛ وأشارت مجلة «فورتشن» إلى أن هذا العقد منح شركة «هيوز» «احتكارا حقيقيا لتوفير متطلبات القوات الجوية من الأجهزة الإلكترونية المتطورة».
لكن، لم تكن شركة «هيوز إيركرافت» إلا امتدادا لهوارد هيوز، مالكها الذي صار غريب الأطوار على نحو متزايد؛ وكان يتخذ قرارات تنفيذية غير سليمة أو لا يتخذ أي قرارات على الإطلاق، وكان يختفي مدة أسابيع متتالية ويترك الأمور تتداعى؛ وعندما يعاود الظهور، كان يستمر في تجاهل الأمور العاجلة بينما كان ينغمس في أمور تافهة مثل مبيعات قطع الحلوى في ماكينات بيع الحلوى التي تملكها الشركة. وكان مساعده المؤتمن، نواه ديتريش - الذي شغل الفراغ التنفيذي الذي خلفه هيوز - شخصا مبتذلا متطفلا. وكانت ثمة عملية شراء من الممكن أن تحدث تجديدا حقيقيا في قيادة الشركة، وتلقى هوارد هيوز عرضا مغريا من شركة «لوكهيد»، لكنه تعهد بألا يبيع الشركة على الإطلاق. وكان رامو وولدريدج يشغلان منصب نائب رئيس بالشركة، لكن فاض بهما الكيل فاستقالا.
أنشأ رامو وولدريدج شركة جديدة في مكتب من غرفة واحدة صار محل حلاقة لاحقا، وكان المكتب يحتوي على مائدة وهاتف وآلة كاتبة مستأجرة وسكرتيرة؛ ثم سرعان ما حصلا على دعم مالي من شركة «طومسون بروداكتس»، وهي شركة كائنة في كليفلاند مختصة في قطع غيار السيارات وكانت تسعى إلى تنويع محفظتها الاستثمارية. بالإضافة إلى ذلك، كان تريفور جاردنر يعرف رامو منذ عام 1938، عندما كانا يعيشان في شقة واحدة أثناء فترة عملهما في شركة «جنرال إلكتريك»، وأشاد كثيرا بالإنجازات التي حققها هو وولدريدج في شركة «هيوز». وفي غضون أيام من بدء أعمال الشركة، وقعت شركة «رامو وولدريدج كوربوريشن» عقدا لتوفير الدعم الفني للجنة «تي بوت»، ثم سرعان ما حققت الشركة أرباحا بصورة مفاجئة.
استغرق الأمر سنوات عديدة قبل أن تندمج الشركة رسميا مع شركة «طومسون» وتنشئ شركة «تي آر دبليو». ولكن، بدعم من جاردنر، سارت شركة «رامو وولدريدج» في مسار نمو سريع. وبالإضافة إلى ذلك، اجتذبت الشركة مجموعة من المديرين الموهوبين الذين تفوقوا بعد ذلك على المديرين في شركة ويليام بولاي في توفير احتياطي من القيادات المستقبلية؛ وانضم إليهم جيمس فلتشر، الذي كان زميلا لهم في «هيوز» وصار مدير وكالة ناسا فيما بعد؛ كما رحل لويس دان، مدير مختبر الدفع النفاث، عن المختبر لينضم إليهم. وشملت قائمة المنضمين إلى الشركة ريتشارد ديلاور الذي صار وكيل وزارة الدفاع، وجورج مولر الذي أدار برنامج «أبولو» المأهول للهبوط على سطح القمر، وروبن متلر الذي أشرف في النهاية على جميع برامج الدفاع والفضاء في شركة «تي آر دبليو»، وألبرت ويلان الذي صار لاحقا رئيس مجلس إدارة شركة «هيوز إيركرافت» المعاد تنظيمها.
صارت شركة «آر-دبليو» مصدرا لتوفير الموظفين الفنيين إلى مكتب المشروعات التابع للقوات الجوية الذي صار يشرف على تطوير صاروخ «أطلس»، وصارت تقدم أيضا توجيها فنيا للشركات القائمة على برامج التطوير المختلفة، بما في ذلك شركة «كونفير» التي صارت تبني هذه الصواريخ تحت إشراف دقيق. وبحلول عام 1957، صارت شركة «آر-دبليو» تنسق أعمال 220 شركة من الشركات التي تقدم هذه الخدمات؛ وكان هذا دليلا واضحا على أن مشروع الصواريخ الباليستية العابرة للقارات كان حقا مشروعا صعبا للغاية يتجاوز قدرات أي شركة طائرات، حتى في ظل التمويل الوفير من البنتاجون. وتطلب مشروع إنتاج الصواريخ الباليستية العابرة للقارات حشد جانب كبير من قدرات صناعة الطيران والإلكترونيات في أمريكا.
مع تطور أعمال شركة «آر-دبليو» خلال عام 1954، تطورت أيضا إدارة القوات الجوية؛ فقد اقترح جاردنر أن يقود جنرال كبير جهود التطوير ، لكن جيمس ماكورماك - وهو الرجل الذي كان يفكر فيه لتكليفه بهذه المهمة - كان يعاني من نوبة قلبية، ثم سرعان ما تقاعد من الخدمة؛ فانتقلت المهمة بدلا من ذلك إلى نائبه، العميد برنارد شريفر، الذي كان يحمل نجمة واحدة، وتولى مسئولية هذا المشروع ذي الأولوية القصوى، وبدأ في إرسال التقارير إلى الجنرال وايت، الذي كان يحمل أربع نجوم وكان ملاصقا لرئيس الأركان.
كان شريفر قد انضم إلى السلاح الجوي التابع للجيش كقائد طائرة قاذفة خلال ثلاثينيات القرن العشرين؛ ونظرا لهذه الخبرة بالإضافة إلى درجة في الهندسة من جامعة «تكساس إيه آند إم»، ظفر بمنصب في «رايت فيلد»، الذي سرعان ما صار مركز تطوير مشهورا. وأرسلت القوات الجوية شريفر إلى ستانفورد، حيث حصل على ماجستير في الهندسة الميكانيكية في عام 1942، وقضى فترة الحرب في منطقة المحيط الهادئ؛ حيث كان يقود طائرات قاذفة طراز «بي-17» في مهمات قتالية، لكن دراساته في مجال الهندسة أهلته للحصول على مقعد في البنتاجون؛ حيث تمكن من إقامة علاقات بين القوات الجوية والمجتمع العلمي.
سرعان ما جذبت الصواريخ اهتمام شريفر بعد الحرب، وحلت لحظة فارقة في أبريل 1953، عندما أخبره إدوارد تيلر وجون فون نيومان رسميا بأن صنع قنابل هيدروجينية خفيفة الوزن صار أمرا ممكنا. وانضم بعد ذلك إلى الجنرال وايت للمشيرين على فون كارمان بعقد اللجنة المنبثقة عن المجلس الاستشاري العلمي، التي وضعت الخطوط العريضة للإنجاز الذي تحقق في مجال الطاقة الحرارية النووية. وكان من بين كلماته المفضلة هذه الكلمات الثلاث: «العمل»، «الديناميكية»، «القدرة». وقال ذات مرة: «أكره أن أقر بالهزيمة في أي شيء.» كما لو كان ذلك أمرا طبيعيا تماما. وجاء بطريقة غير مباشرة لتولي مسئولية مشروع «أطلس»، فيما قال جنرال آخر: «لم نعينه؛ بل كان هذا مكان بيني الطبيعي. لم نكن نعرف أي شخص آخر يستطيع تولي الأمر؛ لذا لم يكن أمامنا إلا أن وافقنا وجاء بيني وتولى المسئولية.»
في منتصف عام 1954 ذهب إلى لوس أنجلوس لإقامة مكتب مشروعات خاص به، سماه قسم التطوير الغربي، وكان من المقصود أن يكون اسما غامضا. وأقيم المكتب في موقع مدرسة دينية سابقة في إنجلوود، بالقرب من شركة «آر-دبليو»، وكان موظفوه من القوات الجوية، إلا أنهم كانوا يرتدون ملابس مدنية لتفادي لفت الأنظار. وكانت إحدى مهامه الأساسية تتمثل في اختيار الشركات المتعاقدة، وهو أمر سيثبت فيه شريفر أنه مثل سيرجي كوروليف من حيث التشبث برأيه حتى في وجه كبار المسئولين.
كان هذا المسئول هو هارولد تالبوت، قائد القوات الجوية، أحد المعينين من قبل الرئيس، ومدني تخطى جميع الجنرالات. وكان شريفر قد منح أحد العقود لشركة معينة، ونجحت إحدى الشركات المنافسة الخاسرة في إقناع تالبوت بتغيير القرار ومنح العقد لها بدلا من ذلك. ولسوء الحظ، رأى رامو وشريفر أن الشركة لم تكن تتمتع إلا بكفاءة محدودة؛ ومع ذلك، التقى تالبوت بهذين الرجلين، داعيا جاردنر إلى الاجتماع، وأخبر شريفر عما كان يريد.
رفض شريفر، ودعمه في ذلك رامو وجاردنر؛ ومثلما يتذكر رامو: «نظر تالبوت بامتعاض، ثم ثارت ثائرته. كان من المخيف أن تراه يفقد صوابه ويستشيط غضبا إلى هذا الحد، فقد صاح في وجه شريفر - وقد ارتسمت على وجهه نظرة قبيحة - قائلا: «قبل أن ينتهي هذا الاجتماع، أيها الجنرال، سيكون ثمة كولونيل جديد في القوات الجوية».»
ظل شريفر هادئا، وأجاب: «لا يمكنني قبول هذا الأمر؛ لأن لدي أمرا سابقا وأهم. وعندما كلفت بهذه المهمة، وجهت إلي الأوامر بإدارة هذا البرنامج بحيث يتوافر في أقرب وقت ممكن صاروخ باليستي عابر للقارات.» ثم سأل إن كان تالبوت يمانع في إصدار أمر جديد، يكون كتابيا، لخفض أولوية التوجيه السابق.
يواصل رامو متذكرا: «اختفت الحمرة من وجه تالبوت، ثم شحب وجهه. لم يتفوه بأي تعليق وبدأ يحدق في المائدة، وهو ينقر عليها بعنف بواسطة قلم رصاص، ويحاول أن يستجمع شتات نفسه. وفي لحظات قليلة، عاد وجهه إلى طبيعته؛ وبكلمات مقتضبة للغاية قال إن قرار إرساء العقد سيظل كما هو. وبذلك، يكون شريفر قد نجح في اختبار مهم؛ لو استسلم ، لكان سيحتفظ بوظيفته لكنه كان سيفقد السيطرة على المشروع؛ وصار الآن مسيطرا على المشروع سيطرة كاملة.»
8
وهكذا، فقد احتفظ بوظيفته ورتبته أيضا.
كان شريفر يحتاج إلى هذا العناد لمواجهة التحديات الفنية، التي لم تكن مسبوقة في شدتها. وكانت عملية التوجيه غاية في الصعوبة؛ ففي أكتوبر 1954 توقعت هيئة الطاقة الذرية أن القنابل التي تزن ما بين 1500 و1700 رطل قد تخلف آثارا انفجارية تصل إلى ميجا طن كامل؛ ونجح «أطلس» بذلك في تقليص شرط مسافة إخطاء الهدف لتصل إلى خمسة أميال بحرية. ولكن إذا كان الصاروخ «أطلس» سيستخدم تكنولوجيا «في-2» في عملية التوجيه، فسيخطئ «أطلس» في إصابة موسكو بمقدار 150 ميلا، وهو ما كان أسوأ خمسمائة مرة من خطأ إصابة قاذفة مقداره 1500 قدم.
كان من الممكن أن يقل هذا الفرق الهائل في مستوى الدقة المطلوبة قليلا، إذا كان تقرير لجنة «تي بوت» قد خفف من صرامة شرط مسافة إخطاء الهدف ليصبح 3000 أو 4000 قدم بدلا من 1500 قدم؛ إذ يتساوى كلا الهدفين، مسافة 1500 قدم ومسافة 4000 قدم، في كونهما غير قابلين للتحقيق، وهو ما كان سيؤجل تنفيذ مشروع الصاروخ «أطلس» لسنوات طويلة قادمة. وبدا أن هدف خمسة أميال قدم أكثر قابلية للتحقيق، وهو ما منح المصممين هدفا جديرا بالسعي إلى تحقيقه. ومع ذلك، في عام 1954 كان هذا الهدف يشكل موضوعا للبحث أكثر من كونه هدفا يستطيع أي شخص تحقيقه.
لماذا لم تكن عملية التوجيه دقيقة؟ اعتمدت عملية التوجيه على بوصلات التوجيه الجيروسكوبية، التي كانت تتضمن عجلة تدور بسرعة وزنها عدة أرطال، وكان يتعين أن تكون حركة الأجزاء المكونة للعجلة على نفس المستوى من السرعة، وكانت هذه الأجزاء تنقل قوى الحركة إلى العجلة؛ مما يجعلها تنحرف عن اتجاهها الصحيح. وللتخلص من هذه القوى، كان لا بد من البحث عن طريقة لتركيب عجلة بوصلة جيروسكوبية باستخدام تروس بينية دقيقة، كالتروس الموجودة في ساعة المعصم؛ وقد تولى تشارلز ستارك درابر، أستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، هذا الأمر.
أحاط درابر بوصلة التوجيه الجيروسكوبية الثقيلة بعبوة، وجعل هذه العبوة المحكمة الغلق تطفو داخل سائل سميك القوام، وكانت البوصلة موضوعة داخل العبوة على حامل متحرك حال دون انحرافها عن مسارها. كان من الممكن أن يحول هذا الأمر البوصلة إلى أداة معدومة الفائدة، غير أن السائل جعل العبوة تطفو، ومن ثم تدعم وزن البوصلة؛ ومن ثم استطاعت البوصلة الدوران على محامل رفيعة، لا تحملها، وكانت غاية في الحساسية.
كان درابر قد استخدم هذه البوصلات الجيروسكوبية الطافية أثناء الحرب، في نظام ثابت للتحكم في الإطلاق. ولتحقيق متطلبات الدقة اللازمة في الصاروخ «أطلس»، كان عليه أن يتخلص من جميع مصادر الخطأ بعناية؛ وكان يتعين تسخين السائل، بحيث يتمدد قليلا ويصبح أقل قابلية للطفو، لتقليص وزن العبوة المحمل على التروس إلى صفر. وبالإضافة إلى ذلك، تطلبت البوصلات المناسبة إيلاء قدر أكبر من الاهتمام لعملية التخلص من الغبار.
نشرت مجلة «تايم»، مشيرة إلى مصنع صواريخ «فالكون»، قائلة: «لا يسمح بوجود أي ذرة غبار؛ فالهواء يتجدد عن طريق مراوح وفلاتر كل تسع دقائق، ويراعى الحفاظ على ضغط هواء إيجابي داخل المبنى بحيث يصدر أي تسرب هوائي إلى الخارج، لا إلى الداخل. ولا يسمح للمهندسين في غرفة التصميمات بتمزيق ورق أو استخدام ممحاة (فكلاهما يصدر غبارا)، ويتعين على جميع الموظفين ارتداء معاطف من النايلون».
9
ولم يكن يسمح للنساء بوضع أي مساحيق أثناء العمل، وكان يتعين على الأشخاص الذين يعانون من حروق شمسية مصحوبة بتقشر في الجلد البقاء خارج الغرفة النظيفة.
بالإضافة إلى ذلك، كان أي نظام توجيه في حاجة إلى كمبيوتر، لتلقي الإشارات من وحدات بوصلة التوجيه وتحويلها إلى قياسات دقيقة للموضع والسرعة. وكان أي كمبيوتر تناظري سيفي بالغرض، من خلال معالجة الإشارات مباشرة؛ إذ كان يمكن تفادي استخدام كمبيوتر رقمي، وهو أمر كان يحتاج في عام 1954 إلى كمية كبيرة من دوائر الأنابيب المفرغة. ومع ذلك، ظل السؤال هو: هل يجب بقاء الكمبيوتر على الأرض أم يتعين وضعه على متن مركبة؟
كان وضع جهاز الكمبيوتر في قاعدة أرضية يعني أنه سيظل ثقيل الوزن ودقيقا، بمنأى عن الاهتزازات والضوضاء الهائلة التي تحدث في الصاروخ. ولكن، كان من المفترض أن يتبادل الكمبيوتر البيانات مع الصاروخ أثناء تحليقه باستخدام حلقة اتصال لاسلكية، وهو ما كان يتطلب ما وصفه شريفر بأنه «محطة أرضية هائلة عرضة للهجوم». أما وضع جهاز الكمبيوتر على متن الصاروخ، فكان يتطلب أن يكون خفيف الوزن ومتينا، وهو ما لن يجعل ثمة حاجة إلى حلقة اتصال لاسلكية ومحطة أرضية؛ مما سيوفر في الواقع نظام توجيه قائما بذاته، غير معرض للتعطل أو الانقطاع.
وفر نظام التوجيه اللاسلكي نظاما مؤقتا؛ حيث كان أسهل في إنشائه. إلا أن درابر أيد بقوة الاعتماد على الأسلوب الثاني، وهو التوجيه بالقصور الذاتي، وأعارته القوات الجوية قاذفة طراز «بي-29». وفي عام 1949 بدأ في إجراء عمليات إطلاق تجريبية من قاعدة قرب بوسطن، وكان طاقم الإطلاق يقف على مقربة بينما كانت الأجهزة تجري عملية التوجيه. وأظهرت رحلات الطيران التي أجريت لمسافة 1800 ميل، خلال عام 1955، أخطاء طفيفة في إصابة الهدف بما لا يزيد عن ميلين. وكان وزن الأجهزة على متن الصواريخ 2700 رطل، لكنها أثبتت إلى حد كبير ما يمكن تنفيذه. بالإضافة إلى ذلك، استغل درابر كونه أستاذا جامعيا في تكوين «مافيا توجيه» من طلابه السابقين، الذين اتفقوا على أن أسلوبه هو الأفضل، وارتقى كثيرون من هؤلاء الطلاب إلى مناصب عليا ومؤثرة، وكان من بينهم الضابط المسئول عن التوجيه لدى شريفر؛ المقدم بول بلاسنجيم.
كانت عملية التوجيه تمثل مشكلة رئيسية، وكانت ثمة مشكلة أخرى تتمثل في معاودة الولوج إلى المجال الجوي؛ إذ كان من المفترض أن تدخل الرأس الحربية المجال الجوي بسرعة 16 ألف ميل في الساعة، عقب رحلتها الباليستية، وكان يجب أن تحافظ على مسارها لبلوغ هدفها دون أن تحترق عن آخرها مثل النيزك. وفي وقت مبكر يعود إلى عام 1953، أثبت خبيران في مجال ديناميكا الهواء - هما جوليان ألين وألفريد إجرز - من خلال الرياضيات أن المقدمة المخروطية للصاروخ يمكن أن تتفادى الاحتراق الكامل إذا كان تصميمها غير مستدق الطرف. وكان هذا الاكتشاف مفاجئا؛ إذ كانت ثمة رؤية شائعة في ذلك الوقت تنادي بأن تكون التصميمات المخروطية لمقدمات الصواريخ مستدقة الطرف للغاية، بما يشبه الأشكال الإبرية الدقيقة الرأس للمقاتلات النفاثة الحديثة. ولكن، لم تكن ثمة حاجة إلى الشكل المستدق الطرف في الرأس الحربية؛ حيث لم تكن في حاجة إلا إلى درع حراري، ومن خلال هذا الدرع كان الصاروخ سيعاود الولوج إلى المجال الجوي مخترقا إياه بسلاسة مثلما يسير قطار بضائع على قضبان حديدية، وسيعمل الهواء المضغوط الذي يتجمع أمام مقدمة الصاروخ غير المستدقة الطرف، كغطاء عازل وسيحول دون وصول كثير من الحرارة إلى جسم الصاروخ.
مع ذلك، لم تكن هذه إلا بداية فقط، وكان الباحثون في حاجة إلى إجراء تجارب تحاكي عملية معاودة الولوج إلى المجال الجوي مباشرة في مختبراتهم. وفي جامعة كورنيل، قاد عالم الفيزياء آرثر كانتروويتز جهود التطوير باستخدام جهاز بسيط اسمه الأنبوب الصدمي؛ وهو يتألف من غرفة ممتلئة بمادة متفجرة عبارة عن مزيج من الهيدروجين والأكسجين، ويفصلها عن غرفة مجاورة غشاء معدني رفيع، ولها مقدمة مخروطية صغيرة مفرغة من الهواء. وكان إشعال المزيج يؤدي إلى تفجير الغشاء؛ وهو ما يؤدي إلى إرسال دفعة من الغاز عبر الصاروخ بالسرعات ودرجات الحرارة الفعلية عند عملية معاودة الولوج إلى المجال الجوي. ولم يكن تدفق الغاز يستمر أكثر من واحد على ألف من الثانية، لكن الأجهزة ذات السرعات العالية كانت تجري القياسات الملائمة، وهي قياسات تحدد الظروف التي كانت الرأس الحربية تواجهها.
سعت اختبارات أخرى إلى إثبات أن المقدمات المخروطية للصواريخ كانت تستطيع في حقيقة الأمر تحمل هذه الظروف. وفي عدد من أبسط التجارب، وضع الباحثون نماذجهم الصاروخية وسط عادم أحد الصواريخ. ولم تكن هذه الصواريخ ساخنة بما يكفي، وكان ثمة أسلوب أفضل يعتمد على أداة جديدة، هي النفق القوسي، وهذا النفق عبارة عن نفق هوائي تفوق سرعته سرعة الصوت؛ حيث يمر تدفق الهواء العالي السرعة خلال قوس كهربي مشتعل، تكفي شدة تياره لإضاءة مدينة بأكملها. وكانت درجة حرارة الهواء تصل إلى 14 ألف درجة فهرنهايت؛ حيث كان الهواء يتسبب في اندفاع عينات المواد الموجودة بسرعة.
لمعرفة المزيد، رتب الكولونيل إدوارد هول عمليات إطلاق تجريبية على متن صاروخ وقود صلب جديد، هو «إكس-17»، وكان هول قد انضم إلى فريق شريفر بوصفه ضابط دفع، واتفق مع شركة «لوكهيد» على بناء الصواريخ. كانت هذه الصواريخ ثلاثية المراحل، يدفع صاروخ المرحلة الأولى الصواريخ إلى ارتفاع يتجاوز طبقة الغلاف الجوي، وبعد ذلك - بينما تكون الصواريخ في طريقها للهبوط - ينطلق صاروخا المرحلتين الثانية والثالثة؛ مما يزيد من سرعة المقدمة المخروطية إلى أقصى سرعة ممكنة.
أدت هذه التجارب إلى تطوير نماذج أولية أدت بدورها إلى تصميم المقدمة المخروطية في صورة قطعة صلبة من النحاس، كان من المنتظر أن تمتص الحرارة دون أن تنصهر. لكن هذه الدروع الحرارية كانت ثقيلة الوزن؛ مما حدا بجورج ساتن - وهو فيزيائي في شركة جنرال إلكتريك - إلى وضع أسلوب أفضل. وللمفارقة، فقد اقترح ساتن أن تحترق المقدمة المخروطية مثل النيزك، لكن على نحو خاضع للسيطرة، وبدلا من النحاس، استخدمت طبقة خفيفة الوزن من البلاستيك المقوى لتغطية الرأس الحربية. وكان من المنتظر أن يحترق السطح الخارجي ويتبخر خلال عملية معاودة الولوج إلى الغلاف الجوي، حاملا الحرارة بعيدا بدلا من امتصاصها، بينما تشكل الأبخرة الناتجة طبقة واقية باردة. وصارت هذه المقدمات المخروطية «الانفصالية» هي النوع القياسي المستخدم في تصميم مقدمات الصواريخ.
ظل شريفر يراقب هذه التطورات عن كثب، واتخذ قرارات مهمة بصفة شخصية في الجمعة السوداء؛ وكان هذا يحدث مرة واحدة شهريا، عندما كان أعضاء الفريق يقدمون عروضا حول مشروعات محددة ويعرفون بوضوح من كانوا يتخلفون عن الركب، وهو أمر كان يثير في كثير من الأحيان الغضاضة والألم في نفوس البعض. وفي حال وجود موضوع يستدعي اتخاذ قرار بشأنه، كان شريفر - الذي قرأ التقارير ذات الصلة - يدع الآخرين يدلون بدلوهم ثم يصدر قراره؛ فقد كانت لديه سلطة تناسب مسئوليته، ولم يتوان في استخدامها.
ولإحراز تقدم بأقصى سرعة، لم يلتزم شريفر وجاردنر بالممارسات المعتادة في منح عقود «أطلس» الكبرى لشركات محددة؛ فقد كان من المنتظر أن تفضي هذه الممارسات إلى اختيار «نورث أمريكان أفايشن» باعتبارها الشركة الحصرية التي تفوز بعقود محركات الصواريخ، وهو ما بدا مثل وضع البيض كله في سلة واحدة. وفي وقت مبكر يرجع إلى أغسطس 1954، في ظل شكوك اللجنة الاستشارية العلمية، سعى شريفر نحو الاستعانة بشركة «إيروجت جنرال» كشركة أخرى بديلة.
كانت الممارسات الجديدة، المعروفة باسم التطوير المتوازي، تعتمد على خبرة سابقة في مجال تطوير الأسلحة النووية، وكانت هذه الممارسات تتخذ إجراءات احترازية ضد أي تأخير من جانب أية شركة متعاقدة، مع تشجيع المنافسة بين الشركات المتعاقدة التي قد تسهم في الإسراع من إيقاع تنفيذ الأعمال. واختار شريفر أيضا شركات لتنفيذ مكونات كبرى أخرى في المشروع؛ فاختيرت شركتا «جنرال إلكتريك» و«بيل لابس» لتصميم نظام التوجيه اللاسلكي، وشركة «إيه سي سبارك بلاج» ومجموعة أخرى من الهيئات - من بينها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا - لتصميم نظام توجيه بالقصور الذاتي، وشركتا «جنرال إلكتريك» و«أفكو إيفريت» لتصميم مقدمات الصواريخ المخروطية، و«بوروز آند رمينجتون راند» لتوفير الكمبيوتر الذي كان سيعالج الإشارات.
كان منتقدو هذا الأسلوب ينظرون إليه باعتباره تكرارا فيه إهدار للموارد، لكن شريفر كان يعلم أن الهدر الحقيقي كان سيحدث في حال اعتماد «أطلس» على شركة متعاقدة واحدة لإنتاج عنصر مهم واحد، ثم تأخرت الشركة في مواعيد التسليم. وإذا حدث ذلك، فربما كان سيتوقف البرنامج بأسره إلى حين حل هذه المشكلة. أما عملية التطوير المتوازي، فضمنت وجود شركة متعاقدة ثانية ربما تقدم مواعيد تسليم أقرب؛ كما أن النظم التي تطرحها أي من الشركتين قابلة للتبادل حيث يمكن إحلال إحداها محل الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، كان التطوير المتوازي سيوسع من قاعدة الشركات المؤهلة لتنفيذ مشروعات صواريخ مستقبلية، وهو ما سيدفع نمو صناعتها.
خلال عام 1955، بلغت ممارسة أسلوب التطوير المتوازي ذورتها من خلال الموافقة على مشروع ثان كامل لتصميم صواريخ باليستية عابرة للقارات، وهو مشروع «تايتان». فازت شركة «مارتن» - التي تولت بناء صاروخ «فايكنج» - بالعقد؛ مما وضعها على قدم المساواة مع شركة «كونفير»، واشتركت نفس الشركات المتعاقدة الأساسية التي كانت تبني النظم الرئيسية في الصاروخ «أطلس» في بناء النظم الرئيسية في الصاروخ «تايتان» أيضا. وقسم شريفر هذه الشركات إلى مجموعتين، بحيث تتولى كل مجموعة منهما أحد مشروعي الصواريخ الباليستية العابرة للقارات:
أطلس
تايتان
الإطار الخارجي
كونفير
مارتن
نظام التوجيه اللاسلكي
جنرال إلكتريك
بيل لابس
نظام التوجيه بالقصور الذاتي
إيه سي سبارك بلاج
أمريكان بوش أرما معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا
محركات الصاروخ
نورث أمريكان
إيروجت جنرال
المقدمة المخروطية
جنرال إلكتريك
أفكو إيفريت
الكمبيوتر
بوروز
رمينجتون راند
وهكذا، خلال عامي 1954 و1955، كان السوفييت والولايات المتحدة قد بدآ سباقا نحو الهاوية، في سعيهما إلى بناء الصواريخ العابرة للقارات التي يمكنها أن تدمر العالم. كانت موسكو تمتلك صاروخي «كروز» يعملان بمحرك نفاث ذي دفع هوائي، وهو ثمار جهود مياسشتشيف ولافوتشكن، فضلا عن صاروخ كوروليف الباليستي العابر للقارات؛ «آر-7». في حين كانت الولايات المتحدة تمتلك مشروعي صواريخ باليستية عابرة للقارات، فضلا عن الصاروخ «نافاهو» الذي كان يعمل بمحرك نفاث ذي دفع هوائي. وبدأ كلا البلدين في إجراء اختبارات إطلاق مبدئية لصواريخ «كروز»، ثم ما لبثا أن توقفا عن إجراء التجارب عليها، عندما صار واضحا أن الصواريخ الباليستية العابرة للقارات ستنجح.
بالإضافة إلى ذلك، كان ثمة بعض أوجه التشابه بين التصميمات الأساسية للصاروخين «أطلس» و«آر-7»، التي تجعلهما يبدوان كما لو كانا نموذجين يجري تطوريهما بالتوازي؛ فكلا الصاروخين مصمم بأسلوب «المرحلة ونصف المرحلة»، وجميع المحركات تدور عند الإطلاق. وكلاهما يتضمن مركبة أساسية ذات محرك واحد، تحوطها محركات إضافية معززة تسقط أثناء التحليق. وكان كلا الصاروخين يستخدم محركات جديدة تعمل بالكيروسين، وهو ما مثل بالنسبة إلى كلا البلدين النموذج الأول من محركات الصواريخ الكبيرة التي تخلت عن استخدام الكحول كوقود، والذي يرجع تاريخ استخدامه إلى نموذج الصاروخ «في-2». وحصل المشروعان على الموافقة في مايو 1954، وبعدها بثلاث سنوات، كان من المنتظر أن تجرى أولى اختبارات الإطلاق للصاروخين «أطلس» و«آر-7» بفارق أسابيع قليلة أحدهما عن الآخر. وبعد عمليات إطلاق أولية فاشلة، انطلق كلا الصاروخين بنجاح في عام 1957.
كانت ثمة أوجه اختلاف أيضا على الرغم من ذلك، ولعل أبرزها أن كوروليف لم ينتظر تحقيق تقدم في مجال الطاقة الحرارية النووية في بلاده، ومضى قدما بأسرع ما أمكنه، ولم يكن من قبيل المصادفة أن الصاروخ «آر-7» الذي يحتوي على خمسة محركات كان يشبه نموذج الصاروخ «أطلس»، المصمم عام 1951، الذي كان يحتوي على سبعة محركات. كان تصميم الصاروخ «أطلس» الجديد متواضعا في حقيقة الأمر؛ فهو عبارة عن صاروخ مكون من ثلاثة محركات تزن إجمالا 240 ألف رطل، وفقا لأحد تصميمات النموذج الموضوعة في أواخر عام 1954. وكان وزن الصاروخ «آر-7» أثقل بمقدار مرتين ونصف. بالإضافة إلى ذلك، سعى كوروليف إلى وضع خطة تطوير أكثر طموحا تقوم على فكرة إطلاق الصاروخ «آر-7» أولا بمفرده وبكامل مداه، ثم استخدام الصاروخ لإطلاق أقمار صناعية؛ وترتبت آثار مهمة على أوجه الاختلاف هذه بين الصاروخين.
الفصل الرابع
منتصف خمسينيات القرن العشرين
المركبة الفضائية ما بين التخطيط والتصور
أحسن السوفييت استخدام جواسيسهم في بناء قنبلتهم النووية، وبعدها بعشر سنوات استعدت الولايات المتحدة لرد الصاع صاعين؛ حيث كان احتمال استخدام الصواريخ الباليستية العابرة للقارات قد أثار أفكارا طموحة لاستخدام الفضاء كموقع مثالي لإجراء عمليات الاستطلاع العسكرية. وكان بمقدور الأقمار الصناعية في مداراتها أن تخترق جدار السرية في موسكو، بما يكشف عن استعداداتها للحرب. وكانت هذه الخطط غاية في السرية، إلا أنه نظرا للاهتمام العام القوي بالصواريخ الجديدة، فقد تسابق عدد من الكتاب للتنبؤ بغزو الفضاء؛ وكان أحد أبرز هؤلاء ويلي لي، مؤلف كتاب «الصواريخ، والقذائف الصاروخية، ورحلات الفضاء».
في أحد الأيام في ربيع 1951، تناول لي الغداء مع روبرت كولز، رئيس مجلس إدارة مرصد هايدن في مانهاتن، وأشار لي إلى أن الاهتمام بالملاحة الفضائية يزداد بقوة في أوروبا؛ إذ كان قد عقد مؤتمر دولي في باريس خلال شهر أكتوبر الماضي، اجتذب أكثر من ألف شخص؛ ومع ذلك، لم يكن بين الحاضرين أحد من الولايات المتحدة، وهو ما كان يعني أن الأمريكيين سيتعين عليهم تنظيم مؤتمر مماثل. وأجاب كولز قائلا: «لتفعل إذن، المرصد في خدمتك.»
شرع لي في الإعداد لمؤتمر عقد في يوم كولومبس، وكان حضور المؤتمر لمن وجهت إليهم الدعوة فقط؛ فقد أرسلت بعض الدعوات إلى صحفيين، وكان من بين الحاضرين صحفيون من مجلة «كوليرز»، وهي مجلة تبلغ قاعدة قرائها عشرة ملايين قارئ. وبعد أسبوعين من عقد المؤتمر، نشر مدير تحرير المجلة - جوردون ماننج - خبرا قصيرا حول مؤتمر قادم تعقده القوات الجوية في سان أنطونيو، حول الجوانب الطبية للرحلات الفضائية. وأرسل ماننج مساعد محرر، يدعى كورنيليس ريان، لتغطية المؤتمر وليرى إن كان الأمر يصلح لأن يصير خبرا صحفيا قابلا للنشر.
لم يكن ريان مهتما بالفضاء، وإن كان صحفيا شديد التدقيق، مثلما اتضح من خلال كتابه «اليوم الأطول»، وخلال المؤتمر أعجب أيما إعجاب بفون براون، الذي استطاع من خلاله مهارته في الإقناع إقناع أدولف هتلر نفسه. عرض فون براون فكرته أثناء حفلات الكوكتيل، وعلى مائدة العشاء، ثم أثناء حفلات الكوكتيل التي أعقبت ذلك. وركزت الفكرة على إنشاء محطة فضائية مأهولة، وصرح فون براون بإمكانية الانتهاء من هذه المحطة وتشغيلها بحلول عام 1967.
كان مفهوم إنشاء هذه المحطات يعود إلى عام 1897 على الأقل، عندما وصف كورد لاسفيتس - أحد مؤسسي قصص الخيال العلمي - المحطات الفضائية بأنها مفتاح السفر عبر الفضاء. وعدد هيرمان أوبيرت، في كتابه الذي صدر عام 1923؛ «الصاروخ في عالم الفضاء بين الكواكب»، استخدامات المحطة الفضائية قائلا:
من المتوقع أن تتمكن (المحطة الفضائية) من خلال معداتها الفعالة من رؤية تفاصيل دقيقة على الأرض. وبما أن المحطات الفضائية تستطيع - على افتراض أن السماء صافية - أن تحدد شعلة شمعة ليلا، وانعكاس ضوء على سطح مرآة يدوية نهارا؛ فمن المنتظر أن تستطيع الحفاظ على عمليات الاتصال بين البعثات ووطنها، وبين المستعمرات البعيدة ووطنها الأم، وبين السفن في البحار. ستستطيع هذه المحطات تحديد موضع كل جبل جليدي وإرسال رسائل تحذيرية إلى السفن. ولعله كان من الممكن تفادي كارثة سفينة تايتانك التي وقعت عام 1912 باستخدام تلك الوسيلة.
يمكن أيضا استخدام محطة الرصد كمحطة تزود بالوقود، ويمكن تخزين الهيدروجين والأكسجين - في حال حمايتهما من أثر الإشعاع الشمسي - لأي فترة في حالتهما الصلبة. وإذا جرى توصيل كرة ضخمة من معدن الصوديوم، بعد تركيبها وملئها بالوقود في مدار المحطة، عن طريق صاروخ صغير متين التصميم يستمد الوقود من المحطة؛ فستكون لدينا مركبة فعالة تستطيع بسهولة الطيران إلى كوكب آخر.
1
بعدها بست سنوات، في عام 1929، وصف مهندس نمساوي كان يكتب باسم هيرمان نوردونج الشكل الذي من المحتمل أن تكون عليه المحطة الفضائية. قدم نوردونج الشكل الكلاسيكي المتمثل في عجلة دوارة، تدور ببطء لتوفير جاذبية مصطنعة، مع وجود محبس هوائي عند مركز العجلة. ولتوفير طاقة كهربية، كانت المرايا الشمسية تركز ضوء الشمس على أنابيب الغلاية، لتشغيل نوع من المحرك البخاري.
انطلق فون براون من هذه الأفكار وطورها كثيرا، وكان من المقرر أن يبلغ قطر محطة نوردونج الفضائية مائة قدم، بينما كانت محطة فون براون أكبر بمقدار مرتين ونصف، وقادرة على حمل طاقم من ثمانين شخصا، ويتضمن هذا الطاقم رواد فضاء يباشرون تشغيل تليسكوب ضخم. وكان من المنتظر أن يدرس علماء الأرصاد الجوية، وهم ينظرون صوب الأرض، تكوينات السحب وأنماطها، وأن يتنبئوا بحالة الطقس.
في سبيل تلبية احتياجات الحرب الباردة، أكد فون براون على استخدام المحطة لأغراض الاستطلاع العسكري. وصرح فون براون أيضا بإمكانية استخدام المحطة كطائرة قاذفة تحلق على ارتفاعات شاهقة؛ حيث تلقي بالأسلحة النووية بدقة بالغة. ولبناء هذه المحطة، طالب فون براون ببناء أسطول من صواريخ نقل مأهولة، يزن كل منها سبعة آلاف طن، وهو ما يعادل وزن خمسة صواريخ من طراز «في-2». ولكن، كان من المنتظر أن تبلغ تكلفة البرنامج بأكمله - بما في ذلك الصواريخ والمحطة وكل شيء - 4 مليارات دولار أمريكي؛ أي ضعف ميزانية مشروع «مانهاتن».
كان من المفترض أن تستخدم المحطة الفضائية بمجرد الانتهاء منها واكتمالها كنقطة تجميع لبرنامج استكشافي طموح، وكان سيجري إرسال طاقم في رحلة مبدئية تدور حول القمر، لالتقاط صور لجانبه البعيد غير المرئي. وفي وقت لاحق، ربما بحلول عام 1977، حمل أسطول مؤلف من ثلاثة صواريخ طاقما من خمسين شخصا إلى باي أوف ديو؛ حيث ظلوا في الفضاء لمدة ستة أسابيع كانوا يتنقلون خلالها على نطاق واسع في مركبات متحركة. وفي نهاية الأمر، ربما لم يحدث إلا بعد قرن من الزمان أن نقلت بعثة فضائية أكثر جرأة رواد فضاء إلى كوكب المريخ.
بنهاية الأمسية، كان فون براون قد ظفر بتابع آخر هو ريان، الذي صار يعتقد الآن أن الرحلات الفضائية المأهولة لم تكن ممكنة فحسب، بل وشيكة أيضا؛ وعند عودته إلى نيويورك، أقنع ريان ماننج بأن الأمر لا يستحق مقالا واحدا فقط، بل سلسلة مطولة من المقالات قد تمتد إلى ثمانية أعداد من المجلة. دعا ماننج فون براون للمجيء إلى مانهاتن لإجراء مقابلات ومناقشات، بالمشاركة مع عدة خبراء آخرين، وكان من بين هؤلاء الخبراء ويلي لي، ورائد الفضاء فريد ويبل من هارفرد، الذي كان يعرف الكثير عن القمر وكوكب المريخ، وهاينز هابر، الخبير في القوات الجوية في مجال طب الفضاء الناشئ.
اهتمت مجلة «كوليرز» كثيرا - عند إعدادها لمقالاتها - بالحصول على أفضل الرسومات الملونة الممكنة، وكان من بين فناني المجلة تشيسلي بونستل، الذي أسس مجال فن الفضاء من خلال عرض تصورات متخيلة للكواكب عند رصدها عن قرب من الأقمار الصناعية القريبة. وأعد فون براون تصميمات ورسومات هندسية للصواريخ والمركبات الفضائية، استخدمها بونستل والفنانون الآخرون في وضع رسوم ملائمة في مقاله، ولم يقدموا الرسومات في صورتها النهائية إلا بعد تلقي تصويبات فون براون وتعليقاته عليها.
ظهرت السلسلة الأولى من المقالات في مارس 1952، وكانت صورة الغلاف عبارة عن صاروخ نقل لحظة مغادرة الغلاف الجوي، فوق المحيط الهادئ. وكان عنوان الغلاف يقول: «قريبا، سيغزو الإنسان القمر»، ويليه عنوان فرعي يقول: «كبار العلماء يشرحون السبيل إلى ذلك في 15 صفحة مدهشة». وداخل العدد، أشارت مقالة افتتاحية إلى حتمية غزو الإنسان للفضاء، وقدمت «تحذيرا عاجلا بأن الولايات المتحدة يجب أن تبدأ على الفور في وضع برنامج تطوير طويل المدى لضمان «التفوق الفضائي» للغرب.»
ظهرت سلسلة المقالات بينما كان ويلي لي يصدر طبعات جديدة ومحدثة من كتابه «الصواريخ ، والقذائف الصاروخية، ورحلات الفضاء». بالإضافة إلى ذلك، خلال عام 1951 نشر آرثر سي كلارك كتاب «استكشاف الفضاء»، الذي وقع عليه الاختيار من جانب نادي كتاب الشهر. لكن، رسمت مقالات مجلة «كوليرز» المسار. وفي أواخر 1952، نشرت مجلة «تايم» خبر الغلاف حول أفكار فون براون. ثم دخل والت ديزني في دائرة الأحداث؛ حيث هاتف لي من مكتبه في بربانك بكاليفورنيا، وكان ديزني يبني مدينة ديزني لاند، وهي مدينة ملاه في أناهايم، وكان من المنتظر أن يعلن عنها من خلال عرض برنامج تليفزيوني أسبوعي يحمل هذا الاسم على شبكة «إيه بي سي». وبمساعدة فون براون، أنتج ديزني فيلم «الإنسان في الفضاء»، وهو فيلم روائي مدة عرضه ساعة واحدة، بدأ العرض في أكتوبر 1954، وأعيد عرضه مرات ومرات، وأشارت الهيئات المختصة بتقدير حجم الجمهور إلى أن عدد المشاهدين بلغ اثنين وأربعين مليون شخص.
ظهر تأثير سيناريو فون براون بقوة خلال العقود التي أعقبت ذلك؛ حيث حددت مجلة «كوليرز» جدول أعمال ناسا للرحلات الفضائية المأهولة. وترددت كثيرا أصداء برامج الصواريخ المأهولة في مشروعات ناسا وخططها، وكان من بين تلك البرامج - على سبيل المثال - الصاروخ «ساتورن 5»، ومشروع بناء مركبة فضائية وعمليات الإنزال المأهولة على سطح القمر، ومشروع بناء محطة فضائية كبرى وإطلاق مركبة فضائية إلى المريخ لاحقا. ومع ذلك، بالنظر إلى جانب مهم فيها، سرعان ما صارت المحطة الفضائية - التي كانت جوهر الأمر برمته - مسألة عفا عليها الدهر.
تأصل مفهوم المحطة الفضائية في كتابات أوبيرت ونوردونج، في وقت كانت التكنولوجيا المفيدة الوحيدة في مجال الإلكترونيات هي الراديو. ركز هذا المفهوم على الرؤية القائلة بأنه ما دام الفضاء يفتح المجال أمام أنشطة مفيدة مثل عمليات الاستطلاع والرصد الجوي والاتصالات وعلم الفلك، فإن هذه الأنشطة جميعها سوف تعتمد على رواد الفضاء في تنفيذها؛ ومن ثم، كان من المنطقي أن يعيش رواد الفضاء معا في المحطات الفضائية، التي كان تصميمها يركز بالضرورة على تحقيق راحتهم.
في حقيقة الأمر، كانت استخدامات الفضاء ستعتمد بصورة كاملة تقريبا على المركبات الفضائية غير المأهولة؛ حيث يلعب رواد الفضاء أدوارا هامشية فقط. ولم يتوقع فون براون هذا، وكان على أتم الاستعداد لتصور قمر صناعي مجهز غير مأهول؛ «محطة فضائية صغيرة»، تحمل كاميرا تليفزيونية فضلا عن قرد صغير، لاختبار الآثار الطبية للأشعة الكونية وانعدام الوزن. ولكن، لم تكن هذه سوى بداية، وكانت الجهود الحقيقية تتمحور حول المحطة الفضائية، بمن عليها من طاقم عدده ثمانون شخصا يعملون بكل جد.
لكن، في حين كان برنامج فون براون الطموح لإرسال محطة فضائية مأهولة يظهر على أغلفة المجلات وفي التليفزيون، كانت ثمة جهود عديدة أقل صخبا تضع الأساس لإطلاق مركبات فضائية غير مأهولة؛ ففي القوات الجوية، برزت شركة «راند» بعد الحرب مباشرة بوصفها مركزا مهما للنشاط البحثي. تأسس هذا المركز البحثي في أواخر عام 1945، ثم سرعان ما شرع في إصدار التقارير السرية التي كان لها أبلغ التأثير. وفي مايو 1946، بعد بضعة أشهر فقط من تصريح فانفار بوش بأن الصواريخ الباليستية العابرة للقارات أمر مستحيل، رأى مجموعة من الباحثين في شركة «راند» أن من الممكن أن تنجح صواريخ أكثر قوة من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات في إطلاق أقمار صناعية.
ركز التقرير، الذي صدر تحت عنوان «التصميم الأولي لمركبة فضاء تجريبية تدور حول العالم»، على احتمال الدوران حول مدار فضائي بحمولة معدات زنة 500 رطل. وكان من المنتظر أن تكون هذه المركبة الفضائية أصغر كثيرا، سواء أكانت تتعلق بالرحلات الفضائية المأهولة أم بطائرة تحمل قنبلة ذرية، وهو ما أثار السؤال حول طبيعة استخداماتها، التي كان من بينها استخدامات غير عسكرية مثل الاتصالات ورصد أنماط تشكل السحب، والبحوث الطبية البيولوجية في ظل انعدام الجاذبية. بالإضافة إلى ذلك، أشار لويس ريدنور - الذي صار كبير علماء القوات الجوية لاحقا - إلى أن الصور التليفزيونية الضبابية ربما تكون ذات قيمة عسكرية، قائلا: «إن تحديد نقاط التصادم للقنابل التي نلقيها ورصد الأحوال الجوية فوق أراضي العدو ربما يكونان أهم نوعين من عمليات الرصد التي يمكن إجراؤها من خلال الأقمار الصناعية.»
قدم عالم آخر، يدعى ديفيد جريجز، نبوءة تستحق الإشارة إليها بشيء من التفصيل، وهي كالآتي:
على الرغم من أن الكرة البلورية غائمة لا تفصح عن شيء، فإنه يبدو أن ثمة أمرين واضحين: (1)
من المتوقع أن يصير نموذج القمر الصناعي المجهز بالمعدات اللازمة إحدى أقوى الأدوات العلمية في القرن العشرين. (2)
سيكون صنع قمر صناعي من قبل الولايات المتحدة بمنزلة إنجاز يؤدي إلى إشعال خيال الإنسانية، وربما يسفر عن تداعيات في العالم مماثلة لتداعيات انفجار القنبلة الذرية.
سيعترف بالدولة التي تحقق إنجازات مهمة في مجال رحلات الفضاء باعتبارها رائدة العالم في الأساليب العسكرية والعلمية. ولكي نتصور هذا الأثر على العالم، يمكن للمرء أن يتخيل حجم الامتعاض والإعجاب الذي سيثار هنا إذا اكتشفت الولايات المتحدة فجأة أن دولة أخرى نجحت في إطلاق قمر صناعي إلى الفضاء.
2
على غرار ما حدث مع نموذج «إم إكس-774» لشركة «كونفير»، سرعان ما خبت جذوة هذا الاهتمام المبكر بالمركبات الفضائية. وفي أواخر عام 1948، أشار وزير الدفاع جيمس فورستال إلى برنامج قمر صناعي أرضي، بيد أنه أضاف أن تصريحه جاء بناء على توصية بأن «الجهود الحالية في هذا المجال يجب أن تقتصر على الدراسات والتصميمات الخاصة بالمكونات». وفي مؤسسة «راند»، تواصلت الدراسات حول الأقمار الصناعية، وفي أكتوبر 1950 أصدر باحث آخر، يدعى بول كتشكميتي، تقريرا أثار سؤالا غاية في الأهمية، ألا وهو: إذا أردنا أن نطلق قمرا صناعيا كهذا، فهل سيدعنا السوفييت نفعل ذلك؟
أدرك كتشكميتي أن عمليات الاستطلاع ستوفر أساسا قويا لإطلاق برنامج أقمار صناعية، وشدد على أن موسكو ستنظر إلى الكاميرات التي تدور في الأفلاك الفضائية باعتبارها مصدر تهديد كبير: «إن الخوف من اختراق السرية خوف دائم ومستمر، ومن المتوقع على الأرجح أن تثير صورة مأخوذة للعالم الخارجي وهي تخترق حجب أسرار السوفييت كثيرا من القلق.» واتضح هذا الموقف بالفعل في مجال الطيران التجاري؛ فقد كانت معظم الدول تمنح شركات الطيران حقوق الطيران في أجوائها، بينما لم يكن السوفييت يسمحون بذلك.
إذا أطلقت الولايات المتحدة قمرا صناعيا فوق الاتحاد السوفييتي، فربما يعتبر الكرملين الأمر ضربا من العدوان، وربما يرد ستالين على ذلك بعمليات عسكرية، مرسلا قوات أو مهددا باستخدام القوة ضد الدول المجاورة التي توفر قواعد عسكرية للقوات الجوية الأمريكية؛ ومن ثم، قبل إطلاق هذه الأقمار، يجب أن تثبت الولايات المتحدة أولا الحق القانوني في التحليق فوق الأجواء الأجنبية، وهو حق يرقى إلى «حرية الفضاء»، ويشبه حرية أعالي البحار. يسمح هذا الحق للمركبات الفضائية بالتحليق فوق الدول الأخرى دون الحصول على تصريح منها.
يختتم كتشكميتي حديثه قائلا: «ربما يتمثل أفضل طريق في تقليص مخاطر الإجراءات المضادة في إطلاق قمر صناعي تجريبي في مدار استوائي.» سيصبح حجم المركبة الفضائية صغيرا نظرا لأنها لن تحمل أي كاميرات، وستتفادى المرور بالأراضي السوفييتية الشاسعة، وهو ما سيجعلها تلتزم بالاتجاه الشمالي في مدارها. ومن خلال مواصلة البحوث ذات الأهداف العلمية بدلا من الأهداف العسكرية، ربما ينطلق القمر الصناعي فوق عدد من الدول دون أن يثير ذلك استياء تلك الدول أو تذمرها؛ وسيساعد هذا الأمر في ترسيخ حرية الفضاء باعتبارها مبدأ قانونيا، وهو ما سيوفر الغطاء للأقمار الصناعية التي ستستخدم في مهام الاستطلاع اللاحقة.
مثلما برهنت الأحداث، وقع صدام شديد بين السعي نحو حرية الفضاء والإصرار على تحقيق الريادة في إطلاق مركبات فضائية تدور في مدارات فضائية؛ فربما تنجح مركبة كتشكميتي الفضائية العلمية في إرساء هذا المبدأ القانوني، لكن لا أحد ينكر أنه في حال إطلاق روسيا أول قمر صناعي من هذا النوع، فإنها سترسخ على الفور هذا المبدأ بلا منازع. وفي ضوء السرية التامة المطلوبة لأغراض الأمن السوفييتي، ربما يضعف هذا الإنجاز من أمن البلاد، حتى مع الظفر بشهرة عالمية، وهو أمر كان من المتوقع حدوثه في الواقع على الرغم من أن تلك الأحداث استغرقت أكثر من عقد من الزمن حتى تحدث بصورتها هذه.
في تلك الأثناء، بينما كانت مؤسسة «راند» تجري الأبحاث وتصدر التقارير في تؤدة، كان ثمة عدد كبير من العلماء المدنيين يعدون العدة لإطلاق قمر صناعي بجهودهم الخاصة. وفي إحدى الأمسيات في أبريل 1950، استضاف جيمس فان ألين - وهو العقل المدبر للصاروخ «إيروبي» التجريبي - مجموعة من الأصدقاء في منزله في سيلفر سبرينج، ميريلاند. وكان الضيف الرئيسي في اللقاء هو سيدني تشابمان من جامعة أكسفورد، الذي كان خبيرا رائدا في سلوك الغلاف الجوي. وكان من بين الضيوف الآخرين لويد بركنر، مدير مختبر بروكهيفن الوطني، وفريد سينجر، عالم فيزيائي شاب من جامعة ميريلاند.
دار الحديث خلال هذا الاجتماع حول إمكانية تنسيق جهود العلماء في عدد من الدول للمضي قدما في أبحاثهم حول طبقات الجو العليا. وكان الجميع يعرف أن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية كانت قد وضعت برنامجين متناسقين باسم السنوات القطبية الدولية؛ كان ذلك في عامي 1882 و1932، وهو ما دعم بصورة هائلة الفهم العلمي لمنطقة القطب الشمالي. كان بركنر صاحب تاريخ طويل في استكشاف المناطق القطبية؛ حيث شارك في أنشطة عام 1932، وكان يرى أن الوقت قد حان لعقد لقاء سنة قطبية ثالثة في عام 1957 أو 1958، بعد مرور ربع قرن على اللقاء الأخير. وأبدى العلماء الآخرون حماسهم للأمر.
عقدت منظمة متعددة الجنسيات، هي المجلس الدولي للاتحادات العلمية، منتدى ليتولى إجراء الترتيبات الضرورية، وظل بركنر يترقى بسرعة داخل المنظمة، ثم سرعان ما صار رئيسا لها. قدم بركنر وتشابمان مقترحا إلى إحدى اللجان الفرعية المنبثقة عن المنظمة، واستطاعوا تحويل تأييد أعضاء اللجنة إلى موافقة كامل أعضاء المجلس الدولي للاتحادات العلمية. وفي حقيقة الأمر، مع التوسع في مناقشة الموضوعات ذات الاهتمام، رأى تشابمان أن اسم العام القطبي لم يعد مناسبا، واقترح اسم العام الجيوفيزيائي الدولي. وكان مقررا أن تستمر أنشطة اللقاء ثمانية عشر شهرا، من منتصف عام 1957 وحتى عام 1958 بالكامل، وهي فترة تتزامن مع ذروة النشاط الشمسي والعديد من عمليات الخسوف. ومع مرور الوقت، ضم اللقاء ما يقرب من ستة آلاف مشارك من ست وستين دولة.
شكل المجلس الدولي للاتحادات العلمية لجنة خاصة تحمل اسم «آي جي واي»، كان تشابمان رئيسها وبركنر نائب الرئيس. وفي واشنطن، سرعان ما علمت الأكاديمية الوطنية للعلوم بالأمر. وكانت الأكاديمية الوطنية للعلوم هي المنظمة العضو الممثلة لأمريكا في المجلس الدولي للاتحادات العلمية ، وشكلت لجنة فرعية خاصة بها؛ وكان رئيس اللجنة، جوزيف كابلان، قد نظم في عام 1951 مؤتمرا في سان أنطونيو حول طب الفضاء، وأسهم بكتابات في سلسة مقالات مجلة «كوليرز».
في عام 1951، اجتمع عدد من جمعيات الصواريخ على المستوى القومي وشكل الاتحاد الدولي للملاحة الفلكية. وفي مؤتمره الذي عقد عام 1953 في زيورخ، قدم فريد سينجر المقترح غير السري الأول لنموذج مبدئي لمركبة فضائية علمية، وأثناء حديثه مع اثنين من الاختصاصيين البريطانيين، هما فال كليفر وآرثر سي كلارك، أطلق سينجر على المركبة اسم «ماوس» (وهو الأحرف الأولى لمصطلح إنجليزي يعني «قمر صناعي غير مأهول محدود الدوران حول الأرض»). ولم يكن مفترضا أن يستقل جرذ هذا القمر الصناعي، فضلا أيضا عن قرد من شمال الهند، لكن كان من المتوقع أن يبلغ وزن القمر مائة رطل، وأن يحمل مجموعة قيمة من المعدات. وأثناء حديثه في ندوة لاحقة في مرصد هايدن في مايو 1954، شدد سينجر على أن ماوس أصبح «قريب المنال الآن، ويجب بناؤه؛ بل يمكن بناؤه - أو على الأقل الشروع في بنائه - بفضل المرافق الفنية المتوافرة الآن».
كان رئيس الاتحاد الدولي للملاحة الفلكية، فريدريك ديورانت، طيارا بحريا سابقا وخبيرا في الصواريخ، وعلم أن طيارا زميلا، وهو القائد جورج هوفر، كان يعمل في ذلك الوقت في مكتب الأبحاث البحرية، ويرغب في إطلاق قمر صناعي على غرار «ماوس». وفي أواخر شهر يونيو، هاتف ديورانت فون براون قائلا: «دار حديث مشوق للغاية بيني وبين رجل في مكتب الأبحاث البحرية، يريد إطلاق مركبة فضائية. هل ترغب في لقائه؟» جاء فون براون مهرولا، وبعدها بيومين التقى هوفر وديورانت، وحضر سينجر وويبل هذا اللقاء أيضا.
قال هوفر: «يتحدث الجميع عن قمر صناعي فضائي، لكن لا أحد يفعل شيئا حيال ذلك، وأود أن أدفع عجلة الأمور إلى الأمام من خلال إطلاق قمر صناعي إلى مدار فضائي يحمل عن طريق مجموعة من الصواريخ المتوافرة.» وكانت لدى فون براون، الذي كان دوما يمد يده بالعون، خطة لتنفيذ ذلك؛ فقد ظل يفكر لبعض الوقت كيف أن وضع مجموعة من صواريخ الوقود الصلب الصغيرة المضادة للطائرات أعلى الصاروخ «ردستون» يمكن أن يوفر الدفع اللازم لإطلاق قمر صناعي في مدار فضائي. وشدد هوفر على إمكانية تركيب منطاد قابل للنفخ يتراوح وزنه ما بين خمسة وسبعة أرطال. لم يحمل القمر الصناعي أي معدات، ولا حتى جهاز إرسال لاسلكي، لكنه كان سيظهر في السماء مثل نجم جديد، منطلقا ناحية الغرب أثناء تحليقه في مداره. وأكد ويبل، عالم الفلك، للمجموعة أن هذا النجم سيكون ساطعا حقا، ويمكنه التحليق لأعلى عن طريق تركيب الصواريخ الموجودة أعلى أحد الصواريخ المعززة الموجودة.
اتفق الحاضرون على أن هذا الجهد المتواضع سيكون ذا قيمة، وصرح رئيس مكتب الأبحاث البحرية بإجراء المزيد من المناقشات. ثم في سبتمبر 1954، قرر سينجر إقناع بركنر بالموافقة على إجراء عمليات إطلاق الأقمار الصناعية في لجنة «آي جي واي». وكان بركنر متشككا؛ إذ كان يعلم أن سينجر شاب طائش، لكنه قرر الرجوع إلى مجموعة من المستشارين وبحث الأمر.
عشية أحد لقاءات اللجنة التابعة للمجلس الدولي للاتحادات العلمية في روما، دعا بركنر هؤلاء المستشارين للاجتماع في غرفته في فندق ماجيستك؛ وكان سينجر موجودا، وكذلك جوزيف كابلان، رئيس لجنة «آي جي واي» المنبثقة عن الأكاديمية الوطنية للعلوم. ومثلما أشار أحد المشاركين، فقد كان عليهم بحث مسألة واقعية الحديث حول الأقمار الصناعية أم أنها مجرد «قناعة إيمانية» مثلما كان سيشير إليها السير إسحاق نيوتن في القرن السابع عشر. وعلى الرغم من عبارات التحذير، تحمس أعضاء اللجنة للفكرة، وعندما أشار أحد الأعضاء إلى أن البطاريات الإلكترونية قد تتحطم عند انعدام الوزن، ضرب آخر بقبضة يده بقوة وصاح قائلا: «إذن، سنحصل على بطاريات لا تتحطم!» استمرت الجلسة ست ساعات واختتمت بالتأييد الجماعي لفكرة الأقمار الصناعية للجنة «آي جي واي». وبعدها بأيام قليلة، صدقت لجنة المجلس الدولي للاتحادات العلمية على المقترح.
ثم جاء دور كابلان في تولي مقاليد القيادة؛ فبعدها بأشهر قليلة، في يناير 1955، شكل لجنة مختصة بالصواريخ، تتضمن لجنة فرعية للأقمار الصناعية، وكان من بين أعضاء اللجنة الفرعية ميلتون روزن، رئيس برنامج صاروخ «فايكنج». وكان روزن قد درس مقترح فون براون الرسمي، المسمى مشروع المركبة المدارية، وكان يعلم بإمكانية تقديم مقترح أفضل. وقبل ذلك بأشهر قليلة، كان الجنرال شريفر في القوات الجوية قد طلب منه أن يقدم مقترحا لنموذج متطور من الصاروخ «فايكنج» لاستخدامه في اختبارات الإطلاق التجريبية للصواريخ ذات المقدمة المخروطية، وكان روزن يعلم أن هذا النموذج المحسن من الصاروخ «فايكنج» يمكن أن يصير صاروخا معززا أفضل من الصاروخ «ردستون» المعدل الخاص بالجيش.
كان الصاروخ «فايكنج» التقليدي يستخدم محركا من إنتاج شركة «ريأكشن موتورز»، الذي تجاوزت قوة دفعه 21 ألف رطل في اختبارات الإطلاق الأخيرة. ولم يكن هذا كافيا، إلا أن شركة «جنرال إلكتريك»، وهي شركة رائدة في مجال بناء المحركات النفاثة في الطائرات، كان لديها محرك صاروخي قيد التطوير من المنتظر أن تصل قوة دفعه إلى 27 ألف رطل. وبالإضافة إلى ذلك، اقترحت شركة «إيروجت جنرال»، التي تولت بناء نموذج الصاروخ «إيروبي»، نموذجا محدثا من الصاروخ باسم «إيروبي-إتش آي» يزيد مستوى الارتفاع المتحقق من 75 إلى 150 ميلا. وكان روزن قد اقترح وضع محرك «جنرال إلكتريك» في الصاروخ «فايكنج»، ووضع محرك «إيروبي-إتش آي» أعلاه ليكون صاروخ المرحلة الثانية، ويستخدم هذا الصاروخ الثنائي المرحلة في إطلاق المقدمات المخروطية. وصرح أنه في حال إضافة مرحلة ثالثة يقودها صاروخ وقود صلب، سيصير من الممكن إطلاق قمر صناعي إلى الفضاء.
تطلب هذا القمر الصناعي بدوره إدخال تحسينات بصفة أساسية على منطاد فون براون البسيط؛ إذ كان من المنتظر أن يبلغ وزن القمر الصناعي ثلاثين رطلا، وأن يحمل معدات فضلا عن جهاز إرسال لاسلكي، وهو ما يجعله بالفعل نموذجا مصغرا من القمر «ماوس» الصناعي. بالإضافة إلى ذلك، كانت جهود تطوير الصاروخ «فايكنج» قد طورت نظاما عالي الجودة واستخدمته في تتبع الإشارات واستقبالها من الصواريخ التجريبية الأولى، كما استخدم نموذج جديد باسم «مينيتراك» لخدمة جهود تطوير القمر الصناعي.
في مارس صدقت لجنة «آي جي واي» التنفيذية التابعة للأكاديمية الوطنية للعلوم على قرار إطلاق قمر صناعي، مشيرة إلى أن مشروع المركبة المدارية أو الصاروخ «فايكنج» سيخدمان هذا الغرض. أرسل كابلان رسائل إلى دتليف برونك، رئيس الأكاديمية، وإلى آلان ووترمان، مدير مؤسسة العلوم الوطنية، الذي كان يعمل عن كثب مع برونك في عمليات إعداد «آي جي واي».
كانت الأكاديمية الوطنية للعلوم، التي باشرت أعمالها منذ عام 1863، عبارة عن جمعية مكونة من صفوة العلماء في البلاد، وكان بعضهم يرى عضوية الأكاديمية خطوة في طريق الحصول على جائزة نوبل. وكانت مؤسسة العلوم الوطنية، التي باشرت أعمالها منذ عام 1950 فقط، لديها ميزانية متواضعة تقدم من خلالها منحا بحثية إلى الباحثين في الجامعات، لكن لم تكن أي من المؤسستين لديها الموارد المالية اللازمة لإطلاق قمر صناعي إلى الفضاء؛ ومن ثم، لم يكن الأمر في مقدرة أي جهة أخرى سوى وزارة الدفاع.
التقى ووترمان وبرونك بوزير الدفاع تشارلز ويلسون، واقترحا عليه إطلاق مركبة في مدار فضائي باسم الأكاديمية، وهو ما كان ترتيبا بعيدا كل البعد عن المجال العسكري، مثلما كان بعيدا عن مؤسسة نوبل نفسها. أحال ويلسون الموضوع إلى مساعده لشئون البحث والتطوير. وفي ذلك الوقت تحديدا، في ربيع عام 1955، كان كوارلز منشغلا كثيرا بعمليات الاستطلاع الاستراتيجي.
كان الجنرال كيرتس لوماي، رئيس القيادة الجوية الاستراتيجية، متحمسا بشدة لبذل مزيد من الجهد في هذا المجال، وكان على طواقم طياري القاذفات أن يكونوا مستعدين للطيران إلى منطقة الهجوم، واحتاجوا إلى صور ملتقطة بالرادار للأهداف فضلا عن معلومات حول الدفاعات الجوية السوفييتية. وكان يعلم أن عمليات التحليق الجوي بغرض الاستطلاع تعتبر من الناحية القانونية عملا عدائيا حربيا، وكان ترومان قد حظرها لهذا السبب؛ ولكن لوماي تحايل على هذا الحظر بإرسال القاذفة «بي-45» إلى بريطانيا؛ إذ كانت القوات الجوية الملكية قد استخدمت هذه القاذفات في التحليق فوق الأراضي السوفييتية، وأطلعت القيادة الجوية الاستراتيجية على نتائج عملياتها. وبحلول عام 1954، كان لوماي يقود طائرة بنفسه بغرض الاستطلاع، بتصريح من آيزنهاور، وظل لفترة لا يعثر إلا على دفاعات جوية ضعيفة حقا، وتحدث عن هذا الأمر لاحقا بقوله : «كنا نقود جميع طائرات الاستطلاع المملوكة للقيادة الجوية الاستراتيجية فوق فلاديفوستوك في ذروة الظهيرة.» وكانت فلاديفوستوك قاعدة موسكو البحرية الرئيسية في المحيط الهادئ.
بالإضافة إلى استهداف المعلومات، أراد محللو البنتاجون على نحو ملح التعرف على حالة الاستعدادات السوفييتية للحرب، وكان الاختبار النووي الذي جرى عام 1953، الذي أسفر عن آثار انفجارية بلغت 400 كيلوطن، قد فاجأ الجميع، بينما وصلت أخبار مقلقة من هيلموت جروتروب وزملائه، الذين كان معظمهم قد عاد إلى ألمانيا بين عامي 1951 و1953. وكان السوفييت قد أخفوا عنهم البحوث التي أجراها كوروليف وأشخاص آخرون من الروس، لكنهم طلبوا منهم إجراء دراسات مفصلة حول الصواريخ البعيدة المدى؛ واستنتج الخبراء الأمريكيون بسهولة، عند التحقيق مع هؤلاء العائدين، أن موسكو كانت تعد العدة لبناء صواريخ بعيدة المدى اعتمادا على قدراتها الذاتية.
كان ووترمان وبرونك عضوين في لجنة استشارية علمية رئاسية، وكان ووترمان يشغل منصب نائب رئيس اللجنة، وهو لي دوبريدج، رئيس معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. وفي مارس 1954 التقى آيزنهاور بأعضاء هذه اللجنة ونبههم إلى خشيته من وقوع هجوم مفاجئ، على غرار هجوم بيرل هاربر، يؤدي إلى تدمير مدن بأكملها وليس مجرد سفن حربية. وكانت وكالة الاستخبارات المركزية قد أصدرت تقريرها لعام 1954، الذي توقعت فيه أن تمتلك موسكو عام 1957 خمسمائة قاذفة قنابل طراز «تي يو-95» تعمل بالمحركات المروحية التوربينية؛ وكانت أولى الخطوات التي اتخذها دوبريدج في سبيل ذلك تستهدف تشكيل لجنة رفيعة المستوى، باسم لجنة القدرات التكنولوجية (تي سي بي)، وهي لجنة كان من شأنها التوصية بسياسات جديدة لتفادي هذا الخطر.
في غضون أسابيع، زادت أحداث جديدة من حجم التهديد؛ ففي الأول من مايو، عرضت القوات الجوية الروسية قاذفتها النفاثة الجديدة بيزون في عرض جوي عام، وكانت مفاجأة أخرى أن تصنع موسكو قاذفة نفاثة سوفييتية، وأثار الأمر قلقا بالغا؛ لأنه لم يعرف أحد بأمر هذه الطائرة حتى عرضها الكرملين في عرض عام. وبعدها بأسبوع، توغلت إحدى طائرات لوماي طراز «بي-47» في الاتحاد السوفييتي في مهمة استطلاعية ورصدتها طائرة اعتراضية نفاثة طراز «ميج-17». واستطاعت طائرة «بي -47» الهروب بعد إصابتها بتسرب في خزان الوقود، ونجحت في العودة إلى إنجلترا. لكن الفكرة اتضحت؛ فقد أصبحت الطائرات النفاثة لأمريكا نفسها في خطر الآن.
كان أحد الحلول يتمحور حول الصاروخ «أطلس»، الذي صارت له أولوية قصوى خلال شهر مايو نفسه؛ ولكن، كان من الواضح أن الأمر يتطلب التزاما أقوى تجاه الاستطلاع. ولم يكن لوماي يعمل في هذا المجال بصورة دائمة، وهو ما كان وضعا غير مقبول بالنسبة إلى آيزنهاور. كان الأمر يعني أن القوات الجوية ستتحكم في الأصول المستخدمة في قياس التهديد السوفييتي، فضلا عن حجم القوة التي سترد بها على أي تهديد، وهو ما زاد من احتمالات تحريف جنرالات القوات الجوية من تقديراتهم الاستخباراتية بما يدعم مطالبهم للحصول على أسلحة جديدة. وكان آيك يرغب في إجراء عمليات استطلاعية في إطار مؤسسة لم يكن في استطاعة لوماي التحكم فيها، ألا وهي وكالة الاستخبارات المركزية.
تبلورت اللجنة الجديدة المتمثلة في لجنة القدرات التكنولوجية في منتصف عام 1954؛ إذ عين آيزنهاور جيمس كيليان - رئيس معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا - رئيسا للجنة، وضمت اللجنة لجنة فرعية، باسم مشروع 3، تختص بالوسائل الفنية في المراقبة والإشراف. وكان من بين من عملوا في هذه اللجنة الفرعية كليرنس كيلي جونسون من شركة «لوكهيد»، وهي إحدى أهم شركات تصميم الطائرات في البلاد؛ وكانت شركته، «سكانك ووركس»، قد صممت وبنت أول طائرة مقاتلة نفاثة فعالة في أمريكا، «بي-80»، خلال عامي 1943 و1944. وآنذاك، في أعقاب الحرب الكورية، كان جونسون يطور طائرة «إف-104»، التي بلغت 2 ماخ. وفي وقت سابق من هذا العام، كان جونسون قد أعد تصميم طائرة استطلاع وروج لها لدى القوات الجوية، دون أي نجاح.
على الرغم من ذلك، تلقى جونسون تشجيعا قويا من تريفور جاردنر، وكان هو وجاردنر قد عرضا نموذج طائرة الاستطلاع الجديدة على لجنة مشروع 3 في محاولة جديدة لترويجها، وكان رئيس اللجنة الفرعية، إدوين لاند، قد اخترع كاميرا بولاريود وهو رئيس شركة «بولاريود كوربوريشن». وكان في مقدور جونسون إنجاز أي شيء بسرعة إذا اضطر إلى ذلك؛ فقد بنى نموذج «بي-80» الأول من لا شيء في غضون 143 يوما فقط، وها هو يعد بالانتهاء من طائرة التجسس التي كان يصممها وإجراء طيران تجريبي في غضون ثمانية عشر شهرا من توقيع العقد. قدم لاند وكيليان مقترح جونسون إلى آيك وأقنعاه بقبوله. وتماشيا مع ميل وكالة الاستخبارات المركزية لإطلاق أسماء غامضة لا تفصح عن الكثير، أطلق على الطائرة الجديدة اسم «يوتيليتي-2».
كان الشخص المسئول في وكالة الاستخبارات المركزية عن تولي أمور «يو-2» من البداية هو ريتشارد بسل، وكان شخصا طويل القامة ونحيل الجسم؛ مما جعله يبدو مثل شخص أرستقراطي، وكان يمتلك خلفية تجعله أهلا لذلك؛ فقد درس في جامعة جروتون وجامعة ييل وكلية لندن للاقتصاد. ونظرا لما كان يتسم به من لطف القول والأدب غير المتكلف، فضلا عن تفضيله ارتداء حلات من ثلاث قطع؛ كان يتمتع بصلات اجتماعية واسعة، وهي ميزة كانت كفيلة وحدها أن تحقق له الترقي في مسيرته المهنية. ولكن أهم ما ميزه كان عقله؛ فقد درس الاقتصاد في جامعة ييل، وكان من بين طلابه ماكجورج باندي، الذي صار مستشار الأمن القومي لدى جون فتزيجرالد كينيدي. وفي أعقاب الحرب، قاد جهود مشروع مارشال التي ساهمت في إعادة تعمير أوروبا، ووصفه المؤرخ توماس باورز بأنه شخص «يتمتع بالوضوح والذاكرة القوية والثقة بالنفس، التي لم يكن يعرب عنها إلا قليلا، حتى إن السؤال الوحيد ذا الصلة الذي كان يطرحه عن أي نظام هو التساؤل عما إذا كان قد نجح أم لا. وكان شغوفا أيما شغف بالتفاصيل، وبمجرد أن يقرر الإلمام بطريقة عمل أي شيء، كان ينكب على العمل ويأخذ الأمر على عاتقه الخاص.»
3
كان قد مضى على بسل في وكالة الاستخبارات المركزية أقل من عام عندما أخبره مديره، آلان دلاس، ذات صباح قرار توليه رئاسة برنامج الطائرة «يو-2». وفي ظهيرة ذلك اليوم، التقى بسل بمجموعة من أفراد القوات الجوية في مكتب جاردنر في البنتاجون، وتحدث بسل عن هذا اللقاء لاحقا قائلا: «سرعان ما اتضح أنه على الرغم من اتخاذ قرار على أعلى مستوى ، لم تكن ثمة خطط دقيقة لتنفيذ أي شيء. وعندما أثيرت مسألة التمويل، نظر الجميع في اتجاهي.» وافق بسل على تخصيص 22 مليون دولار أمريكي من خلال صندوق تفويضي كان دلاس يديره، وهو ما سيسمح بالمضي قدما في المشروع دون موافقة الكونجرس عليه، أو حتى دون أن يدرك وجود هذا البرنامج.
ظلت القوات الجوية تباشر هذا المشروع عن كثب؛ حيث كانت توفر المحركات وتدرب طياريها، وكانت تخفي هوية هؤلاء الطيارين عن طريق نقلهم خارج الخدمة إلى وكالة المخابرات المركزية، وإكسابهم هويات جديدة كمدنيين يعملون بها في «لوكهيد». بالإضافة إلى ذلك، حصل لوماي على نماذج طائرات طراز «يو-2»، وإن ظلت إدارة المشروع تقع بالكامل ضمن اختصاصات بسل الحصرية. وأسس فريق بسل مكتبا منفصلا عن بقية مكاتب وكالة الاستخبارات المركزية، تولى كتابة عقوده والاحتفاظ بسجلاته المالية والاضطلاع بالأمور الإدارية والأمنية. وكان الفريق يتألف من سبعة أفراد من بينهم ضابط أمن، وحافظ بسل على أن تكون عمليات الاتصال سرية، حتى إن دالاس نفسه لم يكن يستطيع الاطلاع على سجلاتها.
بالإضافة إلى ذلك، منح بسل جونسون سلطات واسعة، وكانا يجريان معظم الأعمال عبر الهاتف، مرة واحدة شهريا، وكان جونسون يقدم تقريرا عن سير العمل من خمس أو ست صفحات. ولكن، داخل وكالة الاستخبارات كان هذا العدد من الصفحات يصل إلى وثيقة هائلة الحجم. وكانت الأنشطة الأخرى ذات الحساسية المشابهة، مثل خطط اغتيال فيدل كاسترو، تعتمد بالكامل على المحادثات الشفهية، مع عدم وجود أي شيء مكتوب.
في منتصف شهر فبراير من عام 1955، أصدرت لجنة كيليان بالكامل تقريرها، بعنوان «مواجهة التهديد بهجوم مفاجئ»، وأشار كيليان إلى أن أحد مساعدي الرئيس «نسق بعناية جميع الخطط اللازمة لتقديم التقرير وجعلنا جميعا نجري تدريبا على تقديمه». ثم انتقل إلى الحديث عن جلسة لمجلس الأمن القومي، عقدت في البيت الأبيض نفسه.
أشار التقرير قائلا: «إننا نتمتع بميزة هجومية لكننا معرضون لهجوم مفاجئ (كتبت هذه العبارة بالأحرف المائلة في نص التقرير الأصلي على سبيل التأكيد). ونظرا لأننا عرضة لهذا الهجوم، فربما يغري الأمر السوفييت بمحاولة شن هجوم فعلي.» وكانت البلاد في حاجة إلى أجهزة رادار لإطلاق تحذيرات مبكرة من اقتراب قاذفات سوفييتية. بالإضافة إلى ذلك، أضاف التقرير قائلا: «نظامنا الدفاعي غير مؤهل، ومن ثم فإن القيادة الجوية الاستراتيجية تعاني ضعفا قد يجعلها غير قادرة على التعامل مع الأمر.» وإلى حين أن تتمكن البلاد من علاج أوجه القصور هذه، ستكون مكشوفة أمام قاعدة بيرل هاربر النووية.
لكن، رأى فريق كيليان أيضا أن المبادرات الجديدة، لا سيما ما يخص الصاروخ «أطلس» الباليستي العابر للقارات، تعزز على الأرجح موقف الولايات المتحدة. ودعا فريق كيليان إلى تقديم مبادرات جديدة على نفس المنوال، مع وضع عملية جمع المعلومات الاستخباراتية على رأس قائمة الأولويات. وفي القسم الذي كتبه إدوين لاند في التقرير، كتب لاند قائلا: «يجب أن نجد وسائل لزيادة الحقائق الثابتة والمؤكدة التي نبني عليها تقديراتنا الاستخباراتية، من أجل تقديم تحذير استراتيجي أفضل، والحد من عنصر المفاجأة في الهجوم المتوقع، وتقليل خطر المبالغة الجسيمة أو الاستخفاف الشديد بهذا التهديد.» ولتحقيق هذا، سيتعين على وكالة الاستخبارات المركزية «التوسع في استخدام ما توصل إليه العلم والتكنولوجيا من نتائج».
4
كان من المقرر أن تساعد الطائرة «يو-2» في ذلك، لكنها لم تكن أكثر من نظام مؤقت فقط؛ إذ كان من المفترض أن تعبر أراضي الاتحاد السوفييتي بأكملها على ارتفاع 70 ألف قدم؛ أي أعلى بكثير من مدى تحليق الطائرات الاعتراضية أو الصواريخ المضادة للطائرات، لكن بما لا يتجاوز مرمى الرادار. وكانت وجهة النظر السائدة داخل وكالة الاستخبارات المركزية أنه في غضون عام أو اثنين من بداية تحليق هذه الطائرات فوق الأراضي السوفييتية، ستكون لدى موسكو رادارات تستطيع تتبع طائرات «يو-2» على نحو فعال، وسيتمكن قادة الاتحاد السوفييتي إذن من إطلاق احتجاجات دبلوماسية استنادا إلى أدلة؛ وهو ما سيولد ما يكفي من الضغط السياسي لإيقاف تلك المهمات.
أما فيما يتعلق بعمليات الاستطلاع باستخدام الأقمار الصناعية، فكانت مسألة أخرى، واستطاعت شركة راند، من خلال قدرتها المعتادة على الاستشراف، أن ترسي أسسا مهمة من خلال دراسات سرية. وفي أبريل 1951، أصدر باحثو المؤسسة تقريرين جديدين؛ «فائدة القمر الصناعي في الاستطلاع»، و«بحث في جدوى الاستطلاع الجوي باستخدام قمر صناعي». ثم أجرت المؤسسة دراسة كبرى بعنوان «إفادة المشروع» تحت رعاية وكالة الاستخبارات المركزية، وصدرت تقاريرها الفائقة السرية في 1 مارس 1954، في اليوم نفسه الذي أجري فيه اختبار القنبلة الهيدروجينية «برافو». وكانت الدراسات مفصلة في حقيقة الأمر؛ حيث بلغ حجم الملخص وحده، الذي كان يحمل عنوان «تحليل إمكانات أسلوب استطلاع غير تقليدي»، مجلدين.
تضمنت موضوعات النقاش الرئيسية الحديث عن أساليب لنقل صور إلى المحطات الأرضية، وكان أحد الأساليب، التي جرى بحثها في «آر سي إيه»، يتضمن استخدام كاميرا تليفزيونية، كانت تخزن صورها على شريط فيديو، وعندما تحلق المركبة الفضائية فوق محطة أرضية، كانت ترسل محتويات الشريط باستخدام وصلة لاسلكية.
بشر أسلوب آخر، جرت دراسته في شركة «إيستمان كوداك»، ومختبرات «سي بي إس»، و«فيلكو»؛ بتقديم تفاصيل أدق من خلال استخدام كاميرا فوتوغرافية. وكان من المفترض أن يمر الفيلم في الكاميرا عبر معالج سطحي لتحميض الأفلام، ثم يمر الفيلم المحمض عبر ماسح ضوئي، يلتقط كل صورة على نحو ما يحدث في الصور السلكية، في صورة مجموعة متتابعة من الخطوط المتقاربة في مسافاتها؛ ثم تخزن البيانات الناتجة على شريط يجري نقل محتواه لاحقا.
لم يكن أي من هذه الاختبارات في مثل بساطة القمر الصناعي «ماوس» الذي طوره فريد سينجر، أو منطاد فون براون الذي يدور في مدار فضائي. كانت هذه عبارة عن تصميمات مفصلة لمختبرات تصوير آلية تستطيع أن تحقق من خلال تكنولوجيا الإلكترونيات ما كان فون براون يعتقد أنه سيتطلب وجود رواد فضاء على متن محطته الفضائية، وكانت القوات الجوية مستعدة لاتخاذ خطوات سريعة. وفي منتصف مارس 1955، بعد شهر واحد من إصدار لجنة كيليان تقريرها، أصدر مركز تطوير قاعدة «رايت» الجوية إعلان احتياجات التشغيل العامة رقم 80، الذي طالب الشركات بتقديم عروض لتصميم «نظام سلاح أقمار استطلاع صناعية استراتيجية»، يحمل اسم «دبليو إس-117إل». وبمرور الوقت، انضم مشروع تصميم القمر الصناعي إلى إمبراطورية ريتشارد بسل الآخذة في الاتساع، لكن على الرغم من أن المشروع كان لا يزال قيد التطوير، فإنه ظل مشروعا تابعا للقوات الجوية.
بعد وقت غير طويل من إعلان احتياجات التشغيل العامة رقم 80، تقدم دتليف برونك وآلان ووترمان إلى وزير الدفاع ويلسون بمقترح لتصميم قمر صناعي يجري الإعلان عنه خلال السنة الجيوفيزيائية الدولية. وفي الواقع، لم يكن برونك ووترمان مفكرين ساذجين يدخلان عالم المنافع الدنيوية كما قد يخطئ البعض الظن بهما، بل كان كل منهما مستشارا رئاسيا بفضل مؤهلاته. ولكن عندما أحال ويلسون الموضوع إلى مساعده كوارلز، لم يكن الأمر اختيارا مباشرا بين المركبة المدارية والصاروخ «فايكنج». وظل «دبليو إس-117إل» متواريا في خلفية الأحداث، في حين تصدرت المتطلبات اللازمة لتصميمه المشهد، خاصة أن قمر «آي جي واي» كان سيلبي تلك الاحتياجات من خلال ترسيخ مبدأ حرية الفضاء، باسم العلم الذي يسعى إليه من أجل خدمة الإنسانية جمعاء، وهو ما كان يعني احتمالية إطلاق أقمار صناعية أخرى لصالح وكالة الاستخبارات المركزية.
هل كان فون براون يستطيع تحقيق ذلك؟ لم يكن ثمة سبيل قط إلى تحقيق ذلك؛ فمشروع قمره الصناعي كان محكوما عليه أن يحمل مرجعية عسكرية خاصة بالجيش في جميع جوانبه؛ فالمركز الذي كان سيصمم فيه المشروع هو «ردستون آرسنال»، وهو مصنع الكيماويات الحربي الذي صار مصنعا للصواريخ العسكرية بعد ذلك. والصاروخ المعزز، «ردستون»، الذي كان سيستعين به هو سلاح قائم بذاته، قادر على حمل القنبلة الذرية. وإزاء هذه الخلفية العسكرية الصرفة، لم تكن «آي جي واي» ستمثل إلا ساترا رقيقا، وكان العالم سينظر إلى قمر فون براون باعتباره ليس إلا مقدمة لغزو الفضاء بالقوة العسكرية.
لكن، كان مقترح ميلتون روزن أمرا مختلفا تماما؛ فتصميم الصاروخ المعزز كان مستمدا من الصاروخين «فايكنج» و«إيروبي»، اللذين صارا يعرفان باعتبارهما صواريخ أبحاث يجري إطلاقهما لأغراض علمية. ولم يكن مختبر البحوث البحرية - وهو المركز الذي ينتظر أن يجري فيه تنفيذ مشروع «روزن» - يمتلك السمعة القوية التي يتمتع بها «ردستون آرسنال»، وكان المختبر معروفا باعتباره مركز بحوث بالمعنى الصريح للكلمة؛ حيث يضم علماء ذوي سمعة مرموقة قدموا إسهامات مهمة في مجالاتهم.
لذا، بالنسبة إلى دون كوارلز، لم يكن الخيار يحتاج إلى تفكير عميق، لكنه لم يكن يستطيع الإعلان عن اختياره فحسب؛ إذ كان الأمر سيصبح مثارا للقيل والقال. وكانت إثارة استياء الجيش آخر ما يريده كوارلز؛ إذ كان في مقدور الموالين للجيش إثارة الأمور ضده في الكونجرس. لم يستطع كوارلز أيضا الإفصاح عن السبب؛ إذ كان يتعين إبقاء أمر «دبليو إس-117إل» طي الكتمان؛ ومع ذلك، استطاع كوارلز بسهولة ممارسة اللعبة القديمة في تشكيل لجنة استشارية، وصارت مهمته أكثر سهولة في أواخر شهر مايو؛ حيث صدق مجلس الأمن القومي على قمر «آي جي واي» الصناعي، شريطة التشديد بوجه خاص على الأغراض السلمية للمشروع، وهو ما أسهم في إقناع لجنة كوارلز، التي اتفق أعضاؤها على أن مقترح روزن أكثر سلمية من مقترح فون براون. ومما استحسنه أعضاء اللجنة أيضا أن روزن كان يقدم مقترح قمر صناعي كامل التجهيز بمعنى الكلمة، فضلا عن اشتماله على وسائل تعقب. وبناء على نسبة التصويت التي بلغت سبعة أصوات إلى صوتين، وقع الاختيار على هؤلاء المستشارين للانضمام إلى البحرية.
كانت ثمة مشكلة واحدة، ألا وهي أن الجيش كان يمتلك الوسائل التي من شأنها أن تجعل الولايات المتحدة الأولى في ريادة الفضاء، بينما لم تكن البحرية تملك هذه الوسائل.
درس مساعدو كوارلز مقترح «آي جي واي» من وجهة نظر عسكرية، مشيرين في أحد التقارير أنه «يعتقد أن مجموعة من أهم العلماء الروس يعملون على برنامج إطلاق قمر صناعي». وأضاف أحد المعاونين الرئاسيين، نيلسون روكفلر، ملاحظات تشدد على أهمية أن يكون للولايات المتحدة الدور الريادي في هذا الأمر؛ حيث قال: «إنني متأثر جدا بالآثار المكلفة المترتبة على السماح للمبادرة الروسية بالتفوق على مبادرتنا، من خلال إنجاز سيراه الناس في كل مكان رمزا للتقدم العلمي والتكنولوجي. وأمام المراهنة على هذه المكانة، فإنني أراه سباقا لا نستطيع تحمل آثار الهزيمة فيه.» لم يتأثر مجلس الأمن القومي؛ حيث أصدر وثيقة السياسات «إن إس سي-5520» التي تضمنت قسما سريا أكد بشدة على أهمية الحفاظ على سرية مشروع «دبليو إس-117إل».
بالإضافة إلى ذلك، حاول فون براون اللحاق بالركب من خلال تقديم مقترح بإطلاق جهاز إرسال لاسلكي بدلا من منطاد يدور في مدار فضائي، ولكن وزن الجهاز كان خمسة أرطال فقط، وهو ما لم يكن كافيا. وفي أغسطس، عندما جاء تصويت اللجنة الاستشارية في صالح البحرية، عبر اللواء لزلي سايمون من إدارة التسليح في الجيش عن غضبه، ومن خلال تركيب صواريخ وقود صلب تضاف من خلالها مراحل أعلى إلى صاروخ «ردستون»، وعد سايمون بإطلاق قمر كامل التجهيزات يبلغ وزنه ثمانية عشر رطلا، وصرح قائلا: «من الممكن إطلاق أول رحلة مدارية في يناير 1957 إذا منحت موافقة فورية.» واستجابت الشركات المتعاقدة مع البحرية - «جنرال إلكتريك»، و«مارتن»، و«إيروجت جنرال»، و«ثيوكول كيميكال» - من خلال تأكيداتها على اتخاذ إجراءات سريعة، ولم يلتفت إلى طلب سايمون.
ذهب رئيس اللجنة الاستشارية، هومر ستيوارت، من مختبر الدفع النفاث إلى هانتسفيل، وأخبر فون براون بأن يجهز الصاروخ «ردستون»، في حال استجدت أي أمور، وسرعان ما أضاف فون براون صواريخ المراحل العليا، التي لم يكن المقصود منها إطلاق قمر صناعي، بل إطلاق النماذج التجريبية من المقدمات المخروطية، وقرر أن يبدأ بعملية إطلاق تجريبية لإثبات أن صاروخه المتعدد المراحل، باسم «جوبيتر-سي»، سينجح في الانطلاق.
نصب فون براون الصاروخ «جوبيتر-سي» على منصة الإطلاق في 20 سبتمبر 1956، استعدادا لإطلاقه. وبدا مشابها تماما للصاروخ الذي حمل أول قمر صناعي أمريكي، «إكسبلورار 1»، بعد ذلك بستة عشر شهرا. ثم دق جرس الهاتف وسمع فون براون صوت رئيسه، اللواء جون مداريس، الذي حدثه قائلا: «فيرنر، يجب أن أوجه إليك أمرا مباشرا وبصفة شخصية لفحص صاروخ المرحلة الرابعة لضمان عدم إطلاقه بصورة فعلية.»
على الرغم من عدم بلوغ الصاروخ مداره، فاقت المرحلة الأخيرة من عملية الإطلاق جميع مقاييس الأداء الموضوعة؛ حيث حلق الصاروخ لمسافة 3355 ميلا بعيدا عن مكان الإطلاق، ووصل إلى ارتفاع 682 ميلا. ومع ذلك، لم يحدث حتى هذا الأمر أي فرق؛ مثلما عقب المؤرخ والتر ماكدوجال قائلا:
لو كان تحقيق الريادة هو الاعتبار الأول في سياسة الولايات المتحدة لإطلاق قمر صناعي أمريكي، لكان من الممكن أن تتخطى وزارة الدفاع لجنتها الاستشارية. ولكن السرعة وتحقيق السبق «لم» يكونا اعتبارا أوليا؛ فالمطلب الأهم، في النهاية، هو ضمان إضفاء أقوى صبغة مدنية على المشروع. وكان قد أشير على الإدارة الأمريكية بأهمية الدعاية في تحقيق الريادة للولايات المتحدة في الوصول إلى الفضاء. ولكن، حاز هذا المطلب السياسي على أقل مستوى من الأولوية بين جميع المطالب السياسية الحيوية الأخرى؛ فقد كانت ثمة وسيلتان لإيجاد مسار قانوني لإطلاق أقمار الاستطلاع الصناعية، وكانت إحداها هي أن تتمكن الولايات المتحدة من تفادي رصد القمر الصناعي الصغير الذي سيجري إطلاقه أولا، وألا يثير إطلاقه أي اعتراض. وكانت الأخرى أن يطلق السوفييت قمر استطلاع أولا.
كان الميل للأخذ بالحل الثاني أقل، ولم يكن الأمر يستدعي اتخاذ التدابير اللازمة للحيلولة دون أن يكون للاتحاد السوفييتي السبق في ذلك.
5
إذن، كان برنامج الفضاء في أمريكا، منذ البداية، يتضمن ثلاثة أنواع مختلفة من الأنشطة، ألا وهي جهود تطوير «آي جي واي»، وقمر «دبليو إس-117إل»، والرحلات الفضائية المأهولة. بدأت أنشطة رحلات الفضاء المأهولة مع السيناريوهات التي طرحتها مجلة «كوليرز»، وعندما تبلورت البرامج الحقيقية، حافظت البرامج على تركيز «كوليرز» القوي على إطلاق برامج تتسم بتوقعات مبالغ فيها والترويج الهائل لها. ونال مشروع «آي جي واي» حظه الوافر من الدعاية، التي بدأت بالإعلان عنه في مؤتمر صحفي في البيت الأبيض بدعوة من السكرتير الصحفي للرئيس؛ جيمس هاجرتي. وبالطبع، لم يزد المؤتمر عن كونه مجرد تعمية عن المشروع الفضائي الحقيقي، بيد أن هاجرتي لم يكن يتحدث عن المشروع الحقيقي، بل لم يكن حتى يعرف به، في حقيقة الأمر.
في سبتمبر 1955 وجه نائب وزير الدفاع روبن روبرتسن تعليماته الرسمية إلى البحرية بالمضي قدما في مشروع قمرها الصناعي، مطلقا عليه مشروع «فانجارد». وكان هذا الاسم الذي يعني «طليعة » قدريا؛ حيث ظل الحزب الشيوعي يؤكد لعقود أنه يقف في طليعة الجهات العاملة في العالم. وفي موسكو، كان سيرجي كوروليف يمضي حثيثا في خطط التطوير.
على الرغم من أن كوروليف كانت تداعبه آمال الفضاء منذ العام الأول له في موسكو، لم تأته الفرصة الأولى للعمل الجاد في هذا الشأن إلا في عام 1948، وجاءت الفرصة من دراسات أجراها صديق قديم، يدعى ميخائيل تيخونرافوف، الذي كان كوروليف يعرفه منذ أيام الدراسة تلك، وكانا قد عملا معا في مجموعة موسكو لدراسة حركة رد الفعل (موسجيرد)، عندما كانت لا تزال تتخذ قبو الخمور مقرا لها، ثم انضما إلى معهد البحوث العلمية للدفع برد الفعل، على الرغم من أن تيخونرافوف لم يقع رهن الاعتقال خلال عمليات التطهير. يشير ياروسلاف جولوفانوف - كاتب سيرة حياة كوروليف - إلى «الحماس الوجداني وشطحات الخيال» لدى تيخونرافوف؛ إذ «كان يرسم لوحات باستخدام الزيت، ويجمع الخنافس الآكلة للأخشاب، وكان يدرس ديناميكا الطيران لدى الحشرات. كان ببساطة يعشق التعلم».
بعد الحرب، انضم تيخونرافوف إلى معهد صواريخ جديد كان سيحدد متطلبات سلاح صواريخ جاهز للعمل. وفي عام 1947، قرر تيخونرافوف بحث إمكانية تصميم قمر صناعي. صرح له رئيسه بتكوين مجموعة صغيرة من الزملاء المتحمسين، الذين أجروا العمليات الحسابية الخاصة ب «حزمة صواريخ»، وهي مجموعة من الصواريخ المتماثلة ترتد في مسار عمودي خلال صعودها عندما تستنفد ما فيها من وقود دفعي. وصارت المجموعة مقتنعة - من خلال التحليلات التي أجرتها - بأن تكنولوجيا الصواريخ في ذلك الوقت كانت تكفي لبناء حزمة صواريخ يمكنها إطلاق مركبة فضائية في مدار فضائي.
في يونيو 1948، تلقى تيخونرافوف دعوة لتقديم ورقة بحثية في أحد اجتماعات أكاديمية علوم المدفعية، وكان يعرف بطبيعة الحال ما كان يراد منه أن يقدمه، بيد أن الفكرة بدت غريبة للغاية، حتى إنه قرر أن يتحدث إلى رئيس الأكاديمية، الجنرال أناتولي بلاجونرافوف. قرأ الجنرال ورقته البحثية وقال: «لا يمكن أن نقدم هذه الورقة البحثية ضمن فعاليات الاجتماع؛ فلن يستوعبها أحد. وسيتهمونني بأنني أهتم بأمور لا حاجة لنا بالاهتمام بها.»
في ذلك المساء، عندما قرأ بلاجونرافوف الورقة مرة أخرى، بدأ يفكر أنه ربما لا يكون من السهل رفض هذه الورقة على أية حال. بالإضافة إلى ذلك، حث زملاء تيخونرافوف إياه على عدم التسليم بالرفض، ونصحوه بتقديم حجج أقوى وإعادة المحاولة مجددا. وبالفعل، عاد تيخونرافوف إلى الجنرال مرة أخرى، فابتسم الجنرال واستمع إليه بعناية؛ وفي النهاية، قرر الجنرال الموافقة قائلا: «حسنا، سنقدم الورقة. كن مستعدا، سنتعرض للإحراج معا.» كان يعلم ما سيواجهانه؛ إذ بعد أن قدم تيخونرافوف الورقة، نظر ضابط عسكري آخر صوب بلاجونرافوف وسأل قائلا: «ألا يوجد لدى المعهد ما يفعله حتى يناقش أمورا خيالية كهذه؟»
لكن كان كوروليف موجودا أيضا، واقترب من صديقه القديم وقال: «لدينا أمور مهمة علينا مناقشتها.» شارك بلاجونرافوف نفسه في المناقشات التي أعقبت ذلك، ثم رتب عمليات إطلاق عدة صواريخ طراز «في-2» من كابوستن يار كصواريخ تجريبية. وفي يونيو 1951، اتسع نطاق المشروع ليشمل وضع كلاب على متن الرحلات؛ وحلق كلبان، أطلق عليهما اسم «دزيك» و«تزجان»، إلى ارتفاع أكثر من مائة كيلومتر، ومرا بحالة انعدام وزن لمدة أربع دقائق، ثم سرعان ما لحق بهما سبعة كلاب أخرى في رحلات تالية.
كان كوروليف منهمكا بشدة خلال ذلك الوقت في إنجاز تصميمات الصاروخ «آر-3»، وكان يدرك تماما أن «آر-3» قادر تماما على حمل قمر صناعي، من خلال إضافة صاروخين لتولي مرحلتين إضافيتين، وكان هو وتخونرافوف قد خطا وثيقة، بعنوان «بحث حول قمر صناعي يدور حول الأرض»، وبدأت هذه الوثيقة تناقش أمورا فنية على نحو جاد. ثم صدر، في مايو 1954، القرار النهائي بالبدء في تطوير الصاروخ «آر-7» الباليستي العابر للقارات؛ وبعدها بستة أيام، كتب كوروليف خطابا إلى مجلس الوزراء قائلا: إن المشروع الحالي لتطوير صاروخ جديد تبلغ سرعته القصوى 7000 متر في الثانية، يتيح لنا على الأرجح التحدث عن إمكانية تطوير قمر صناعي أرضي في المستقبل القريب. وبتقليص وزن الحمولة نوعا ما، سيمكننا تحقيق سرعة 8000 متر في الثانية، وهي السرعة التي يحتاج إليها القمر الصناعي.
6
في يوليو، كان كوروليف قد أعد تصميما عاما كاملا للصاروخ «آر-7»، في خمسة عشر مجلدا، وكان المهندسون يعدون الرسومات الفعلية الأولى . واقتضى التصميم تطوير صاروخ قادر على حمل رأس حربية زنة 5400 كيلوجرام لمسافة 8600 كيلومتر. وفي يوليو أيضا، أشار تيخونرافوف في تقرير له إلى أن وزن القمر الصناعي قد يتراوح ما بين 1000 و1400 كيلوجرام، أو ثلاثة أطنان. (لم يكن القمر الصناعي الذي صممه فريد سينجر تحت اسم «ماوس» يزن أكثر من مائة رطل.) وفي نهاية الشهر، في واشنطن، أعلن المسئول الصحفي هاجرتي عن برنامج أمريكا حول مشروع قمر «آي جي واي». وفي كوبنهاجن، وفي أحد مؤتمرات الاتحاد الدولي للملاحة الفلكية، قدم أحد أعضاء أكاديمية العلوم، ليونيد سيدوف، ردا خاصا؛ إذ صرح سيدوف للصحفيين بأن بلاده ستفعل نفس الشيء، مضيفا: «من المحتمل أن ينتهي العمل في أقمارنا الصناعية قبل انتهاء العمل في الأقمار الصناعية الأمريكية، وستكون أقمارنا الصناعية أثقل وزنا.»
في تلك الأثناء، كان تطوير الصاروخ «آر-7» يجري على قدم وساق، وكان في حاجة إلى موقع إطلاق؛ إذ لم يكن من الممكن استخدام موقع «كابوستن يار»، نظرا لما كان ينطوي عليه ذلك من خطر التحطم في منطقة آهلة بالسكان. وانضم كوروليف إلى إحدى اللجان لاقتراح موقع ملائم، ووقع الاختيار في نهاية المطاف على تيوراتام؛ نهاية خط سكة حديدية على نهر سير داريا، على مسافة مائة ميل شرق بحر آرال وبالقرب من صحراء قيزيل قوم. وكان كوروليف قد وضع هذا الموقع في ذيل قائمة اختياراته، لكن الأمر قوبل بالتجاهل.
مواقع الإطلاق السوفييتية، حوالي عام 1960. الشكل (أ) لموقع «كابوستين يار»، والشكل (ب) لموقع «تيوراتام» (وكالة الاستخبارات المركزية).
واصل جلشكو أيضا أبحاثه حول المحركات؛ حيث أجرى اختبارات استاتيكية في مركز اختبارات قرب موسكو، وكان كل محرك يغذي مجموعة مكونة من أربع غرف دفع تشترك في مجموعة واحدة من المضخات التوربينية. بدأت التجارب في منتصف عام 1955، باستخدام غرف دفع منفصلة. وفي ديسمبر، انتقل جلشكو إلى إجراء اختبارات باستخدام مجموعات مكونة من غرفتي دفع. وبعدها بشهر، في يناير 1956، وضع المحرك الرباعي الغرف على منصة اختبار حيث أجريت أول عملية إطلاق ناجحة له. وكان من المفترض أن يتضمن الصاروخ «آر -7» في نموذجه الكامل أربعة صواريخ معززة ملحقة بالصاروخ المركزي، الذي أصبح جاهزا للإطلاق في شهر أغسطس. ثم جاءت الصواريخ المعززة المنفصلة، وأجريت اختبارات استاتيكية على الصاروخ «آر-7» الكامل، فضلا عن الصواريخ المعززة والمكونات الأخرى، في موسم الشتاء التالي.
عمل كوروليف عن كثب - أثناء تنفيذه قمره الصناعي - مع الرياضي مستيسلاف كيلديش؛ وكان كيلديش قد صنع له اسما في عالم الفضاء من خلال دراسة الاهتزاز في الطائرات، والإشراف على دراسات حول المحركات النفاثة ذات الدفع الهوائي أجريت في فترة ما بعد الحرب. وفي عام 1950، استخدم زملاؤه النتائج التي أسفرت عنها أبحاثه في بناء محرك نفاث تجريبي ذي دفع هوائي بلغت سرعته 2,7 ماخ؛ أي كانت سرعته 1800 ميل في الساعة تقريبا. ثم مضى في العمل مع كوروليف في دراسة الصواريخ الباليستية، وبحث موضوعات مثل تصميم نظام توجيه يستطيع من خلاله صاروخ ضخم الحفاظ على توازنه أثناء التحليق بينما يدور حول محوره، مع تدفق الوقود في الخزانات. وللتعامل مع هذه الأمور، بدأ كوروليف في استخدام أول أجهزة كمبيوتر سوفييتية.
كان كيلديش لطيف القول ونحيف الجسم، وذا بشرة وردية صحية، وكان ذوقه رفيعا في ارتداء الحلل الأنيقة، كما كان عضوا يتمتع بكامل حقوق العضوية في أكاديمية العلوم. وعلى الرغم من أن كوروليف كان قد صار عضوا مراسلا، أو مشاركا، عام 1953، فقد سمحت مكانة كيلديش له بالتواصل مع المجتمع العلمي العريض، الذي خاطب أفراده ومؤسساته لكسب التأييد لبناء قمره الصناعي. وفي منتصف عام 1955، جمع كيلديش مجموعة من الزملاء في مكتبه، وألقى تيخونرافوف خطابا حول الموضوع واندفع في حديثه قائلا: «أعلم كم هي مثيرة عملية إطلاق الصواريخ هذه، وإنني مقتنع بأن المرء إذا شاهد عملية إطلاق مرة واحدة، فلن ينساها أبدا وسيظل يحلم بإجراء عملية أخرى.»
سرعان ما تحول الحديث إلى مصادر الطاقة، وأساليب التبريد، والإسهامات المحتمل تلقيها من المعاهد والمؤسسات المختلفة. وختم كيلديش حديثه قائلا: «في صباح الغد علينا أن نرسل خطابا إلى الأكاديميين والأعضاء المراسلين لأننا في حاجة إلى اقتراحاتهم. وأدعو للمشاركة في هذه الجهود جميع من لديهم باع في تصميم مقياس مغناطيسية وجهاز لدراسة الأشعة الكونية.» وعندما سأله أحد الحاضرين عن الوقت المتوقع أن يستغرقه تصميم مركبة فضائية كاملة، أجاب قائلا: «عام ونصف أو عامان، لكنني لا أستطيع الجزم بذلك؛ فالمشروع الذي نحن بصدد البدء فيه كبير للغاية، ويصعب التنبؤ بآثاره.»
7
في نوفمبر 1955، أعدت أكاديمية العلوم خطابا يتضمن برنامجا لإجراء أبحاث حول الفضاء، وأرسلت نسخ إلى مجلس الوزراء وإلى اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي. ونتيجة لذلك، في أواخر يناير 1956، حصلت الأكاديمية على تصريح لتشكيل لجنة مختصة بتصميم قمر صناعي لإطلاقه، يتولى رئاستها كيلديش، ويعين كل من كوروليف وتيخونرافوف نائبين له. وكان قد وقع الاختيار بالفعل على الصاروخ «آر-7» لحمل أنواع متعددة من الرءوس الحربية النووية، تحمل الأسماء «إيه» و«بي» و«في» و«جي»، بالترتيب الأبجدي السلافي، وخصص الرمز «دي» للإشارة إلى المركبة الفضائية، وهو الحرف التالي في التسلسل، فأصبح اسمها المركبة دي. وكان من المتوقع أن تسجل المركبة باسم «سبوتنيك 3».
في ديسمبر 1956، وصل الصاروخ «آر-7» الأول الجاهز للإطلاق إلى تيوراتام؛ حيث وضع على منصة الإطلاق وأجريت له اختبارات ما قبل الإطلاق. وبدا واضحا أن كوروليف سيمتلك قريبا الوسائل اللازمة لإطلاق قمره الصناعي. ولكن، كان قد مر أقل من عام منذ بدء العمل في «المركبة دي»، ولن يتسنى الانتهاء من المركبة لبعض الوقت، وهو ما أثار احتمال أن يكون الأمريكيون هم أول من ينطلق إلى الفضاء. وقدم تيخونرافوف اقتراحا يقول فيه: «ماذا لو صنعنا قمرا صناعيا أخف وزنا وأقل تعقيدا؟ ليكن وزنه ثلاثين كيلوجراما أو نحو ذلك، أو حتى أخف؟»
أدرك كوروليف سريعا أن بإمكانه بناء مركبة فضائية كهذه باستخدام موارد المؤسسة التي يتبعها. وفي أوائل يناير 1957، كتب تقريرا يتضمن تصميم مركبتين فضائيتين؛ نموذج مبدئي يتراوح وزنه ما بين أربعين وخمسين كيلوجراما، ثم «المركبة دي» التي تزن 1200 كيلوجرام. وحصل كوروليف على موافقة، واتخذ القمر الصناعي الأول اسم «بروستيشي سبوتنيك» (وهو قمر صناعي بسيط). وكان القمر عبارة عن كرة مصقولة من الألومنيوم، تتضمن مجموعة من أجهزة الهوائي، التي تحمل جهاز إرسال لاسلكي ومجموعة من البطاريات؛ ولم يكن القمر يحمل أي معدات، لكن كان في مقدوره إرسال صافرة تنبيه واضحة يسهل استقبالها.
مع الكشف عن هذه الجهود السوفييتية واحدا تلو الآخر، كان الأمريكيون أيضا يسرعون الخطى في تنفيذ برامجهم، وكانت وكالة الاستخبارات المركزية على علم بالفعل بموقع «كابوستين يار»، الذي اكتشف أمره خلال عام 1953. وأجرت قاذفة تابعة للقوات الجوية الملكية - هي طائرة «كانبيرا» - عملية استطلاعية جريئة من ألمانيا الغربية إلى إيران؛ حيث عادت إلى مركز الصواريخ وقتها بما وصفته وكالة الاستخبارات المركزية بأنه «بعض الصور الجيدة نوعا ما».
بعد ذلك، أخذ تريفور جاردنر - الضابط في القوات الجوية - مبادرة إقامة محطة رادار قرب مدينة سامسون في تركيا، على السواحل الشمالية، واستطاعت المحطة أن ترصد بوضوح مناطق تتجاوز منطقة جبال القوقاز حتى كابوستين يار، وفي منتصف عام 1955 عثرت على صيد ثمين. يتذكر روبن متلر، أحد المديرين المساعدين في شركة «رامو وولدريدج»، أن هذه المحطة الرادارية التقطت «الجزء العلوي من مسار صاروخ باليستي، شوهد فوق بعض السلاسل الجبلية»؛ وكان هذا هو مسار الصاروخ «آر-5»، الذي صدم مداه البالغ 1200 كيلومتر (أي ما يعادل 750 ميلا) المسئولين الأمريكيين، الذين كان أفضل الصواريخ المتوافرة لديهم، وهو الصاروخ «ردستون»، لا يستطيع التحليق إلا ربع مسافة «آر-5». وفي فبراير 1956، انطلق صاروخ «آر-5» آخر من الموقع نفسه، وصاح المراقبون في منطقة الرصد بعدها بدقائق: «رصدنا بايكال». وكان الصاروخ يحمل أول رأس حربية نووية، تلك التي انفجرت بنجاح.
كان ثمة المزيد من الأخبار غير سارة في عالم القاذفات. ففي العرض الجوي في الأول من مايو عام 1954، عرض السوفييت قاذفتهم النفاثة «بيزون». وبعدها بعام، وسط تجهيزات الاستعداد للحدث نفسه، رأى المراقبون الأمريكيون تشكيلا مكونا من عشر طائرات من هذا الطراز محلقة في الجو. ووقعت المفاجأة في منتصف يوليو؛ ففي اليوم الوطني للطيران، أحصى الكولونيل تشارلز تايلور، الملحق الجوي في موسكو، ما لا يقل عن ثمانية وعشرين طائرة طراز «بيزون» أثناء تحليقها في عرض جوي في مجموعتين. وبدا بديهيا أن هذه القاذفة صارت تنتج على نطاق واسع، وسرعان ما قدرت وكالة الاستخبارات المركزية أن عدد قاذفات «بيزون» المقرر أن تدخل الخدمة بحلول عام 1960 سيصل إلى ثمانمائة قاذفة.
في حقيقة الأمر، كان تايلور قد شاهد خدعة ماكرة. فقد كانت مجموعة الطائرات الأولى المكونة من عشر طائرات «بيزون» حقيقية، لكنها غابت عن الأنظار وانضمت إلى ثماني طائرات أخرى، لتمر جميعا مرة أخرى أمام تايلور دون أن يلاحظ العدد. ولكن، مع تسرب تقديرات سرية إلى الصحافة، طلب السيناتور ستيوارت سايمونتن إجراء جلسات استماع واستخدم التقديرات المسربة في الضغط على مسئولي البنتاجون واستجوابهم فيما يتعلق بوجود «فجوة في أسطول القاذفات». وحدثت حالة من الذعر أجبرت آيك على بناء مزيد من طائرات «بي-52» يفوق ما كان مخططا له، وزيادة معدل إنتاج الطائرات المقاتلة أيضا. عكست هذه الواقعة صعوبة الإلمام بما كان يحدث في الكرملين في واقع الأمر؛ إذ لن يبني السوفييت إلا ستا وخمسين طائرة قاذفة بحلول عام 1960، بدلا من المئات كما زعم. ولكن، حتى عندما كشف المحللون عن خدعة يوم الطيران، لم يشعر المسئولون الأمريكيون إلا بقليل من الراحة. إذا كانت موسكو تحاول أن تخدع وكالة الاستخبارات المركزية، فربما يعني ذلك أنها سوف تستثمر جهدها الحقيقي في بناء الصواريخ بدلا من القاذفات.
مع ذلك، كان تطوير «يو-2» يسير على ما يرام خلال عام 1955. وفي وقت مبكر من ربيع ذلك العام، كان ريتشارد بسل وكيلي جونسون قد حلقا فوق نيفادا للبحث عن بحيرة مالحة جافة تصلح كمركز لاختبارت الإطلاق. وكانت قاعدة «إدواردز» الجوية المركز المعتاد لإجراء اختبارات الإطلاق، لكن في حين كانت هذه القاعدة ملائمة للقوات الجوية، لم تكن تتمتع بالسرية الكافية بالنسبة إلى وكالة الاستخبارات المركزية. وعثر جونسون على ضالته في بحيرة جرووم، وهو موقع تحوطه الجبال. وكانت البحيرة تقع على مسافة مائة ميل شمال لاس فيجاس، في موقع ملاصق لمنطقة يوكا فلاتس للاختبارات النووية؛ مما سهل من مهمة إقناع بسل آيزنهاور بضم هذه المنطقة إلى ذلك الموقع. ومن ثم، حصلت بحيرة جرووم على التصريح الأمني من لجنة الطاقة الذرية.
في أوائل شهر يوليو، جرى نقل قمر «يو-2» الأول من «سكانك ووركس» في صورة أجزاء في صناديق. ونقلت طائرة شحن طراز «سي-124» أجزاء القمر إلى منطقة الاختبار لتجميعه في شكله النهائي. وكان الشكل النهائي لقمر «يو-2» يشبه طائرة شراعية، ذات جناحين عملاقين. وكان الجناحان المرتخيان في هذا النموذج النهائي يساعدانه في التحليق على ارتفاعات شاهقة والطيران مسافات طويلة. وفي 29 يوليو، مع إعلان هاجرتي عن برنامج القمر الصناعي «آي جي واي»، انطلق «يو-2»، الذي كان بمنزلة النموذج الأولي لقمر «دبليو إس-117إل»، محلقا في أول رحلة طيران، وهو ما لم يكن مفترضا أن يحدث؛ إذ كان طيار الاختبار، توني ليفييه، يعتزم فقط اختبار طريقة هبوط القمر الصناعي إلى الأرض. لكن ظل القمر يحلق، بسرعة 65 ميلا في الساعة، بما لا يزيد عن سرعة سيارة على طريق سريع، وارتفع القمر عدة أقدام في الهواء. ونجحت أول عملية تحليق فعلية بعد ذلك بأسبوع، وسرعان ما أظهر قمر «يو-2» أداء متميزا.
حدث تطور أيضا في نموذج «دبليو إس-117إل». استجابت ثلاث شركات - هي «آر سي إيه» و«مارتن» و«لوكهيد» - إلى طلب القوات الجوية بالتقدم بعروض في مارس 1955. وكان عرض «لوكهيد» مثيرا على نحو التحديد؛ لأنه أشار إلى إمكانية حصول وكالة الاستخبارات المركزية على صور أوضح وأكثر عددا من خلال تجنب استخدام أساليب شركة «راند» لإرسال الصور إلى محطات أرضية. وبدلا من ذلك، فمن المفترض أن يخزن قمر «لوكهيد» الصناعي فيلمه المعرض للضوء في كبسولة محمية، تعاود الولوج إلى المجال الجوي وتهبط إلى الأرض من أجل الاسترداد الفعلي لها. وتوافق هذا الرأي مع وجهة نظر شركة «راند»، التي كانت تعد تقريرا سريا جديدا، «الاسترداد الفعلي لحمولات القمر الصناعي: استقصاء مبدئي». وصدر التقرير في يونيو 1956، في الشهر نفسه الذي ظفرت فيه شركة «لوكهيد» بالعقد.
تضمن عرض «لوكهيد» أيضا وصفا لشكل القمر الصناعي، فهو قمر أسطواني، طوله تسع عشرة قدما وقطره خمس أقدام، ويتكون الجزء الأكبر فيه من صاروخ المرحلة العليا الذي سيتولى إطلاق القمر في مداره. وكان صاروخ هذه المرحلة العليا، الذي يحمل 7000 رطل من الوقود السائل، سيستخدم محركا بقوة دفع 15 ألف رطل من إنتاج شركة «بيل إيروسيستمز» والذي كان مقررا في البداية استخدامه في دفع قنبلة محمولة على قاذفة طراز «بي-58». وكان اسمه، «أجينا»، وهو اسم نجم ساطع في مجموعة نجوم قنطورس. وكان صاروخ المرحلة العليا يوفر قوة رفع أكبر بكثير من نموذج «إيروبي-إتش آي» الذي كان يشكل المرحلة الثانية من قمر «فانجارد»، والذي صار بعد ذلك مكونا أساسيا في برنامج الفضاء.
في تلك الأثناء، كان قمر «يو-2» على وشك الدخول في الخدمة. وكانت الطائرات الأولى المكونة من أربع وحدات وستة طيارين جاهزة للعمل في مايو 1956 وانطلقت من قاعدة في مدينة إنجرليك في تركيا. وبعد شهر من ذلك، ذهب بسل وآلان دالاس إلى البيت الأبيض للحصول على تصريح يسمح لصاروخ آيك بالتحليق فوق الاتحاد السوفييتي. وفي اليوم الأول للطيران الذي كان جيدا، بينما كانت الأجواء صافية، التقى بسل مرة أخرى مع دالاس قبل عملية الإطلاق. وتساءل دالاس عن المسار الذي سيتخذه «يو-2». وأجاب بسل بأن القمر سيحلق فوق موسكو وليننجراد، فأصبح وجه دالاس شاحبا، وسأله قائلا: «هل تعتقد أن هذه خطوة حكيمة؟» لكن، حققت المهمة نجاحا مبهرا.
كانت كل رحلة طيران تعود بمجموعة واضحة المعالم من الأهداف المصورة، إلا أن الطيارين تمكنوا من الانحراف عن المسار المخطط لهم بحثا عن أهداف متميزة. ويتذكر بسل إحدى المرات التي حدث فيها ذلك قائلا: «كان يحلق فوق تركستان، ثم رأى في الأفق شيئا بدا مهما للغاية، وهو ما اتضح أنه موقع إطلاق تيوراتام. وعاد بأجمل صور لهذا الموقع.» لم تكن وكالة الاستخبارات المركزية تدري حتى بوجود الموقع، بينما حاول السوفييت لاحقا إخفاء الموقع بالإشارة إليه باسم «بايكينور»، وهو موقع على مسافة أربعمائة كيلومتر من موقع تيوراتام. وسرعان ما عجلت القوات الجوية من إيقاع برامج الاستطلاع الخاصة بها؛ إذ أنشأت محطة رادار ثانية في موقع قرب مدينة ترابزون في تركيا، وهي نفسها مدينة ترابزون الأسطورية في بيزنطة خلال القرون الوسطى، فضلا عن موقع تنصت قرب أسطنبول. وكانت المحطة تلتقط مقايسات عن بعد من الصواريخ المحلقة، أثناء إرسالها بيانات خاصة بالأداء لاسلكيا؛ مثل: معدل استهلاك الوقود، وقوة الدفع، وزمن الاحتراق، والسرعة، ونقطة انفصال الرأس الحربية، والارتفاع، والمدى.
شكل الصاروخ «آر-5» تهديدا حقيقيا لحلف شمال الأطلسي وأوروبا. وأثناء الحرب، أطلقت القوات الألمانية الصاروخ «في-2» باستخدام معدات متنقلة لم تكن تتطلب سوى إزالة بعض أشجار الغابات في نطاق ضيق، وكانت غابات منطقة شرق ألمانيا تسمح بإخفاء القواعد الأمامية التي يمكنها إطلاق قذائف تصل إلى جميع أنحاء بريطانيا العظمى، وهو ما أثار سؤالا مشوقا حول كون البريطانيين يستطيعون بناء صاروخ يمثل تهديدا لموسكو. وتبين أن البريطانيين لا يمكنهم القيام بذلك، على الأقل ليس في القريب العاجل، وهو ما كان يعني ضرورة تدخل القوات الجوية لتقديم يد المساعدة. وعلى وجه التحديد، كان على الولايات المتحدة تطوير صواريخ باليستية متوسطة المدى، تنطلق من إنجلترا، بمدى 1500 ميل يجعلها قادرة على الوصول إلى الكرملين.
بعد الموافقة على الصاروخ «أطلس»، أصبحت الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى موضوع الساعة. أعلن مؤيدو استخدام هذه الصواريخ أنها ستكون أبسط في التطوير وأسرع في التجهيز، بل اقترح بعض المسئولين في البحرية إمكانية إطلاقها من غواصات. وأكد تقرير لجنة كيليان، الذي صدق على هذه الأفكار، على أهمية هذه الصواريخ؛ حيث ورد فيه: «يجب تطوير صواريخ باليستية متوسطة المدى للاستخدام الاستراتيجي. ويجب بحث مسألة إطلاق الصواريخ برا وبحرا.»
انتهز فيرنر فون براون هذه الفرصة الجديدة سريعا؛ فمع قرب اكتمال تطوير الصاروخ «ردستون»، كان فريقه على وشك الدخول في حالة سكون، إلا أن تطوير صواريخ باليستية متوسطة المدى قدم لهم فرصة جديدة مواتية لمواصلة العمل دون توقف. وفي مارس 1955، بعد بضعة أسابيع فقط من صدور تقرير كيليان، اقترح فون براون أن تتولى شركة «ردستون آرسنال» مهمة تطوير صاروخ باليستي متوسط المدى باعتبارها شركة متعاقدة مع القوات الجوية. ورفض الجنرال شريفر اقتراح فون براون على الفور، قائلا: «من السذاجة الاعتقاد بأن الجيش سيطور سلاحا، ثم يسلمه إلى القوات الجوية لاستخدامه.»
اعتقد شريفر أن تطوير صاروخ كهذا يمكن أن يتم من خلال تطوير الصاروخ «تايتان» الباليستي العابر للقارات ذي المرحلتين، كنموذج مطور يعتمد على صاروخ المرحلة الثانية في الصاروخ «تايتان». ولكن في يوليو أدرك شريفر أن أفضل صاروخ من هذا النوع لن يتجاوز مداه ثمانمائة ميل، وهو ما يعادل تقريبا نصف المدى المطلوب. وطلب شريفر من اثنين من مساعديه، هما روبرت ترواكس وأدولف «دولف» ثيل، وضع الخطوط العريضة لتصميم صاروخ جديد تماما. وكان ترواكس يخدم كممثل لسلاح البحرية في قسم التطوير الغربي الواقع تحت إشراف شريفر، بينما كان ثيل قد رحل عن هانتسفيل للانضمام إلى شركة «رامو وولدريدج». وكان مقترح الصاروخ الذي تقدما به يحمل اسم «ثور».
كان لدى ترواكس وثيل عروض من شركات يتعين عليهما بحثها، فضلا عن الأشخاص الموهوبين في قسم التطوير الغربي وشركة «رامو وولدريدج». وبينما كان برنامج «أطلس» في طور التنفيذ، توافرت لدى ترواكس وثيل دراسات محدثة حول التوجيه والمقدمات المخروطية والمحركات. ونظرا لأن قابلية النقل بسهولة كانت مسألة جوهرية، صمم ترواكس وثيل الصاروخ الجديد بحيث يمكن نقله عن طريق قاذفة طراز «سي-124». وكان من المفترض أن يعمل الصاروخ بمحرك الصاروخ «نافاهو» التقليدي من إنتاج شركة «نورث أمريكان»، وهو المحرك الذي أشار إليه ثيل بأنه «المحرك الوحيد المتوافر». وتلقى شريفر العرض النهائي بحلول عيد العمال، فرفعه إلى تسلسل القيادة للموافقة عليه.
في تلك الأثناء، كان تريفور جاردنر يدبر لإثارة رد فعل تجاه الموضوع؛ فعلى الرغم من أن الصاروخ «أطلس» كان يتمتع بالأولوية في القوات الجوية، كان تريفور يرى أن ذلك لم يكن كافيا؛ إذ كان يجب أن يتنافس مع الوكالات الفيدرالية الأخرى لاجتذاب أفضل العلماء والمهندسين. بالإضافة إلى ذلك، أدرك جاردنر أن التعامل مع الأمر سيسير وفق طريقة القوات الجوية المعهودة. وكتب شريفر قائلا: «يوجد لدينا في البنتاجون عشرات المساعدين - أو أكثر - لوزير الدفاع، ويوجد العدد نفسه في جميع الوزارات؛ وكل مساعد لديه مملكة صغيرة يحكمها، ويعمل تحت إمرته مائة موظف بيروقراطي أو أكثر، وجميعهم لديهم الأهداف والمصالح التي تؤثر على قراراتهم؛ لذا، عندما يقدم برنامج نظم في البنتاجون، فإن أصداءه تتردد في اثني عشر أو خمسة عشر اتجاها مختلفا. ولا يمكن للمرء أن يرى البرنامج في صورته الأصلية مجددا، حيث كان الجميع يدلون بدلوهم في الموضوع.»
وجد جاردنر الفرصة سانحة أمامه مجددا في تقرير كيليان، الذي كان يحث مجلس الأمن القومي على الاعتراف بالصواريخ الباليستية العابرة للقارات باعتبارها «جهدا ذا أولوية قصوى يتمتع بتأييد على المستوى القومي»، وهو ما كان يعني بالنسبة إليه أن الصاروخ «أطلس» يجب أن يتمتع بما هو أكثر من مجرد الأولوية القصوى لدى البنتاجون؛ إذ كان يجب أيضا أن يتصدر جميع الأولويات على المستوى القومي، وهي مكانة لم يحظ بها أي مشروع سابق في وقت السلم. وقضى جاردنر فترة الصيف يلح على هذه المسألة، وحصل على ما يريد في منتصف سبتمبر، عندما وافق آيزنهاور على المشروع.
جاء قائد جديد إلى القوات الجوية، وهو دونالد كوارلز، الذي أصدر إليه الرئيس تعليمات للحد من الإجراءات الروتينية بدرجة كبيرة. ومثلما يتذكر شريفر قائلا: «جئت حاملا معي مقترحا كبيرا طفت به جنبات البنتاجون، وذهبت إلى مكتب تريف جاردنر، وكان لدى تريف رسم تخطيطي، ونزلنا إلى مكتب دون كوارلز. وألقيت نظرة سريعة على الرسوم التخطيطية، أكدت لي استحالة التعامل مع البنتاجون بالطريقة التي جرى تنظيمه بها. ولم يكن في وسعنا الانتظار للحصول على موافقة كل هؤلاء الأفراد.»
8
أصدر كوارلز توجيها إلى نائبه المختص بإدارة البرامج، هايد جيليت، لتشكيل لجنة تقترح طريقة للتخلص من اللجان القائمة. ومنحت إجراءات جيليت التي تمخضت عنها هذه اللجنة سلطات واسعة لشريفر، مؤكدة على أن مؤسسته ستصبح مسئولة حصريا عن تخطيط وإدارة برامج تطوير الصواريخ الباليستية في القوات الجوية. وقلصت هذه الإجراءات عدد هيئات الفحص والمراجعة من اثنتين وأربعين هيئة إلى عشر هيئات، وعينت الإجراءات مستوى واحدا في منح الموافقات الرسمية داخل القوات الجوية، باسم لجنة الصواريخ الباليستية، مع وجود مجموعة مماثلة تمارس السلطة النهائية على مستوى وزير الدفاع. وفي ظل هذه الترتيبات، مضى مشروع «ثور» قدما بسرعة فائقة.
مع ذلك، كان الصاروخ «ثور» يتطلب الحصول أولا على موافقة رئاسة الأركان، وهنا واجه مزاحمة من جانب الجيش. كان رئيس إدارة التسليح في الجيش قد تلقى مقترح فون براون بعد أن رفضه شريفر، داعيا إياه إلى تطوير صواريخ باليستية متوسطة المدى يستخدمها الجيش. وكان هذا الصاروخ، الذي يحمل اسم «جوبيتر»، مماثلا للصاروخ «ثور» تماما، وهو ما أثار مسألة إهدار الموارد في إنتاج صواريخ متشابهة. وكان من الواضح أن «جوبيتر» يتمتع بميزات، نظرا للخبرة التي لا تضاهى التي كان يتمتع بها فريق عمل فون براون، في حين عينت شركة «ردستون آرسنال» مجموعة أفراد من داخل الشركة اتضحت كفاءتهم الفنية من خلال تطوير نظام توجيه يعتمد على القصور الذاتي للصاروخ «ردستون». لكن، في هيئة الأركان المشتركة رأى رئيس أركان الجيش، الجنرال ماكسويل تايلور، أنه لا يمكن إحراز تقدم إلا من خلال التوافق مع نظيره في سلاح البحرية، الأدميرال أرليه بيرك. وكان بيرك يرغب في إطلاق صواريخ بحرا، بيد أن الصاروخ «ثور» لم يكن يفي بهذا الغرض؛ فلم يكن طوله البالغ خمسا وستين قدما يسمح بدخوله غواصة. ونظرا لأن الصاروخ «جوبيتر»، الأقصر طولا والأكثر سمكا، كان يفي بالغرض على نحو رائع، أمكن لهذا الاستخدام المزدوج أن يعالج مسألة إهدار الموارد المثارة في البنتاجون. وفي إطار موافقة وزير الدفاع ويلسون على هذه الترتيبات، أصدر ويلسون قرارا في 8 نوفمبر تضمن توجيها بالمضي قدما في «ثور» و«جوبيتر». بالإضافة إلى ذلك، كان من المقرر أن يحظى كلا البرنامجين الجديدين بنفس الأولوية القصوى التي كان يحظى بها الصاروخ «أطلس».
سباق الصواريخ: الصواريخ «أطلس» و«تايتان» و«ثور» و«جوبيتر» و«آر-5» و«آر-7» (دان جوتييه).
على الرغم من ذلك، واجه كلا البرنامجين في البداية احتمالات مختلفة للغاية؛ فقد وجد قائد برنامج الجيش، الميجور جون مداريس، نفسه شريكا مع البحرية، ولم تبرهن البحرية على رغبتها في التجاوب؛ إذ سرعان ما تبين أن فكرة تخزين وقود صاروخي سائل ومناولته في غواصة بحرية تتخطى اهتمامات البحرية، وسرعان ما أسقط أدميرالات البحرية مشروع الصاروخ «جوبيتر» من اعتباراتهم في غضون أشهر. بالإضافة إلى ذلك، واجه مداريس مشكلة مع المحركات؛ إذ كان مداريس سيستخدم المحرك نفسه المزمع استخدامه في الصاروخ «ثور»، لكنه كان من المحركات المملوكة للقوات الجوية، واستغرق الأمر فترة من الوقت قبل أن يتمكن من شراء محركات الصواريخ مباشرة من شركة «نورث أمريكان»، وهي الشركة المصنعة لهذا النوع من المحركات. حتى ذلك الحين، كان عليه أن يذهب إلى شريفر، وفي حوزته جميع الأوراق اللازمة، ويحصل على ما يستطيع الحصول عليه.
لكن، كان شريفر في تلك الأثناء في مانجمنت هيفن، وكان يدير أهم برامج تطوير الأسلحة في البلاد، ويتمتع بجميع الصلاحيات التي قد يريدها، وكان نفوذه آخذا في الاتساع. وفي وقت مبكر من عام 1955، أضاف مشروع «تايتان» الذي كان مشروعا مكملا لمشروع «أطلس»، وكان على وشك تولي مشروع قمر «دبليو إس-117إل»، وكان سيضم الصاروخ «ثور» أيضا إلى القائمة. بالإضافة إلى ذلك، كانت شركتا «دوجلاس إيركرافت» و«بيل لابس» تتسابقان للحصول على العقود التي ستمكنهما من بناء هذا الصاروخ، وكانت الشركتان قد عملتا معا باعتبارهما شركتين من الشركات المتعاقدة الرئيسية في مشروع «نايكي» للصواريخ المضادة للطائرات التابع للجيش، وكان المديرون في كلتا الشركتين مهتمين بمشروع الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى الجديد.
لم يستطع شريفر استغلال نفوذه في منح عقود مباشرة؛ إذ كان يتعين عليه الاعتماد على مناقصات على درجة كبيرة من التنافسية، لكنه كان يستطيع الاختيار مسبقا بين الشركات المتنافسة، ودعا شركتي «نورث أمريكان» و«لوكهيد» إلى إعداد عرضيهما. وبعد عيد الشكر مباشرة، أرسل البنتاجون رسالة تلغرافيا إلى مكاتبه نصت على الآتي: «صدرت الموافقة على البرنامج، امضوا في تنفيذه بأقصى سرعة.» وسرعان ما أجرى نائب شريفر، الكولونيل تشارلز تريون، عددا من الاتصالات الهاتفية التي جرى الإعداد لها طويلا مع مسئولين تنفيذيين في شركات الطائرات الثلاث، والتقى بجميع المسئولين التنفيذيين وشدد على أن ترواكس وثيل كانا قد حددا الملامح العامة للصاروخ «ثور». ومثلما يتذكر تريون: «ستحصل الشركة المتعاقدة على المحركات ونظم التوجيه والمقدمات المخروطية المحددة، وستتولى جانبا كبيرا من عمليات التكامل والتصنيع. ستحصل على جميع مستلزمات المشروع، ومن ثم يتعين عليها إطلاعنا على الطريقة التي سوف تنتهجها في تنفيذ المشروع.» وأشار إلى «ثور» باعتباره «برنامجا على أقصى درجة من الخطورة». ثم أشار زميلان إلى جوهر الأمر بقولهما: «لن يكون ثمة وقت لارتكاب أخطاء.»
أمهلت الشركات أسبوعا لإعداد عروضها حسبما يقول تيرون، ثم أشرف تيرون على لجنة اختيار المصدر، وهي اللجنة المختصة باختيار الشركة المتعاقدة. وفازت شركة «دوجلاس» بالعقد، ولم يكن هذا الأمر مفاجئا، ثم مضى تريون إلى واشنطن للحصول على الموافقات اللازمة؛ ولم يستغرق الأمر إلا يومين للحصول على تلك الموافقات، من المسئولين الذين كان من بينهم عضو هيئة الأركان الجوية وقائد القوات الجوية كوارلز. وكانت شركة «دوجلاس إيركرافت» قد شكلت إدارة المشروع، التي كان من بينها أحد خبراء مشروع «نايكي»، وهو جاك برومبرج، الذي كان من المنتظر أن يتولى إدارة المشروع الجديد، وكان العاملون في المشروع يطلقون عليه «ثورهيد».
قبل أن ينقضي عام 1955، استجاب مسئولو شركة «دوجلاس» إلى طلب رسمي للإعلان عن أنفسهم، من خلال وضع ختم الشركة الرسمي، بموجب التوقيع على العقد. ولم يكن قد مضى إلا سبعة أسابيع فقط على إصدار وزير الدفاع ويلسون أوامره بالمضي قدما في المشروع، وهو إيقاع سيظل مستمرا. ومثلما أشار شريفر في حديثه عن الأمر: «لم يكن يتوافر لدينا دوما محامون محترفون نستشيرهم، وفي كل مرة نقرر فيها فعل شيء ما، لا يكون لدينا رأي قانوني مطول نتجادل حوله. وكنت أملي على أية شركة من الشركات المتعاقدة ما تفعله وما لا تفعله، وكانت تنصاع لأوامري، ثم تتخذ بعد ذلك الإجراءات الإدارية.»
في تلك الأثناء، كانت البلاد تباشر تنفيذ أربعة مشروعات كبرى في مجال الصواريخ، وهي «أطلس» و«تايتان» و«ثور» و«جوبيتر». وفي الوقت المناسب، كان من المنتظر أن يظهر كل صاروخ باعتباره صاروخا معززا فضائيا، إلا أن الاهتمام كان منصبا في ذلك الوقت على الأسلحة النووية. وكانت ثمة منافسة أيضا في هذا المجال؛ إذ صار للمختبر النووي في لوس ألاموس منافس، هو مختبر «لورانس ليفرمور»، الذي أسسه إدوارد تيلر. وقاد هارولد أجنو - وهو مصمم أسلحة، خلف نوريس برادبري في رئاسة مختبر لوس ألاموس - برنامج تطوير كان ينافس ليفرمور في تصميم الرءوس الحربية للصواريخ الجديدة. وصار هارولد براون، نظيره في ذلك المختبر المنافس، وزير الدفاع في إدارة جيمي كارتر.
يتذكر أجنو تلك الأحداث قائلا: «كنا نشعر دائما في لوس ألاموس أن مشكلتنا الرئيسية كانت مع ليفرمور، وليس الاتحاد السوفييتي. بدأ مختبر ليفرمور نشاطه متأخرا، وكان عليه اللحاق بنا. ولم تسفر مساعيهم المبكرة عن نجاحات كبرى.» وفي التنافس على مشروعات الصواريخ، «اكتسحناهم اكتساحا؛ فالرءوس الحربية في جميع الصواريخ - «ثور» و«جوبيتر» و«أطلس» و«تايتان» - كانت نتاج الجهود في مختبر لوس ألاموس؛ ولا أعتقد أن هارولد غفر لنا ذلك على الإطلاق.»
9
اعتمدت المشروعات الأربعة جميعها على نفس المحركات، وهو ما تطلب إجراء عمليات تطوير واختبار شاملة، وتضمن هذا الأمر ما هو أكثر من البرهنة على سلامة التصميم الأساسي؛ إذ كانت ثمة تعديلات تستدعي إجراء اختبارت إضافية، خاصة بعد تفاوض الجنرال مداريس مع شركة نورث أمريكان حول العقود التي كانت تشترط زيادة قوة الدفع من 135 ألف رطل إلى 150 ألف رطل. وكانت المضخات التوربينية تمثل مشكلة في حد ذاتها، إلا أن عملية إصلاح سريعة كانت تكفي لمتابعة تشغيلها. يتذكر بيل إزل، وهو أحد المديرين في مختبر سانتا سوزانا الميداني، ذلك قائلا: «كنا نفقد ريشة في أحد جوانب التوربين، فندسها في موضعها ونزيل ريشة أخرى من الجانب الآخر.» ومع استعادة التوازن على هذا النحو، كان التوربين يعود إلى العمل مجددا.
بالإضافة إلى ذلك، كان كل محرك مستخدم في هذه البرامج بحاجة إلى اختبار تأهيل، مثل السيارات التي تخرج توا من خطوط الإنتاج وتمر باختبارت قيادة أولية. وفصلت شركة «نورث أمريكان» أنشطتها في مجال الصواريخ في قسم جديد أطلقت عليه اسم «روكيت داين»، وسرعان ما عين المزيد من العاملين في المشروع، وكان من الضروري أن يشاهد كل موظف جديد عملية إشعال محرك ميدانية واحدة على الأقل في «التل»؛ أي في مختبر سانتا سوزانا. ولكن، لم يكن في المركز منصات إطلاق كافية؛ لذا صرحت القوات الجوية باستخدام العديد من المنصات في قاعدة «إدواردز» التابعة للقوات الجوية، وهي المنصات التي كانت قد استخدمت في اختبار صاروخ «بومارك»، وهو صاروخ بعيد المدى مضاد للطائرات. وأصبحت هذه المنصات جاهزة للاستخدام بعد إجراء عدد من التعديلات السريعة عليها.
كانت منطقة الاختبارات تقع في صحراء موهافي، التي كانت تشتهر بالثعابين، وكتب المؤلف جوليان هارت عن ذلك يقول: «بعد حلول الظلام، لم يكن أحد يترجل خارج شاحنات النقل في مناطق الانتظار المرصوفة بالأسفلت، أو يحافظ على توازنه من خلال الإمساك جيدا بالدرابزين الحديدي بطول ممرات السير، دون أن يستخدم الكشافات اليدوية لاستكشاف المكان بعناية؛ إذ كانت الكشافات تحتجز الحرارة وتطلقها على نحو يجذب أفاعي الرمال القاتلة التي تسعى إلى تدفئة نفسها من برودة الرياح ليلا.»
10
ويضاف إلى ذلك أيضا الحيوانات البرية الموجودة في سانتا سوزانا، مثل الأفاعي الجرسية، والغزلان، والراكون والأسود الجبلية التي تجدها بين الحين والآخر. وكانت قوارض الجوفر تمثل مشكلة أيضا حتى اكتشف أحدهم طريقة للتخلص منها عن طريق صب أول أكسيد الهيدروجين النقي في جحورها.
يتذكر بول كاستنهولتس، الذي كان يعمل في هذا الموقع، تلك الأوقات قائلا: «كنا مهندسين في الموقع، وكانت درجات الحرارة تصل إلى 105 أو 110 درجات خلال فصل الصيف، وكان لدينا نوع من أجهزة التبريد التبخيري؛ حيث كانت المياه تتدفق عبر هياكل خشبية عن طريق مروحة، لكن لم تكن لدينا أجهزة تكييف على الإطلاق. وأعتقد أن الطقس لم يكن يمثل فارقا كبيرا لنا. كان الطقس مقبولا، ولم يكن أحد يرتدي رابطة عنق. كان العمل مشوقا جدا، وكنا نستمتع به كثيرا. كنا نشعر أننا مجموعة من الصفوة.»
11
أضاف إزل قائلا: «كان إيقاع العمل سريعا للغاية.» وكان رئيسه، روي هيلي، قد ترأس جمعية الصواريخ الأمريكية مرتين، ومثلما يتذكر إزل: «لم يكن لدي إلا عامان من الخبرة، وكنت رجل هيلي الأول. كنا نعمل ستة أيام في الأسبوع، وفي حال وجود مشكلات كنا نعمل سبعة أيام. وكان لدينا ثماني منصات لاختبار المحركات، في قاعدتي إدواردز وسانتا سوزانا. وكنا نعمل في نوبتين؛ كنت أعمل طوال اليوم، ثم أتوجه ليلا إلى الموقع، لمساعدة الشباب في تعلم طريقة تشغيل منصة اختبارات. وفي الليالي الأخرى، كنت أمكث أنا أو روي هيلي في المنزل؛ حتى إذا صادف أحد مشكلة ما يستطيع الاتصال بنا هاتفيا.» وكانت الإخفاقات أمرا معتادا؛ يقول إزل: «ذات يوم، تسببت في انفجار أحد محركات الصاروخ ردستون، وفي اليوم التالي حصلت على ترقية.»
12
سجلت مجلة «تايم» انطباعاتها عن الموقع:
سانتا سوزانا مكان رائع، مساحته ثلاثة أميال مربعة، وهو مكان محاط بسور ومزود بحراسة، وتكثر فيه نتوءات جيئة وذهابا، تتخللها صخور حمراء مستديرة. وينعطف طريق شديد الانحدار أعلى ممر سفلي، ثم يفضي إلى مجموعة مدهشة من المباني ذات الطابع المستقبلي. ولا توجد أرض طبيعية منبسطة، بل توجد مبان ضخمة، وخزانات ممتلئة، ومعدات اختبار عجيبة تقبع فوق الأجراف أو تقع بين الفجوات الصخرية. وكانت تقام منشآت جديدة بسرعة محمومة، ويعج المكان بعمال يرتدون الخوذات، وتتسلق البلدوزرات المناطق المرتفعة مثل الماعز الجبلي، بينما تزيل في طريقها أجزاء من الصخور الجبلية أمامها. كما يوجد مصنع قيد الإنشاء سيسحب 600 طن من الأكسجين السائل يوميا من الهواء.
وكانت الهياكل الصلبة الهائلة التي توضع فيها محركات الصواريخ تتوارى عن الأنظار في أودية ضيقة؛ مما يجعل أصداء أصواتها تتردد لأعلى. وكانت دعامات تلك الهياكل في قوة ركائز الجسور المعلقة، وتراها «منغرسة مثل خطاف الصنارة» في الصخور حتى لا تتزحزح بقوة دفع الصخور. وعلى مسافة سبعمائة قدم، كانت توجد مباني المراقبة التي تحتوي على نوافذ مزودة بمنظار لمراقبة الأفق. وعندما كان يتم اختبار محرك قوي، يندلع لسان ضخم من اللهب أسفل تلك النوافذ، مرتفعا في بعض الأحيان إلى أعلى في صورة عمود من النيران الصفراء، ويصدر صوت مدو كما لو كان صوت ضجيج نهاية العالم بين جنبات الصخور، وهو ما يجعل الأجساد ترتعش مثل الجيلي المهتز.
13
كانت عملية الإنشاء سارية أيضا في كيب كانافيرال، الذي حل محل وايت ساندز باعتباره مركز الصواريخ الرئيسي في البلاد؛ حيث كان المركز يقع في مواجهة المحيط الأطلنطي ويتوافر أمامه مدى مفتوح يمتد إلى عشرة آلاف ميل بدءا من خط الساحل. اختار البنتاجون هذا الموقع لاستخدامه كمركز اختبارات صواريخ في عام 1947، وسمحت الحكومة البريطانية فيما بعد للولايات المتحدة ببناء محطات تتبع في بعض جزر الباهاما، التي كانت على مرمى مباشر من موقع كيب كانافيرال. وأجريت عمليات الإطلاق الأولى في يونيو 1950؛ حيث نجح إطلاق صاروخين من طراز «في-2»، استخدمت فيهما صواريخ «دبليو إيه سي كوربورال» كصواريخ مرحلة ثانية، وهو نفس مزيج الصواريخ الذي تمكن من بلوغ ارتفاع 244 ميلا فوق موقع وايت ساندز في العام السابق لهذا. اتسع نشاط المركز بعد ذلك، ولكن دون تخطيط محكم. ولسنوات عديدة، ظل أبرز الصواريخ التجريبية التي انطلقت من هذا الموقع هو الصاروخ «سنارك»، وهو صاروخ طراز «كروز»، ينطلق بسرعة أقل من سرعة الصوت معتمدا على محركات نفاثة، لكنه سقط في نهاية الأمر في المحيط الأطلنطي؛ مما جعل الناس يشيرون إلى موضع سقوط الصاروخ ب «المياه المجتاحة بصواريخ سنارك».
كانت أرض الموقع منخفضة السطح، سبخة في بعض المواضع، تكتسي بالعفن الفطري وتعج بالناموس. وكان الناموس يتكاثف بعد سقوط الأمطار الغزيرة، التي كانت تسقط على فترات متكررة، حتى إنك قد تجد خمسين مليون ناموسة في فدان واحد من الأراضي السبخة المالحة؛ وفي المناطق الأسوأ، كان من يقف لمدة دقيقة واحدة فقط يغطي جسده أكثر من خمسمائة ناموسة. ويتذكر واحد من أقدم من عملوا في الموقع تلك الأيام قائلا: «الجميع كانوا يرتدون قمصانا ذات أكمام طويلة وقفازات، حتى في فصل الصيف. ولم يكن من الممكن ارتداء قميص أبيض؛ إذ كان الناموس يتجمع بكثرة على القميص محولا لونه إلى الأسود .»
لم يكتشف السائحون موقع كيب كانافيرال؛ إذ لم يكن يوجد نزل في الأرجاء المحيطة بالمكان، وكانت أقرب مدينة إلى الموقع هي تيتوسفيل، عاصمة المقاطعة، التي لم يتغير تعداد سكانها البالغ 2604 نسمات في عام 1950 كثيرا منذ التعداد الأخير. ولكن مع اقتراب ذروة العمل في مشروعات تطوير الصواريخ، خلال عامي 1954 و1955، اكتملت منشآت موقع كيب كانافيرال الرئيسية، التي كانت تشمل محطة رادار ومحطة قوى كهربية ومركز اتصالات ومركز إطفاء حرائق ومبنى تحكم مركزي، فضلا عن حظيرة طائرات وصواريخ. وكانت المنطقة لا تزال وعرة إلى حد كبير، مع وجود طيور برية وحيوانات المدرع التي تظهر في المنطقة بين الحين والآخر. أما الآن فالحاجة تقتضي التوسع في منشآت الموقع بسرعة؛ حيث كانت الصواريخ «نافاهو» و«فانجارد» و«جوبيتر» و«ثور» و«أطلس» و«تايتان» جميعها في حاجة إلى منصات إطلاق.
تصدر الصاروخ «ثور» قائمة الصواريخ الأخرى، وكان أول صاروخ ينطلق من منصة الإطلاق. ووضع المديرون جدولا زمنيا طموحا كان يتطلب إجراء عمليات إطلاق مبكرة كثيرة. ولم ينتظر المسئولون عن الصاروخ تصميم نظام توجيه حقيقي، كما لم ينتظروا أيضا تصميم نظام توجيه بالقصور الذاتي والإشارات اللاسلكية، ذلك النظام الذي ربما لا يستغرق تطويره وقتا طويلا للغاية، فبدءوا بدلا من ذلك بنظام طيران آلي بسيط، لا يضمن تحقيق دقة فعلية لكنه يسمح على الأقل بتحليق الصاروخ «ثور». وتعهد المديرون أيضا بالبدء قريبا في إنتاج الصواريخ التجريبية، وإن كان هذا سيتضمن بعض أوجه القصور في النموذج النهائي نظرا لغياب التطوير. وتوقع القائمون على المشروع أن تفشل بعض عمليات الإطلاق، لكنهم كانوا يتوقعون أيضا أن يتعلموا دروسا قيمة من تجارب الإطلاق، حتى إذا انفجرت الصواريخ.
كان الجدول الزمني يتطلب ألا تزيد الفترة، من لحظة توقيع العقد إلى عملية الإطلاق الأولى لصاروخ جاهز، عن سنة واحدة؛ وبحلول ثمانينيات القرن العشرين - وهي فترة كان فيها إصلاح الحلقات الدائرية في الصواريخ المعززة للمركبات الفضائية يستغرق ما لا يقل عن ثلاث سنوات - بدا هذا الجدول الزمني ضربا من السفه. ومع ذلك، اكتمل تصميم «ثورهيد» تقريبا في أواخر شهر يوليو من عام 1956، بعد سبعة أشهر فقط منذ بداية البرنامج. وفي أكتوبر من العام نفسه ، جرى نقل الصاروخ الأول، رقم 101، إلى كيب كانافيرال على متن قاذفة طراز «سي-124»، ثم أعقبه في نوفمبر الصاروخ الثاني رقم 102. وكان لا يزال نجاح عملية إطلاق الصاروخ «ثور» بحلول نهاية العام احتمالا قائما.
كان مجمع «17-بي» مجهزا بمنصة إطلاق، ومبنى مراقبة، ومنصة شاهقة مطلية بخطوط حمراء وبيضاء اللون لاستخدامها كنقطة مراقبة لمنصة الإطلاق. ولم يكن لدى أي من العاملين في دوجلاس أية خبرة في تصميم أبراج المراقبة، بيد أن ذلك لم يقلق المسئولين عن عمليات الإطلاق؛ فقد قال دولف ثيل: «ليس أمامنا وقت كاف لوضع تصميم برج مراقبة؛ لأننا نريد أن نجري عملية الإطلاق في الفترة ما بين شهري نوفمبر ويناير. دعونا نفحص تصميمات أبراج المراقبة المتوافرة لدينا بالفعل.» ونفى أحد الزملاء، وكان يدعى الكولونيل جيك، وجود ضرورة لذلك؛ حيث قال: «يوجد برج مراقبة مكتمل التصميم يستخدم لمراقبة عملية إطلاق الصاروخ «ردستون»، وليس عليك إلا اقتراض مجموعة من تصميمات أبراج مراقبة ردستون وبناء مثلها.» ورأى ثيل أن ذلك سيجعل موقع الاختبارات مزدحما، وإن كان حلا يفي بالغرض.
لم يجر طاقم العمل في موقع كيب كانافيرال أي عملية إطلاق خلال عام 1956، لكنهم كانوا يقتربون من ذلك. ونصب الصاروخ 101 على منصة الإطلاق في 20 ديسمبر، لإجراء عملية إطلاق استاتيكية للتأكد من جاهزية الصاروخ لعملية الإطلاق النهائية، لكن المحرك لم يعمل بسبب وصلة كهربائية صغيرة، إلا أن ذلك لم يفسد على أحد بهجة الاحتفال بعيد الميلاد. وخلال عام 1957، نجح الصاروخ «ثور» في الانطلاق بالفعل، وتلاه الصاروخ «جوبيتر»، ثم «أطلس»، ثم «فانجارد». وكان سيرجي كوروليف في موقع تيوراتام يجري استعدادات مماثلة لإطلاق صاروخه طراز «آر-7».
الفصل الخامس
«الروس يحرزون السبق!»
بدء السباق نحو الفضاء
كان فيرنر فون براون يجيد فن إقناع الآخرين بما يريد، ويتحدث بول كاستنهولتس عن هذا قائلا: «كان يبدو دائما أكبر سنا مما هو عليه، وكان ينظر إليه باعتباره صاحب خبرة طويلة، ورؤية ثاقبة، وكانت تحيط به هالة تضفي عليه طابعا من المصداقية. وكان كثير المطالعة ولديه اهتمام بالكثير من المجالات، ويحب الغوص والطيران. كان رجلا محبا للانطلاق رافضا للقيود.» ويصفه سام هوفمان بأنه «شخص أنيق وجذاب، وصاحب كاريزما عالية، وشخصية قيادية. وكان وسيما، وذكيا، وينتمي إلى الصفوة.»
كان فون براون صاحب حضور قوي أيضا، ويتحدث أحد زملائه في هانتسفيل عن ذلك قائلا: «أقمنا حفلا في إحدى الأمسيات، وكان يحضرها نحو مائة شخص يتعارفون ويتجاذبون أطراف الحديث بينهم. وكان فون براون آخر من وصل إلى الحفل، وعندما دخل بصحبة زوجته ماريا، توقفت جميع الأحاديث؛ أراد الجميع أن يسمعوا ما كان سيقوله.»
1
مع ذلك، لم تشفع له أي من هذه الخصال في أواخر نوفمبر 1956، عندما أصدر وزير الدفاع ويلسون قرارا بشأن الأدوار والمهمات الخاصة بأسلحة القوات المسلحة الثلاثة، فيما يخص مجال الصواريخ البعيدة المدى. وبموجب هذا القرار، صار مسموحا للجيش بنشر صواريخ يصل مداها إلى مائتي ميل، وهو نفس مدى الصاروخ «ردستون»، لكن أي صواريخ أخرى تتخطى هذه الآماد أصبحت تقع ضمن نطاق مسئولية القوات الجوية. وأشار الجنرال مداريس إلى القرار باعتباره «نصرا مؤزرا» لسلاح القوات الجوية المنافس. وكان مدى الصاروخ «جوبيتر» 1500 ميل، ومن ثم فإنه كان يتجاوز كثيرا الحدود المسموح بها داخل الجيش.
وبحدوث هذا التطور في الأحداث، يكون فون براون قد تلقى أربع ضربات في أقل من عامين؛ فقد روج الصاروخ «جوبيتر» للقوات الجوية في أوائل عام 1955، لكنه تلقى رفضا فظا ومباشرا؛ وخسر عرض قمر «آي جي واي» الصناعي، مشروع المركبة المدارية، المنافسة أمام عرض الصاروخ «فانجارد» المقدم إلى البحرية؛ وعرقلت البحرية أيضا خطة لإطلاق الصاروخ «جوبيتر» من غواصات بحرية؛ وها هو وزير الدفاع ويلسون يصدر قرارا لا يحق بموجبه استخدام صاروخه من قبل الجيش.
لم يلغ ويلسون برنامج الصاروخ «جوبيتر» بل تركه معلقا؛ فقد كان لدى فون براون، على أية حال، سجل إنجازات مؤكد تضمن عملية الإطلاق الناجحة للصاروخ «ردستون»، في حين لم تنجح الشركات المتعاقدة على الصاروخ «ثور » (وهي: «دوجلاس إيركرافت»، و«روكيت داين»، و«بيل لابس» المسئولة عن تصميم نظام توجيه بالقصور الذاتي والإشارات اللاسلكية، وشركة «إيه سي سبارك بلاج» المسئولة عن تصميم نموذج فعلي لنظام التوجيه بالقصور الذاتي، وشركة «جنرال إلكتريك» المسئولة عن تصميم مقدمات الصواريخ المخروطية) إلا في بناء صواريخ «نايكي» المضادة للطائرات؛ ومن ثم، تقرر استمرار العمل في الصاروخ «جوبيتر»؛ فربما يعرقل الصاروخ «ثور» في أي وقت. لكن في حال نجاح مشروع الصاروخ «جوبيتر»، كان من المقرر ألا يتولى بناءه ونشره سوى القوات الجوية. وأعرب الجنرال شريفر بوضوح عن عدم تحمسه للفكرة.
لم يمانع آخرون في الإصرار على الفكرة، وكان فون براون يجري اختبارات على مكونات «جوبيتر» عن طريق وضعها على متن صواريخ «ردستون»، وخلال إحدى عمليات الإطلاق هذه، مال الصاروخ وبدأ في الهبوط إلى مركز كيب كانافيرال في اتجاه منطقة إطلاق الصاروخ «ثور». وما كان من ضابط سلامة ميدان الإطلاق إلا أن فجره، وتحطم الصاروخ في منطقة خالية دون أن يتسبب في وقوع أي أضرار. وعلى الرغم من ذلك، حسبما جاء على لسان مداريس، «اتهمنا بتصميم صاروخ غير دقيق على الإطلاق؛ حيث وجدنا أنه من المستحيل، حتى في ذلك المدى القصير، أن يصيب منصة إطلاق الصاروخ ثور».
مع ذلك، حلق الصاروخ «ثور» أولا. وعند نصبه في وضع الاستعداد، في أواخر يناير 1957، كان «ثور» يمثل نقطة فارقة حقيقية؛ حيث كان أول صواريخ جيله. ولم تكن جميع الصواريخ التي جرى بناؤها وإطلاقها حتى ذلك الحين، في الولايات المتحدة وفي الاتحاد السوفييتي، أكثر من مجرد صواريخ معدلة على غرار الصاروخ «في-2»، وهو ما كان ينطبق أيضا على أكثر الصواريخ تطورا، وهو صاروخ كوروليف «آر-5». كان «ثور» يمثل بوابة العبور إلى المستقبل، معلنا ليس فقط عن عصر الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى والبعيدة المدى، بل أيضا عن عصر التحليق في الفضاء.
بحلول هذا الوقت، كانت مظاهر المدنية قد بدأت في الظهور في كيب كانافيرال، لكنها كانت تتبدى ببطء. ويتذكر بوب جونسون، أحد كبار المهندسين في شركة «دوجلاس»، أن الطرق رصفت، لكنها كانت «محاطة بالمستنقعات والأحراش البرية». ويتذكر جيم دورنباكر، من شركة «دوجلاس» أيضا، العثور على موقع يصلح لإقامة منصة إطلاق جديدة وسط مساحات هائلة من البلاميط والمستنقعات: «استقللنا أحد البلدوزرات، وقادنا رجل عجوز من فلوريدا إلى هناك، بينما كانت الثعابين المائية تتساقط من سير البلدوزر؛ وقال: «هنا ستقام المنصة».»
في تلك الأثناء، شيدت بعض الأنزال القليلة في المنطقة، وربما كان «سي ميسيل» أول الأنزال اللائقة. وكان الاسم مناسبا؛ لأن كثيرا من الصواريخ ينتهي بها المطاف في البحر. ومع ذلك، ظل طاقم شركة «دوجلاس»، الذي سيطلق فيما بعد الصاروخ «ثور»، في كوكا بيتش في كلايتون هاوس، وهي أرض مستأجرة. ويشير دورنباكر إلى هذه التجربة قائلا: «لم يكن المرء يستطيع العثور على غرفة بمفرده؛ لذا كان يجب العثور على شخص لا يصدر شخيرا أثناء النوم.» ويضيف جونسون أن طواقم الإطلاق كانت تشرب مياه معبأة؛ نظرا لأن المياه المتوافرة محليا كانت تحتوي على مواد كيميائية مذابة تتسرب إليها من مخزون المياه الجوفية، حيث: «كانت رائحة الماء كريهة وذات طعم فظيع.»
كان الإعداد لعملية الإطلاق، مثلما يتذكر دورنباكر، «يتضمن كثيرا من السيناريوهات الاحتمالية؛ على سبيل المثال: كان على المرء إذا واجهته مشكلة أن يتأكد مما إذا كانت هذه المشكلة في المركبة أم في معدات الاختبار. وكان المرء يتساءل دوما إن كان ما يفعله صوابا، ولم يكن يوجد الكثير من الأشخاص الذين يتمتعون بالمعرفة والخبرة اللازمتين». ويضيف دورنباكر قائلا: «كان المرء في وضع يضطر فيه إلى القيام بشيء لم يقم به من قبل، ولم يكن لديه الوقت الكافي، وفي بعض الأحيان الموارد الكافية، التي تمكنه من ذلك. ولكن، كانت لديه قناعة قوية وإيمان راسخ بأنه يستطيع تخطي أي صعاب.»
كانت أشد هذه الصعاب على وشك الظهور في 25 يناير، عند اقتراب العد التنازلي لموعد الإطلاق من الصفر؛ يقول دورنباكر: «كان المرء يرقب عدادات الضغط، ومصادر الطاقة، والعدادات الإلكترونية. كانت لحظات مليئة بالتوتر، الجميع يكتم أنفاسه ويأمل ألا يحدث شيء يعرقل الأمور.» وكان يقف في مواجهة المسئول عن عملية الإطلاق النهائية، الذي كان سيدفع زر إطلاق الصاروخ، صف من المراقبين، كل منهم معه لوحة تحكم. وفي اللحظة المناسبة، بينما لا يزالون يرقبون العدادات، أعطى كل منهم إشارة «إطلاق» من خلال الإشارة بأصبع الإبهام، واحدا تلو الآخر. وضغط المسئول عن عملية الإطلاق التجريبية، الذي قيل إنه صاحب «أصبع الإبهام الذهبية»، بحسم على زر الإطلاق.
دار المحرك، وارتفع الصاروخ 101 مسافة تسع بوصات عن منصة الإطلاق، ثم فقد قوة الدفع ليستقر مرة أخرى على المنصة، ويسقط عبر حلقة دعم، ويتحطم إلى قطعتين عند انفجاره. سمع الناس في تيتوسفيل دوي الانفجار، على مسافة ثلاثين ميلا. وكان برج المراقبة ذا حوائط خرسانية من الصلب المقوى بسمك قدمين، ويوجد على الجانب المواجه للانفجار عشرون قدما من الرمال؛ ومع ذلك، حسبما قال دورنباكر: «انبطحنا جميعا أسفل المائدة؛ لأننا لم نكن واثقين من مدى قوة برج المراقبة.» وكان دولف ثيل موجودا أيضا، وقال عن هذه الحادثة: «رأينا بريقا هائلا يومض فجأة، وما أذكره بعد ذلك أنني انبطحت أنا وجاك برومبرج أسفل المائدة. ونظر أحدنا إلى الآخر وقال: «ماذا حدث؟» وشعرت بحزن بالغ.»
يضيف بيل إزل من شركة «روكيت داين» قائلا: «بعد خمود النيران، خرجنا نبحث في حفرة اللهب عن أجزاء الصاروخ. وجدت الأنبوب الذي كان يربط مولد الغاز بمضخة تصريف، وكان الأنبوب يحتوي على صمام لا رجعي، كان يجب أن ينغلق عند دوران المحرك، لكنه انفجر منفصلا.» صف العاملون في مركز الإطلاق جميع القطع التي عثروا عليها في حظيرة طائرات ثم بدءوا في فحصها. وعند فحص الأفلام، رأى أحدهم رجلا من شركة «دوجلاس» يسحب خرطوم أكسجين سائل عبر الرمال، وهو سائل حساس، وهكذا تسببت حفنة من الرمال في وقوع الانفجار. وكان انفجارا طفيفا، لكنه أدى إلى فتح الصمام اللارجعي وتسبب في فشل عملية الإطلاق. أجرى إزل وزملاؤه محاكاة لهذا الخلل في اختبار في موقع سانتا سوزانا، وتطابقت نتيجة الاختبار مع حادث الانفجار تماما؛ وفقدوا بذلك الصاروخ «ثور»، لكنهم تعلموا أن يحتاطوا ويولوا إجراءات ما قبل الإطلاق قدرا أكبر من العناية والحذر.
مرت ثلاثة أشهر، وبحلول شهر أبريل كان الوقت قد حان لاختبار الصاروخ 102، الذي انطلق من المنصة بنجاح، وحلق دون مشكلات لمدة نصف دقيقة ثم انفجر. وكان السبب هذه المرة يقع في صميم عمل الضابط المسئول عن سلامة ميدان الإطلاق، الذي كان يعتقد أن الصاروخ متجه إلى أورلاندو، في حين كان الصاروخ يتجه صوب البحر، حسبما كان مفترضا. وكانت المشكلة تعود إلى تقاطع الأسلاك وتداخلها في لوحة التحكم. يقول ثيل: «ضممت قبضتي بشدة وكنت على وشك تسديد لكمة إليه.» ويضيف شريفر أن هذا الضابط: «نقل إلى محطة جديدة في أقصى المحيط الأطلنطي بعد حوالي أسبوع.»
لكن، على حد تعبير دورنباكر: «واجهنا الفشل بعدم قبوله؛ فقلنا ببساطة: «نحن أفضل من المعدات، سننهض من كبوتنا ونواصل العمل».» وسواء أنجحت عملية الإطلاق أم فشلت، كان من المقرر أن يقام حفل في كلايتون هاوس؛ حيث «سيحظى سكان مانهاتن بقدر من الراحة بعد التوتر الذي أصابهم»، ثم يعود الجميع إلى العمل مجددا. ويواصل دورنباكر حديثه قائلا: «سننصب الصاروخ مرة أخرى على منصة الإطلاق، وإذا كان الأمر يستدعي العمل ثمانين ساعة أسبوعيا فلنعمل إذن.»
2
مرت أسابيع الإعداد وبدأ العد التنازلي الذي كان يسبق عملية الإطلاق الاستاتيكية من المنصة، وبعدها ببضعة أيام أجريت عملية الإطلاق الفعلية. استغرقت عملية العد أربعمائة دقيقة، وتخللتها أحداث كثيرة، منها عمليات فحص المعدات على الأرض وعلى متن الصاروخ «ثور». وكانت عملية العد تتوقف في حال ظهور مشكلة حتى ينتهوا من إصلاحها، وهو ما كان يستغرق بعض الوقت.
كانوا يوصلون الصاروخ بمصدر طاقة ثم يجرون عمليات الفحص، وكان نظام التوجيه يتسبب في الكثير من التأخيرات. وخلال إحدى فترات إيقاف العد الطويلة، لحل مشكلة لم تكن تقع في مجال تخصصه، خرج بيل إزل ليلعب تسع جولات جولف، وعندما عاد لم يجد شيئا قد تغير. واستغل بعض العاملين فترات التأخير الطويلة كفرص للإغفاء، كانوا يغفون في سيارة أو يرقدون فوق لوحة رسم في غرفة كانت ملاصقة لمركز الإطلاق . لكن، في حال كانت المشكلة خطيرة فعلا، كان المسئول عن عملية الاختبار يلغي عملية الإطلاق. ويتذكر إزل قائلا: «كانت بعض عمليات العد تستغرق ثلاثين ساعة قبل أن نلغيها.» وبإصلاح الخطأ في نهاية الأمر، كان العد يستأنف مجددا من البداية، عند الثانية 400 من وقت الإطلاق، مع إمكانية وقوع الكثير من الأخطاء.
كان الصاروخ 103 جاهزا للإطلاق في منتصف مايو عام 1957، وكان الجنرال شريفر حاضرا، ومعه روب متلر من شركة «رامو وولدريدج»، والكولونيل إد هول مدير المشروع. وفي برج المراقبة، ارتدى بعض الأفراد جوارب وقمصانا حمراء لجلب الحظ، وهو تقليد يرجع إلى أيام مركز وايت ساندز، وقبل خمس دقائق من عملية الإطلاق، انفجر الصاروخ بينما كان لا يزال منصوبا على منصة الإطلاق. وطفرت الدموع من أعين الحاضرين في برج المراقبة، وفيهم هول ومتلر. كان على وشك الانطلاق تماما، ثم حدث ما حدث.
كان الخطأ هذه المرة يرجع إلى صمام الوقود الرئيسي؛ فبعد فترة قصيرة من تكييف الضغط في خزان الوقود، الذي سيغذي المضخات التوربينية بوقود الكيروسين، أدى خلل في صمام الوقود الرئيسي إلى تزايد الضغط داخل الخزان، ومن ثم إلى انفجاره. ومثلما حدث في انفجار الصاروخ 101 في يناير، لم يكن من الصعب إصلاح المشكلة الأساسية؛ لكن الضرر الذي لحق بمنصة الإطلاق جعل الأمر مختلفا هذه المرة، ولم يصبح الصاروخ جاهزا لإجراء عملية إطلاق أخرى إلا في شهر أغسطس. وبينما كان الصاروخ «ثور» يمر بهذه السلسلة من الإخفاقات المتكررة، كان فريق فون براون القائم على تطوير الصاروخ «جوبيتر» يعتمد على خبرته التي لا تضاهى ويحقق نجاحا.
نجح الفريق في إطلاق صاروخ «جوبيتر» للمرة الأولى في الأول من مارس. انطلق الصاروخ نحو السماء في فترة ما بعد الظهيرة، وارتفع محلقا لمدة أربع وسبعين ثانية دون وقوع أي أخطاء، ثم تحطم فجأة في انفجار هائل؛ فمع صعوده إلى طبقة الجو العليا، كان عادم الصاروخ قد تمدد حتى وصل إلى قاعدة الصاروخ، وأدت درجات الحرارة المرتفعة في الذيل إلى وقوع الانفجار. واستدعت هذه المشكلة وضع درع واق من اللهب مصنوع من الألياف الزجاجية مع عزل عدد من الوصلات والأسلاك الكهربية أو تغيير موضعها. ولكن، كان من الواضح بالفعل أن تصميم الصاروخ الأساسي سليم.
أجريت محاولة أخرى في أواخر شهر أبريل، وحلق الصاروخ «جوبيتر» هذه المرة لأكثر من تسعين ثانية، لكنه خرج عن السيطرة وانفجر مجددا. وكان تخضخض الوقود الدفعي في الخزانات الكبيرة قد تسبب في فشل عملية الإطلاق هذه المرة؛ مما أدى إلى توليد قوى دفع هائلة لم يستطع نظام التوجيه التحكم فيها. وعلى حد تعبير الجنرال مداريس: «صنعنا حزمة كاملة من شبكة أسلاك غليظة على شكل عبوات أسطوانية كبيرة تشبه «عبوات الجعة»، ثم وضعنا عوامات داخلها بحيث تبقى العبوات طافية على السطح، وملأنا السطح العلوي لكل خزان بها.» مما أدى إلى وقف التخضخض وأعطى نتائج سريعة.
في آخر يوم في شهر مايو، بلغ ارتفاع الصاروخ التالي 1489 ميلا، وكان من الممكن أن يبلغ الصاروخ ارتفاعا أكبر من ذلك، بيد أن مصمميه كانوا قد زودوه بمعدات اختبار إضافية؛ مما جعله ثقيلا. ومع ذلك، في أعقاب فشل محاولات فون براون الأخيرة، كان هذا إنجازا حقيقيا؛ فهذه هي المحاولة الناجحة الأولى لإطلاق أول صاروخ باليستي متوسط المدى. ولإثبات أن هذه المحاولة لم تكن محض مصادفة، أجرى طاقم الإطلاق محاولة إطلاق رابعة بعد محاولة الإطلاق الأولى بثلاثة أشهر، وحققت نجاحا مماثلا.
تكشفت الحكمة وراء بناء الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى؛ لأن الصاروخ «أطلس» كان يواجه مشكلات؛ فقد حلق الصاروخ «أطلس» للمرة الأولى في 11 يونيو، لكن لم يستمر ذلك أكثر من اثنتين وعشرين ثانية، قبل أن يفقد محركه قوة الدفع وينحرف عن مساره خارجا عن نطاق السيطرة. ووقع نفس السيناريو في محاولة فاشلة ثانية في أواخر شهر سبتمبر، ولكن الصاروخ «ثور» كان قد حقق آنذاك نجاحا في عملية إطلاقه، وهو ما حدث في 20 سبتمبر، عند محاولة الإطلاق الرابعة، التي بلغ الصاروخ فيها مدى تجاوز 1250 ميلا. وكان الصاروخ محملا بمعدات كثيرة للغاية، وهو ما حد من مداه، لكن عملية الإطلاق كانت مرضية على أية حال؛ وبذلك أصبح في البلاد آنذاك صاروخان باليستيان متوسطا المدى ينطلقان كما ينبغي.
لكن، كان موقع كيب كانافيرال مثل حوض الأسماك ؛ فالجميع في إمكانهم حضور عمليات الإطلاق. وكان ثمة ناد محلي للسيدات اسمه «ميسيل مسيز»؛ حيث كانت عضواته يرقبن عمليات الإطلاق من الشاطئ، وهو ما عنى أن نجاح عمليات إطلاق الصواريخ أو فشلها كان مرئيا للجميع؛ ومن ثم، كان من الصعب على أعضاء الكونجرس والصحافة تصديق النجاح الوشيك لهذه البرامج، في الوقت الذي كانت ثمانية صواريخ من إجمالي أحد عشر صاروخا قد انفجرت في المنصة أو سقطت من السماء محطمة إلى أجزاء متطايرة ملتهبة. وتعارضت هذه الكوارث الهائلة بحدة مع الإنجازات التي كان سيرجي كوروليف على وشك تحقيقها، بعد إخفاق صاروخه القوي طراز «آر-7» في الانطلاق عندما كان يجري اختباره في سرية تامة.
كان الصاروخ «آر-7» أكبر حجما وأكثر قوة بكثير من الصاروخين «أطلس» و«ثور»، وكانت قاعدة إطلاقه أكثر تعقيدا من قاعدة إطلاقهما؛ فقد نقلت مكونات الصاروخ - الصاروخ الأساسي والصواريخ المعززة الأربعة الموثقة به - إلى تيوراتام بالقطار، ليجري تجميعها في حظيرة طائرات أكبر حجما. ثم نقل الصاروخ بعد تجميعه بالكامل، وهو منبطح في وضع أفقي، إلى منصة الإطلاق عن طريق القطار أيضا. وكتب المحلل نيكولاس جونسون متحدثا عن هذه المنصة، أنها كانت «تشبه إلى حد كبير شرك حيوان ضخم، على أهبة الاستعداد للقفز والإيقاع بكل ما كان يقع في قبضته داخل الشرك». وكانت هذه المنصة هي منصة «تيولبان» (أي زهرة التوليب)، التي تتميز بهياكل كبيرة على شكل زهرة التوليب مكونة من عوارض من الصلب تحافظ على بقاء الصاروخ في موضعه، علاوة على توفر منصات عمل لإجراء عمليات الفحص. وخلال عمليات الإطلاق، كانت حواف المنصة تنغلق إلى الداخل كزهرة التوليب، وكان عادم الصاروخ، الذي تبلغ قوة دفعه 880 ألف رطل، يصطدم بعاكس لهب هائل مطلقا موجة هائلة من اللهب تفرغ وتصب في «الاستاد»، وهو حفرة عميقة هائلة بجوار منصة الإطلاق.
موقع كيب كانافيرال في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين (دون ديكسون ).
شرع كوروليف في عمليات الإعداد لمحاولة الإطلاق الأولى في فبراير 1957، آملا في إتمام عملية الإطلاق النهائية في الشهر التالي. واصطدم كوروليف بعقبتين أفضتا إلى تأخير عملية الإطلاق، وتبددت فرص إطلاق الصاروخ في مارس، مثلما تبددت المواعيد المقررة في أبريل. وأخيرا، في 15 مايو، انطلق أول صاروخ «آر-7». حدث تسرب في أحد أنابيب الوقود؛ مما أدى إلى إطلاق لهب أفضى بدوره إلى وقوع انفجار تفككت على أثره أجزاء الصاروخ بعد مرور مائة ثانية فقط على عملية الإطلاق، وتبين أن ذلك كان بسبب عملية تجميع غير متقنة في مصنع الإنتاج التابع لكوروليف نفسه.
في 9 يونيو، قبل يومين من إجراء المحاولة الأولى لإطلاق الصاروخ «أطلس»، حاول كوروليف مجددا؛ وفي هذه المرة، لم يتمكن الصاروخ من الانطلاق. وكان السبب مجددا يرجع إلى كوروليف؛ حيث كان أحد الفنيين في المصنع قد ركب صمام الوقود في وضع معكوس. وكانتا هاتان حالتي فشل متواليتين؛ مما يعني أن الأمر ينطوي على ما هو أكثر من مجرد مصادفة؛ إذ مثلما أشار كاتب سيرته، ياروسلاف جولوفانوف، قائلا: «لم يكن كوروليف يبدأ أبدا عملية استقصاء مصادر الفشل باستقصاء أخطائه المحتملة أولا.» وكان يفضل دوما التصرف كما لو كان تصميم الصاروخ خاليا تماما من الأخطاء، وكان يحاول إلقاء اللوم على جلشكو متى استطاع ذلك، آملا في أن تكون المشكلة بسبب أحد المحركات. لكن جلشكو كان يرد عليه اتهامه قائلا: «ماذا عنك وعن صاروخك؟ أتراك قديسا؟» وفي ظل هذه المشاحنات، كانت المشكلات تستمر في بعض الأحيان دون حل.
كان كوروليف مصدر المشكلات هذه المرة، لكنه كان لا يزال يحاول التنصل منها؛ فقد كتب تقريرا، أعد فيه افتراء متقنا، يسرد فيه جاهدا الأسباب المحتملة للعقبات التي وقعت في عمليات الانطلاق، بينما لم يشر إلى «أكثر الأسباب رجحانا» إلا قرب نهاية التقرير. ولم يفلح الأمر؛ فرؤساء كوروليف كانوا يتمتعون بخبرات واسعة، حتى إن كوروليف فشل في خداعهم. قال أحدهم: «يا لك من رجل ماكر! تكثر من الذم في المشكلات التي ربما تسبب فيها الآخرون، وتكثر من الإشادة بالإنجازات التي قمت بها!»
كتب كوروليف إلى زوجته قائلا: «الأمور تسوء، ومزاجي سيئ. لن أخفي عليك الأمر، فمن الصعب جدا تجاوز عقباتنا. ثمة حالة من الجزع والقلق. تبلغ درجة الحرارة هنا 55 درجة مئوية.»
3 (حوالي 130 درجة فهرنهايت.) كان توتر كوروليف واضطرابه يتجلى بطرق مختلفة، وفي كثير من الأحيان، كان قويا؛ على سبيل المثال: خلال يومين جرى فيهما تأجيل عملية الإطلاق الأولى لصاروخ من طراز «آر-5» يحمل سلاحا نوويا عام 1956، لم يستطع كوروليف النوم إلا لفترات قصيرة للغاية، واكتشف مساعدوه أنه كان يعاني من إجهاد عصبي شديد. وأصيب أحد النواب المهمين بحالة إعياء شديدة وتورم وجهه بصورة مريعة، وأصيب كوروليف نفسه باحتقان في الحلق وخضع للعلاج بحقن بنسلين.
في 11 يوليو ارتفع الصاروخ «آر-7» الثاني صوب السماء، ومع ارتفاعه وبداية ميله، صنعت مجموعة محركاته المتصالبة شكل صليب مشتعل في السماء. ويذكر أن الإمبراطور الروماني قسطنطين، في أوائل القرن الرابع، قد رأى رؤيا كهذه، مصحوبة بعبارة «ستنتصر باسم هذه العلامة». بيد أن كوروليف لم ينتصر باسم هذه العلامة؛ حيث خرج الصاروخ عن نطاق السيطرة وتحطم، وكانت المشكلة ترجع هذه المرة إلى نظام التوجيه، وكان كوروليف سعيدا وهو يقول لزملائه: «اذهبوا إلى نيكولاي بيليوجن (المسئول الرئيسي عن نظام التوجيه)، واجلسوا هناك حتى تجدوا الإجابة.»
مع ذلك، حققت المحاولة الثالثة نجاحا خارقا؛ ففي 21 أغسطس، نجح صاروخ «آر-7» آخر في الانطلاق إلى مدى 4000 ميل، ليكون بذلك أول صاروخ في العالم يحلق على مسافة تتعدى القارات. وتحطمت الرأس الحربية، التي كانت نموذجا محاكيا وغير حقيقية، فوق كامشتكا، لكن لم يكن الأمر مهما. وفي غمرة تأثره البالغ بهذا الإنجاز، ظل كوروليف مستيقظا حتى الساعة الثالثة صباحا، يتحدث بحماس إلى أعضاء فريق الإطلاق عن احتمالات القيام برحلات فضائية.
كان كوروليف يلتقي ستالين بين الحين والآخر، وظل على النهج نفسه مع خليفته؛ نيكيتا خروتشوف. ومثلما كتب خروتشوف في مذكراته لاحقا:
بعد فترة غير طويلة من وفاة ستالين، حضر كوروليف أحد اجتماعات المكتب السياسي لعرض ما توصل إليه. لا أريد أن أبالغ، لكنني أقول إننا حدقنا فيما عرض علينا كما لو كنا مجموعة من الأغنام ترى بوابة جديدة للمرة الأولى. عندما عرض علينا أحد نماذج الصواريخ التي صممها، اعتقدنا أنه لم يكن سوى أنبوب ضخم يشبه السيجار، ولم نكن نظن أنه سيطير. اصطحبنا كوروليف في جولة لمشاهدة إحدى منصات إطلاق الصواريخ، وحاول أن يشرح لنا كيف يعمل الصاروخ، لكننا كنا كالفلاحين في السوق؛ درنا حول الصاروخ مرة بعد مرة، لامسين إياه، وداقين عليه لنرى إذا ما كان قويا بما يكفي. فعلنا كل شيء ما عدا لعق الصاروخ لنرى كيف كان طعمه.
كنا نضع ثقة هائلة في الرفيق كوروليف؛ صدقناه حينما أخبرنا أن صاروخه لن يطير فقط بل سينطلق مسافة 7000 كيلومتر. وعندما كان يشرح أفكاره بالتفصيل أو يدافع عنها، كان المرء يستطيع أن يرى الحماس في عينيه. وكانت تقاريره دوما مثالا يحتذى به في الوضوح. كانت لديه طاقة وإرادة غير محدودتين، وكان يتمتع بعبقرية في التنظيم.
4
نجحت أيضا عملية الإطلاق التي أجريت في شهر سبتمبر وبلغت مداها الكامل، ومنحت لجنة حكومية كوروليف تصريحا لإطلاق قمره الأول «بي إس» على متن صاروخ «آر-7». وتطلب الصاروخ نفسه إدخال تعديلات عليه ليصل إلى مداره؛ حيث كان على الطاقم الأرضي تقليص وزنه عن طريق إزالة جزء من نظام التوجيه فضلا عن الأجهزة الأخرى، وإعادة برمجة المحركات لزيادة سرعتها، وتركيب مقدمة مخروطية جديدة. وكانت هذه المقدمة المخروطية تحتوي على صاروخ «سبوتنيك» خفيف الوزن، لا يزيد وزنه عن أربعة وثمانين كيلوجراما.
جرت عملية الإطلاق في وقت متأخر مساء 4 أكتوبر، وكان الصاروخ يومض على نحو يزيغ الأبصار وسط الأضواء البيضاء الباهرة للكشافات. ويصف جولوفانوف هذه اللحظة المثيرة قائلا:
كان كوروليف قد وصل مبكرا، وترك سيارته على الرصيف الخرساني. وكانت الرياح باردة وشديدة. رفع ياقة معطفه القديم الثقيل، وجاء من خلفه الصوت الاصطناعي الصادر عن نظام الإعلانات العامة: «انتباه! سيبدأ حساب الوقت في غضون دقيقة. استعد للتزود بالوقود.»
كان ينبعث عن احتراق الأكسجين السائل دخان مثل البخار الأبيض للقاطرة، فيغطي الصاروخ. وكان الصقيع يزحف من أسفل خزان الأكسجين، وسرعان ما كان يتحول لون الصاروخ بالكامل إلى اللون الأبيض. منظر جميل!
لاحقا ، قبل الإطلاق مباشرة، جلس كوروليف منحني الكتفين في مقعده المعتاد عند منظاره «الشخصي» في الغرفة المحصنة تحت الأرض، وكان يرتعد قليلا. «دقيقة واحدة على لحظة الإطلاق! أكرر: دقيقة واحدة على لحظة الإطلاق!» «اضغط للبدء.»
قرب كوروليف وجهه من المنظار وأحس بشعور غير سار بمرور العرق البارد من وجهه على الواقي المطاطي الأسود لعدستي المنظار. اختفت سحابة الأكسجين البيضاء؛ حيث كانت صمامات التهوية قد أغلقت. «جرى تكييف ضغط المحركات المساعدة.» «جرى تكييف ضغط المحركات الرئيسية.» «بدأت عملية الإطلاق.» «انفصل الصاروخ عن المنصة الأرضية.»
تعلق كوروليف بالمنظار. كان الصاروخ أمامه مباشرة، ورأى كيف اهتز برج الاتصال بعد إصدار أمر الإطلاق. لم يعد ثمة شيء يصل الصاروخ بالمنصة. «إشعال.» «التعزيز الأولي.»
رأى وميضا لحظيا، ارتجافة قصيرة، قبل أن تلف سحابة الغبار البنية والدخان الثائر في دوامة المحركات كل شيء حولها بسرعة. وأضاءت كرة من النور تغشي الأبصار تحت السحابة. «التعزيز الرئيسي.»
ظل الصاروخ معلقا لا يتحرك، ولم يكن يتبقى على ارتفاعه سوى لحظات قليلة. بدا الأمر كما لو كان الصاروخ يفكر للحظة ليقرر إذا كان سينطلق أم لا. كم هي مملة وطويلة لحظات السكون هذه! «إطلاق.» «ها هو ينطلق، ها هو ينطلق!» الخنجر الأبيض العملاق ينطلق بسرعة إلى أعلى، يبدو جسمه شفافا وخياليا وسط سحابة الدخان. تشبثت أصابع كوروليف حول المقبضين الأسودين للمنظار، بينما كان جسده القصير الممتلئ، ذو الوزن الثقيل، يزداد تيبسا. وفي هذه اللحظة فقط، علا صوت مبتهج مخترقا وعيه، مرددا مرة بعد أخرى بحماس: «جميع النظم مستقرة! الرحلة تمضي بسلام! الضغط في غرف الاحتراق طبيعي! جميع النظم مستقرة!» وأخيرا: «اكتمل الانفصال!»
حدث كوروليف نفسه قائلا: «النظم، استمر في الصياح، يا صديقي العزيز، يا جميع أصدقائي الأعزاء!» غمرته موجة عارمة لا تحتمل من مشاعر الدفء والامتنان نحو الجميع. وقال بسرور يخالطه البكاء: «هل هذا حقا هو كل ما في الأمر ؟ هل فعلتموها حقا؟ بالطبع، بالطبع! حان وقت الاتصال بموسكو وتقديم تقرير. لكن، دعه يكمل مدارا واحدا، ثم نقدم التقرير.»
5
في هانتسفيل ، بعدها بساعات قليلة، تلقى فون براون والجنرال مداريس زيارة من وزير الدفاع القادم نيل ماكلروي، الذي كان يحل محل تشارلز ويلسون. وكانوا في حفل كوكتيل عندما دخل مسئول العلاقات العامة لدى مداريس وقاطع الحديث قائلا: «أيها الجنرال، جرى الإعلان توا عبر الراديو عن أن الروس نجحوا في إطلاق قمر صناعي!»
تفجرت فجأة مشاعر فون براون المكبوتة: «كنا نعلم أنهم سيفعلونها! لن يفلح «فانجارد» في الأمر. لدينا المعدات على الرف بلا استخدام. بالله عليكم، أطلقوا أيدينا واجعلونا نفعل شيئا. نستطيع أن نطلق قمرا صناعيا خلال ستين يوما، سيدي ماكلروي! فقط امنحونا الضوء الأخضر وستين يوما!» قاطعه مداريس الحذر قائلا: «لا، يا فيرنر، بل تسعين يوما.» وقدموا إلى ماكلروي بيانا قصيرا في الصباح التالي، ومثلما قال مداريس: «كنا نشعر جميعا وكأننا لاعبو كرة قدم نتوسل حتى يسمح لنا بالقيام عن دكة الاحتياطي.» لم يتعهد وزير الدفاع الجديد بأي التزامات، بيد أن مداريس أخبر فون براون أن يبدأ الاستعدادات كما لو كان يملك توجيها رسميا بالمضي قدما.
في هذه الأمسية نفسها عشية الرابع من أكتوبر، كان زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ليندون جونسون يرأس اجتماعا في مزرعته إل بي جي في تكساس، وسمع ضيوفه الأخبار في الراديو، وبعد العشاء خرجوا في جولة ليلية سيرا على الأقدام إلى نهر بدرناليس القريب. وكتب جونسون قائلا: «الآن، على نحو ما، بطريقة ما جديدة، بدت السماء غريبة على ما أعتقد. وإنني لأذكر أيضا الصدمة العميقة في إدراك أن أمة أخرى ربما تتمكن من تحقيق تفوق تكنولوجي على دولتنا العظيمة هذه.»
نشرت الصحافة الأخبار بتفصيل كامل، وحددت صحيفة «نيويورك تايمز» طريقة عرض الأحداث من خلال عنوان ساخن تصدر صفحتها الأولى:
السوفييت يطلقون قمرا أرضيا إلى الفضاء.
قمر يدور حول الأرض بسرعة 18 ألف ميل في الساعة.
شوهد جسم كروي في أربع نقاط تقاطع فوق الولايات المتحدة.
خصصت مجلة «نيوزويك» قسما خاصا حول الموضوع، ثم قسما آخر بعده بأسبوع، وأشارت المجلة قائلة: «تحقق هذا الإنجاز، في عالم ممزق، على أيدي علماء موجهين في دولة مستبدة، دولة أعطت كلمة «قمر صناعي» دلالات تنطوي على استعباد لا هوادة فيه. هل يمكن الوثوق فيمن سحقوا المجر في ضوء هذا القمر الصناعي الجديد من نوعه، الذي لا يمكن لإنسان قياس آثاره وتداعياته؟»
6
سرعان ما اتخذ الديمقراطيون نفس اللهجة الحادة في النقاش؛ فقد نالهم ما نالهم خلال الحرب الكورية، عندما قاد ترومان البلاد في صراع لم يكن يستطيع الانتصار فيه أو إنهاءه. وتبدلت المواضع الآن؛ حيث قرر ليندون جونسون أن آيك لم يكن ينفق ما يكفي على مسألة الدفاع القومي، وأن سعيه إلى تحقيق موازنات متوازنة قد عرض أمن البلاد للخطر. وتلقى جونسون تأييدا قويا من عضو مجلس الشيوخ ستيوارت سيمنجتون، الذي كان قائد القوات الجوية في إدارة ترومان. طالب سيمنجتون بعقد جلسة خاصة للكونجرس، وحذر قائلا: «إذا لم تتغير سياساتنا الدفاعية فورا، فسينتقل السوفييت من حالة التفوق إلى السيادة.» وطالب عضو ديمقراطي آخر ذو تأثير، وهو السيناتور هنري جاكسون، بتخصيص «أسبوع لتسليط الضوء على أوجه القصور الفادحة ومصادر الخطر المحدق».
حاول آيزنهاور، الذي كان يمتلك خبرة عسكرية لا تضاهى فضلا عن صور للقمر «يو-2»، طمأنة الأمة. عقد آيزنهاور مؤتمرا صحفيا بعد أيام قليلة من انطلاق «سبوتنيك»، وقال إن إنجاز الاتحاد السوفييتي «لا يثير مخاوفي، ولا حتى مثقال ذرة»؛ لقد «أطلقوا مجرد كرة صغيرة في الهواء». وقريبا سيحرز السوفييت ما هو أكثر من ذلك، لكن في تلك الأثناء على الأقل، ظل الشعور نفسه يراود الأمريكيين. وفي بوسطن، رصدت «نيوزويك» «حالة هائلة من عدم الاكتراث». أشار دنفر إلى أن ثمة «شعورا غامضا بأننا انتقلنا إلى حقبة جديدة، لكن الناس لا تناقش الأمر على النحو الذي يناقشون به كرة القدم والأنفلونزا الآسيوية». وفي 5 أكتوبر، 1957، كان العنوان الرئيسي في صحيفة ملواكي «سنتنل»: «إننا اليوم نصنع تاريخا.» وكان العنوان يشير إلى بطولة وورلد سيريز.
مع ذلك، كانت ثمة أسباب وجيهة لأخذ القمر الصناعي السوفييتي على محمل الجد، وهي أسباب تتجاوز التهديدات العسكرية الضمنية؛ فقد كانت ثمة حقيقة بسيطة، وهي أن موسكو نجحت في تحقيق هذا الإنجاز المدهش، في حين أنها كانت قبل سنوات قليلة فقط تتخلف كثيرا عن اللحاق بالركب في مجالي القاذفات والأسلحة النووية. وكان من السهل أن يتسلل خوف من أن يعكس هذا الإنجاز ميزة حقيقية في النظام الشيوعي، ولعب البيان الصحفي الذي صدر عن موسكو معلنا إطلاق القمر «سبوتنيك» على هذه الزاوية قائلا: «ستمهد الأقمار الأرضية الصناعية الطريق أمام الرحلات الفضائية، وسيشهد الجيل الحالي كيف سيحول العمل الحر والواعي للمجتمع الاشتراكي الجديد أكثر أحلام الإنسانية جرأة وطموحا إلى حقيقة.»
كانت هذه المخاوف تقترن بمشاعر أخرى مماثلة، ألا وهي أن حرية أمريكا وديمقراطيتها ربما تصلحان في أوقات السلم العام، لكنهما تخسران أمام النظام الديكتاتوري في أوقات الأزمة. ولم تكن هذه المخاوف جديدة؛ فقد كانت حاضرة في أذهان الناس في خضم الصراع النازي، وها هي تبرز مرة أخرى، متخذة صورة فريدة تنظر إلى النزعة الاستهلاكية في البلاد باعتبارها علامة ضعف.
صاح السيناتور ستايلز برديجز، وهو سياسي بارز ينتمي إلى الحزب الجمهوري، بصوت مدو كالرعد: «حان الوقت كي نكف قليلا عن الاهتمام بأمور مثل سمك وبر السجادة الجديدة وارتفاع رفرف السيارة الجديدة، وأن نكون أكثر استعدادا لبذل الدماء والعرق والدموع.» سخر ليندون جونسون من فكرة أن تطلق أمريكا مركبة فضائية أفضل، قائلا: «ربما ستحتوي المركبة على شريط من الكروم وماسحات آلية للزجاج الأمامي.» وأضاف برنارد باروخ، الذي عمل مستشارا لدى عدد من الرؤساء، قائلا: «إذا حدث وانهارت أمريكا، فسيكون ذلك في سيارة مكشوفة ذات لونين.» وعندما التقى ليونيد سيدوف، أحد علماء الفضاء السوفييت البارزين، بزميل فون براون إرنست شتولينر، استغل هذا الموقف قائلا: «أمريكا بلد جميل للغاية، ومستوى المعيشة فيها مرتفع للغاية؛ لكن يبدو واضحا تماما أن المواطن الأمريكي العادي لا يأبه إلا بسيارته، ومنزله، والثلاجة. ليس لديه أي شعور قومي على الإطلاق.»
7
بالإضافة إلى ذلك، كان ثمة ما يدعو إلى الخشية من أن يصبح إدراك مواطن الضعف الأمريكية حقيقة في العالم الثالث؛ فقد كانت دول العالم الثالث، المستقلة حديثا أو التي كانت ستستقل قريبا، مصدر قوة للإمبراطورية البريطانية. ولكن، لم يكن قادة دول العالم الثالث يعجبون كثيرا بالنظام الديمقراطي الغربي؛ إذ كانوا كثيرا ما يفضلون أنظمة الحزب الواحد التي تشبه نظام خروتشوف. ولم يكونوا أيضا يفضلون الرأسمالية، التي كانوا يربطون بينها وبين الاستغلال؛ حيث كانوا يعتقدون أن المستقبل سيصبح في صالح الاشتراكية. ولم يكن هؤلاء القادة يحذرون الولايات المتحدة إلا لأنهم كانوا يعتقدون أنها ستنتصر في الصراع؛ لكن لو أنهم صاروا مقتنعين (وهو ما لم يكن أمرا صعبا) أن موسكو من الممكن أن تنتصر ...
لم يتوقع خروتشوف، من جانبه، هذه الاستجابة القوية، وسرعان ما أدرك أنه لمس عصبا حساسا؛ وقرر أنه من هذا اليوم فصاعدا، سيتم إطلاق شيء سوفييتي في مدار يوميا، لمواصلة إبهار العالم بقوة الشيوعية. وعرض خروتشوف شخصيا هذه الرؤية على كوروليف، الذي كان يعمل وسط حرارة تيوراتام وقحطها منذ وقت مبكر في الربيع، ولكنه عاد إلى موسكو في أعقاب نجاح إطلاق «سبوتنيك». بالإضافة إلى ذلك، ذهب العديد من أبرز مساعدي كوروليف إلى البحر الأسود لقضاء إجازة وأقاموا في ضيعة نيكولاي بولجانين الريفية؛ أحد أبرز أعضاء الحكومة الذي كان يتقاسم السلطة مع خروتشوف نفسه.
لم تمض الإجازة على ما يرام؛ إذ عاد أحدهم مصابا بالبرد، وهاتف آخر، لم يستطع تحمل حالة الخمول التي عليها الأوضاع، كوروليف في موسكو وتلقى أمرا: «عد في الحال. تلقينا أمرا بتنفيذ مهمة إنتاج قمر صناعي جديد.» التقى كوروليف بأعضاء فريقه، وأخبرهم بتعليماته على نحو أكثر تفصيلا قائلا: «ضعوا كلبا على متن القمر بحلول موسم الإجازات.» وتقرر وضع هذا المسافر الفضائي في مدار في أوائل نوفمبر 1957، في الذكرى الأربعين للثورة الروسية. وكان الموعد النهائي للبعثة بعد أسابيع قليلة فقط.
لحسن الحظ، كان كل ما يريدونه في متناول أيديهم. ومرة أخرى، استخدموا صاروخ «آر-7». وكانت الكلبة «لايكا» جاهزة أيضا. بالإضافة إلى ذلك ، مثلما يتذكر نائب كوروليف: «في وقت سابق يعود إلى عام 1951، كنا قد أرسلنا كلابا على متن صواريخ بلغت ارتفاعات هائلة، واستخدمنا الكبسولة التي كانت تستخدم في تلك الأغراض، ووضعنا «لايكا» فيها ثم وضعنا الكبسولة في مركبة تحمل قمرا صناعيا. ونجحنا في أن ننتهي من ذلك بحلول موسم الإجازات تماما.»
كانت هذه المركبة، وهي «سبوتنيك 2»، تزن 1120 رطلا؛ لذا لم يكن إطلاق قمر صناعي بهذا الحجم سيثير دهشة العاملين في شركة «لوكهيد» على مشروع قمر الاستطلاع «دبليو إس-117إل». وعلى عكس الوضع المعتاد الذي اتسم بالانفتاح الأمريكي في مقابل السرية الروسية، كان القمر «دبليو إس-117إل» سريا بينما كان «سبوتنيك 2» علنيا. وكان القمر المعروف هو القمر «فانجارد»، الذي لم يكن يزن أكثر من 21,5 رطلا، وكان لا يزال غير جاهز للإطلاق. ولسوء الحظ، لم ينفصل القمر «سبوتنيك 2» عن الصاروخ المعزز؛ حيث حدث عطل في نظام التحكم الحراري به؛ مما أدى إلى زيادة سخونة المركبة. وبعد ما لا يزيد عن يوم واحد أو نحو ذلك، ماتت «لايكا» من أجل بلادها، ولكن لم يكن أحد لينساها؛ فقد أطلق أحد المنتجين الروس اسمها على نوع من السجائر تخليدا لذكراها. ولكن، في أمريكا أوصلت هذه المركبة الفضائية الجديدة، التي كانت أثقل ست مرات من سابقتها، رسالة مفادها أن موسكو تمتلك صواريخ كبيرة، وأنها ستظل محتفظة بمكانتها في عالم الفضاء. بالإضافة إلى ذلك، أشارت عملية إرسال كلب في مدار فضائي بوضوح إلى نية إرسال إنسان إلى الفضاء.
أثارت مركبة «سبوتنيك 2» مخاوف جديدة في الصحافة. نشرت مجلة «لايف» مقالا افتتاحيا بعنوان «مناقشة حالة الذعر التي تعيشها البلاد». زاد هذا القمر أيضا من حدة مناقشات الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، الذين كانوا يستعدون لتوجيه انتقاد قاس إلى آيك لعدم اتخاذه ما يكفي من إجراءات. وكانت المخاطر التي تنطوي عليها عملية إطلاق «سبوتنيك 2» تتجاوز فيما يبدو مجال السياسة العادية، بل حتى موضوعات الدفاع القومي المعتادة. وبالنسبة إلى ليندون جونسون، أكثر أعضاء الكونجرس نفوذا، كان الفضاء مجالا واعدا يبشر بقوة سحرية:
تعني السيطرة على الفضاء السيطرة على العالم؛ فمن خلال الفضاء، سيمتلك سادة العالم اللامتناهي القدرة على التحكم في مناخ الأرض، والتسبب في جلب الجفاف والفيضانات ، وتغيير أنماط المد والجزر، ورفع مستويات البحار، وتحويل مجرى الخلجان، وتحويل المناخ المعتدل إلى مناخ قارص البرودة. هذا هو الوضع النهائي؛ وضع السيطرة الكاملة على الأرض الذي يكمن في مكان ما في الفضاء الخارجي.
8
هل كان آيك يفعل أقل من المطلوب حقا؟ في حقيقة الأمر، كان المجال مفتوحا تماما للدفع بأن الولايات المتحدة إنما تحاول فعل أكثر مما ينبغي؛ إذ مثلما أشار تريفور جاردنر: «نمتلك حاليا تسعة برامج على الأقل للصواريخ الباليستية، تتنافس جميعا على استخدام نفس المنشآت، والاستعانة بنفس العقول، ونفس المحركات، والاستحواذ على نفس القدر من الاهتمام العام.» لكن، كان في جعبة آيك المزيد من الإجراءات التي سرعان ما سيتخذها.
كان الجيش، بعد أيام قليلة من إطلاق القمر «سبوتنيك» الأول، قد حصل على توجيه يلغي التوجيه الصادر في وقت سابق عن وزير الدفاع ويلسون، الذي وضع بموجبه مشروع الصاروخ «جوبيتر» في المرتبة الثانية. أما الآن، أصبح من المقرر أن يمضي العمل في مشروع الصاروخ «جوبيتر»، مثل مشروع الصاروخ «ثور»، بكامل طاقته. وبالمثل، دعم القمر «سبوتنيك 2» موقف آيك وأدى إلى التخلي السريع عن اعتماده على «فانجارد» باعتباره القمر الصناعي السري الوحيد في البلاد. ولم يكد يمضي على حادثة «سبوتنيك 2» وموت الكلبة «لايكا» إلا وقت قصير، حتى أصدر وزير الدفاع ماكلروي توجيها إلى الجيش «للمضي قدما في مشروع إطلاق قمر أرضي باستخدام نموذج معدل من الصاروخ جوبيتر-سي».
صار فون براون جاهزا في أوائل عام 1958، مثلما وعد، لكن المشاركين في مشروع الصاروخ «فانجارد» نجحوا في الوصول إلى منصة الإطلاق أولا، من خلال صاروخ أجروا محاولة إطلاقه التجريبية في 6 ديسمبر. ويصعب على المرء بالتأكيد أن يتحدث عن هذا الصاروخ بالحماس نفسه الذي كان يتحدث به عن صاروخ كوروليف «آر-7»؛ حيث كانت قوة دفع مرحلته الأولى، التي تزن 27 ألف رطل، لا تزيد عن ثلاثة في المائة من قوة دفع الصاروخ الروسي. وكان محرك المرحلة الأولى في «فانجارد» قد أجرى رحلة واحدة فقط، قبل أسابيع قليلة. ولم يحلق صاروخ المرحلة الثانية على الإطلاق ؛ إذ كان مصمموه قد توقفوا عن اختباره خشية ألا يصمد محركه طويلا عند تشغيله. ولم يكن القمر حتى هذا الجسم الكروي الذي يزن 21,5 رطلا مثلما أعلن؛ بل كان لا يزيد عن ثلاثة أرطال، وكان عرضه لا يزيد عن ست بوصات، وهو ما يزيد قليلا عن حجم ثمرة جريب فروت. ومع ذلك، كانت أهمية الصاروخ بالغة؛ حيث كان يحمل آمال البلاد. وكان ذلك الصاروخ هو كل ما تملكه البلاد آنذاك.
انتهى العد التنازلي وحانت لحظة الإطلاق. بدأ الصاروخ في الارتفاع، ثم على حد تعبير أحد المراقبين: «بدا كما لو أن أبواب الجحيم قد فتحت. انبثقت ألسنة لهب عمودية براقة من جانب الصاروخ قرب المحرك. توقف الصاروخ لحظة على نحو محزن، واهتز مرة أخرى، ثم بدأ يسقط على مرأى ومسمع منا ونحن في حالة صدمة، لا نستطيع تصديق ما يحدث. غاص مثل سيف كبير مشهور في أنبوب الإطلاق. سقط ببطء متحطما، ليرتطم بالأرض وبجانب من منطقة الاختبار مصدرا صوتا هائلا يمكن سماعه والشعور بقوته فيما وراء الحائط الخراساني لبرج المراقبة الذي يبلغ سمكه قدمين. ساد شعور بعدم التصديق للحظة أو لحظتين، وكنت أستطيع أن أرى ذلك مرتسما على الوجوه، بل كنت أشعر بذلك شخصيا.»
9
كان رد الفعل سريعا. صاح ليندون جونسون منتحبا: «يا إلهي! كم سيمضي من الوقت، كم سيمضي من الوقت، قبل أن نلحق بقمري روسيا؟» أطلق الألمان على القمرين «سبوتنيك 1» و«سبوتنيك 2» الصناعيين اسم «سبيتنيك» (ليتنيك). وأطلق كتاب آخرون العنان لتعبيراتهم:
لندن ديلي هيرالد:
آه، يا له من فلوبنيك!
لندن ديلي إكسبريس:
الولايات المتحدة تطلق عليه «كابوتنيك».
لويزفيل كوريير-جورنال: «ربما يسمع صوت طلقة مدوية حول العالم، لكن ثمة أوقات يكون صوت الفشل أعلى.»
أوتاوا جورنال: «يقول الخبراء إن الصاروخ لم ينطلق عن الأرض نظرا «لفقدان قوة الدفع»، وهي عبارة لافتة للنظر. فقدان قوة الدفع هو ما تعاني منه الديمقراطيات الغربية.»
نيويورك هيرالد تريبيون: «لا بد أن يلزم المسئولون في واشنطن الصمت حتى يمتلكوا ثمرة جريب فروت، أو على الأقل أي شيء يدور في الفضاء.»
باريس-جورنال: «يبدو أن ثمة دودة في ثمرة الجريب فروت!»
شيكاجو أمريكان: «اضطررنا إلى تجرع الكثير من خيبات الأمل في الشهرين الأخيرين. حسنا، لنتقبل الأمر ونغتنم أي فوائد يمكن أن يتمخض عنها ذلك، لكن دعونا لا نعتاد تجرع الصدمات.»
دنفر بوست: «تنتاب المواطنين الأمريكيين حالة من القلق، والشك، والانزعاج حيال أدائنا في مجال التطوير والبحث العلمي. لا يشعر الناس بالخوف لكنهم صاروا في قمة الغضب والضيق.»
في الأمم المتحدة، سأل ممثلو الوفد السوفييتي نظراءهم الأمريكيين عما إذا كانت الولايات المتحدة ترغب في تلقي مساعدة أجنبية، في إطار برنامج موسكو للمساعدات الفنية إلى الدول المتخلفة عن ركب الحضارة. أشارت صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور»، التي لخصت مجمل ما حدث، إلى مزحات وعناوين أخبار حادة ورنانة باعتبارها «سخرية من النوع المبالغ فيه الذي تمادى فيه رجال العلاقات العامة والصحافة الأمريكية في خلق حالة من خيبة الأمل الكبرى، من خلال محاولة تصعيد الأمور إلى ذروتها في وقت لم يكن من السليم أن تصل الأمور إلى هذه الدرجة، في خضم إجراء تجربة حساسة كهذه.»
10
ما الذي أدى تحديدا إلى وقوع هذا الفشل الذريع؟ لم يكن الأمر ينطوي على ما هو أكثر من عدم وجود ضغط كاف في الخزان؛ وهو ما أدى إلى انخفاض الضغط في حاقن محرك الصاروخ؛ مما أفضى بدوره إلى انبعاث غاز ساخن من غرفة الدفع إلى أعلى نظام الوقود، مسفرا عن حرق الحاقن وتوقف قوة الدفع. ولم تكن هذه مشكلة كبرى، وكان من السهل إصلاحها؛ لكن، لم يكن العامة في تلك الأثناء في الحالة المزاجية التي تسمح لهم بإدراك أي شيء من هذا. في شركة «مارتن»، أدرك مدير مشروع «فانجارد» هذا الموقف بصفة شخصية عندما حاول العثور على شخص لطلاء منزله ولم يجد إلا رفضا متكررا. وأخيرا، قرر أحد العاملين في طلاء المنازل أن يصارحه قائلا: «حتى أكون صريحا معك، لا أرغب حقيقة في القيام بأي عمل لأي شخص له علاقة بمشروع فانجارد.»
وسط تزايد المخاوف العامة ، لم يكن كثيرون لديهم القدرة على التنبؤ بالمستقبل بوضوح؛ ففي ظل صواريخ موسكو التي كانت تلوح في الأفق على نحو ينذر بالسوء، ربما كانت الروائية آين راند - التي نشرت روايتها التي كانت تحمل العنوان الساخر «أطلس يستريح» في العام نفسه - هي الشخص الوحيد الذي رأى أن النظام الشيوعي سيكون مآله إلى الانهيار الاقتصادي. ولم يكن معلوما للكثيرين أن خروتشوف كان يمارس لعبة خداع، بتوفير مصادر تمويل غير متكافئة مع حجم برنامج الفضاء الذي كان يستخدمه كوسيلة دعاية، لإعطاء الانطباع بمقدرة الاتحاد السوفييتي الهائلة في النواحي الفنية ككل. وأدلى رئيس شركة «جنرال داينمكس» بحديث إلى مجلة «فورتشن» قائلا: «لا يمكن التغاضي عن كفاءة روسيا في التركيز في بعض المجالات. وإذا كان ثمة مجال على جانب كبير من الأهمية الحقيقية - سواء أكانت العسكرية أم النفسية - بالنسبة إليهم، فسيركزون عليه تركيزا هائلا، ويحققون نتائج لا تتناسب على الإطلاق مع المستوى العام لمقدرتهم الفنية.»
مع ذلك، لم تكن التكنولوجيا السوفييتية مجرد جعجعة بلا طحن، على الأقل من جانب مهم واحد؛ فالأمر كان يرجع إلى التعليم في مستويات التعليم الابتدائي والثانوي. وكان التربويون قد أدركوا منذ وقت طويل جودة التعليم المرتفعة في المدارس الألمانية. وحاليا، في أعقاب إطلاق القمرين «سبوتنيك 1» و«سبوتنيك 2»، صار عدد من المراقبين يشيرون إلى تميز مشابه في مدارس الاتحاد السوفييتي. وقبل ذلك بعامين، كان الناقد الاجتماعي رودلف فليش قد أثار مشاعر القلق على المستوى القومي من خلال تفسير «لماذا لا يستطيع جوني القراءة». وها هو جون جونثر، وهو كاتب صاحب كتب مقروءة على نطاق واسع في مجال النقد الاجتماعي للشعوب، يقول في كتابه «داخل روسيا اليوم»:
ينصب التركيز الأساسي للأولاد والبنات على حد سواء على العلم والتكنولوجيا. وبالإضافة إلى تلقي دروس الحساب والرياضيات على مدى عشر سنوات متصلة، كان نظام التعليم يلزم كل طفل بتلقي دروس في الكيمياء لمدة أربع سنوات، ودروس في الفيزياء لمدة خمس سنوات، ودروس في الأحياء لمدى ست سنوات. ويتضح الفارق جليا عند المقارنة مع الولايات المتحدة ؛ فالكثير من المدارس الثانوية الأمريكية لا تقدم دروسا في الفيزياء أو الكيمياء على الإطلاق. وأخبرني أحد المسئولين الأمريكيين أن الطفل في الاتحاد السوفييتي الذي يتخرج في الصف العاشر (المكافئ للصف الثاني عشر لدينا)، في عمر سبعة عشر عاما، يتلقى تعليما علميا أفضل من معظم الأمريكيين الذين يتخرجون في «الكليات»؛ فالفتى الروسي - أو الفتاة الروسية - الذي يتلقى دروسا عادية، يحصل على جرعة من العلوم والرياضيات تزيد بمقدار «خمس مرات»، ويشترط الحصول عليها للالتحاق بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
11
في عام 1956، تخرج في الاتحاد السوفييتي ما يقرب من سبعين ألف مهندس جديد، مقابل ثلاثين ألف مهندس في الولايات المتحدة.
كان الديمقراطيون قد سعوا طويلا لتفعيل برنامج مساعدة فيدرالية في مجال التعليم، وقد فتح قمرا «سبوتنيك» المجال أمامهم. قدم مشروع القانون الأول - قانون تعليم الدفاع الوطني لسنة 1958 - مصادر تمويل في مجال تدريس العلوم والرياضيات واللغات الأجنبية. وبناء عليه، حقق التحدي السوفييتي ما هو أكثر من مجرد رد فعل عسكري؛ إذ أثار ما صار بمنزلة المعول الأول في أجندة شاملة على نحو متزايد للإصلاح الاجتماعي. بيد أنه في ذلك الوقت، كان الموضوع الرئيسي الأهم هو نصب مركبة على منصة إطلاق، وإطلاق شيء ما في مدار فضائي.
فعلها فون براون في نهاية شهر يناير من عام 1958، عندما نجح من المحاولة الأولى في إطلاق القمر «إكسبلورار 1»، أول قمر صناعي تطلقه البلاد، يزن أحد عشر رطلا. ووضعت مجلة «تايم» صورة فون براون على غلافها؛ وهو ما جعل البلاد تمر بلحظة ابتهاج وغبطة، وتلتها لحظة أخرى في منتصف شهر مارس عندما حمل الصاروخ «فانجارد» جهاز الإشارة الخاص به زنة ثلاثة أرطال. وكان جيمس فان آلان قد صمم معدات القمر «إكسبلورار 1» فضلا عن معدات قمر فون براون الثاني «إكسبلورار 3» الذي أطلق في أواخر شهر مارس. ومن خلال هذه المعدات، توصل فان آلان إلى اكتشاف كبير، ألا وهو حزام من الإشعاع المكثف حول الأرض، محتجز بفعل المجال المغناطيسي للأرض، وهو الاكتشاف الأهم والأكثر أثرا لأن السوفييت لم يتمكنوا من رصده.
كان لدى السوفييت اختصاصي من الدرجة الأولى في مجال الأشعة الكونية، وهو عالم الفيزياء سيرجي فرنوف، الذي كان قد ابتكر معدات مماثلة جرى وضعها على متن «سبوتنيك 2». ومع ذلك، لم تكن لدى الاتحاد السوفييتي شبكة تتبع عالمية، ولم يكن يمتلك إلا محطات أرضية فقط في الأراضي السوفييتية فقط. وعندما صار القمر «سبوتنيك 2» في نطاق المحطات، كان على ارتفاع منخفض، أسفل منطقة الإشعاع، وعندما بلغ «سبوتنيك 2» ارتفاعا كبيرا، استطاعت أجهزة فرنوف تحديد الإشعاع المحتجز، بيد أن «سبوتنيك» كان قد بلغ الطرف الآخر من الكرة الأرضية آنذاك. وعلى الرغم من ذلك، استطاع فنيو محطات الاتصال اللاسلكي التقاط إشارات المنطقة الإشعاعية في أستراليا وأمريكا الجنوبية، وأشارت البيانات التي جرى جمعها إلى وجود حزام إشعاعي. لكن لأسباب تتعلق بالسرية، لم تجر موسكو أي ترتيبات مع أي دول أخرى لتفسير الإشارات، ولم تشارك البيانات التي حصلت عليها مع أي دولة أخرى. وصارت المنطقة الإشعاعية معروفة باسم حزام فان آلان، في حين كان يمكن أن يطلق عليه حزام فرنوف لولا ستار السرية.
لم يكن خروتشوف ليدع أحدا ينسى من هو سيد الفضاء حقا؛ ففي تلك الأثناء، كانت المركبة «دي»، تلك المركبة الفضائية الثقيلة المكتظة بالمعدات، جاهزة للانطلاق. حاول كوروليف إجراء عملية إطلاق في أواخر شهر أبريل، لكن الصاروخ تحطم بعد دقيقة ونصف من ارتفاعه عن منصة الإطلاق. وبينما كان يتخذ الاستعدادات لإجراء عملية إطلاق أخرى، علم بوجود عطل في جهاز تسجيل على متن الصاروخ. كان هذا التسجيل مهما؛ إذ كان يحتاج إليه علماء فريق كلديش لجمع البيانات عندما تغادر المركبة نطاق محطة أرضية.
كان من الطبيعي أن يتوقع كوروليف أن تتأخر عملية الإطلاق إلى حين إصلاح العطل؛ ولكن، وفقا لما أورده روالد سجدييف، وهو عالم فضاء بارز، تلقى كوروليف مكالمة هاتفية من خروتشوف نفسه. كانت إيطاليا وقتها على وشك أن تعقد الانتخابات العامة، وكان الحزب الشيوعي قويا فيها، وكان خروتشوف يعتقد أن إجراء عملية إطلاق ناجحة لقمر «سبوتنيك» جديد سيؤدي إلى تصويت الملايين لصالح الحزب الشيوعي هناك. أمر خروتشوف كوروليف أن يجري عملية إطلاق جديدة في الحال؛ فحلق القمر «سبوتنيك 3» في مدار حول الأرض، وعلى الرغم من أن هذا الأمر لم يكن له تأثير كبير على الانتخابات في إيطاليا، فإنه جذب الأنظار بلا شك وكان موضع تقدير الجميع. كان وزن القمر 2925 رطلا، وهو ما كان يساوي تقريبا ثلاث مرات وزن القمر «سبوتنيك 2» الضخم.
في أحد لقاءات الصداقة السوفييتية-العربية في الكرملين، أخبر خروتشوف ضيوفه أن أمريكا ستحتاج إلى «عدد هائل من الأقمار الصناعية في حجم البرتقال حتى تتمكن من اللحاق بالاتحاد السوفييتي». ولكن، استطاعت الولايات المتحدة أيضا أن تمارس لعبة النفس الطويل؛ حيث كان الصاروخ «أطلس» في مراحل التطوير الأخيرة. بالإضافة إلى ذلك، أصبح آيك يمتلك مقعدا في البنتاجون، وهو وكالة المشروعات البحثية المتقدمة، الذي سيبدأ لاحقا سلسلة جهود عسكرية جديدة في مجال الفضاء.
كان الصاروخ «أطلس» يحمل محركين صاروخيين من إنتاج شركة «روكت داين»، قوة دفع كل منهما 150 ألف رطل كمحركي تعزيز، فضلا عن محرك مركزي قوة دفعه 60 ألف رطل كمحرك أساسي. اعتمدت عمليات الإطلاق التجريبية الأولى على محركات التعزيز فقط، وكانت تتزود بحمولة مخفضة من الوقود، وهو ما كان يعني أنه حتى عند نجاح عملية الإطلاق - وهو أمر لم يكن يحدث كثيرا - كانت تطير مسافة 600 ميل تقريبا، وهو ما كان يمثل عشر المدى الكامل للصواريخ العابرة للقارات. ومع ذلك، أسفرت هذه التوليفة من المحركات والصواريخ عن عملية إطلاق جيدة في ديسمبر 1957. وتلت ذلك عمليات إطلاق ناجحة أخرى، وبحلول الربيع التالي كانت كفاءة الصاروخ وموثوقيته للإطلاق قد بدأتا تتأكدان.
كان رئيس وكالة المشروعات البحثية المتقدمة، روي جونسون، يشغل منصب نائب رئيس شركة «جنرال إلكتريك». وفي يونيو 1958، في أعقاب إطلاق القمر «سبوتنيك 3»، ذهب جونسون إلى شركة «كونفير» في سان دييجو والتقى زملاءه التنفيذيين هناك، وقال: «يجب أن نطلق قمرا كبيرا.» فأجابه أحد كبار المديرين قائلا : «حسنا، يمكننا أن نطلق الصاروخ أطلس بالكامل في مدار فضائي.» وافق جونسون على دعم هذا المشروع والتشديد على تنفيذه في واشنطن، بينما اتفق الآخرون على أن يظل المشروع سريا. وخلال الأشهر التي أعقبت ذلك، لم يكن ثمة أكثر من ثمانية وثمانين شخصا يعرفون ما سيجري إطلاقه.
بالطبع، قبل أن يمكنهم الاحتفال بالنتائج، كان عليهم أن يحققوها أولا، من خلال إطلاق «أطلس» للتحليق بكامل مداه. وانطلق أول نموذج مكتمل، متضمنا المحركات الثلاثة معا بقوة دفع 360 ألف رطل، في منتصف يوليو، ثم سرعان ما خرج عن السيطرة. ونجحت عملية إطلاق بعدها بأسبوعين في تحقيق المدى الكامل المخطط له، وهو 2700 ميل، ولكن حدت حمولة المعدات الثقيلة مرة أخرى من زيادته. وتلا ذلك عملية إطلاق قطعت مسافة 3000 ميل في نهاية شهر أغسطس، فضلا عن عملية إطلاق ناجحة مماثلة في منتصف سبتمبر.
جاءت محاولة الإطلاق الأولى بكامل المدى في 18 سبتمبر، وانتهت بانفجار الصاروخ بعد ثمانين ثانية من إطلاقه، وهو ما كان يعني أن الوقت لا يزال مبكرا جدا لإزالة المعدات من الصاروخ. على أي حال، استطاعوا الإفصاح عن مكمن المشكلات. وأعادت عملية إطلاق ناجحة أخرى الثقة إلى الجميع، وفي أواخر شهر نوفمبر كان الجميع مستعدا للمحاولة مرة أخرى لقطع الطريق حتى منتهاه.
كان الرجل المسئول عن عملية الاختبار، الرجل صاحب إصبع الإبهام الذهبي، يحمل اسم بوب شوتويل المفعم بالأمل؛ ضغط زر الإطلاق، فانطلق «أطلس» في سماء الليل، محلقا في مسار قوسي فوق القمر أثناء تحليقه عبر السماء المرصعة بالنجوم. وانفصل الصاروخ عن الصواريخ المعززة له، ثم واصل تسارع حركته حتى خفت ضوءه البراق وبدا كما لو كان معلقا في الظلام مثل نجم جديد، أسفل مجموعة نجوم أوريون. كتم شوتويل وطاقمه أنفاسهم وإحساسهم بالإثارة مدة سبع دقائق كاملة، ثم انطلقت صرخاتهم. لقد فعلوها! كان الصاروخ يرتفع في السماء بسرعة 16 ألف ميل في الساعة، متجها إلى بقعة جنوب المحيط الأطلنطي قرب جزيرة سانت هيلينا، قاطعا مسافة 6300 ميل كاملة من نقطة انطلاقه في موقع كيب كانافيرال. وعلى حد تعبير شوتويل: «عرفنا أننا نجحنا. وكان الصاروخ ينطلق كالرصاصة، ولم يكن ثمة شيء يوقفه.» وفي وقت لاحق ذلك المساء تدفقت الشمبانيا بغزارة في نزل ستارلايت، بينما حمل بعض الحاضرين مسئول عملية الاختبار فوق أكتافهم وطافوا به أرجاء القاعة.
بعد ثلاثة أسابيع بلغ الصاروخ مدارا فضائيا، وأطلق عليه اسم «سكور» (أي إحراز الهدف)، وكان اسما يليق بالإنجاز الذي حققه هذا الصاروخ. حمل «أطلس» هذا شريط تسجيله الخاص، وعليه رسالة من آيزنهاور، فضلا عن جهاز راديو يسمح بتلقي وإرسال الرسائل الإضافية. واستمرت حالة السرية المحيطة بالمشروع حتى لحظة الإطلاق، حتى إن طاقم الإطلاق في برج المراقبة لم يكن يعرف المهمة الموكلة إليه. وعندما رأى بعض أفراد الطاقم أن الصاروخ ينحرف عن مساره الطبيعي، صرخوا في وجه الضابط المسئول عن سلامة ميدان الإطلاق حتى يفجره، لكنه رفض؛ فقد كان من بين هذه القلة الصغيرة التي قوامها ثمانية وثمانون شخصا، التي كانت على علم بتفاصيل العملية بأسرها.
كانت أولى العبارات التي جاءت عبر المدار هي: «هذا هو رئيس الولايات المتحدة يتحدث إليكم، يأتيكم صوتي عبر عجائب التقدم العلمي من قمر صناعي يدور في الفضاء الخارجي. رسالتي بسيطة. أرسل إليكم وإلى الإنسانية جمعاء، عبر هذه الوسيلة الفريدة، رغبة أمريكا في تحقيق السلام على الأرض ونواياها الطيبة تجاه البشر في كل مكان.»
12
جاء دور الأمريكيين لينالوا حظهم من التفاخر والتباهي؛ حيث أعلن المسئولون عن نجاحهم في إطلاق قمر صناعي زنة 8600 رطل إلى مدار فضائي. وفي حقيقة الأمر، فإنهم لم يفعلوا ذلك. فقد كان الوزن المحسوب هو وزن معدات الاتصال المحمولة على متن القمر الصناعي والذي يبلغ حوالي 200 رطل، بينما كان الوزن المتبقي هو وزن الصاروخ الحامل للقمر الصناعي، الذي لم يكن سوى هيكل معدني خال كبير. وإذا كان السوفييت يريدون أن يمارسوا اللعبة على هذا النحو، فكان في مقدورهم أن يصرحوا علنا منذ إطلاق القمر «سبوتنيك 1» أن صاروخهم الحامل للقمر، الذي نجح أيضا في بلوغ مدار فضائي، رجح كفتهم بمقدار ما يقرب من 18 ألف رطل. على الرغم من ذلك، كان الصاروخ «سكور» حقيقيا، وكان يشير إلى نهاية عصر أولي شمل ضمن ما شمل الصاروخ «جوبيتر-سي» البديل، والصاروخ «فانجارد » الذي لم يكن يتمتع بكفاءة عالية؛ إذ كان الصاروخ يحمل رسالة تتجاوز رسالة آيك، وهي أن أمريكا تنفذ برنامج فضاء جاد، يتضمن تصميم مجموعة من صواريخ التعزيز القوية.
في تلك الأثناء، خلال أعياد الكريسماس في عام 1958، وصلت صواريخ «ثور» الأولى إلى إنجلترا، وسرعان ما صارت جاهزة. وضع الصاروخ «تايتان» الباليستي الأول العابر للقارات، الذي كان مكملا للصاروخ «أطلس»، على منصة إطلاقه في وضع استعداد لإجراء أول عملية إطلاق في أوائل العام الجديد، وهو الصاروخ الذي نجح بعد ذلك في الانطلاق. ولكن، بينما كانت مشروعات صواريخ الوقود السائل الكبرى تسير جميعا بسرعة هائلة، كان البنتاجون يضع خططا لتجاوز هذه الصواريخ. كان من المفترض أن هذه الصواريخ ستقدم خدمات جليلة في البعثات الفضائية القادمة، لكن سيثبت أنها ليست أكثر من أسلحة مؤقتة في ضوء نطاق الاستخدام العسكري المحدد لها. وكانت كل الصواريخ التي ستحل محل الصاروخ «أطلس» - وهي الصواريخ «تايتان» و«ثور» و«جوبيتر» - قيد التطوير بالفعل، وكانت تتضمن صاروخين يعملان بالوقود الصلب، وهما الصاروخ «بولاريس» لسلاح البحرية والصاروخ «مينتمان» للقوات الجوية.
انبثقت فكرة الصاروخ «بولاريس» من الغواصة النووية، إحدى ثمار عمل العقيد هايمان ريك أوفر. في البداية، في عام 1946، أراد رؤساء ريك أوفر أن يعرفوا المزيد عن الطاقة الذرية، ولم تكن زيادة السرعة القصوى - وهو ما أفضى إلى استخدام الطاقة الذرية في السفن المقاتلة الحقيقية - مطروحة على جدول الأعمال، لكن سرعان ما صار ذلك هو جدول أعمال ريك أوفر الشخصي. بدأ ذلك العام بمهمة في مختبر «أوك ريدج» النووي؛ حيث بدأ يتعلم هنا التكنولوجيا المعقدة للهندسة النووية.
كان ريك أوفر خريج الأكاديمية البحرية في أنابوليس، لكنه لم يكن بالتأكيد من أنماط الرجال الذين يمارسون الألعاب الاجتماعية التي كان يمارسها نادي الضباط. وكان معروفا بصراحته، وكان يضع معايير التميز الخاصة به ويصر على أن يلتزم بها الآخرون. وكان التميز ، في حقيقة الأمر، شغفا له. شغل أثناء الحرب منصب رئيس قسم الكهرباء في مكتب السفن، وهو منصب ربما لم يكن يتضمن إلا إدارة العقود والالتزام بالجداول الزمنية؛ ولكن، لم يكن هذا هو ما يستهوي ريك أوفر.
كون ريك أوفر فريقا من أفضل المهندسين الذين استطاع العثور عليهم، سواء أكانوا مهندسين من سلاح البحرية أم مهندسين مدنيين. وكان يقرأ التقارير الحربية بصفة شخصية، ويفحص كل سفينة أصيبت أثناء المعارك متى كان يستطيع معاينتها، ليقيم بنفسه أداء المعدات الكهربائية في المعارك. وبهذه الطريقة، استطاع الكشف عن العديد من أوجه القصور، مثل القواطع الكهربائية التي كانت تنفتح عند إطلاق المدافع على متن السفن الحربية، والكابلات التي كان يحدث بها تسرب وتنتقل المياه منها إلى لوحات التحكم، وصناديق الوصلات الكهربية التي كانت تنبعث منها غازات سامة داخل الغواصات عند حدوث حريق بفعل ماس كهربائي.
حدد ريك أوفر بمعاونة فريقه التغييرات التي كان يجب إجراؤها. ولم يكتف أعضاء الفريق بتصميم أنواع جديدة من المعدات، بل أجروا أبحاثا أيضا، مقدمين بيانات أساسية حول موضوعات مثل مقاومة الصدمات. واختار ريك أوفر الشركات المتعاقدة التي ستبني المعدات الجديدة، والتي ستعمل بالتنسيق الحثيث مع فريق عمله، وتأكد من أن منتجاتهم ستصبح جاهزة في الوقت المحدد وستلتزم بالمواصفات الصعبة التي وضعها. اتبع ريك أوفر الأسلوب نفسه عندما عين رئيسا لبرنامج البحرية النووي.
في عام 1946، لم يكن ثمة برنامج كهذا بالطبع، ولم تكن توجد أية هيئة داخل البحرية على استعداد لتطوير المفاعلات النووية المطلوبة، ولم يكن أحد في أي مكان قد بنى بعد محطة طاقة نووية. وكان مشروع مانهاتن في وقت الحرب قد بنى منشآت نووية، بيد أن هذه المفاعلات كانت نظما ضخمة، منخفضة الحرارة، تستخدم في إنتاج البلوتونيوم. وبالطبع، فإن الأمر مختلف تماما بالنسبة إلى مفاعل ذري ذي قدرة مرتفعة، قادر على تزويد سفينة بالوقود وقيادتها، ولم تكن المعرفة الهندسية اللازمة متوافرة بعد؛ ومن ثم، كان ريك أوفر آنذاك بصدد مهمة ثلاثية الأجزاء، وهي تأسيس مكتب يتمتع بالصلاحيات اللازمة، وتحصيل المعرفة الفنية اللازمة التي تتيح الإمكانية لبناء المفاعلات، وتسريع وتيرة العمل أكثر مما كان يظن رؤساؤه أنه ممكن. وكان عليه أن يقوم بهذا بينما لم تكن رتبته تزيد على رتبة عقيد.
ساعده في تحقيق هذه الأهداف الدعم القوي الذي كان يتلقاه ريك أوفر من رئيس مكتب السفن؛ الأميرال إيرل ميلز. وفي أغسطس 1948 أسس ميلز فرعا جديدا للطاقة النووية في مكتب السفن، الذي صار الكيان الرئيسي في مؤسسة ريك أوفر. ولكن، لم يكن هذا المكتب التابع للبحرية يستطيع تنفيذ الكثير وحده؛ إذ كان قانون الطاقة الذرية قد أسند المسئولية الأساسية عن جميع أشكال التكنولوجيا النووية إلى وكالة مدنية، وهي هيئة الطاقة الذرية؛ ومن ثم، كان على هيئة الطاقة الذرية تأسيس مكتب مواز لتولي أمور الدفع في الغواصات. وفي أوائل عام 1949، بدأ فرع المفاعلات النووية نشاطه أيضا، وكان ريك أوفر يديره أيضا؛ وبذلك كان ريك أوفر يقوم بدورين، أحدهما بحري والآخر مدني.
ربما أفضت هذه الترتيبات إلى تقليص صلاحيات ريك أوفر، لكنه حولها إلى مصدر قوة. وإذا صادف عقبة في البحرية، كان يضع قبعة هيئة الطاقة الذرية ويحاول مجددا من خلال عمله في إطار الهيئة. وسرعان ما اكتشف ريك أوفر أن هيئة الطاقة الذرية تمنحه حرية كبيرة عندما كان يعمل معها بصفته منتسبا إلى سلاح البحرية، بينما كانت البحرية تمنحه حرية مماثلة عندما كان يمثل هيئة الطاقة الذرية. بل كان يكتب خطابات طالبا مساعدات من البحرية يوقع عليها رئيسه في هيئة الطاقة الذرية، ثم يكتب خطابات بالموافقة يوقع عليها ميلز.
حاول ريك أوفر أيضا - من خلال منصبه المزدوج هذا - إضعاف الفروق القائمة على الرتبة أو الحالة المدنية، وكان يعلم كيف كان أي ضابط بحري يستطيع تحقيق ما يريد من خلال الاعتماد على رتبته، وكان يريد أن تعتمد جميع القرارات على الكفاءة الفنية. ومن هذا المنطلق، رعى ريك أوفر برنامجا فعالا بالتنسيق مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لتعليم فريقه من خلال تقديم دورات حول التكنولوجيا النووية، مع تقديم دورات مماثلة في أوك ريدج. كما شجع أعضاء فريقه على مناقشة المسائل الفنية بحسم وقوة أثناء اللقاءات، وعلى ألا يشعر أي منهم بالحرج لتوجيه أي شكل من أشكال النقد . وفي الحقيقة، لم تكن مسائل الرتبة والمستوى الوظيفي بالأمور التي يتهم بها العاملون في فريق ريك أوفر؛ فقد كانت معرفة المرء واضطلاعه بمسئوليته على أكمل وجه هي الأهم.
من البداية، كان على ريك أوفر تحقيق توازن بين جماعتين، وكان يعرف الجماعة الأولى منذ أيام الحرب، ومن ثم كان مهما عدم التسليم بأن الشركات الصناعية المتعاقدة تمتلك القدرة الفنية الكاملة. أما الخطر الثاني، فإنه كان يتعلق بالرابطة النووية التي كانت تعج بفيزيائيين باحثين من العيار الثقيل، بيد أن بحوثهم لم تكن تتعامل مع التطورات الهندسية اللازمة لبناء مفاعل بحري؛ لذا، بينما كانت العقود الكبرى ترسى على الشركات الكبيرة من أمثال «جنرال إلكتريك» و«وستينجهاوس»، حرص ريك أوفر على بذل جهد كثير في جمع بيانات توضع في كتيبات هندسية، وهو ما سيشكل أساسا لتكنولوجيا المفاعلات. وعلى وجه التحديد، كانت محطات القوى التي بناها تعتمد على مواد نادرة مثل الزركونيوم والهفنيوم والصوديوم السائل والبريليوم. وكان يحرص على توافر المعرفة الفنية اللازمة، فضلا عن منشآت الإنتاج.
في ظل الإجراءات المعتادة، كان يمكن أن يجعل ريك أوفر هيئة الطاقة الذرية تبني سلسلة من المفاعلات التجريبية، وهو ما كان سيؤدي إلى استخدامها في سفن تجريبية. وربما كانت البحرية ستحاول بعد ذلك بوقت كاف تدوين مجموعة من المواصفات لبناء سفن حربية مقاتلة تعمل بالطاقة النووية، لكن ريك أوفر أصر - بدلا من ذلك - على بناء مفاعل تجريبي واحد، وهو «مارك 1»؛ لذا كان من المنتظر أن يكون المفاعل مشابها قدر الإمكان للمفاعل «مارك 2»، الموضوع على سطح السفينة. وعلى حد تعبيره: «مارك 1 يساوي مارك 2». وكان هذا المفاعل سيختصر سنوات من زمن البرنامج، ومن خلال بناء هيئة الطاقة الذرية «مارك 2»، سيصبح موقف البحرية محرجا للغاية إذا قدمت نموذج مفاعلها في موقع بناء المفاعلات ولم تجد أي سفينة تستقبل نموذجها. واستطاع ريك أوفر من خلال دوره المزدوج إرغام البحرية على تنفيذ ما يريد؛ إذ كان يتعين بناء هذه السفينة وتمويلها تحت مظلة برنامج بناء السفن الرسمي.
كان من المتوقع أن تحمل السفينة اسم «نوتلس» التابعة للبحرية الأمريكية، وأصر ريك أوفر على أن تكون غواصة مقاتلة حقيقية، بكامل عدتها من الطوربيدات. بالإضافة إلى ذلك، كان ريك أوفر في حاجة إلى الحصول على موافقة من جهات عليا لتنفيذ جدوله الزمني خلال ربيع 1950، وساهمت الأحداث في دفع مشروع الغواصة؛ إذ فجر السوفييت قنبلتهم الذرية الأولى في أغسطس 1949. واستجاب ترومان إلى ذلك من خلال طرح مبادرات جديدة في مجال الأسلحة النووية، بما في ذلك تعهد ببناء قنبلة هيدروجينية. ومع ذلك، كانت هذه الجهود تصب في صالح القوات الجوية، التي كانت تمتلك القوة الضاربة للبلاد. وفرت غواصة ريك أوفر فرصة للبحرية لاستخدام سفن تعمل بالطاقة النووية. وفي أبريل 1950، قرر مجلس البحرية العام، الذي كان مسئولا عن خطط بناء السفن، أن يمضي العمل في «نوتلس» مثلما كان يرغب ريك أوفر.
في يونيو 1952، ذهب ترومان في زيارة إلى حوض بناء السفن في شركة «إلكتريك بوت» في جروتون، كونيكتيكت؛ وكان يرقد إلى جانبه لوح فولاذي ضخم، ذو لون أصفر فاقع، صار جزءا من عارضة الغواصة السفلية. ألقى ترومان خطابا، ثم حملت رافعة اللوح ووضعته أمامه. تقدم ترومان إلى الأمام وكتب الأحرف الأولى لاسمه بالطباشير على اللوح، ثم جاء لحام لاحقا وحفر الأحرف الأولى على معدن اللوح، وبعدها بعامين ونصف، كانت الغواصة جاهزة لإجراء أولى تجاربها البحرية. وفي 17 يناير 1955، قاد ربانها، يوجين ولكنسن - وهو مهندس متخصص كان يفضل الخدمة في البحر - الغواصة من نهر التايمز إلى لونج آيلاند ساوند، وأرسل مسئول إشارة رسالة إلى السفينة المصاحبة للغواصة نصها: «آتون باستخدام الوقود النووي.»
في تاريخ الحروب البحرية، كانت تلك الحادثة تحاكي في أهميتها أهمية الانتقال من الشراع إلى البخار؛ فقد لعبت الغواصات دورا حيويا خلال الحربين العالميتين؛ حيث كانت الغواصات العسكرية الألمانية تهدد بقصم ظهر التجارة البريطانية، بينما كانت نظيراتها الأمريكية تضيق الخناق على تجارة اليابان البحرية خلال حرب المحيط الهادئ. ولكن، لم تكن الغواصات ترقى أن تكون أكثر من مجرد مركبات بحرية مساعدة، تعمل معظم الوقت على السطح وتعتمد على القدرة المحدودة للبطاريات الكهربائية عندما تغوص إلى الأعماق، ومن ثم لم تكن تقضي وقتا طويلا في الأعماق. وتخلصت الطاقة النووية من هذه القيود، وهو ما سمح للغواصات بالإبحار في أعماق المحيط لمدة أسابيع متعاقبة. ونظرا لأن الغواصة لم تكن مرئية ولم يكن ثمة سبيل إلى رصدها، صارت الغواصة النووية تمثل تحديا لحاملة الطائرات بوصفها سفينة كبرى، قادرة على تسيد البحار.
كانت «نوتلس» تمثل طريقا واحدا نحو عصر جديد من الأسلحة، وكان ثمة طريق آخر تمثل في ابتكار أنواع جديدة من الوقود الدفعي الصلب، وهي الأنواع التي أنتجتها شركة تصارع من أجل البقاء تسمى شركة «ثيوكول كيمكل كوربوريشن»؛ وكان منتج الشركة الرئيسي أحد بوليمرات متعدد الكبريت السائلة، اتخذ اسمه من «صمغ الكبريت» في اللغة اليونانية، ويمكن معالجته ليصير مادة مطاطية مركبة غير قابلة للذوبان. وخلال الحرب، استخدم هذا المنتج على نطاق محدود في إحكام لصق أجزاء خزانات الوقود في الطائرات، لكن بعد عام 1945 تلاشت سوقه. وفي حقيقة الأمر، كان معدل سير العمل بطيئا لدرجة أنه حتى الطلبات الصغيرة كانت تجذب انتباه جوزيف كروزبي؛ رئيس «ثيوكول».
لذا، عندما علم كروزبي بأن معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا كان يشتري عبوات تحوي ما بين خمسة وعشرة جالونات من الوقود، ذهب إليهم ليعرف السبب، واكتشف أن باحثي الصواريخ في مختبر الدفع النفاث كانوا يستخدمون هذا الوقود كبديل يتجاوز الوقود الصلب الذي يعتمد على الأسفلت في تكوينه الذي تنتجه شركة «جون بارسنز». وكانوا يمزجون وقود كروزبي مع مادة مؤكسدة ويضيفون مسحوق الألومنيوم لتوفير مزيد من الطاقة. وزاد على ذلك أنهم كانوا يستخدمون هذا الوقود الجديد بطرق تجعل من الممكن بناء صواريخ وقود صلب كبيرة للغاية.
سرعان ما أدرك كروزبي أن شركته يمكن أن تدخل أيضا مجال الصواريخ، بمساعدة من الجيش، واستطاع المسئولون في الجيش توفير دعم مالي مقداره 250 ألف دولار أمريكي في البداية لمساعدته على بدء العمل في مجال إنتاج الصواريخ، لكن هذا المبلغ كان كبيرا للغاية بالنسبة إلى كروزبي. وفي عام 1950، منحت إدارة التسليح في الجيش عقدا لبناء صاروخ يعمل باستخدام 5000 رطل من الوقود، وأطلق الصاروخ بنجاح في العام التالي في موقع اختبار، ومن خلال هذه التجربة، وجد مصممو الصواريخ شيئا جديدا.
ظهر الوقود الذي كانت تنتجه شركة «ثيوكول» باعتباره أول وقود ينتمي إلى نوع جديد من أنواع الوقود الدفعي الصلب، وهو ما كان يعتمد على كيمياء البلمرات لتكوين خلائط كثيفة القوام تشبه صلصة الطماطم. وكانوا يعالجون هذا الوقود أو يقومون ببلمرته في صورة وقود صلب طيع بحيث لا يتشقق أو يحدث فجوات في جدار الصاروخ الداخلي؛ وهو ما يضمن السيطرة جيدا على عملية الاحتراق. وكانت البحرية مهتمة أيضا بأنواع الوقود الدفعي هذه لاستخدامها في الصواريخ المضادة للطائرات، وفي عام 1954 شرعت إحدى الشركات المتعاقدة في ضواحي فرجينيا، وهي شركة «أتلانتك ريسرش»، في إدخال المزيد من التحسينات على الأداء.
ركز اثنان من علماء الشركة، وهما كيث رامبل وتشارلز هندرسن، انتباههما على مسحوق الألومنيوم؛ وكان باحثون آخرون قد أثبتوا أن الوقود يحقق أفضل أداء عند استخدام مزيج يتضمن خمسة في المائة فقط من مسحوق الألومنيوم، بينما كانت النسب الأعلى تتسبب في انخفاض أداء الوقود. وفي همة لم تفتر، قرر رامبل وهندرسن محاولة خلط كميات كبيرة جدا من مسحوق الألومنيوم؛ فارتفعت عندئذ سرعة العادم، التي كانت تحدد الأداء، ارتفاعا حادا. وفي أوائل عام 1956، تأكدت هذه النتائج من خلال عمليات إطلاق تجريبية. وقورنت سرعات العادم في الوقود الذي أنتجاه، التي كانت تبلغ 7400 قدم لكل ثانية وأكثر، مع سرعات العادم في أنواع الوقود السائل مثل الكيروسين والأكسجين.
كان مكتب الملاحة الجوية التابع للبحرية يطور الصاروخ «رجلاس» من طراز «كروز» للانطلاق من غواصة. وفي عام 1954، بينما كانت الصواريخ الباليستية العابرة للقارات تحتل الصدارة، قرر عالمان في مكتب الملاحة الجوية، روبرت فرايتاج وأبراهام هايت، محاولة تصميم صاروخ باليستي لصالح برنامج الصواريخ الباليستية في البحرية أيضا، وحصل العالمان على دعم كبير من قائد مكتب الملاحة الجوية؛ الأميرال جيمس راسل. وجذبت أفكارهما أيضا انتباه لجنة كيليان، التي أوصى تقريرها الصادر في فبراير 1955 بتصميم صواريخ باليستية متوسطة المدى ذات قواعد بحرية.
نال أسلوب إطلاق صواريخ من قواعد بحرية دعم أكثر الأشخاص تأثيرا في البحرية، الأدميرال أرليه بيرك؛ فقد تقلد منصب قائد العمليات البحرية في أغسطس 1955، وفي غضون أسبوع صدق على المقترح. أدرك بيرك بوضوح أن دمج الصواريخ الباليستية مع الغواصة النووية في العمليات سيمنح سلاح البحرية دورا جديدا تماما ومهما، ألا وهو القدرة على توجيه ضربات استراتيجية.
كانت القوات الجوية تمتلك تلك القدرة بفضل قاذفاتها، ولم يكن سلاح البحرية يمتلك أي سلاح يقترب - ولو قليلا - من هذه القدرة. وكانت البحرية تبني حاملات الطائرات، لكنها كانت ضخمة وكانت معرضة لهجوم نووي؛ ومن ثم، كان برنامج بناء السفن يشبه وضع جهود أكثر مما ينبغي في مشروعات قليلة. وبالإضافة إلى ذلك، كانت حاملات الطائرات مكلفة، ليس في حد ذاتها فقط، ولكن لأنها أيضا كانت تتطلب أساطيل شاملة من السفن المصاحبة لها إذا كانت ستبحر في مجال معاد. وفي حين كانت الأسطح المنبسطة الكبيرة تسمح باستضافة طائرات مزودة بقدرات نووية، كانت هذه الطائرات محدودة في حجمها، ومن ثم في مداها. ولم يكن من الممكن أن تنافس هذه السفن القوة الضاربة للبلاد المتوافرة في القيادة الجوية الاستراتيجية.
مع ذلك، كانت الصواريخ البحرية توفر احتمالات جديدة هائلة؛ إذ كانت هذه الأسلحة تستطيع تحقيق الاستفادة القصوى من قدرات الغواصة «نوتلس». ولم تكن هذه القوة الحربية خفية فحسب، بل كانت متحركة أيضا. وأشار الأدميرال كينرد ماكي، الذي خلف ريك أوفر، إلى أن «الغواصات مصممة للإبحار وحدها، ولا تتمتع بالحماية في مياه يسيطر عليها العدو. توفر الغواصة أمرين، وهما اليقين وعدم اليقين؛ اليقين فيما يتعلق بما ستفعله الغواصة، وعدم اليقين فيما يتعلق بالوقت والمكان الذي ستفعله فيه؛ فنحن نتعامل مع ميزات التجسس والحركة وقوة النيران التي تمنحنا تأثيرا فعالا، وهو تأثير لا يمكن مقارنته بأي شيء على الإطلاق».
13
تمثلت النتيجة المباشرة المترتبة على ذلك في الدمج بين غواصة البحرية والصاروخ «جوبيتر» التابع للجيش عام 1955. وكانت القوات الجوية لديها لائحة الإجراءات الإدارية المعروفة ب «إجراءات جيليت»، التي كانت تختصر الكثير من الإجراءات الروتينية، وسار بيرك في التنفيذ على النهج نفسه. كان في إمكان أي من إدارة مكتب الملاحة الجوية التابع للبحرية وإدارة التسليح التابعة للجيش إدارة البرنامج الجديد؛ بيد أن بيرك لم يختر أيا منهما، وإنما أنشأ بدلا من ذلك كيان جديد، سماه مكتب المشروعات الخاصة. واختار بيرك لإدارته الأميرال ويليام رابورن، الذي كان قائدا سابقا لحاملة طائرات، وكان من المحاربين القدامى الذين شاركوا في حرب المحيط الهادئ؛ حيث خدم كنائب مدير برنامج الصواريخ الموجهة في البحرية. واشترك بيرك مع وزير البحرية في إصدار خطاب إلى رابورن، يمنحه صلاحيات الجنرال شريفر ويمنح برنامجه الفضائي استقلالا لا يضاهى:
إذا صادف الأميرال رابورن أي صعوبات أستطيع أن أساعده في تخطيها، فسوف أرغب في معرفتها في الحال فضلا عن معرفة الإجراءات التي يوصيني باتباعها. وإذا كانت ثمة حاجة إلى مزيد من المال، فسوف نحصل عليه؛ وإذا كان في حاجة إلى مزيد من الكوادر، فسوف يرسلون إليه في الحال؛ وإذا كان ثمة ما يجعل سير العمل بطيئا في هذا المشروع فيما يتجاوز قدرات البحرية ووزارة الدفاع، فسنرفع الأمر إلى أعلى مستوى ولن يستغرق الأمر بضعة أيام.
14
أشار رابورن لاحقا قائلا: «كنا نعتمد على فلسفة الاتصال الدائم، لم نكن نخفي أي أمر عن أي شخص يريد معرفته، ولم يكن ثمة ما يجعل أي شخص يقع في المتاعب أكثر من تأخير الإعلان عن مشكلة محتملة. والأسوأ من ذلك، أنه إذا انتظر الشخص حتى تقع المشكلة، فسيصبح إذن في وضع حرج حقا.» ويضيف زميله النقيب لفرينج سميث، وهو اختصاصي دفع، قائلا: «كان كثير مما جرى يخالف الإجراءات واللوائح التنظيمية الحكومية الراهنة. ومن ثم، كان ينحى جانبا.» وهو ما كان يعني أن رابورن كان في استطاعته أن يتوقع طوال الوقت الحصول على المعلومات التي يحتاجها لاتخاذ قرار ما، واستطاع أن يفعل ذلك، بدلا من طلب إجراء المزيد من الدراسات.
منح رابورن الصاروخ «جوبيتر» الذي ينطلق بحرا فرصة طيبة لاختباره، لكنه كان يعي جيدا أن وقوده السائل كان ينذر بخطر نشوب أسوأ حادث حريق منذ أيام السفن الشراعية الخشبية، عندما كان البحارة يطهون فوق مواقد مكشوفة. وعندما أمر بإجراء دراسة مبدئية على استخدام وقود صلب بديل، لم يجد أي تحسن في أداء الوقود. وكان الصاروخ البديل يستخدم الوقود الصلب التقليدي، وليس النوع الجديد الذي أنتجته شركة «أتلانتك ريسرش»، الذي كان تصميمه بالغ الضخامة بطول 41 قدما ووزن 162 ألف رطل. وكان مقدار إزاحة المياه في الغواصة التي تحمله يبلغ 8500 طن، مقابل 3300 طن في غواصة «نوتلس»، لكنها لم تكن تحمل أكثر من أربعة صواريخ. وربما كانت توفر عامل الأمان والسلامة، بيد أن المكونات إجمالا لم تكن تبشر بتحقيق ميزة من الناحية العملية.
توقع رابورن أن صاروخ الوقود الصلب الهائل هذا سيحمل المقدمة المخروطية للصاروخ «جوبيتر»، التي كانت تزن 3000 رطل بما في ذلك الرأس الحربية التي يحملها. وكان التصميم المتوقع سيحقق استفادة كاملة من عمليات تقليص الوزن في الأسلحة النووية التي أشير إليها في تقرير لجنة «تي بوت» وفي دراسات لاحقة. وعلى الرغم من ذلك، وجد رابورن نفسه في الوضع الذي كان فيه شارلي بوسار من شركة «كونفير» عام 1951، عندما صمم الصاروخ «أطلس» في وقت سابق على هذا الإنجاز النووي الحراري، وأنذر الصاروخ بسبب ضخامته المفرطة بعدم جدواه عسكريا. ولكن، كان ثمة إنجاز ثان مشابه وشيك الحدوث، وهو الإنجاز الذي حققه إدوارد تيلر بعد ذلك.
خلال صيف عام 1956، قدم تيلر مقترحه. وكانت القنابل الهيدروجينية تستخدم طبقة ثقيلة من اليورانيوم غير المخصب التي كانت تتلقى دفقة قوية من النيوترونات من خلال عملية تفاعل نووي حراري، وتطلق طاقة إضافية من خلال عملية الانشطار. وأكد تيلر في مقترحه على إمكانية تقليص وزن الرأس الحربية مجددا من خلال استخدام يورانيوم مخصب بدلا من اليورانيوم غير المخصب. وكان مقترح تيلر واضحا، على الأقل في نطاق جماعة تيلر المتخصصة في المجال، لكنه كان يتعارض بشدة مع أسلوب لوس ألاموس. وبالنسبة إلى هارولد أجنيو، فقد أشار قائلا: «لم يكن المقترح متماشيا مع ثقافتنا؛ فقد نشأنا في ثقافة ندرة استخدام المواد النووية. وكانت فكرة إدوارد مثل فكرة وضع الزبد على جانبي الخبز. ولم يجد أمامه إلا أن يرضخ رضوخا كاملا.»
كانت ثمار الجهود المبذولة مقدمة مخروطية وزنها 850 رطلا فقط، بينما كان وزن الرأس الحربية لا يتجاوز 600 رطل. امتزجت هذه الجهود مع جهود شركة «أتلانتك ريسرش» - فضلا عن الجهود التي بذلت في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا التي كانت تبشر بنظام توجيه خفيف الوزن مماثل - لتغير من طبيعة صاروخ الوقود الصلب لرابورن جذريا، ووصل وزن الصاروخ إلى 28800 رطل، وهو ما يقترب من وزن الصاروخ «في-2» عند إطلاقه، وكان ارتفاعه الذي يقل عن ثلاثين قدما لا يكاد يبلغ ثلاثة أخماس ارتفاع الصاروخ «في-2». ومع ذلك، كان الصاروخ الجديد يستطيع حمل رأس حربية زنة 600 كيلوطن، ويقذفها إلى مدى يصل 1200 ميل بحري. والأفضل من ذلك أن حجمه المضغوط كان يسمح له بحمل ستة عشر صاروخا منه في غواصة نووية ذات قاعدة طويلة طراز «سكيب جاك». وكانت هذه الغواصات، ذات القواعد القياسية، جزءا من برنامج ريك أوفر لبناء الصواريخ.
أطلق رابورن على الصاروخ اسم «بولاريس»، في إشارة إلى اسم النجم الثابت الذي كان البحارة يسترشدون به. وقبل أن يتمكن من إرساء عقد على إحدى الشركات والتحرر نهائيا من الجيش، أراد أولا الحصول على إذن من وزير الدفاع ويلسون. وفي خريف ذلك العام، قدم عرضا موجزا أشار فيه إلى أن برنامجه سيوفر 500 مليون دولار أمريكي مقارنة بالصاروخ «جوبيتر» الذي كان مخططا له أن ينطلق بحرا. وبدا ويلسون مهتما بالأمر؛ حيث أمال رأسه إلى الأمام قائلا: «لقد عرضت علي الكثير من شرائح العرض المشوقة أيها الشاب، لكن هذه الشريحة هي الأكثر تشويقا، شريحة توفير نصف مليار دولار أمريكي.» وفي ديسمبر، بعد أسبوعين من إصدار القرار الذي أنكر حق الجيش في نشر الصاروخ «جوبيتر»، أصدر رابورن توجيها إلى رابورن بألا يمضي في تنفيذ مشروع الصاروخ «جوبيتر »، وأن يمضي في العمل في الصاروخ «بولاريس». وكان مكتب رابورن آنذاك بمنزلة سلاح بحرية داخل البحرية، وتمكن من خلال صلاحياته الواسعة أن يحصل على أقصى ما يمكن من ريك أوفر نفسه. واحتاج إلى خمس غواصات طراز «سكيب جاك» في البداية، وبدأ بغواصة كانت قيد الإنشاء، وتولى هو مسئوليتها؛ حيث قطعها نصفين ووضع لوحا بطول 130 قدما في قطاعها الأوسط لحمل الصواريخ، وأطلق عليها اسم «جورج واشنطن» التابعة للبحرية الأمريكية.
في يوليو 1957، بينما كانت برامج الصواريخ تمضي قدما، توقفت جهود تطوير برنامج الصاروخ «نافاهو» القديم عندما ألغت القوات الجوية العمل فيه؛ ومع ذلك، أسهم هذا المشروع - الذي كانت تديره شركة «نورث أمريكان»، وكان له دور عظيم في مجال صواريخ الوقود السائل - إسهاما أخيرا من خلال تقديم نظام توجيه استخدم في غواصة «جورج واشنطن» والغواصات المشابهة لها؛ فقد كان من الضروري أن تعرف الغواصات وجهتها أثناء إبحارها تحت البحر، وكان نظام توجيه «نافاهو» يوفر هذه المعلومات على نحو فعال. واتضحت مميزات النظام بعد عام؛ إذ استخدم في توجيه غواصة «نوتلس» تحت ثلوج المحيط القطبي في رحلة بحرية بدأت من ميناء بيرل هاربور إلى إنجلترا، تحت القطب الشمالي مباشرة.
جذبت «بولاريس» أيضا انتباه الكولونيل إد هول. كان هول يدير برنامج صاروخ «ثور» تحت إشراف الجنرال شريفر، لكنه صار مقتنعا بأن صاروخا مماثلا في القوات الجوية للصاروخ البحري سيوفر ميزة هائلة. في البداية، عالج مشكلة صب كميات كبيرة للغاية من الوقود الصلب، فيما يعرف بالحبيبات. وكان تطوير الرأس الحربية الجديدة لتيلر يعني أن صاروخ هول سيكون أصغر كثيرا من صواريخ الوقود السائل الكبيرة لشريفر، بيد أن هول كان يعرف أنه سيحتاج إلى حبيبات أكبر كثيرا مما جرى تصنيعه سابقا. ولم يكن يستطيع أيضا الاعتماد على حبيبات الصاروخ «بولاريس»؛ إذ كان الصاروخ «بولاريس» صاروخا من مرحلتين، ذا حبيبات محدودة الحجم، وكان هول يريد أن يحصل على حبيبات أكبر.
أرسى هول عقودا على عدة شركات تعمل في مجال صناعة الوقود الصلب، بما في ذلك شركتا «إيروجت» و «ثيوكول»؛ ووقع كروزبي من شركة «ثيوكول» العقد في سرور، حيث كان قد خسر عقد «بولاريس» أمام شركة «إيروجت» ورأى في ذلك فرصة للرد . اشترى قطعة أرض كبيرة قرب مدينة بريجام في ولاية يوتا، وهي منطقة بعيدة تتوافر فيها مساحات واسعة تسمح بتلاشي هدير الصواريخ كثيرا. وفي نوفمبر 1957، قدم الباحثون في شركته وحدة وقود صلب توفر قوة دفع مقدارها 25 ألف رطل، وهي أكبر قوة دفع من نوعها حتى ذلك الوقت.
لكن الأمر كان يتطلب ما هو أكثر من حبيبات كبيرة لصنع صاروخ هول. أراد هول أن يطلق الصاروخ في لحظة إعطاء إشارة الإطلاق، وهو ما كان يعني إدخال تغييرات جذرية في نظام التوجيه. كانت النظم التقليدية، التي كانت تستخدم البوصلات الجيروسكوبية العائمة التي ابتكرها ستارك دريبر من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد إدارة زر التشغيل؛ إذ كان يتعين تدفئة نظم التوجيه، حتى تصبح العبوات العائمة في مستوى طفو دقيق. ثم نصب العبوات بالتوازي مع المحور الرأسي و«محاذاتها» على نحو صحيح في المستوى الأفقي، وهو ما كان يستغرق وقتا يقرب من ساعة أو يزيد. ولم تكن ثمة مشكلة في ذلك بالنسبة إلى الصاروخين «أطلس» و«تايتان»، اللذين كانا يحتاجان إلى وقت أكثر لتزويدهما بالوقود ولإعدادهما للإطلاق، وينطبق الشيء نفسه أيضا على الصاروخ «بولاريس»، الذي كان يستطيع الاختفاء تحت سطح البحر حتى يستعد قائده. لكن هول كان يحتاج إلى نظام توجيه يعمل على نحو مستمر.
جاء الحل من خلال قسم الأوتونتكس (أو أنظمة الإلكترونيات) في شركة «نورث أمريكان»، وهو الحل الذي كان يمثل ثمرة جهود العمل على نظام التوجيه في الصاروخ «نافاهو». وبالمثل، طورت شركة «روكيت داين» تصميماتها من خلال الأنشطة البحثية التي كانت تجريها على محرك الصاروخ «نافاهو». كان أوتونتكس قد بنى النظام الذي كان سيوجه غواصة «جورج واشنطن»، وكان أحد الاختصاصيين الأساسيين، وهو جون سليتر، قد صمم بوصلات جيروسكوبية جديدة مختلفة تماما عن نماذج بوصلات دريبر العائمة. كانت بوصلات سليتر تحتوي على كرة دوارة، في حجم كرة زجاجية كبيرة، كانت تدور في مبيت كروي وكانت تستخدم غشاء رقيقا من الغاز للحيلولة دون التلامس. وكانت هذه البوصلة الغازية، التي يرجع تاريخ تطويرها إلى عام 1952، لا تزال مستخدمة بعد مرور خمس سنوات.
في أغسطس 1957، تولى هول مسئولية فريق عمل شرع في تحديد ما أطلق عليه نظام سلاح كيو؛ وبعدها بأسبوعين وضع تصميما كان يتضمن فيما يبدو كل المواصفات المطلوبة. وكان هول حريصا على ألا يكون هذا النموذج مكلفا. أشار المؤرخ جورج ريد إلى الصاروخ باعتباره «أول سلاح استراتيجي يمكن إنتاجه على نطاق واسع». وكان الصاروخ قويا، ليس ضعيفا مثل صواريخ الوقود السائل، وكان يمكن إخفاؤه تحت الأرض في أسطوانة مبطنة بالخراسانة، وهو ما أشارت إليه مجلة «تايم» لاحقا بأنه «صومعة مقلوبة». ونظرا لقوته، كان يمكن إطلاقه من الصومعة التي تحيط به، وتحمل الضغط والاهتزاز الشديدين المتولدين عن الإطلاق من حفرة الإطلاق الأرضية مباشرة. ولم يكن في مقدور أي صاروخ وقود سائل أن يفعل ذلك، وكانت الصومعة تمثل بدورها عامل حماية للصاروخ من أي شيء فيما خلا ضربة نووية مباشرة.
عقب إطلاق «سبوتنيك»، ذهب هول وشريفر إلى البنتاجون للحصول على المزيد من الدعم من أجل هذا النموذج الأحدث للصاروخ الباليستي العابر للقارات. وفي فبراير 1958، قدما تصميم الصاروخ إلى وزير الدفاع ماكلروي وإلى قائد القوات الجوية، وعلى حد تعبير شريفر: «حصلنا على موافقة خلال ثمان وأربعين ساعة.» وبنهاية الشهر أطلق على المشروع اسم جديد، وهو «مينتمان».
لكن، كانت الأمة في حاجة إلى ما هو أكثر من صواريخ جديدة؛ كانت تحتاج أيضا إلى أقمار استطلاع، ومنذ البداية تقريبا لم تقل إنجازات القمر «يو-2» كثيرا عما بشر به؛ وما لبث أن دخل الخدمة حتى استطاعت أنظمة الرادار السوفييتية تحديد موضعه. وفي أعقاب عملية التحليق الثانية فوق الأراضي السوفييتية، أعلنت وزارة الخارجية عن احتجاجها، وتصاعدت الاحتجاجات، وبعد تنفيذ ست مهام من هذا النوع، جميعها خلال شهر يوليو 1956، أمر آيك بإيقاف البعثات الاستطلاعية. ولم تجر أي محاولات بعد ذلك إلا بعد الحصول على موافقته الشخصية، ولم يتجاوز عدد البعثات الاستطلاعية التي انطلقت خلال السنوات الأربع ثماني عشرة بعثة. نقل ريتشارد بسل، سائرا على نهج كرتس لوماي ، خمسة أقمار طراز «يو-2» إلى القوات الجوية الملكية، ورتب عملية الحصول على استخباراتها. ولكن، لم يكن هذا إلا إجراء مؤقتا.
كانت صور أقمار «يو-2» لا تضاهى؛ أظهرت إحدى الصور، التي التقطت من ارتفاع 55 ألف قدم، كرات الجولف في ملعب الجولف المفضل لدى آيك. وعادت بعثة استطلاع أخرى في عام 1956 بصور غاية في الأهمية، كانت تظهر عددا أقل جدا مما كان متوقعا للقاذفات الثقيلة في القواعد السوفييتية؛ وهو ما أفضى إلى البدء في عملية مراجعة شاملة لقوة موسكو الجوية المقدرة، وأعلن أحد مساعدي آيك العسكريين أنهم سرعان ما وجدوا أن إنتاج القاذفة «جاب» كان يتراجع، وهو أمر كانوا يتوقعون حدوثه كل عام. لكنه لم يحدث حقيقة. ولكن، أكدت القيود المفروضة على القمر «يو-2» على أهمية المضي قدما في تطوير القمر «دبليو إس-117إل».
لكن، على الرغم من تولي شريفر مسئولية برنامج الأقمار الصناعية هذا في فبراير 1956، لم يلق البرنامج نفس الأولوية المرتفعة الممنوحة إلى الصاروخ «أطلس» والصواريخ الأخرى. وعندما انطلق القمر «سبوتنيك 1»، كان القمر «دبليو إس-117إل» يتطور ببطء، وكان في حاجة إلى صاروخ تعزيز. وكانت القوات الجوية قد تخلت عن أسلوب «آر سي إيه» في الاستطلاع، وهو الأسلوب الذي كان يعتمد على كاميرا تليفزيونية؛ نظرا لأن جودة الصور الناتجة كانت منخفضة. وكان شريفر لا يزال يتبع الأسلوب الثاني في إرسال قمر صناعي لا يعود إلى الأرض، ولكنه يسجل الصور في شكل نيجاتيف ثم يجري لها مسحا ضوئيا ويرسلها إلى القاعدة الأرضية. ولكن، كانت المركبة الفضائية المصاحبة لقمر من هذا النوع في حاجة إلى صاروخ من طراز «أطلس» لبلوغ مدار فضائي، وهو ما لم يصبح جاهزا إلا بعد فترة. (أطلق على القمر اسم «ساموس»، ولم ينطلق في بعثة فضائية إلا في عام 1961.)
بعد ثلاثة أسابيع من إطلاق «سبوتنيك»، تلقى آيك تقريرا يطالب بإطلاق قمر استطلاع مؤقت يجري تجهيزه بسرعة، وطلب آيك من مدير وكالة الاستخبارات المركزية آلان دلاس ووزير الدفاع ماكلروي أن يخبراه بالمزيد؛ وبالفعل، تحقق المزيد في شهر نوفمبر على أيدي اثنين من محللي مؤسسة راند، هما مرتون دافيز وأمروم كاتز؛ حيث أجريا دراسة بعنوان «جيل من الأقمار الصناعية القابلة للاسترجاع». وخلصت دراستهما إلى إمكانية استخدام الصاروخ «ثور» كصاروخ تعزيز لهذه المركبة الفضائية، وكان «ثور» قد نجح بالفعل في التحليق كصاروخ.
في يناير 1958، فتح مجلس الأمن القومي المجال لاتخاذ إجراءات عملية من خلال منح الأولوية القصوى لتطوير نظام فاعل؛ وبعدها بأسبوعين اتخذ آيك قرارين؛ أنشأ وكالة المشروعات البحثية المتقدمة، وطلب من وكالة الاستخبارات المركزية بناء قمر صناعي قابل للاسترجاع، تاركا جهود تطوير قمر صناعي غير قابل للاسترجاع إلى القوات الجوية. وطور أحد المسئولين في وكالة الاستخبارات المركزية قمرا سماه «كورونا»، على غرار اسم الآلة الكاتبة طراز «سميث-كورونا» الموجودة على مكتبه، وأطلق على المركبة الفضائية التي كانت ستحمله اسم «ديسكفرر». ومنذ البداية، شارك القمر «كورونا» القمر «يو-2» في مستوى السرية الاستثنائي.
بناء على ذلك، أصدرت وكالة المشروعات البحثية المتقدمة في أواخر شهر فبراير قرارا رسميا بإلغاء ذلك الجزء في القمر «دبليو إس-117إل» المماثل لمركبة «ديسكفرر»؛ وتضمن هذا القرار مجموعة من إلغاءات العقود القانونية، وإخطارات رسمية أخرى كانت تصدر عادة عندما كان البنتاجون يتخلى عن أحد مشروعاته. أثار هذا القرار استياء الشركات المتعاقدة ومسئولي القوات الجوية على حد سواء؛ إذ صدموا من تخلي وكالة المشروعات البحثية المتقدمة، التي تعد أحدث الوكالات وأقلها خبرة، عن نظام الاستطلاع الذي أظهر أفضل احتمالات النجاح. ولكن، جاء هذا الاستياء الشديد لصالح أهداف ريتشارد بسل.
بدأ بسل العمل في مشروع «كورونا» في هدوء واستعد لإطلاقه على غرار ما فعل مع القمر «يو-2». ورتب بسل للحصول على تصريحات أمنية تسمح بانضمام عدد من الأفراد الذين اختارهم بعناية - سواء أكانوا في القوات الجوية أم من بين العاملين في الشركات المتعاقدة - إلى المشروع، واتخذ خطوة سرية لتفعيل العمل في مشروع «ديسكفرر» في إطار «كورونا».
كان من المفترض أن تطلق القوات الجوية هذه الأقمار الفضائية، بيد أن موقع كيب كانافيرال لم يكن مناسبا. كان من المقرر أن يحلق القمر «ديسكفرر» في مدار قطبي، وكان سيجري إطلاقه قريبا شمالا أو جنوبا. وفي موقع كيب، كان الأمر يتطلب حمل القمر فوق مناطق آهلة للسكان لإطلاقه في أي من الاتجاهين، وهو ما لم يكن مأمونا. وكان البنتاجون يبني قاعدة فاندنبرج التابعة للقوات الجوية، وهو مركز جديد على ساحل ولاية كاليفورنيا، على مسافة 150 ميلا شمال غرب لوس أنجلوس؛ وكان الموقع يوفر مجال إطلاق خاليا نحو الجنوب. وكان من المقرر أيضا أن يدعم عمليات الإطلاق العسكرية للصاروخين «أطلس» و«ثور»، وهو ما كان يعني إمكانية إطلاق «ديسكفرر» من هذه القاعدة الجديدة. كانت القاعدة الجديدة توفر عنصر الأمان أيضا، وهو ما لم يكن متوافرا في موقع كيب. كان الموقع لا يسمح للسائحين بالاقتراب على نحو ما من أي منشأة عسكرية، على الرغم من أن خط السكك الحديدية «ساوثرن باسيفك» كان يمر عبر فاندنبرج، وكان يسمح للسائحين بإلقاء نظرة عبر نوافذ القطارات على الموقع. بيد أن بسل استطاع وضع الجدول الزمني لعمليات الإطلاق بالرجوع إلى الجداول الزمنية لخط السكة الحديد، وانتظر حتى توارت تلك القطارات عن الأنظار.
كان من المقرر أن تشارك أيضا في بناء «ديسكفرر» شركة «لوكهيد»، التي بنت القمر «يو-2» والشركة المتعاقدة على بناء القمر «دبليو إس-117إل»، وذلك من خلال وضعه على صاروخ المرحلة الثانية «أجينا». وعمل بسل بالتنسيق الوثيق مع نظير له في القوات الجوية، وهو الأميرالاي أوزموند ريتلاند، وأعطى المشروع الجديد دفعة قوية. وقال بسل لاحقا متذكرا هذه الأحداث: «بدأ البرنامج في إطار غير رسمي على نحو مدهش. قسمت أنا وريتلاند العمل بين المؤسستين أثناء التنفيذ، وكانت القرارات تتخذ على نحو مشترك. وكان عدد المشاركين في المشروع قليلا للغاية، وعلاقاتهم غاية في القرب حتى إن القرارات كانت تتخذ بسرعة ودقة. ولم نكن مضطرين إلى اتخاذ حلول وسط أو إلى تأخير تنفيذ المهام إلى ما لا نهاية في انتظار الحصول على الموافقات.»
15
قدمت شركة «لوكهيد»، التي كانت تشتهر بسرعة التنفيذ، تصميما كاملا في أواخر شهر يوليو، ووصل أول صاروخ «ثور-أجينا» مصحوبا بمركبة «ديسكفرر» الخاصة به إلى منصة الإطلاق في أوائل عام 1959، وضم الطاقم الأرضي مجموعة مخضرمة عملت ضمن فريق عمل الصاروخ «في-2» أطلقوا على أنفسهم «بروملايترز»؛ حيث كان أحدهم يشغل محرك الصاروخ «في-2» - عندما لا يستطيع الانطلاق كما يجب - باستخدام مكنسة مغمورة في الكيروسين. ولم يكن الصاروخ «ثور» الذي كان يحمل المركبة «ديسكفرر 1» يحتاج إلى كل هذه الأعمال البطولية؛ حيث حلق بسرعة إلى الفضاء في نهاية شهر فبراير. ولكن، لم يستطع الصاروخ «أجينا» بلوغ المدار، وكتب أحد محللي وكالة الاستخبارات المركزية قائلا: إن «معظم الناس كانوا يعتقدون أن الصاروخ هبط في مكان ما قرب القطب الجنوبي.»
شهد منتصف شهر أبريل إطلاق «ديسكفرر 2»، الذي بلغ المدار بنجاح ودار حول الأرض لمدة يوم، وكان من المفترض أن يسقط الصاروخ قرب هاواي، ونقل أحد العاملين في محطة التحكم الأرضية أمرا يجعل كبسولة القمر تعاود الولوج إلى المجال الجوي في وقت محدد؛ ولسوء الحظ، نسي أن يضغط زرا معينا. وعلم المسئول عن استرجاع القمر، العقيد تشارلز موس ماثيسون، أن المركبة سقطت قرب جزيرة شبيتسبرجن النرويجية.
هاتف ماثيسون صديقا في القوات الجوية النرويجية، وهو اللواء تافتي جونسون، وطلب منه رصد مركبة فضائية صغيرة ستهبط على الأرجح بواسطة مظلة، وهاتف جونسون أحد المسئولين التنفيذيين في إحدى شركات التعدين في الجزيرة، وأمره بإرسال دوريات تزلج، وسرعان ما عادت دورية مؤلفة من ثلاثة رجال حاملة معها الأخبار. وكانوا قد رأوا المظلة البرتقالية مع انجراف الكبسولة قرب قرية بارنتسبرج. ولم يكن هذا أمرا طيبا؛ إذ كان سكان القرية من الروسيين المقيمين في البلاد.
أرسل بسل طائرة وهليكوبتر، بينما شارك السكان المحليون في عملية البحث بحماس بالغ. قال أحد السكان: «لا يجد الناس هنا كثيرا مما يمكنهم فعله؛ لذا تلقى عملية البحث هذه ترحيبا كبيرا.» ولكن، كل ما عثر عليه هو آثار لأحذية تزلج على الجليد، وربما كانت هذه آثار أقدام الروس؛ إذ كان سكان الجزيرة من النرويجيين يستخدمون الزلاجات عادة. ألهمت هذه الحادثة لاحقا الروائي ألستر ماكلين عندما كتب روايته «حمار وحشي في محطة الثلج». لكن، كان مبعث الراحة الوحيد بالنسبة إلى وكالة الاستخبارات المركزية؛ هو أن «ديسكفرر 2» لم تكن تحمل على الأقل معدات تصوير.
كان هذا أقرب ما يكون من النجاح الذي حققه البرنامج خلال الأشهر الستة عشر المقبلة؛ فمن بين محاولات الإطلاق العشر لمركبات «ديسكفرر»، لم تنجح إلا خمس فقط في بلوغ مدار. وكانت جميع المركبات تتصرف على نحو غريب، واتخذ أحد الصواريخ الكابحة اتجاها خاطئا؛ فبدلا من الهبوط من الفضاء، انتهى به المطاف صاعدا إلى مدار أعلى. وفي محاولة إطلاق أخرى، عجز الصاروخ عن الانطلاق تماما. وأفضت مشكلة كهربية إلى سقوط صاروخ آخر سدى، بينما لم تعمل الكاميرات في ثلاث بعثات خلال المدار الأول أو الثاني. وحقق الصاروخ «ديسكفرر 8» عمليات ولوج مقبولة إلى المجال الجوي، غير أن مظلة كبسولته لم تفتح؛ فاصطدم بمياه المحيط وغاص فيه.
بعد عملية الإطلاق هذه، في نوفمبر، علق بسل إجراء المزيد من عمليات الإطلاق، بينما حاول أن يعيد تقييم عمليات الإطلاق. وقال لاحقا: «كانت مسألة مخيبة للآمال إلى أقصى حد. وفي حالة إطلاق قمر استطلاع، كان المرء يطلق القمر ثم يجري مجموعة قياسات عن بعد، ولا يعود القمر مرة أخرى. فلا توجد معدات. يختفي القمر إلى الأبد، ويضطر المرء إلى تخمين ما جرى من خلال البيانات التي جرى إرسالها؛ ثم تجرى الإصلاحات اللازمة، وإذا لم يفلح الأمر مرة أخرى يدرك المرء أن ثمة خطأ في استنتاجاته. وفي حالة الصاروخ «كورونا»، كان الأمر يتكرر مرارا وتكرارا.»
16
في تلك الأثناء، كان كوروليف يمضي قدما في عمليات إطلاق الصاروخ «آر-7» كصاروخ باليستي عابر للقارات؛ حيث كانت تجرى عملية إطلاق تجريبية مرة كل أسبوع في دلالة واضحة على الاستعداد العسكري. وفي يناير 1960، أطلق كوروليف صاروخي «آر-7» في مسارات بعيدة المدى بلغت منتصف المحيط الهادئ، وأعلن الكرملين وقتها عن جاهزية هذا الصاروخ. وخلال هذا الشهر أيضا، أجريت مناقشات في واشنطن استجابة إلى تقديرات استخباراتية جديدة، كانت تتوقع أن تمتلك موسكو ما يصل إلى 450 صاروخا باليستيا في منتصف عام 1963؛ وهو ما كان يزيد بمقدار الضعف عن القوة التي كانت أمريكا تتوقعها، وهو أمر مخيف بما يكفي، لكن ما أثار الشكوك هو أن التقدير الأخير قدم أرقاما أقل كثيرا عن التقديرات السابقة. وتساءل عضوا الكونجرس ستيوارت سايمونتن وليندون جونسون عن احتمالية أن تكون الأرقام التي قدمها آيك مبالغا فيها، في محاولة منهما لتقليل التهديد الواضح خلال عام انتخابي. وبدا من الضروري الحصول على صور جديدة من الصاروخ «يو-2»، ووافق آيك على رحلات الانطلاق.
ثم في أول مايو، أسقط صاروخ أرض جو القمر «يو-2» قرب سفيردلوفسك، وأعرب خروتشوف - الذي كان يأمل أن يمتلك الاتحاد السوفييتي قمرا كهذا - عن صدمته عندما اكتشف أن الأمريكيين كانوا يتجسسون عليه. وانسحب خروتشوف فجأة من اجتماع كان مقررا مع آيزنهاور في باريس، وبعد افتضاح أمر القمر بما جعله معرضا للإسقاط بواسطة الصواريخ السوفييتية، لم يرسل القمر «يو-2» مجددا في أية مهمة فوق الاتحاد السوفييتي؛ ومن ثم، لم يكن أمام بسل سوى الاعتماد على أقمار الاستطلاع فقط الموجودة لديه.
تبين أن ثمة حلا لمشكلة الكاميرا. كان الفيلم يحتوي على قاعدة أسيتات، وكان يتعرض للتمزق أو الكسر عند وجوده في الفراغ؛ مما يؤدي إلى تعطل الكاميرا وتوقفها عن العمل. ابتكرت شركة «إيستمان كوداك» قاعدة بوليستر، نجحت في التغلب على هذه المشكلة. وبالإضافة إلى ذلك، كانت درجة الحرارة في الأقمار الصناعية تنخفض بشدة وتصير باردة للغاية؛ مما يحول دون عمل البطاريات، ولكن الطلاء الأسود ساعد في امتصاص ضوء الشمس وجعلها أدفأ. ولضمان عدم إغفال أي شيء، وضع بسل مزيدا من المعدات على متن مركبته، لترسل بيانات وتقارير عن تفاصيل الرحلة.
وحان بعد ذلك إطلاق المركبة التالية التي بلغت مدارا، وهي «ديسكفرر 11». عملت الكاميرات الموجودة على متن هذه المركبة، وكذلك البطاريات، على نحو جيد، لكن الصواريخ الصغيرة المسئولة عن التحكم في الاتجاه - التي كان من المفترض أن توجه الصاروخ في الاتجاه الصحيح لمعاودة الولوج إلى المجال الجوي - لم تعمل، واختفت كبسولاتها إلى الأبد. استخدم بسل الصواريخ بدلا من المحركات النفاثة الغازية التي كانت تستخدم النيتروجين المضغوط وتخلص من معدات التصوير لإفساح المكان لوضع مزيد من المعدات الأخرى.
في أغسطس، كان «ديسكفرر 13» هو الأوفر حظا. جهز موس ماثيسون طائرة لسحب الصاروخ عن طريق الإمساك بمظلته، لكن السحب الكثيفة حالت دون ذلك. ولكن الأمر مر بسلام، فقد اصطدم الصاروخ بالماء وطفا على سطحه، ناقلا إشارة لاسلكية، وأطلق صبغة فستقية اللون (ما بين الأصفر والأخضر)، وأومض بضوء كضوء الفلاش. وبعدها بثلاث ساعات، وصلت هليكوبتر على متن سفينة واستطاع أحد السباحين استرجاع الصاروخ. وفي ضوء هذه النتيجة المشجعة، سمح بسل بإطلاق «ديسكفرر 14» وعلى متنه الكاميرا الخاصة به. واسترجعت كبسولة «ديسكفرر 14» أيضا بنجاح يوم 19 أغسطس، ولكن هذه المرة أثناء تحليقها في الهواء.
وسرعان ما وصل فيلم «ديسكفرر 14» إلى مركز تحليل الصور في وكالة الاستخبارات المركزية؛ حيث اجتمع محللو الصور في صالة عرض، وأخبرهم مدير المركز، آرثر لوندال، أنه سيحدثهم عن «شيء جديد وعظيم حصلنا عليه هنا»، ثم عرض نائبه خريطة للاتحاد السوفييتي. وكانت هذه الخرائط تعرض في السابق خطا رفيعا وحيدا للإشارة إلى مسار أحد أقمار «يو-2»، أما الخريطة المعروضة هذه المرة، فكانت تعرض ثمانية خطوط عريضة تمر من الشمال إلى الجنوب عبر الاتحاد السوفييتي وشرق أوروبا؛ حيث تغطي ما يربو عن خمس المساحة الإجمالية. وهذه الخطوط كانت تمثل المناطق التي التقط هذا القمر صورا لها، فأطلق الجميع صيحات حماسية مدوية. وبدت بعض الصور ضبابية بسبب الشحنات الكهروستاتيكية، لكن دقة الوضوح كانت تتراوح بين عشرين وثلاثين قدما، وهي نسبة وصفها المحللون بأنها تماثل النطاق «جيد إلى جيد جدا». ولا شك أنها كانت نقطة تحول هائلة.
كانت ثمة لحظات أخرى من خيبة الأمل، بما فيها خيبة الأمل الكبرى التي حدثت في شهر سبتمبر عندما رصدت طائرة كبسولة الصاروخ «ديسكفرر 15» أثناء طفوها في المحيط، ثم تعرضها للغرق وسط الأمواج العاصفة قبل التمكن من استرجاعها. لكن في الرحلة التالية، شرع بسل في استخدام صاروخ المرحلة الثانية «أجينا بي»، الذي كان أطول من الصاروخ السابق بسبع أقدام، وأدخل تطويرات على «ديسكفرر» لزيادة حجمه وقوته؛ ونتيجة لذلك، نجح الصاروخ «ديسكفرر 18» الذي أطلقته وكالة الاستخبارات المركزية في مهمته التي استغرقت ثلاثة أيام في ديسمبر. وكانت الصور التي التقطها تضاهي في جودتها أفضل الصور التي التقطها «ديسكفرر 14»، وتضاءلت ضبابية الصور إلى حد كبير.
تولى الرئيس كينيدي مهام منصبه في يناير 1961، وكان قد أطلق عدة حملات حول قضية الفجوة الصاروخية. وكان نائب وزير دفاعه، روزويل جيلباتريك، مؤمنا بهذه القضية بشدة؛ لذا، بعد أن تولى جيلباتريك مهام منصبه، ذهب ورئيسه - وزير الدفاع روبرت ماكنامارا - إلى مكتب الاستخبارات في القوات الجوية في الدور الرابع من مبنى البنتاجون، وعكفا على دراسة صور «ديسكفرر» على مدى عدة أيام.
كانت القوات الجوية ترى أن موسكو تبني أعدادا كبيرة من مواقع الصواريخ المخفاة جيدا، وكان من بين القواعد المخفاة المفترضة نصب تذكاري لشهداء حرب القرم، وبرج يعود إلى القرون الوسطى. ولكن، فضل ماكنامارا وجلباتريك الأخذ بوجهة نظر مكتب استخبارات الجيش، الذي كان يرى أنه نظرا لضخامة الصاروخ «آر-7» وقوته، فلا يمكن نقله إلا عن طريق خط سكة حديد أو طريق عسكري. وكانت صواريخ «ديسكفرر» قد التقطت صورا بطول خطوط السكك الحديدية في الاتحاد السوفييتي والطرق السريعة الرئيسية، ولم تكتشف أي منصات إطلاق. وفي فبراير، في مؤتمر صحفي لم يكن مصرحا بتداول وقائعه، أثار أحد الصحفيين مسألة الفجوة الصاروخية، وأجاب ماكنامارا بأنه «لا توجد أي أدلة سوفييتية تشير إلى بناء صواريخ باليستية عابرة للقارات». وأسرع الصحفيون إلى هواتفهم، وامتلأت صفحات الصحف بالتصريح بعدم وجود فجوة صاروخية، واضطر كينيدي نفسه أن يتدخل، معلنا أنه من المبكر للغاية استخلاص نتائج كتلك.
خلال فصلي الربيع والصيف، وصلت معلومات جديدة ومثيرة من الفضاء ومن جاسوس في موسكو يدعى أولج بنكوفسكي. كان بنكوفسكي برتبة كولونيل في إدارة الاستخبارات المركزية في الجيش السوفييتي، قبل أن يبدأ العمل مؤخرا لصالح وكالة الاستخبارات البريطانية «إم آي-6»، وكان قد عرض من قبل تقديم خدماته على وكالة الاستخبارات المركزية، لكن قوبل عرضه بالرفض شكا في كونه عميلا مزدوجا، لكن سرعان ما هدأت صلاته بالاستخبارات البريطانية من الشكوك الأمريكية. وخصص ضابط في وكالة الاستخبارات المركزية لتولي أموره وحصل على اسم حركي، هو أليكس (لا كاردينال، مثلما في روايات توم كلانسي)، وتلقى طلبا بتقديم تقرير حول برنامج الصواريخ السوفييتية.
في مايو 1961، أرسل بنكوفسكي ثلاثة رولات من الميكروفيلم كانت تتضمن معلومات فنية حول الصاروخ «آر-7»، وتقريرا حول الجداول الزمنية لإطلاقه وجداول تأخير عمليات الإطلاق، ومحاضر اجتماعات الكرملين التي كان المسئولون قد قرروا فيها استخدام الصاروخ «آر-7» في بعثات فضائية، لا نشره كصاروخ باليستي عابر للقارات. ولم يكن الصاروخ «آر-7» كبيرا وثقيلا فقط، بل كانت منشآت إطلاقه عرضة للهجوم بدرجة عالية، وكان كل صاروخ يحتاج إلى أكثر من ثلاث ساعات لتزويده بالوقود والانتهاء من إعداده للإطلاق. كان القادة السوفييت يتوقعون الحفاظ على سرية مواقع الصاروخ «آر-7»، للحيلولة دون قصفها، لكنهم كانوا يدركون تماما أن بعثات أقمار «ديسكفرر» فوق أراضيهم جعلت هذا أمرا مستحيلا. وكان السوفييت يطورون صاروخا باليستيا جديدا عابرا للقارات، هو الصاروخ «آر-16»، الذي كان يستخدم أنواعا من الوقود قابلة للتخزين ويمكن نشره في صوامع، ولا يستغرق أكثر من ثلاثين دقيقة لإعداده للإطلاق. ولكن، كان «آر-16» لا يزال في مرحلة الاختبار، بينما كان لا يزال ثمة بعض الوقت لاستخدامه فعليا.
ثم في شهري يونيو ويوليو، انطلق القمران «ديسكفرر 25» و«ديسكفرر 26» في مداريهما بنجاح، ولم تكن مهمتا هذين القمرين سوى المهمتين الثالثة والرابعة اللتين تعودان محملتين بصور ذات قيمة استخباراتية، لكن قدمت هذه البعثات الأربع مجتمعة تغطية مفيدة لمساحة بلغت ثلاثة عشر مليون ميل مربع تقريبا، وهو ما كان يشمل أكثر من نصف المناطق الأصلح لنشر صواريخ باليستية عابرة للقارات.
في نطاق هذه المساحة الشاسعة، لم يعثر محللو الصور إلا على قاعدتين جديدتين لم تكن قد ثارت حولهما شكوك في كونهما قاعدتي صواريخ باليستية عابرة للقارات. ثم جرى تصوير ثلاثة مواقع أخرى. وبمقارنتها معا، وفي ظل العلم بوجود مجمع اختبارات صاروخية في تيوراتام، توصل المحللون إلى تصور واضح عن الشكل الدقيق لقاعدة صواريخ باليستية عابرة للقارات، وهو ما جعل من الممكن استبعاد عدد من مواقع الإطلاق «المشتبه فيها»، ووضع تقدير واضح ومحدد لقدرة موسكو في مجال الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وهو ما ظهر في 21 سبتمبر. وتضمن تقرير الاستخبارات القومي 11-8 / 1-61، بعنوان «قوة القوات الصاروخية الباليستية البعيدة المدى ونشرها»، جزئيا الآتي:
تقع القوة السوفييتية الحالية في مجال الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، بحسب تقديراتنا الأخيرة، في نطاق يتراوح ما بين 10 و25 منصة إطلاق يمكن إطلاق قذائف صواريخ من خلالها في اتجاه الولايات المتحدة، ولن يشهد مستوى القوة هذا زيادة كبيرة خلال الأشهر المقبلة.
ربما تعزى القوة المنخفضة الحالية والقريبة المدى للصواريخ الباليستية العابرة للقارات في المقام الأول، إلى قرار سوفييتي بنشر مجرد قوة صغيرة من الجيل الأول من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، ومن أجل التركيز أكثر على تطوير نظام هجومي أصغر من الجيل الثاني. وبناء على ذلك، نرى أن مستوى القوة الصاروخية في منتصف عام 1963 سيتراوح تقريبا بين 75 و125 منصة إطلاق جاهزة للعمل للصواريخ الباليستية العابرة للقارات.
17
من الواضح أن الأمريكيين هم من كانوا متقدمين في سباق الصواريخ وليس الروس. بالإضافة إلى ذلك، كان آيزنهاور قد التزم باتباع أسلوب قديم، وهو أسلوب كانت أمريكا قد استخدمته منذ أيام الحرب الأهلية، لصد التحدي العسكري السوفييتي؛ وكان هذا الأسلوب يتمثل في الاعتراف بقوة العدو المبدئية، مع استخدام القوة المتاحة لحماية البلاد. ثم، من خلال الحماية التي يوفرها هذا الدرع، كانت البلاد تعبئ موارد صناعية وفنية هائلة، لا قبل لبلاد أخرى أن تضاهيها أو حتى تحاول أن تضاهيها، لبناء أسلحة تحقق لها السيادة.
بهذه الطريقة، نجح الاتحاديون في هزيمة الكونفيدراليين في أول حرب صناعية في العالم. وفي الحرب العالمية الأولى صارت الولايات المتحدة مستودعا وترسانة ومصدرا هائلا لقروض الحرب، ومن ثم دعمت جهود بريطانيا وفرنسا عندما خذلتهما قواهما. وقال سيد المعارك الحربية الألمانية، المارشال بول فون هندنبورج، عن الأمريكيين: «لقد فطنوا الحرب وفهموها». وفي عام 1943، التقى ستالين بروزفلت وشربا معا في نخب: «الإنتاج الأمريكي، الذي من دونه كانوا سيخسرون هذه الحرب.»
في مواجهة التحدي الأخير ، كان آيك قد أحدث ثورة في عملية التسليح مخرجا القوات الاستراتيجية للبلاد من ظلال الحرب العالمية الثانية إلى صورة ندركها جميعا اليوم. وعندما تولى مهام منصبه عام 1953، كانت القوات الجوية تعتمد على القاذفات التي كانت تستخدم المكابس، بينما كانت القوات البحرية لا تزال تستخدم السفن التي استخدمتها في حرب المحيط الهادئ. وفي عام 1961 امتلكت القيادة الجوية الاستراتيجية القنبلة الهيدروجينية، بعدما توافرت أكثر من 1500 طائرة قاذفة نفاثة تستطيع حملها. وتصدرت أقمار الاستطلاع وحاملات الطائرات الكبرى والغواصات النووية قائمة الأولويات. كان الصاروخ «ثور» قد بلغ ما وراء البحار، وكان «أطلس» جاهزا، وأبحرت غواصة «جورج واشنطن»، التي كانت تحمل ستة عشر صاروخا من طراز «بولاريس»، في أول مهمة قتالية في نوفمبر 1960. وفي غضون أقل من أسبوعين بعد دخول كينيدي البيت الأبيض، بلغ الصاروخ «مينتمان» الثلاثي المراحل مداه الكامل انطلاقا من موقع كيب كانافيرال، من أول محاولة إطلاق. وبحلول عام 1967، نشرت البحرية إحدى وأربعين غواصة من هذا النوع، بينما كان من المقرر أن تنشر ألف صومعة لإطلاق صواريخ «مينتمان» في منطقة السهول العظمى الشمالية.
لكن، عندما صدر تقرير مجلس الأمن القومي 11-8 / 1-61، وهو ما كان يمثل بيانا صادرا بإجماع الآراء عن المجتمع الاستخباراتي، وعندما ثبت ضعف السوفييت وعدم قوتهم، لم يكن ثمة احتفال على المستوى القومي. وكذلك لم يشهد ميدان تايمز أي أجواء احتفالية. وعلى أية حال، صنف التقرير باعتباره سريا للغاية، ولم يسمح لأحد بالاطلاع عليه إلا من حصلوا على تصاريح أمنية للاطلاع على صور القمرين «يو-2» و«ديسكفرر». وبالنسبة إلى الآخرين، وهو ما كان يشمل الجميع تقريبا، كان سباق الفضاء لا يزال ينذر بخطر موسكو الماثل. وفي مجال الفضاء كان الروس في المقدمة؛ حيث كانوا قد استكشفوا القمر وأرسلوا أول رواد إلى مدار فضائي.
الفصل السادس
مستقبل الفضاء الواعد في الصعود إلى القمر
الفضاء في أعقاب «سبوتنيك»
على الرغم من أن مشروعات كوروليف الفضائية كانت تخدم أهدافا مدنية مثل السياسة والعلوم، فإن مصدر تمويلها كان وزارة الدفاع. كان كوروليف يسعى إلى اتخاذ مبادرات جديدة، مرسلا مركبة فضائية غير مأهولة إلى القمر وروادا في بعثات لبلوغ مدارات فضائية، من خلال بناء صواريخ أكثر قوة من طراز «آر-7»؛ لكن لتطوير هذه الصواريخ، كان عليه أن يشير إلى استخداماتها العسكرية. لحسن الحظ، لم يكن هذا أمرا صعبا؛ إذ استطاع كوروليف أن يبني أقمار استطلاع كانت تماثل أقمار «يو-2» الأمريكية. استطاع أيضا أن يقدم طريقة جديدة لتوصيل الأسلحة النووية، وذلك من خلال إطلاقها في مدار ثم استخدام صاروخ ارتكاسي كابح لإلقاء كل قنبلة من مدارها الفضائي لتسقط على الهدف المحدد لها؛ ومن ثم تستطيع الرأس الحربية بعد ذلك الاقتراب من الولايات المتحدة من أي اتجاه وتوجيه ضربة دون سابق إنذار.
لتنفيذ ذلك، احتاج كوروليف إلى صاروخ مرحلة عليا يوضع أعلى الصاروخ «آر-7» الأساسي. فمثلما قبل بمقترح تيخونرافوف لإطلاق القمر البسيط طراز «بي إس» باسم «سبوتنيك 1»، احتاج أيضا إلى مركبة فضائية على قدر مماثل من البساطة لتكون بمنزلة حمولة أولية لصاروخ المرحلة العليا؛ واستطاع بذلك خدمة القضايا العلمية والأغراض الدعائية واستكشاف الفضاء، واستطاع في الوقت نفسه إسعاد خروتشوف، من خلال بناء الحمولة كمركبة فضائية لا تزيد في تعقيدها عن القمر «بي إس»، وإطلاقها إلى القمر. ومثلما أكد في صحيفة «برافدا» في ديسمبر 1957: «إن بلوغ القمر عن طريق صاروخ، يجري إطلاقه من الأرض، أمر ممكن من الناحية الفنية حتى الآن.»
تعاون كوروليف بعد ذلك مع عالم الرياضيات مستيسلاف كلديش لإعداد مقترح رسمي، وضعا خطوطه العريضة في خطاب أرسلاه إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، بنهاية شهر يناير 1958. كان من المقرر أن يبدآ باقتراح إطلاق مركبة بسيطة تلامس سطح القمر، حاملة مقياسا مغناطيسيا فضلا عن أجهزة كشف الأشعة الكونية والنيازك. لكن، تقرر لاحقا إرسال بعثة فضائية حول الجانب البعيد غير المرئي للقمر، تلتقط صورا باستخدام كاميرا تليفزيونية وترسلها إلى الأرض.
حاز الاقتراح الموافقة سريعا، وأخبر كوروليف طاقم عمله: «أيها الرفاق، تلقينا أمرا من الحكومة بإرسال شعار النبالة السوفييتي إلى القمر. أمامنا عامان لنفعل ذلك.» بدأ بإقامة مشروعين منفصلين لبناء المرحلة العليا ، متوقعا أن تدفع المنافسة كل مجموعة لبذل مزيد من الجهد. بالإضافة إلى ذلك، أعرب عن رغبته في أن يكون محرك المرحلة العليا من الصاروخ جاهزا خلال تسعة أشهر فقط؛ ومن ثم، تمكن من تنفيذ عمليات الإطلاق الأولى في خريف 1958، ولم يكن قد مضى عام على تاريخ إطلاق «سبوتنيك 1».
أرغم كوروليف نفسه مثلما أرغم الجميع على العمل وفق إيقاع سريع لا هوادة فيه. لم يكن الاتحاد السوفييتي قد وضع عطلة نهاية الأسبوع بعد؛ فكان أسبوع العمل المكون من ستة أيام لا يزال هو النظام التقليدي المطبق. مع ذلك، استغل كوروليف أيام الآحاد لعقد اجتماعات مع فريق العمل لا تتخللها أي مكالمات هاتفية أو مقاطعات للنظر في مشكلات روتينية معتادة؛ بالإضافة إلى ذلك، فرض كوروليف قاعدة على معاونيه بألا يستقلوا الطائرات إلا ليلا عند الانتقال إلى تيوراتام. على حد تعبير أحد زملائه، ويدعى بوريس راوشنباخ: «لم يكن كوروليف يتصور إهدار يوم عمل في الانتقال من الموقع إلى المحطة. كان يرى أن ليلة لا نوم فيها تقريبا، في مقعد طائرة، كافية للراحة.»
في الواقع، لم يكن تطوير المرحلة العليا يتيح وقتا للراحة، ودامت الحال كذلك لفترة من الوقت. لم تكن المهمة في حد ذاتها جديدة، بيد أنها أظهرت عددا من المشكلات الفنية الجديدة؛ إذ كان يجب أن تقاوم المرحلة العليا الارتجاج والاهتزاز الشديدين في الرحلة أعلى صاروخها المعزز، ثم تحلق عاليا في السماء، حيث لا يوجد أي طاقم إطلاق لمعالجة أي عطب أو مشكلة. لتيسير المشكلة قليلا، تقرر توصيل المرحلة العليا بالصاروخ «آر-7» من خلال شبكة مفتوحة؛ وعندئذ أمكن بدء تشغيل المحرك قبل أن تبدأ قوة دفع الصاروخ المعزز في التضاؤل، بينما يتسرب عادم المحرك عبر الشبكة، وهو ما جعل تفادي مشكلة إطلاق المرحلة العليا في ظل انعدام الجاذبية ممكنا. لكن تصميم أي صاروخ كان ينطوي على مشكلات أخرى كثيرة، أصعب في تجنبها.
ترأس فالنتين جلشكو، مصمم محركات الصاروخ «آر-7»، إحدى مجموعتي تصميم المرحلة العليا، وكان نظيره في المجموعة الثانية مصمما مبتدئا يدعى سميون كوزبرج. كانت لدى كوزبرج خبرة محدودة في مجال الصواريخ؛ إذ كان قد قضى الخمسة عشر عاما الأخيرة في تصميم المحركات النفاثة للطائرات، لكن في عام 1956، أثناء عمله في فورونزه، بنى كوزبرج محرك صاروخ يعاد تشغيله أثناء التحليق، واختبره بنجاح. كانت مشكلات إعادة تشغيل هذا المحرك مشابهة للغاية لمشكلات تشغيل محرك صاروخ مرحلة عليا، ووجه كوروليف توجيهات رسمية إلى كوزبرج لبناء المرحلة العليا في فبراير 1958، بعد أسبوعين فقط من إرسال خطابه إلى اللجنة المركزية. واتضح أن هذا القرار كان صائبا؛ إذ إنه في الوقت الذي كانت جهود جلشكو قد بدأت تتداعى وتتعثر شيئا فشيئا، جاء كوزبرج، الوافد الجديد، في قوة.
أثناء ذلك، في لوس أنجلوس، كان الجنرال شريفر يمهد الطريق أمام الصاروخ «ثور» ليكون بمنزلة صاروخ منافس يصعد إلى القمر. في البداية، كان مشغولا بتطوير المقدمة المخروطية للصاروخ «أطلس»، ولم تكن الصواريخ المتوافرة لإجراء اختبارات الإطلاق ملائمة. كان الصاروخ «إكس-17» والصاروخ «جوبيتر-سي» التابع للجيش يحملان مقدمات مخروطية صغيرة لصواريخ باليستية متوسطة المدى، وكان الصاروخ «جوبيتر» يتطلب إجراء اختبارات على نموذج كامل. أما فيما يتعلق بالصاروخ «أطلس»، كان شريفر يبحث عن طريقة لإطلاق مقدمة مخروطية لمسافة 5000 ميل كاملة أو أكثر، واستطاع عمل ذلك من خلال وضع صاروخ مرحلة عليا أعلى الصاروخ «ثور»، وأوصى كبار المديرين في «إيروجت» باستخدام صاروخ المرحلة الثانية من طراز «فانجارد»، الذي كانوا يبنونه. قبل عيد الشكر مباشرة في عام 1957، وافق شريفر على بناء هذا الصاروخ المكون من صاروخين مرحليين لإجراء اختبارات على المقدمات المخروطية، وذلك من خلال استبعاد بعض نماذج الصاروخ «ثور» التقليدية من خط الإنتاج.
كان الصاروخ، الذي أطلقوا عليه اسم «ثور-إيبل»، يمثل بداية جهود تزويد الصاروخ «ثور» بصواريخ مرحلية عليا ذات قدرات متزايدة؛ وهو ما جعله الصاروخ الرئيسي الأكثر استخداما في البلاد في مجال الفضاء. في مؤسسة «راند»، كان الباحثون يقدمون مقترحات لاستخدام الصاروخ «ثور-إيبل» لإطلاق قمر استطلاع مبكر. وفي النهاية، كان هذا الصاروخ أشبه باستخدام الصاروخ «فانجارد» متضمنا الصاروخ «ثور» كصاروخ مرحلة أولى، وهو مزيج تمكن بالتأكيد من إطلاق أكثر من مجرد ثمرة جريب فروت. كان الصاروخ «ثور-إيبل» مكملا للصاروخ «ثور-أجينا»، وهو نموذج تطوير منفصل، يتضمن صاروخ مرحلة ثانية من شركة «لوكهيد»، وكان يحمل أقمار «ديسكفرر».
عقب عيد الشكر مباشرة في عام 1957، زار وفد من شركة «رامو وولدريدج» شركة «مارتن» في بالتيمور، التي كانت تبني صواريخ «فانجارد» الكاملة. أراد الوفد أن يشتري بعض صواريخ المرحلة الثانية، لكنه اكتشف أنها جميعا محجوزة لسلاح البحرية. مع ذلك، كانت «إيروجت» مستعدة تماما لبيع صاروخ المرحلة الثانية الذي لم يكن يتضمن سوى المحرك وخزانات الوقود الدفعي. كان هذا الصاروخ يتطلب نظام توجيه، بيد أن شركة «رامو وولدريدج» كانت لديها مجموعة مختصة بتصميم نظم التوجيه برئاسة جيمس فلتشر، واستطاعت هذه المجموعة إعداد نظام التوجيه الخاص بها داخل الشركة، من خلال تعديل نظام الملاحة الآلية في الصاروخ «ثور». أقامت المجموعة ورشة إنشاءات ميكانيكية في إحدى حظائر الطائرات في مطار لوس أنجلوس، ثم مضت في إجراء الاختبارات على صاروخها التجريبي ذي المقدمة المخروطية.
في تلك الأثناء، في واشنطن، أفضت صدمة إطلاق أول قمرين من طراز «سبوتنيك» إلى سيل من المقترحات حول عدد من المشروعات الفضائية؛ قال أحد الأدميرالات لاحقا: «بدا الأمر لي كما لو أن كل من في البلاد تقدم بمقترح إلا محلات فاني فارمر كاندي، وكنت أتوقع أن يتقدموا بمقترح في أي وقت.» سعى ويليام بيكرنج جاهدا، بوصفه رئيس مختبر الدفع النفاث، لإقامة مشروع لإطلاق مركبة فضائية سريعا إلى القمر، وسمي المشروع باسم مشروع «الجوارب الحمراء». في شركة «رامو وولدريدج»، أظهرت العمليات الحسابية التي أجراها أحد مهندسي فلتشر أن الصاروخ «ثور-إيبل»، الذي كان يحمل صاروخ المرحلة الثالثة طراز «فانجارد»، كان بإمكانه أيضا إطلاق أحمال إلى القمر. أدلت مؤسسة راند بدلوها من خلال تقريرها، الذي ذكرت فيه أن القوات الجوية بإمكانها فعليا تنفيذ مهمة كتلك.
في البيت الأبيض، كان جيمس كيليان يشغل منصب كبير مستشاري آيزنهاور لشئون الصواريخ والفضاء. في يناير 1958، تقدم كيليان إلى شركة «رامو وولدريدج» وتلقى تعليمات موجزة وشرحا مختصرا لمهمة إرسال صاروخ إلى القمر؛ قال: «قدموا مقترحا وسنشرع في التنفيذ.» بعد جلسة استمرت طوال الليل، كان المقترح جاهزا، وعلى الرغم من أنه لم يكن يزيد عن ثلاثين صفحة، فإنه كان كافيا. دعا المقترح إلى ما هو أكثر من مجرد عملية إطلاق بسيطة إلى القمر؛ إذ كانت المركبة الفضائية ستحمل صاروخ جو-جو يعمل بالوقود الصلب من فالكون، وتستخدمه كصاروخ ارتكاسي كابح لوضع المركبة في مدار حول القمر.
كان من المقرر أن تدير هيئة المشروعات البحثية المتطورة هذه العملية. كان لدى الهيئة طاقم صغير، يقارب ثمانين شخصا، بما في ذلك موظفو السكرتارية ومجموعة منتقاة من الاختصاصيين اختيروا من ثلاثة أسلحة عسكرية. أصدر مدير الهيئة، روي جونسون، أمر الهيئة الأول إلى الجيش، معطيا تعليماته إلى فون براون بتصميم صاروخ في إطار مشروع «الجوارب الحمراء». ثم صدر الأمر الثاني إلى القوات الجوية، والذي طالب شريفر بالانضمام إلى سباق إرسال رحلات إلى القمر. في أواخر شهر مارس، أصدر آيك بيانا عاما، قال فيه: «هذا ليس خيالا علميا؛ هذا عرض تقديمي معقول وواقعي أعده علماء رائدون.»
كان القمر الصناعي الأمريكي الأول قد بلغ مداره قبل أقل من شهرين، بيد أن الرئيس كان قد ألزم البلاد بالدخول في سباق مع السوفييت للصعود إلى القمر. لم تكن عملية إطلاق مركبة فضائية إلى القمر ستجرى، على طريقة كينيدي، «قبل نهاية هذا العقد»؛ بل، إذا سارت الأمور على ما يرام، فإن البلاد كانت ستطلق مركبة فضائية في مدار حول القمر قبل انتهاء الصيف.
كان لويس دن، وهو مدير عام في شركة «رامو وولدريدج»، يتولى المسئولية الرئيسية عن المهمة. ومثلما أدلى في تصريح له إلى مجلة «تايم»: «جمعت جميع العاملين في الشركة وأخبرتهم أننا كلفنا بمهمة جديدة، وأن هذه المهمة كانت تمثل أكبر تحد واجهناه على الإطلاق؛ إذ بينما كان من المفترض أن تكون هذه المركبة جاهزة للإطلاق في أقل من ستة أشهر، لم يكن مسموحا، تحت أي ظرف، أن ندع هذه المهمة تتعارض مع برنامج الصواريخ الباليستية في القوات الجوية، وهو ما كان يعني - ضمن أمور أخرى - أن مسألة العمل أربعين ساعة في الأسبوع لم تكن مطروحة. أخبرتهم أيضا أن من غير الممكن دفع أجر مقابل ساعات العمل الإضافية، وأن علينا تنفيذ المهمة في أوقات العمل وخارجها.»
1
خلال تلك الأشهر القليلة، كان على طاقم العمل لدى دان بناء مركبة الإطلاق ذات المراحل الثلاث، في وقت لم يكن الصاروخ «ثور-إيبل» ذو المرحلتين قد انطلق بعد. كان على طاقم العمل تصميم المركبة الفضائية القمرية وبناؤها، وكان عليهم أيضا إنشاء شبكة في كل أنحاء العالم من المحطات الأرضية، لتتبع المركبة الفضائية أثناء رحلتها. كان عليهم أن ينفذوا معظم العمليات الحسابية باستخدام مساطر حاسبة. وكان جهاز الكمبيوتر الوحيد المتوافر لديهم عبارة عن كمبيوتر «آي بي إم طراز 704» ذي أنبوب مفرغ، لا تزيد قدرته الحسابية عن قدرة آلة حاسبة صغيرة من الآلات المستخدمة اليوم.
لم يكن أحد يعرف متى سيضرب الروس ضربتهم التالية؛ لذا كانت السرعة مسألة ضرورية. في تلك الأثناء، لم يكن لديهم متسع من الوقت لعقد اجتماعات طويلة للجان. كان مدير المشروع، جورج مولر، مستعدا لاتخاذ قرارات عاجلة، وأبقى بابه مفتوحا لكل من يريد أن يتقدم باقتراحات. قبل شهر تقريبا من إجراء عملية الإطلاق الأولى، تقدم أحد أفراد طواقم العمل باقتراح أنه لزيادة دقة إصابة الهدف يمكن استخدام نظام تتبع يعتمد على الإشارات اللاسلكية لتحديد سرعة صاروخ المرحلة الثانية بدقة عالية، ثم إرسال إشارة في اللحظة المناسبة لفصل المحرك وإيقافه عن العمل. كان بديل ذلك هو تزويد صاروخ تلك المرحلة بكميات محسوبة من الوقود، والسماح لمحركه بالعمل حتى يحترق الوقود عن آخره.
يتذكر جورج جلجهورن، الذي كان مسئولا عن صاروخ المرحلة الثانية، ذلك قائلا: «أجرينا عملية حسابية شديدة البساطة.» أظهرت العملية الحسابية أن هذا الأسلوب يوفر قدرا أكبر من الدقة في حقيقة الأمر. واستطرد قائلا: «لم يدرس الأمر باستفاضة. قدمنا نتيجة العملية الحسابية إلى مولر، الذي قال: «حسنا. ابدءوا في بنائه.» عثرنا على مهندس، وأخبرناه أن يصمم جهاز الاستقبال، فتولى تصميمه وبناءه، ثم نقلنا الجهاز إلى موقع كيب ووضعناه في صاروخ المرحلة الثانية.»
في موسكو، كان إيقاع العمل مشابها، فقد ظل كوروليف - مثل مولر - يتابع البعثة عن كثب. ظهرت مشكلات في لحام خزانات صاروخ المرحلة العليا، وسرعان ما ألقى مهندسو الإنتاج باللائمة على المصممين. استدعى كوروليف الجميع لعقد اجتماع؛ حيث نظر إليهم بحدة قائلا لهم: «حسنا، ماذا حدث؟ هل من أحد يخبرني بما يحدث ها هنا؟ هل تدركون عواقب أي تأخير؟»
استمع كوروليف إلى زملائه وهم يتبادلون الاتهامات فيما بينهم، ثم أصدر أمرا مباشرا إلى كبير مهندسي اللحام قائلا: «أمهلك شهرا. افعل كل ما يتعين عليك فعله، لكن يجب أن تكون الخزانات جاهزة.» ثم استدار إلى اختصاصي آخر وسمى شركة متعاقدة من الباطن قائلا: «اذهب إليهم بنفسك واحصل على الأجزاء الناقصة من جهاز اللحام. إذا لم تؤد مهمتك بنجاح، فلا تلومن إلا نفسك على العواقب. وفي حال احتجت إلى أية مساعدة، قدم إلي خطة عملك؛ سأصدق عليها. هذا كل ما في الأمر.»
2
بعدها بأسبوع كان جهاز اللحام يعمل كما ينبغي، وجرى تجميع أجزاء خزانات الوقود بالكامل. لكن، على الرغم من أن كوروليف كان يسابق الزمن بأقصى سرعة، كان الأمريكيون يسبقونه إلى منصة الإطلاق. في أبريل 1958، بدأت عمليات الإطلاق المبدئية للصاروخ «ثور-إيبل»، التي كانت تتضمن اختبار المقدمات المخروطية. لم تكد عملية الاختبار الأولى تنتهي حتى توقف المحرك قبلها بعشر ثوان؛ إذ تعطلت إحدى المضخات التوربينية عن العمل وأدت إلى توقف المحرك. لكن، نجحت عمليتا إطلاق في يوليو بلغت خلالهما المقدمات الصاروخية المسافة المطلوبة على ارتفاع 6100 ميل أولا، ثم على ارتفاع 6300 ميل.
كانت هذه أولى رحلات أمريكا في المدى العابر للقارات. أثبتت عمليات الإطلاق هذه أن المقدمات المخروطية القابلة للانفصال عند درجات الحرارة العالية، التي كانت أقل وزنا بكثير من المقدمات النحاسية، قادرة على تلبية احتياجات الصاروخ «أطلس». مع ذلك، لم يتسن للقائمين على تلك الرحلات العثور على المقدمات المخروطية التجريبية أو استرجاعها، وهو ما كان ينذر بمصير سيئ للفئران التي كانت على متنها. كانت الرحلات الثلاث تحمل «فأرا في إيبل»، لكنها جميعا لاقت مصير الكلبة «لايكا». على حد تعبير الممثل الساخر بيل دانا، الذي أطلق على نفسه اسم خوسيه خيمنيز: «أغلقوا الباب ... على ذلك الفأر الصغير ... لا أريد أن أتحدث عن الأمر!»
على الرغم من ذلك، بدا أن الرحلات الناجحة في شهر يوليو قد أهلت الصاروخ «ثور-إيبل» لبعثة الانطلاق إلى القمر، وانطلق الصاروخ الأول إلى القمر من موقع كيب كانافيرال بعد شروق الشمس مباشرة في 17 أغسطس. حققت شبكة «إن بي سي» التليفزيونية سبقا فضائيا ثانيا بتغطية هذا الحدث، وتولي مذيع الأخبار هربرت كابلو التعليق عليه. ارتفع الصاروخ عن منصة الإطلاق، وخرج من كانوا في برج المراقبة للحصول على رؤية أفضل؛ ثم، بعد مرور سبع وسبعين ثانية على الإطلاق، رأوا الصاروخ يختفي في السماء وسط حفنة من الدخان.
كان الجنرال شريفر من بين المراقبين، فاستدار إلى دولف ثيل، مدير البرنامج في شركة «رامو وولدريدج»، وسأله قائلا: «ماذا حدث؟» أجاب ثيل: «انفجر، انفجر.» ثم جرت دمعة على وجهه. انضم لويس دان إليهما، وكان يبدو محبطا للغاية. وعبر ألين دونوفان، المدير المسئول عن مركبة السبر القمرية، عما شعر به وقتها بقوله: «شعرت بخيبة أمل بالغة، وارتسمت على وجهي علامات الإحباط الشديد. كنت في حالة صدمة بالغة.»
استعاد الغواصون حطام الصاروخ، الذي كان قد سقط في المحيط على مسافة بعيدة من الشاطئ، وأعيد المحرك الرئيسي إلى «روكيت داين» لفحصه جيدا. كانت المشكلة تتعلق بالمضخة التوربينية. وللمفارقة، كانت دان وثيل وشريفر على دراية تامة بتلك المشكلة. كان الصاروخ «جوبيتر» التابع للجيش يستخدم المحرك نفسه، وكان الجنرال السابق مداريس قد أصدر أمرا بوقف كل اختبارات الإطلاق؛ نظرا لأنه اتضح أن دعامات المضخة التوربينية قابلة للكسر، كان شريفر يتلقى آنذاك عددا من صواريخ «ثور» التي كانت جاهزة للإطلاق، وكان يعلم أنه في حال انتظاره إلى حين الانتهاء من تصميم محركات جديدة؛ فهو يؤخر بذلك برنامج عمليات الإطلاق التجريبية. كان معدل ظهور تلك المشكلة مرة كل سبع عمليات إطلاق؛ لذا قام شريفر بمخاطرة محسوبة؛ حيث قرر إطلاق «ثور» بغرض الحصول على بيانات مفيدة كان سيعود بها إذا تمت عملية الإطلاق على النحو الصحيح، بينما كان يدرك أن بعض نماذج صواريخ «ثور» لن تفلح في الإطلاق؛ ومن ثم، كان انفجار الصاروخ في السماء أمرا خارجا عن نطاق السيطرة.
لكن على حد تعبير ثيل: «ما يشغلنا كثيرا هو العمل على إطلاق صاروخ جديد قريبا جدا؛ لذا، هلموا يا رفاق، دعونا نبدأ العمل.» سنحت الفرصة التالية بعدها بثمانية أسابيع، قبيل يوم كولومبس مباشرة. في هذه المرة، اقتربوا كثيرا من إحراز النجاح، حتى إن الجميع استشعر مذاقه.
جرت عملية الإطلاق بعد منتصف الليل ببضع ساعات؛ أضاء الصاروخ «ثور» منطقة الإطلاق لوهلة من خلال الضوء الأبيض الساطع لعادمه، ثم خلف شعاعا منحنيا براقا مع صعوده، ثم بدأ يحلق في اتجاه المسار. بدأت جميع محركات صواريخ المراحل الثلاث في العمل، بينما تخلى عدد من طاقم الإطلاق عن تحفظهم الحذر وانتابتهم موجة فرح عارمة. لكن، يتذكر ريتشارد بوتن، الذي كان مسئولا عن عملية التتبع، قائلا: «ربما لم يمر أكثر من خمس دقائق على عملية الانطلاق حتى اكتشفنا وجود مشكلة.» لم يتمكن صاروخ المرحلة الثالثة من الانفصال عن الصاروخ الرئيسي على نحو سليم؛ إذ ظل معلقا للحظة ثم انحرف عن الاتجاه الصحيح؛ وهو ما أدى إلى خروج الصاروخ سريعا عن المسار؛ ومن ثم أسفرت عنه عملية تحليق غير دقيقة وانخفاض شديد في مستوى السرعة.
احتاجت المركبة الفضائية «بايونير 1» إلى سرعة 24100 ميل في الساعة لبلوغ القمر، إلا أن هذه السرعة تضاءلت إلى أقل من 500 ميل في الساعة. مع ذلك، كانت ترتفع عاليا وبطلاقة، وعلى الرغم من أنها لم تبلغ القمر، فقد وصلت إلى ارتفاع 70745 ميلا. كانت هذه رحلة استكشاف فضاء حقيقية، تحمل على متنها معدات ترسل بيانات حول أوضاع كونية تتجاوز بكثير المدار الأرضي. ومع بلوغ المركبة الفضائية «بايونير 1» ذروة ارتفاعها، لامست حدود الفضاء بين الكواكب.
لم يكترث بالنوم سوى عدد قليل من طاقم العمل في المشروع، على الأقل بينما كانت المركبة الفضائية لا تزال منطلقة في مسارها. بعد ثلاث وأربعين ساعة من الإطلاق، عاودت المركبة الفضائية الولوج إلى الغلاف الجوي فوق منطقة جنوب المحيط الهادئ. لم تتذبذب الإشارة الصادرة عن المركبة على الإطلاق، وظلت واضحة وقوية، حتى توقفت دون سابق إنذار. وبينما كانت المركبة تندفع في أعماق الغلاف الجوي العلوي، احترقت كما لو كانت نيزكا، لكنها كانت قد اقتربت جدا من بلوغ الأرض، وحتى تلك اللحظة كان ذلك كافيا.
حان الآن دور أمريكا لتلقى الثناء من عالم مبهور بما يراه. وصفت صحيفة «لا كروا» الصادرة في باريس الأمر بأنه «أكثر الأحداث إبهارا في التاريخ». كما وصف رئيس وزراء الهند نهرو، الذي كان ينتقد الولايات المتحدة باستمرار، ذلك الحدث بأنه «نصر مؤزر للعلم الحديث». وفي الولايات المتحدة، أعرب سايمون رامو عن وجهة نظره قائلا: «ظفرنا في عطلة نهاية الأسبوع الأخيرة ببضع ثوان في عالم الوجود اللامتناهي.»
أثبتت عملية الإطلاق أنها تمثل ذروة نجاح جهود التطوير. سرعان ما حان دور فون براون، الذي كان يأمل في التحليق إلى ما وراء القمر بمركبة فضائية لا يتجاوز وزنها ثلاثة عشر رطلا. كان حجم المركبة صغيرا، حتى إن أحد مديري مختبر الدفع النفاث، ويدعى دان شنايدرمان، استطاع أن يحملها بنفسه إلى موقع كيب على متن طائرة، حيث وضعها إلى جانبه في حاوية شغلت مقعدا بمفردها. أثبت حجمها الضئيل أن البعثة اقتربت من حدود ما كان فون براون يستطيع أن يقدمه، واتضح أنه كان على بعد مسافة صغيرة للغاية من ذلك.
انطلقت هذه المركبة، وتسمى «بايونير 3»، في أوائل شهر ديسمبر. كان صاروخها التعزيزي يتضمن الصاروخ «جوبيتر» بوصفه صاروخ المرحلة الأولى، فضلا عن مجموعة من صواريخ الوقود الصلب في المراحل العليا، وانطلقت جميعها في نجاح؛ بيد أن الصاروخ «جوبيتر» ارتفع بزاوية حادة للغاية وتوقف محركه قبل الوقت المقرر لذلك بثوان معدودة. مرة أخرى، لم يتجاوز نقص السرعة الناتج عدة أميال في الساعة، ومع ذلك كان هذا كافيا لإحداث فرق في عملية الإطلاق. كرر الصاروخ «بايونير 3» هذا السيناريو من النجاح الوشيك الذي حققته القوات الجوية، محققا ارتفاع 63580 ميلا. قدم الصاروخ «بايونير 3» إسهاما مهما في مجال علم الفضاء، من خلال اكتشاف حزام فان ألين ثان أو منطقة يعلق فيها الإشعاع، تحوط الحزام الأول. لكن، لم يتمكن «بايونير 3» أيضا من الاقتراب من القمر.
مع ذلك، بينما أخفقت الولايات المتحدة في إجراء عملية إطلاق كاملة بفارق عدة بوصات، كان كوروليف لا يكاد يجهز منصة الإطلاق. كان كوروليف قد أجرى محاولة الإطلاق الأولى في 23 سبتمبر 1958، بيد أن الصاروخ التعزيزي تفكك بعد اثنتين وتسعين ثانية فقط من إطلاقه. ولم يكن القمر في الوضع الأفضل لإطلاق صاروخ إليه إلا في بضعة أيام قليلة من كل شهر، وتزامنت محاولة كوروليف الثانية، في شهر أكتوبر، مع إطلاق «بايونير 1». لوهلة قصيرة، بدا الأمر كما لو أن سباق الصعود إلى القمر سيصير سباقا حقيقيا؛ حيث كانت صواريخ كلتا الدولتين تتنافس مثل سيارات «فورميلا ون» في سباق الجائزة الكبرى.
عندما سمع كوروليف بإجراء عملية إطلاق أمريكية ناجحة، طلب من طاقم عمله نفض النوم عن أعينهم ونسيان التعب، واحتساء كميات من الشاي الثقيل، ومواصلة العمل، وختم حديثه إليهم قائلا: «لا تقلقوا من انطلاق صاروخ الأمريكيين في رحلته إلى القمر؛ سنصعد إلى القمر قبل أن يصل إليه الأمريكيون بعدة ساعات.» لكن مرة أخرى، بعد مرور 104 ثوان على انطلاق الصاروخ من المنصة، انفجر صاروخه التعزيزي وسقط على الأرض كما لو كان عرضا للألعاب النارية.
بدا واضحا أن إضافة صاروخ المرحلة العليا إلى الصاروخ «آر-7» الأساسي قد جعلته غير صالح للتحليق. أرسل كوروليف فريق إنقاذ إلى سهول الاستبس في كازاخستان، لاسترجاع حطام الصاروخ. كانت أجزاء الحطام قد سقطت في منطقة واسعة على مسافة من موقع الإطلاق، وقال أحد أعضاء فريق الإنقاذ متذكرا هذا الحادث: «ليلا كنا نتجمد من البرد في الخيام. كانت حصص الطعام الجاف ضئيلة. لم يكن الماء متوافرا دوما؛ إذ كان يتعين في بعض الأحيان نقل الماء بعد استخراجه من الآبار في شاحنات لمسافة بضعة كيلومترات. كل من كان في كازاخستان يعلم مدى صعوبة استكشاف الطريق أو الأشياء من حولك»، وسط مناطقها السهلية المنبسطة الخالية من الأشجار. بيد أن قائد الفريق كان قد أحضر بندقية ونجح في اصطياد طائر حجل لتناوله كطعام، وكذلك نجح في إصابة غزالة عندما كان قطيع كبير من الغزلان يعبر منطقة الاستبس.
النماذج الأولى من صواريخ التعزيز الفضائية: الصاروخ «لونا» السوفييتي، والصاروخ «جوبيتر-سي» الأمريكي، والصاروخ «فانجارد»، والصاروخ «ثور إيبل»، والصاروخ «جونو 2» (دان جوتييه).
في موسكو، أصدر كوروليف تعليماته إلى كبير مصممي الصواريخ الباليستية، «إسفيت» لافروف، لتحديد المشكلة وحلها. أرجع لافروف مصدر المشكلة إلى اهتزازات قوية في خطوط الأكسجين السائل؛ وهو ما أدى إلى تحطم الصواريخ وتفككها. كانت هذه الاهتزازات قد ظهرت خلال اختبارات إطلاق الصواريخ الأولى، ورتب لافروف لاجتماع عدد من كبار العلماء، وفيهم كلديش نفسه، لعرض آرائهم كمستشارين. بعد إجراء التجارب ووضع نموذج رياضي، خلص فريق لافروف إلى أن بإمكانهم منع الاهتزازات من خلال تركيب أجهزة تخميد في خطوط الأكسجين. وبنهاية عام 1958، كان صاروخ التعزيز المعدل جاهزا.
إن المحاولات الفاشلة لإجراء عمليات إطلاق ناجحة، مع اقتراب أمريكا من تحقيق نجاح كامل في عمليات الإطلاق، وضعت كوروليف تحت ضغوط هائلة، لكنه لم يهمل التفاصيل ولم يتعجل. ذات يوم، بينما كان يزور الورشة حيث كان العمال يؤمنون وضع المركبة الفضائية في هيكل التركيب، سمع صوت مطرقة؛ كان أحد أفراد طاقم العمل قد رأى مصادفة بعض المسامير اللولبية عالقة في هيكل التركيب، وكان يحاول فكها قليلا عن طريق دقها بمفتاح ربط ثقيل. صاح كوروليف ثائرا: «ماذا تفعل بحق السماء! لماذا تدقها؟ هذه مركبة فضائية!» حاول العامل أن يوضح أنه كان يدق على هيكل التركيب، لا الصاروخ نفسه، بيد أن كوروليف رفض الاستماع إليه. لم يهدأ كوروليف إلا عندما تعهد الرجل بألا يكرر فعلته أبدا. وفي خضم صدمته من أن شخصا يتصرف على هذا النحو غير المسئول، خرج كوروليف وكان لا يزال يتمتم قائلا: «هذه مركبة فضائية .»
جاء كوروليف إلى موقع إطلاق تيوراتام قبل أعياد الكريسماس مباشرة، مصطحبا معه كلديش. كان طقس الشتاء قارص البرودة؛ إذ انخفضت درجات الحرارة إلى عشرين درجة تحت الصفر. كانت أنابيب التدفئة قد انكسرت في أحد أماكن المبيت، وكانت المواقد المؤقتة قد أطلقت دخانا كثيرا حتى إن العاملين في الموقع كانوا يتنفسون بصعوبة. كان العمال في موقع الإطلاق يرتدون معاطف وأحذية طويلة مغطاة بالفراء، غير أن كل ذلك لم يوفر إلا قليلا من التدفئة وسط الرياح العاتية القارصة البرودة. ظهرت مشكلات في أجهزة اللاسلكي؛ وهو ما أدى إلى تأخير عملية الإطلاق.
كان الأمل يراود العاملين في الحصول على بعض التدفئة باحتساء الكحول، بيد أن لجنة حكومية كانت في طريقها إلى الوصول، ولم يكن كوروليف يسمح بذلك. بعد انصراف أعضاء اللجنة، اقترب من كوروليف أحد مسئولي العمليات اللوجيستية ولاح في عينيه سؤال صامت، فأجاب كوروليف صائحا في غضب: «اللعنة عليها، وزعها.» ثم سرعان ما اصطف العاملون في صف طويل عند أحد منافذ التوزيع، ومع كل منهم إناء شاي لملئه بالمشروب الكحولي.
حلت عطلة رأس السنة، لكن كوروليف عاد إلى المنصة مرة أخرى. كان الوقت صباحا، وكانت الرياح قد هدأت، وصار الطقس أصفى قليلا. كان الوضع قبل عملية الإطلاق مفعما بالتوتر في اليوم التالي، لكن كوروليف شعر بالألفة والارتياح في هذه الأجواء. استمع كوروليف مبتهجا إلى الأصوات المألوفة لهسيس الغاز داخل الأنابيب، وهدير المحركات الكهربية، والمولدات الدائرة، والأصوات المرتفعة الصادرة عن الصمامات الآخذة في الانغلاق. حدث نفسه قائلا: «يا إلهي! كل شيء في موضعه، وفي توقيته، وكل من في المكان رائعون.»
كانت عملية انطلاق الصاروخ من المنصة رائعة أيضا؛ إذ كان أداء الصاروخ في هذه المرة، بما في ذلك صاروخ المرحلة العليا، لا تشوبه شائبة، ثم سرعان ما انطلق القمر الصناعي «لونا 1» في مساره، متجاوزا الارتفاعات التي كانت صواريخ «بايونير» الأخيرة قد بلغتها، مقتربا من القمر، ثم مارا به عن قرب. عند عودة كوروليف إلى موسكو، شعر بالإحباط مجددا. لم يكن ما خطط هو أن يحلق الصاروخ مارا بالقمر، بل أن يلامسه تلامسا مباشرا.
لكن، في العاصمة، كانت الروح المعنوية مرتفعة. مرة أخرى، أعلن الجميع أن كوروليف قد حقق نجاحا هائلا؛ إذ كان قد بنى أول صاروخ يستطيع بلوغ سرعة الإفلات المطلوبة. شكل القمر «لونا 1» علامة فارقة حتى مع عدم صعوده إلى القمر؛ إذ صار أول مركبة فضائية تخرج عن نطاق الجاذبية الأرضية وتدخل في مدار حول الشمس. بالإضافة إلى ذلك، أظهر وزن «لونا 1» البالغ 800 رطل قدرة الرفع التي يتميز بها الصاروخ «آر-7» الحامل له.
جاء رد فعل واشنطن مبالغا فيه مرة أخرى؛ حيث أعلنت إحدى لجان مجلس النواب أن «تغييرات لا سبيل إلى العدول عنها في المجتمع والسلطة السياسية ستأتي في أعقاب تنمية القدرات الفضائية وتطويرها، وسيعني إغفال هذه التغييرات وعدم أخذها في الاعتبار اختيار مسار الهلاك القومي». كتبت مجلة «تايم» مشيرة إلى ذلك قائلة: «سباق ربما يقرر ما إذا كان للحرية أي مستقبل قادم.» كان آيزنهاور، بالتعاون مع مستشاره جيمس كيليان، يعد العدة لاستكمال المشروعات الفضائية العسكرية في وكالة المشروعات البحثية المتطورة من خلال مشروع مدني كبير ووكالة فيدرالية جديدة، وهي الإدارة الوطنية للملاحة الفضائية والفضاء (ناسا).
أسست وكالة ناسا في الأساس بموجب قانون صادر عن الكونجرس، وهو القانون الوطني للملاحة الفضائية والفضاء لعام 1958. كانت نواة وكالة ناسا مؤسسة صغيرة يرجع تاريخها إلى عام 1915، وهي اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية، التي شغلت مكانة مرموقة بوصفها بيت خبرة متخصصا في مجال تكنولوجيا الفضاء. عملت اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية بميزانية محدودة؛ حيث نجحت في تشغيل مختبرين فضائيين ومركز لبحوث الدفع. لم يكن لدى اللجنة أصدقاء كثيرون في مناصب عليا مؤثرة في واشنطن، وكانت أنشطتها غير ملحوظة، حتى طائرتها التجريبية لم تكن إلا إحدى طائرات القوات الجوية التي أعطتها إياها بعدما استخدمتها لفترة. في عام 1954، وسط موجة من تخفيض التكاليف، لم تحصل اللجنة إلا على نصف الموارد المالية التي تقدمت بطلبها.
كانت اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية تحظى بسمعة جيدة بين الذين يعرفونها. في عام 1957، شغل منصب رئيس اللجنة جيمي دوليتل، وهو باحث رائد وجنرال حرب من الطراز الأول. كانت اللجنة تضم في عضويتها عددا من الباحثين المبتكرين، من بينهم ريتشارد وتكومب وآر تي دونز، اللذان حددا شكل الطائرات النفاثة الأسرع من الصوت؛ وجون بيكر، الذي كان قد بنى نفقا هوائيا بسرعة 7 ماخ. كان من بين أعضاء اللجنة باحثون آخرون قدموا إسهامات مهمة في عصر الصواريخ والفضاء البازغ، منهم جون سلوب، الذي كان يبني أول محركات صاروخية تستخدم الهيدروجين كوقود. كان روبرت جيلروث رائدا في تطوير الدروع الحرارية القابلة للإزالة عند ولوج الغلاف الجوي. كان جوليان ألن وألفرد إجرز قد اخترعا الشكل الصريح للمركبات الفضائية التي تعاود الولوج إلى الغلاف الجوي.
بحلول الوقت الذي ارتفع فيه قمرا «سبوتنيك» الأولان، كان ثلث عمل اللجنة الاستشارية للملاحة الفضائية تقريبا متعلقا بالفضاء. مع ذلك، كانت اللجنة في حد ذاتها أصغر كثيرا من أن تتولى مسئولية إدارة برنامج فضاء كبير، لكنها كان من المنتظر أن تصبح بمنزلة نواة، تنمو من خلال تولي المسئولية الإدارية لبرامج فضاء وصواريخ أخرى قيد التنفيذ. كانت جهود بناء الصاروخ «فانجارد» القائمة، في مختبر البحوث البحرية، إحدى المهام الأولى الموكلة إلى اللجنة. انضم أيضا مختبر الدفع النفاث التابع للجيش إلى وكالة ناسا الجديدة. وكانت الإدارة العليا في اللجنة تضع نصب أعينها أيضا فريق عمل الصواريخ في «ردستون آرسنال» الخاضع لإشراف فون براون؛ وبالإضافة إلى ذلك، أحرزت مبادرة مبكرة أخرى نتائج غير مسبوقة قرب بلتيمور؛ حيث باشرت العمل في مركز جودارد الجديد للرحلات الفضائية، الذي كان سيستخدم مركبات فضائية غير مأهولة مخصصة للأغراض العلمية.
تبلورت ناسا خلال عام 1958، وسط موجة عارمة من الاهتمام بالرحلات الفضائية المأهولة. قبل إطلاق القمر «سبوتنيك» بفترة طويلة، كان عدد من الاختصاصيين قد بدءوا في إجراء دراسات في هذا المجال، متوقعين أن تكون المركبة الفضائية الأولى مركبة تجريبية عالية الأداء تنطلق في مدار على متن صاروخ كبير. طالبت إحدى الخطط على وجه التحديد ببناء صاروخ متطور طراز «إكس-15» لهذا الغرض. كان الأمر سيستغرق وقتا طويلا للانتهاء من تطوير الصاروخ، وبعد شهر أكتوبر 1957، كان الجميع في عجلة من أمرهم، ثم صار الأمر يتعلق بإرسال رائد فضاء بأسرع طريقة ممكنة.
قدم فون براون، الذي لم يكن متخاذلا قط في هذه الأمور، نموذج صاروخ سماه مشروع «آدم»، وهو أول إنسان كتب له الصعود إلى الفضاء. أراد فون براون أن يضع رجل فضاء في مقصورة محكمة الغلق داخل المقدمة المخروطية، ويطلقها أعلى الصاروخ «ردستون»، إلى ارتفاع 150 ميلا. دعمه أصدقاؤه مشيرين إلى أن مشروع آدم «سيلبي متطلبات الجيش الأمريكي للتحسين من سهولة الحركة والقوة الضاربة لقوات الجيش من خلال وسيلة نقل واسعة النطاق عبر صواريخ حاملة للجنود». لكن، بما أن الصاروخ «ردستون» كان على وشك التحليق، لم ينته النقاش حول هذا الموضوع. أخبر هيو درايدن، الذي كان يرأس اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية منذ عام 1949، لجنة الفضاء التابعة لمجلس النواب أن «إطلاق رجل في الفضاء ثم إرجاعه أمر يتساوى في قيمته الفنية مع فقرة السيرك المثيرة التي تتضمن إطلاق سيدة شابة من فوهة مدفع». توقف مشروع «آدم» خلال عام 1958، لكن عندما صار التحدي الروسي أكثر إلحاحا، حان الوقت الذي أصبحت فيه فقرة السيرك هذه محور الأمل وإحدى نقاط ارتكازه الأساسية.
كانت لدى القوات الجوية خطط أكثر طموحا وجرأة، وهو ما كان يمثل نقطة تحول. قبل «سبوتنيك»، عمل جنرالات القوات الجوية بجد للتمييز بين المجال الجوي لكل دولة، والذي يكون تحت سيادتها، وبين الفضاء الخارجي الذي كان هؤلاء الجنرالات يأملون في أن تحلق أقمارهم الاستطلاعية فيه بحرية. أما الآن، وقد حققوا بغيتهم بترسيخ مبدأ حرية السفر عبر الفضاء كممارسة مقبولة، فإنهم متحمسون لتمويه الحد الفاصل بين المجال الجوي والفضاء، بحيث تتمكن القوات الجوية من المطالبة باستخدام الفضاء. كانوا يروجون بحماس لاستخدام التعبير الجديد «فن الملاحة الجوية وعلم الطيران »، وهو تعبير يوحي بأن المجالين جزء من كل لا يتجزأ. ونظرا لأن عددا كبيرا من هؤلاء القادة الكبار طيارون في الأساس، كان من الطبيعي أن يتوقعوا أن يرتدي أول من يرتاد مدارا فضائيا زي الخدمة الأزرق.
في البداية، أكدت هذه الآمال على مشروع «مان إن سبيس سونيست»؛ أي «إنسان في الفضاء في أقرب وقت»، ونال هذا المشروع دعما قويا من نائب رئيس الأركان الجديد كورتيس لوماي، الذي كان يتمتع بنفوذ كبير وحضور قوي. اعتمد المشروع الجديد على البحوث التي أجريت في شركة «كونفير» التي تولت بناء الصاروخ «أطلس»، والتي برهنت على أن هذا الصاروخ يستطيع حمل كبسولة صغيرة مأهولة في مدار منخفض جدا، إذا سارت الأمور على ما يرام. قدم المشروع مثالا آخر على وضوح قلة أعداد وأحجام الصواريخ المصممة في تلك الأيام المبكرة على نحو هامشي، بيد أن المشروع حمل في طياته على الأقل أملا في تحقيق نتائج سريعة. في يونيو 1958، اقترح الجنرال شريفر خطة تنفيذ هذه المهمة بحلول شهر أبريل 1960، بتكلفة 99 مليون دولار أمريكي.
كان مختبر لانجلي للبحوث الفضائية التابع للجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية، قرب نورفولك بولاية فرجينيا، يمثل مركزا ثالثا للاهتمام برحلات الفضاء المأهولة. كان المختبر قد لعب دورا فاعلا في استخدام أنفاق الرياح العالية السرعة لتطوير أشكال محددة من مقدمات الصواريخ المخروطية، وشكل تصميم كبسولة قابلة للاسترجاع لرائد فضاء امتدادا طبيعيا لهذه الجهود. أخذ خبير ديناميكا الهواء ماكسيم فاجت بزمام المبادرة؛ حيث سعى إلى تصميم شكل يحافظ على ثبات الصاروخ واستقراره أثناء عملية ولوج المجال الجوي، وقلل من ارتفاع حرارة الكبسولة مع توفير مساحة للإنزال بالمظلات. كان التصميم الذي انتهت إليه عمليات التطوير يتضمن مقدمة مخروطية مقطوعة ذات درع حراري واضح منحن قليلا. من خلال بعض التعديلات البسيطة، ظل هذا الشكل الأساسي شائعا في الولايات المتحدة حتى ظهر المكوك الفضائي.
صارت مشروعات «آدم» و«مان أون سبيس سونيست» وكبسولة «فاجر» عناصر رئيسية في مشروع «ميركوري»، وهو أول مشروع لرحلات الفضاء المأهولة. كانت القوات الجوية ترغب في إدارة مشروع كهذا، وكان لديها النفوذ السياسي الذي يؤهلها للاستحواذ على إدارة المشروع والتفوق على ناسا التي كانت لا تزال وكالة جديدة ومحدودة الإمكانيات. بيد أن آيك نفسه قرر أن ناسا هي من ستتولى إدارة البرنامج، وهو قرار يفصح عن الكثير من الأهمية الحقيقية لرحلات الفضاء المأهولة؛ ويرجع هذا إلى حقيقة أن القوات الجوية لم يكن لديها سبب حقيقي لإرسال رواد فضاء إلى مدار فضائي، وهي حقيقة واضحة تماما كوضوح الدرع الحراري للصاروخ «ميركوري».
لو أن مفهوم «فن الملاحة الجوية وعلم الطيران» المحتفى به كان يتضمن معنى حقيقيا، إذن فربما كان شريفر سيتمكن من تقديم مقترح قمر صناعي استطلاعي مأهول، على غرار القمر «يو-2» المداري. في حقيقة الأمر، حتى دراسات مؤسسة «راند» المبكرة كانت قد تنبأت بإطلاق بعثات تدار آليا. نتيجة لذلك، تبين أن قرار آيك كان نسخة طبق الأصل من قرار عام 1955، الذي فضل اختيار الصاروخ «فانجارد» عن المركبة المدارية التابعة للجيش لتوفير غطاء للقمر «دبليو إس-117إل».
كان اختيار «فانجارد» عام 1955، واختيار ناسا مديرا لمشروع «ميركوري» عام 1958، يؤكدان على صورة سلمية وغير عسكرية لرحلات الفضاء. مع ذلك، كان قرار عام 1955 يتضمن ميزة حقيقية، حيث قدم دعما فعالا للقمر «دبليو إس-117إل»، الذي كانت ثمة حاجة أساسية إليه. لكن، في المقابل، لم يكن قرار عام 1958 يتضمن هذه الميزة العملية؛ لأنه إذا لم تكن لدى القوات الجوية متطلبات حقيقية لإرسال رواد إلى مدار فضائي، فإن متطلبات ناسا في هذا الصدد أقل منها.
مع صعود نجم أقمار «سبوتنيك»، تضاءل في واشنطن عدد من يرون الأمور من هذا المنظور خلال عام 1958. إذا كان مشروع «ميركوري» لا يتضمن ميزة كبيرة فيما يتعلق بما يمكن أن يقوم به رواد الفضاء، فإنه مشروع غاية في الأهمية من وجهة النظر السياسية. لعل التشديد على أهمية المشروع يرجع في الأساس إلى الرغبة في إظهار التفوق الأمريكي في مجال الفضاء، لكن المشروع كان يقدم تطمينات على الأقل. في ظل النظر إلى الفضاء باعتباره مسألة مهمة لا جدال فيها، وتحول التصورات في حقيقة الأمر إلى واقع، منح الرأي العام آيزنهاور سببا كافيا لاتخاذ خطوات فعلية. لم يكن آيزنهاور يسعى إلى خوض سباق نحو الفضاء، وكان يأمل في تجنبه، لكن الأحداث أرغمته على ذلك.
سرعان ما برز رواد الفضاء، في حقيقة الأمر، بوصفهم محور تركيز المشروع. قرر آيك نفسه أن يكون رواد الفضاء طياري اختبارات عسكرية يحملون مؤهلات جامعية. منذ البداية، كانت هذه الخطة تعني أن طياري الفضاء السلميين في ناسا كان سيجري إخفاء هوياتهم ومنحهم هويات مدنية بديلة، بنفس الطريقة تقريبا التي كانت تخفى بها طبيعة أقمار «يو-2» التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية. بالإضافة إلى ذلك، أدى هذا المعيار على الفور إلى استبعاد عدد من أفضل العناصر، من بينهم تشاك ياجر وبيل بريدجمان وسكوت كروسفيلد.
كان ياجر يبلغ أربعة وعشرين عاما في عام 1947، عندما اخترق حاجز الصوت. وبعد أقل من اثني عشر عاما، كانت حدود الطيران قد تطورت من الطيران في الجو بسرعة 1 ماخ إلى الطيران في مدار فضائي بسرعة 25 ماخ. وكان ياجر يتمتع بصحة جيدة، وكان في ريعان شبابه أيضا، لكنه لم يلتحق قط بالجامعة، وهذا ما جعله مستبعدا. أما بريدجمان، فقد سجل أرقاما قياسية في السرعة والارتفاع في دوجلاس سكايروكت، وكان يعيش مستمتعا بوقته على شاطئ ماليبو في الأوقات التي لم يكن يقود فيها طائرات نفاثة، لكنه كان قد تخطى عامه الأربعين، وهو ما جعله أكبر سنا مما ينبغي. وأخيرا كروسفيلد، الذي كان أول طيار يبلغ سرعة 2 ماخ، وكان يتدرب آنذاك على قيادة «إكس-15»، لكنه كان مدنيا، وهو ما جعله مستبعدا أيضا.
مع ذلك، لم يكن أي شخص شديد الحياء يصلح لأن يصبح رائد فضاء «ميركوري»؛ إذ كان عالم رواد الفضاء مليئا بمصادر الخطر المهددة للحياة. في البحرية، كان هذا يتضمن عمليات إطلاق بمساعدة مراجم على حاملة طائرات، مراجم قد تفقد قوة دفعها في أية لحظة. وفي كثير من الأحيان، كانت الطائرات تسقط فوق مقدمات حاملات الطائرات ثم في البحر، بينما تهرع سفينة خلفها لاسترجاعها. كانت ثمة عمليات هبوط ليلية أيضا؛ حيث يقترب الطيار من سطح حاملة طائرات تتأرجح يمنة ويسرة وإلى الأمام وإلى الخلف في الظلام. كان عامل إشارات يقف قرب مؤخرة الحاملة، يراقب الطائرة الآخذة في الهبوط ويلوح للطيار بإشارات مستخدما الكشافات الضوئية إذا لم تكن عملية الهبوط تسير على نحو سليم. كان الطيار يستطيع رؤية عامل الإشارات بوضوح على مسافة خمسمائة قدم، وكانت الطائرة تقطع المسافة في ثلاث ثوان. وإذا لم يكن هذا كافيا لتأمين سلامة الطيار، كانت البحرية توفر بوالص تأمين على الحياة بمبالغ قيمة.
كان لمقاتلي القوات الجوية عاداتهم الغريبة؛ فقد يقود أحد الطيارين طائرته على الممر استعدادا للإقلاع، متجاوزا نقطة كان يمكن وقف الإقلاع عندها، ثم فجأة يرى إشارة ضوئية للتحذير من الحريق. بالنظر إلى حمولة الكيروسين القابل للاشتعال في الطائرة النفاثة، قد تنفجر الطائرة في أي لحظة، ومن ثم يجذب الطيار حبلا وتطلق شحنة من النتروجليسرين مقعد الطيار إلى أعلى، وهو ما يسمح للطيار بإنقاذ حياته باستخدام مظلة؛ ذلك إذا لم يكن الطيار يقود طائرة طراز «إف-104 إيه»، التي ينطلق مقعدها «إلى أسفل».
كان مقعد النجاة هذا سببا في أن فقد واحد من أكفأ طياري الاختبارات في البلاد، ويدعى آيفن كينشلوي، حياته. كان كينشلوي قد بلغ ارتفاع 126 ألف قدم في طائرة طراز «إكس-2» في عام 1956، وهو ارتفاع كان يسمح برؤية المنطقة الواقعة من باجا كاليفورنيا إلى سان فرانسيسكو بوضوح. لكن لم يحالفه الحظ بعدها بعامين، بعد إقلاعه مباشرة؛ إذ حاول أن يدور بالطائرة طراز «إف-104 إيه» التي كان يقودها بحيث يستطيع الارتفاع إلى السماء، لكن لم يفلح. وتكريما له، أطلقت القوات الجوية اسمه على إحدى القواعد في ميشيجان.
على الجانب الآخر، ربما كان الاستخدام الحاذق لمقعد النجاة يبرهن على حضور ذهن الطيار وهو ما يجعله مؤهلا للانضمام إلى رواد الفضاء. يذكر تشاك ياجر تدريبا على نموذج مطور من طائرة «إف-104»، كانت مقاعدها تنطلق إلى أعلى، ومن ثم كان على الطيارين ديفيد سكوت ومايك آدامز الضغط على كابح الوقود بأقصى قوة للحيلولة دون سقوط الطائرة على الأرض. توقف المحرك، واندفع آدامز خارج مقعده الخلفي، بينما ظل سكوت في الطائرة وواصل قيادتها.
كتب ياجر قائلا: «أثار الأمر دهشتي؛ ففي لحظة، اتخذ كلا الطيارين قرارا صائبا تماما، لكن بمساري عمل مختلفين.» دفع التصادم المحرك إلى قمرة آدامز، ومن ثم كان التصادم سيودي بحياته إذا ظل موجودا في قمرته، بينما كان سكوت سيلقى حتفه إذا قرر الانطلاق بمقعده، نظرا للضرر الذي لحق بالمقعد. واصل سكوت رحلته ليسير على سطح القمر. قاد آدامز «إكس-15» لاحقا، على الرغم من أنه لقي حتفه عندما خرج الأمر عن السيطرة عند سرعة 5 ماخ وتحطمت الطائرة.
كان من الممكن أن يصطبغ رواد «ميركوري» بالأجواء العامة لهذه الحقبة، لولا حرص ناسا الشديد على تقديمهم بوصفهم رموز الحقيقة والعدالة والنهج الأمريكي. بدأ التعامل معهم على هذا النحو في أول مؤتمر صحفي لهم، في أبريل 1959. وقف جون جلين، الذي كان أول من انطلق في مدار فضائي، وألقى خطابا قصيرا حول الرب والأمومة وفطيرة التفاح، وكان يعني كل كلمة مما قال. تناولت الصحافة تلك الكلمة في نهم. كتبت مجلة «تايم» بحماس: «من بين أمة يبلغ تعداد سكانها 175 مليون نسمة، تصدر المشهد الأسبوع الماضي سبعة رجال قدوا من الحجر نفسه الذي قد منه كولومبس وماجلان ودانيال بون وأورفيل وويلبر رايت.»
على الرغم من أن مركبة «ميركوري» قد صورت في وسائل الإعلام بوصفها مجرد تجربة في العلم والتكنولوجيا، كانت العلاقات العامة حاضرة عادة. ضم المسئولون السبعة عن «ميركوري» مسئولا صحفيا في ناسا على الفور، وهو المقدم جون «شورتي» باورز، الذي صار يعرف باسم «رائد الفضاء الثامن». لم تكن هذه إلا بداية؛ إذ سرعان ما أدرك مسئول العلاقات العامة في المشروع حاجته إلى المساعدة، وخاطب أحد محامي واشنطن البارزين، ويدعى ليو ديورسي. كان ديورسي على دراية جيدة بعالم المسرح والسينما والاستعراضات. كان من بين عملائه عدد من المشاهير، مثل آرثر جودفري. عرض ديورسي أن يبيع إلى المجلات حقوق نشر القصص الشخصية لرواد الفضاء، وعقد صفقة مع مجلة «لايف» كان من ثمرتها عقد بقيمة 500 ألف دولار أمريكي. كانت هذه الصفقة أفضل كثيرا من الشهرة والمجد؛ لأن رواد مركبة «ميركوري» كانوا موظفين حكوميين، من الدرجة 12 إلى الدرجة 15 في هيكل الوظائف المدنية العامة، يحصلون على رواتب مبدئية تتراوح بين 8330 دولارا أمريكيا و12770 دولارا أمريكيا. أتم ديورسي الصفقة في وقت مبكر من شهر أغسطس، ووضعت مجلة «لايف» صورة رواد الفضاء على الغلاف في عدد 14 سبتمبر، وقدمت تغطية في ثماني عشرة صفحة متقابلة بعنوان «مستعدون لصنع التاريخ». بعدها بأسبوع، تناولت المجلة زوجات رواد الفضاء تناولا مماثلا؛ حيث نشرت صورة ملونة على الغلاف أجريت عليها تعديلات طفيفة لإزالة أي تغضنات أو تجاعيد، وكتبت موضوعا في أربع عشرة صفحة متقابلة، تحت عنوان جديد «بطلات سبع وراء رواد الفضاء».
لم ينبهر ياجر بالأمر؛ إذ كان اسمه كطيار يفوق كونه رمزا، وخلال ظهوره العلني الأول ممثلا عن القوات الجوية أشار بطريقته المفتقرة إلى اللباقة إلى أن «قردا سيسافر في أول رحلة على متن ميركوري». كان على المرء أن يتصور عالم ياجر لاختبارات الطيران حتى يدرك الحجم الحقيقي لتعليقه؛ ففي عالم كذلك، لم يقترب الكثير من الطيارين الماهرين من طائرات نفاثة حقيقية. في حقيقة الأمر، كان ياجر لطيفا في تعليقه أكثر من اللازم؛ إذ كان من المقرر أن تتم الرحلة الأولى بنظام التحكم الآلي، دون أن تلمسها يد حتى وإن كانت غير بشرية. لكن تعليق ياجر جاء في غير موضعه.
لم تكن مداهنة الأبطال وتملقهم مسألة جانبية في حالة مركبة «ميركوري»، مثلما لم تكن أيضا منتجا ثانويا عرضيا. فقد كانت مسألة جوهرية بالنسبة إلى المشروع، وذلك لسبب بسيط، وهو أن المراد من رواد الفضاء كان أن يضفوا طابعا بشريا على البرنامج الفضائي، الذي كان بديلا عن سباق التسلح، وكان يرمز إلى الأمل في أن تتمكن أمريكا من مواجهة التهديد السوفييتي. لم تستطع النفسية البشرية استيعاب هذه الأمور العظيمة عند تقديمها في صورة مجردة غير مشخصنة، وكانت في حاجة إلى أشخاص، ليكونوا رموزا وشخصيات محورية. كان آيك يرمز إلى الدولة وإلى الحكومة، وكان الجنرال ماكارثر، خلال حرب المحيط الهادئ، قد مثل الأمل في النصر. بالمثل، كان رواد فضاء مركبة «ميركوري» يرمزون إلى الأمل في النجاح في مواجهة هذه التحديات الأخيرة الآتية من الخارج. كان من المنتظر أن يصبح رواد الفضاء مصدر إلهام لفيض هائل من مشاعر الكبرياء والإعجاب، وكان من المقرر أن يلعبوا أيضا أدوارا سياسية، حتى إذا فعلوا ما فعلوه من قبيل التفاخر ليس إلا. كل ما كان على أي منهم أن يفعله هو أن ينطلق إلى الفضاء، ثم يعود سالما.
لكن، بينما كان هؤلاء الرواد يؤدون أدوارهم كرموز لاستكشاف الفضاء، كان كوروليف يقدم مجددا الحقيقة الملموسة؛ إذ كان يعد العدة في تلك الأثناء لتنفيذ أكثر البعثات إلحاحا على الإطلاق، وهي البعثة التي كانت ستمثل الخطوة التالية في برنامجه لاستكشاف القمر؛ إذ كان كوروليف يسعى إلى التقاط صور فوتوغرافية للجانب البعيد غير المرئي من القمر.
هذه البعثة كانت تتطلب مركبة فضائية ذات قدرات متطورة على نحو غير اعتيادي؛ إذ كان على هذه المركبة أن تتبع مسارا شديد الدقة، وهو ما كان من المتوقع أن تخفق فيه المركبة «لونا 1» بعد فشلها في إصابة الهدف. كان على المركبة أن توجه نفسها بينما هي خلف القمر، وتحدد موضع القمر من خلال مجسات، ثم توجه الكاميرا التي تحملها في الاتجاه الصحيح. وكان يتعين عليها بعد ذلك تشغيل مختبر تحميض صور آلي يحمض الفيلم من خلال غمره في مواد كيميائية، وهو تطور ينطوي على قيمة واضحة في مجال الاستطلاع العسكري، بل إنه تطور غير متوافر في أقمار «ديسكفرر» المتطورة. واستجابة لأمر صادر عبر إشارة لاسلكية من محطة أرضية، تدير المركبة كاميرا تليفزيونية، وتجري عملية مسح ضوئي للصور المحمضة، ثم ترسلها.
لتطوير نظام التوجيه، استعان كوروليف بزميل قديم آخر، هو بوريس روشنباخ، الذي عكف على دراسة موضوعات فنية مشابهة لفترة من الوقت. بدأ روشنباخ باقتراض ألف روبل وأرسل أحد مهندسيه إلى متجر آلات إلكترونية محلي، لشراء كميات كبيرة من المكونات الإلكترونية المستعملة، ثم سرعان ما كان فريق عمله يبني نماذج أولية من مجسات بصرية، وطائرات نفاثة تتضمن أجهزة تحكم في الوضع، تعمل باستخدام النيتروجين المضغوط، وتتضمن بوصلات توجيه، ونظم تحكم إلكترونية. كانت هذه المركبة الفضائية هي أول مركبة تستخدم الخلايا الشمسية للحصول على طاقة كهربية. خلال عمليات الاختبار الأرضية، كانت ثمة رافعة ترفع المركبة من خلال حبل بينما كانت الأضواء الباهرة تتراقص على جسم المركبة، التي كانت تتلألأ مثل كرة لامعة في مرقص.
ثم واصل كوروليف جهوده نحو القمر ضاربا عصفورين بحجر واحد. في سبتمبر 1959، زار خروتشوف الولايات المتحدة في لقاء قمة مع آيزنهاور، وكان متحمسا لتحقيق نصر دعائي آخر. التزم كوروليف بتعهده بإجراء عملية إطلاق ناجحة ثانية إلى القمر، من خلال القمر «لونا 2»؛ وبالإضافة إلى ذلك، رتب كوروليف الإدلاء بمجموعة من التصريحات المهمة، لا من موسكو، بل من التليسكوب اللاسلكي الضخم في جودرل بانك في بريطانيا، وهو أكبر جهاز من نوعه في العالم. كان مدير مركز جودرل، السير برنارد لوفل، يتمتع بسمعة لا نظير لها؛ وهو ما أضفى مزيدا من البريق على هذا الإنجاز الأخير.
كان السوفييت يديرون برنامجهم الفضائي في سرية تامة، مخفين حالات الفشل ومبرزين حالات النجاح على نحو مبالغ فيه. من جانبه، عمل لوفيل عن كثب مع القوات الجوية في خضم استعداداتها لإجراء عمليات إطلاق صواريخ «بايونير»، لكنه لم يجد إلا صمتا مطبقا عندما سعى إلى التعاون مع السوفييت. لكن، بمجرد أن اتضح للسوفييت أن الصاروخ الأخير المزمع إطلاقه إلى القمر قد انطلق إلى الفضاء بنجاح، أعلنت موسكو أنها في طريقها إلى تحقيق إنجاز مماثل.
كان لوفل على وشك الذهاب إلى مباراة كريكت عندما أمسك به صحفي وسأله عما سيفعل حيال هذه المركبة المنطلقة إلى القمر؛ أجاب بأنه سيلعب مباراة كريكت؛ إذ لم يكن «لونا 2» ليبلغ القمر إلا بعد مرور ما يزيد على ثلاثين ساعة. عاد لوفل إلى مكتبه بعد المباراة، ووجد تلكسا مرسلا إليه من موسكو، متضمنا البيانات التي كان في حاجة إليها لتتبع المركبة الفضائية. تزايدت سرعة «لونا 2» عند ولوجه مجال جاذبية القمر؛ مما نتج عنه انحراف دبولري في ترددات جهاز الإرسال. بعد ذلك، بالنظر عبر تليسكوب لوفل الهائل الموجه مباشرة نحو القمر، كان «لونا 2» يقترب من فوهة أوتوليكس بينما تضعف الإشارات الصادرة عن جهاز الإرسال بحدة.
أفضت دقة المركبة «لونا 2» غير المعتادة بكاتب سيرة كوروليف، ياروسلاف جولوفانوف، إلى مقارنة الإنجاز بإطلاق طائر من طائرة أثناء تحليقها. في تلك الأثناء، قدم لوفل تقييمه الخاص الذي قال فيه: «إنه فقط أمر مدهش، يعجز العقل عن استيعابه.»
ثم في أكتوبر، في الذكرى الثانية لإطلاق «سبوتنيك 1»، أطلق كوروليف «لونا 3». مع عبور المركبة فوق منطقة القطب الجنوبي في القمر، التقطت المجسات حرارة الشمس، ثم أدارت المركبة مؤخرتها في ذلك الاتجاه. ظلت المركبة موجهة نحو الشمس في الوقت الذي ظهر فيه القمر في مجال رؤية مجموعة أخرى من المجسات، موضوعة أعلى «لونا 3». استجابة لهذه المجسات، استدارت المركبة بمواجهة القمر؛ حيث ثبتت حركتها نحو القمر وأغلقت المجسات الموجهة نحو الشمس. ثم بدأت المركبة في التقاط سلسلة من تسع وعشرين صورة متتابعة للجانب البعيد من القمر. مر الفيلم عبر المعالج الآلي، الذي أطلق عليه طاقم عمل كوروليف «لاندرومات» و«بابليك ووشرووم»؛ ومع تحميض الفيلم، توقفت المركبة استعدادا لمسح الصور ضوئيا باستخدام جهاز فاكس، بسرعة ألف خط لكل إطار، ولإرسال الصور إلى محطة أرضية في سيميز في جزيرة القرم.
الآن، بعد أن ارتفعت المركبة عاليا فوق القطب الشمالي للقمر، بدأت في العودة إلى الأرض، في مدار مخطط بعناية؛ بحيث تظل المركبة في مجال رؤية محطة التتبع الأرضية هذه طوال الوقت. كان جهاز الإرسال الخاص بالمركبة يفتقر إلى القدرة على إرسال إشارة واضحة على مسافات بعيدة مثل المسافة بين الأرض والقمر، وهو ما لم يكن جهاز الإرسال يستطيع إنجازه إلا عند مسافات قريبة من الأرض؛ ومن ثم، كان على رواد الفضاء - مثل أي سائح - الانتظار فترة حتى يروا الشكل الذي تبدو عليه صورهم. لكن، المخاطرة هذه المرة كانت هائلة حقا؛ إذ كانت هذه البعثة تمثل عملية استكشاف بالمعنى التقليدي؛ فكما هي الحال مع ماجلان وكولومبس، كان كوروليف وطاقمه أول من يرون هذا العالم غير المكتشف المتمثل في القمر، ويشاهدون جانبه البعيد الخفي عن الأنظار.
على الرغم من أن «لونا 3» كان لا يزال بعيدا كل البعد عن عمليات الإرسال الناجحة، لم يطق الجميع صبرا، وقرر المسئولون عن عمليات التحكم إجراء محاولة بإرسال الأوامر الملائمة. يسترجع ألكسندر كاشيتس، أحد المشاركين، ما حدث قائلا: «كنا نجلس في غرفة التحكم المظلمة، محدقين في إحدى شاشات الرصد. كنا نحاول مرة بعد مرة أن نرى، أو بالأحرى أن نخمن، ولو لمحة على الأقل من أي صورة». لكن، لم تظهر الشاشة شيئا، مثلما لم تظهر شيئا خلال جلسة ثانية وثالثة.
كان كوروليف مقيما في منتجع أورياندا المطل على البحر الأسود، الذي كان يضم شاطئا ومتنزها رائعا. حاول كوروليف التكيف مع حالة عدم الصبر التي كان يمر بها من خلال جولات متكررة من المشي، وكان يتحدث أحيانا إلى أحد الأصدقاء ليصرف ذهنه عن التفكير في الأمر. كان يعرف أن لا شيء في يده ليفعله حتى تصله الصور على نحو أسرع، وظل محافظا على رباطة جأشه عندما حذره أحد معاونيه قائلا: «أستطيع أن أؤكد لك أنه لن يكون ثمة أي صور. سيتلف إشعاع الفضاء أي صورة.»
للحد من أي تداخل لاسلكي، أغلقت السلطات الطريق الساحلي أمام حركة المرور، وأصدرت تعليماتها إلى السفن العابرة بالتزام الصمت اللاسلكي؛ أي التوقف عن إرسال إشارات لا سلكية أثناء المرور. لم يفلح الأمر، ولم تسفر جلسة رصد رابعة عن وصول أي صور. وبينما الأمل يتلاشى، اجتمع الجميع على إجراء محاولة خامسة؛ في هذه المرة، ظهر قرص قمري ببطء على الشاشة، وسرعان ما جاءت أول نسخة تجريبية مطبوعة من مختبر سيميز للصور. تناول كوروليف الورقة المطبوعة بين يديه كما لو كان في حالة غيبوبة، ثم قال: «حسنا، ماذا لدينا هنا؟» كانت الصورة ضبابية وغير واضحة. أشار أحد الزملاء: «نعرف الآن على الأقل أن الجانب المظلم من القمر مستدير أيضا؟» سارع آخر إلى طمأنة الآخرين قائلا: «لا تقلقوا. سنضيف مرشحات ونزيل التشوهات الموجودة في الصورة.»
تلقوا صورتين خلال تلك الجلسة. صارت الإشارة الصادرة عن «لونا 3» أكثر قوة مع اقتراب «لونا 3» أكثر من المجال الجوي للأرض، وحصل الباحثون في نهاية المطاف على سبع عشرة صورة صالحة للاستخدام من إجمالي تسع وعشرين صورة جرى التقاطها. ثم دعا كوروليف كاشيتس أن يأخذ الصور ويذهب بنفسه بها إلى موسكو لإجراء المزيد من عمليات المعالجة لها. غادر كاشيتس الموقع بعد بضع ساعات، وكان الراكب الوحيد على متن الطائرة التي أقلته؛ حيث كان يحمل معه النسخ المطبوعة من الصور في ظرف محكم الغلق.
لم تقدم هذه الصور خارطة صور حاسمة للجانب المظلم من القمر؛ إذ لم يتسن الحصول على هذه الخارطة حتى وصول الصور الأكثر وضوحا بكثير من مركبة الفضاء المدارية القمرية الأمريكية خلال عامي 1966 و1967. كانت الصور تكفي تماما لإعداد أول خارطة جيدة تشير إلى الفوهات الرئيسية وغيرها من التضاريس الأخرى التي أمكن الآن إطلاق أسماء عليها. في خضم لحظة الانتصار هذه، اختار العلماء السوفييت أسماء ذات صدى دولي قوي. بالطبع، خلدوا مشاهيرهم بإطلاق أسماء من قبيل تسيولكوفسكي ولوباتشفسكي ولومونوسوف ومندلييف، بيد أنهم اختاروا أيضا أسماء غير روسية، مثل ماكسويل وإديسون وجوردانو برونو وجول فيرن وباستور. صدقت لجنة من الاتحاد الفلكي الدولي على هذه المسميات، التي صارت على نحو دائم جزءا من قاموس الجغرافيا القمرية.
لكن مع دوران «لونا 3» حول القمر، كانت الولايات المتحدة تتخذ خطوات قوية للتصدي لاحتكار السوفييت للصواريخ الكبيرة. ترجع أولى هذه الخطوات إلى عام 1955، عندما طلبت القوات الجوية من شركة «روكيت داين» إجراء دراسة جدوى حول محرك جديد، «إي-1»، كانت قوة دفعه تتراوح بين 300 ألف رطل و400 ألف رطل. تقدمت «روكيت داين»، التي سرعان ما أعلنت عن قدرتها على إنتاج محرك أفضل كثيرا، بمقترح إنتاج محرك تبلغ قوة دفعه مليون رطل كاملة. وفرت لها القوات الجوية مصادر التمويل الإضافية، وبحلول عام 1957 كانت شركة «روكيت داين» قد قدمت تحليلا كاملا ومفصلا حول هذا المحرك الأكبر حجما، وبدأت في صناعة المكونات الرئيسية. تلقت جهود إنتاج المحرك دعما إضافيا في يونيو 1958، عندما أرست قاعدة رايت-باترسون التابعة للقوات الجوية على الشركة عقد إنتاج محرك. زود هذا المحرك - الذي أطلق عليه اسم «إف-1» - بقوة دفع أكبر؛ مما سمح باستخدامه في إطلاق صاروخ يحمل رواد فضاء إلى القمر.
كان فيرنر فون براون يباشر جهوده بنشاط أيضا. أصدر وزير الدفاع ويلسون قرارا في نوفمبر 1956 استبعد فيه الجيش من مهمة نشر صواريخ بعيدة المدى، لكنه كان قرارا ينطوي على ثغرة. لم يذكر القرار شيئا فيما يتعلق بالفضاء، ولم يذكر شيئا عن تنفيذ بعثات مأهولة طويلة المدى، وهي ما كان فون براون يأمل في تنفيذه. قبل ثلاثين عاما، كان كارل بيكر الألماني قد استغل ثغرة مشابهة في معاهدة فرساي، التي كانت قد منعت ألمانيا من امتلاك الدبابات والمدفعية الثقيلة، لكنها لم تذكر شيئا عن الصواريخ، وكان فون براون تلميذ بيكر النجيب. في أبريل 1957، أجرى فون براون عدة دراسات حول تصميم صواريخ تعزيز عنقودية تستخدم أربعة محركات طراز «إي-1» لتحقيق قوة دفع 1,5 مليون رطل؛ أطلق على الصاروخ اسم صاروخ «جوبيتر» الفائق، ثم أعاد تسميته ب «ساتورن»، الكوكب التالي لكوكب جوبيتر.
تسارعت وتيرة تنفيذ المشروع خلال عام 1958، عندما رأت هيئة المشروعات البحثية المتطورة أن «ساتورن» يجب أن يعتمد على المحركات الموجودة بالفعل، بدلا من انتظار نتائج تطوير محرك «إي-1» الذي لم تثبت كفاءته بعد. استجاب فون براون إلى هذا التوجيه بوضع تصميم جديد كان يعد بقوة دفع 1,5 مليون رطل عن طريق استخدام ثمانية محركات طراز «جوبيتر»، وهو تصميم يساهم في خفض التكاليف مع تسريع إيقاع العمل في المشروع. في منتصف شهر أغسطس، أرست هيئة المشروعات البحثية المتطورة عقدا لتنفيذ عملية تطوير الصاروخ هذه؛ وبعدها بشهر، أرسى الجنرال مداريس عقدا منفصلا على شركة «روكيت داين» لتطوير محركات تزيد قوة الدفع من 150 ألف رطل إلى 165 ألف رطل أولا، ثم إلى 188 ألف رطل. أصدر الجنرال مداريس أوامر بتعديل منصة الاختبار بما يمكنها من حمل صاروخ «ساتورن » كامل.
كانت السرعة مطلبا جوهريا، ولم يكن من السهل تصنيع خزانات صاروخ التعزيز الضخمة، إلا أن الصاروخ «ساتورن» استخدم مجموعة من المحركات الصغيرة، بدلا من الخزانات؛ وذلك لأن خزانات الوقود الدفعي بصواريخ «ردستون» و «جوبيتر» كانت متوافرة. وبالفعل وضع المصممون ثمانية خزانات من الصاروخ «ردستون» حول أحد صواريخ تعزيز «جوبيتر»، وهو ما صار يعرف مجددا بالصاروخ «جوبيتر-سي»، لكن بحجم أكبر كثيرا، ومزود بخزانات وقود ومحركات متصلة معا بنفس الطريقة تقريبا التي كان فون براون قد وضع بها مجموعة من صواريخ الوقود الصلب الصغيرة المتوافرة أعلى نموذج الصاروخ «ردستون» التقليدي، لإطلاق أول أقماره الصناعية.
اعتمد مسار ثالث في إنتاج صواريخ متطورة على استخدام الهيدروجين كوقود عالي الأداء في المراحل العليا. لم يكن الهيدروجين سهلا في تسييله؛ لأنه أكثر برودة من الأكسجين السائل، ويتبخر على نحو أسرع كثيرا. لكن، من نواح مهمة أخرى، كان الهيدروجين أكثر أمانا من الجازولين؛ لأنه يميل إلى الارتفاع في الهواء عند إطلاقه، بدلا من تكوين خليط قابل للانفجار يمكث قريبا من سطح الأرض. كما أن الهيدروجين مادة مبردة رائعة أيضا. في مختبر لويس للدفع التابع للجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية، كان جون سلوب بصدد تطوير محرك ذي نظام تبريد متجدد، تبلغ قوة دفعه 20 ألف رطل، واستطاع سلوب تشغيل هذا المحرك بنجاح على منصة اختبار.
كان من بين مراكز الاهتمام الأخرى بمحركات الهيدروجين شركة «برات آند وتني» العاملة في مجال بناء المحركات. كانت محركات الطائرات النفاثة هي منتج الشركة الأساسي، وكانت الشركة تجرب استخدام الهيدروجين من خلال بناء محرك نفاث توربيني يمكن استخدام هذا الوقود فيه، لتسيير طائرة تجسس مقترحة تحل محل القمر «يو-2». في عام 1956، قرر كبير مهندسي الشركة، بيري برات، محاولة الظفر بعقود جديدة في مجال الصواريخ الآخذ في الازدهار. كان يعلم أن شركته انضمت إلى هذا المجال متأخرا، وكان عليها أن تواجه شركات منافسة راسخة ومعروفة مثل «روكيت داين» و«إيروجت» و«ريأكشن موتورز»، لكنه كان يرى أن شركة «برات آند وتني» تستطيع تحقيق السبق على الآخرين من خلال ابتكار أنواع جديدة من الوقود الدفعي. استعان برات باختصاصي في مجال الصواريخ، يدعى برانسون سميث، سرعان ما وضع الهيدروجين على رأس قائمة موضوعاته البحثية.
لأكثر من عام، حاول سميث وبرات أن يظفرا باهتمام القوات الجوية، لكنهما لم يفلحا كثيرا في ذلك. ثم جاء القمر «سبوتنيك»، ولاح في الأفق أمل جديد. في شركة «كونفير»، انتهز زميل قديم لفون براون، يدعى كرافت إيريكه، الفرصة بعرض تصميم خاص بصاروخ مرحلة عليا يعمل باستخدام وقود الهيدروجين يمكن وضعه على الصاروخ «أطلس» الذي تنتجه شركته، ويحمل حمولات ثقيلة في مدار فضائي. سرعان ما برزت هذه المرحلة، المعروفة باسم «سينتاور»، باعتبارها محور ارتكاز لآمال سميث في استخدام الهيدروجين كوقود. ساندت هيئة المشروعات البحثية المتطورة المشروع، وكذلك فعلت القوات الجوية؛ وفي شهر أغسطس من عام 1958، أصدرت الهيئة توجيهاتها لتطوير الصاروخ «سينتاور»، باستخدام محرك يعمل بوقود الهيدروجين من إنتاج شركة «برات آند وتني».
بناء على ذلك، خلال صيف عام 1958، كان الجيش والقوات الجوية يتابعان العمل في مشروعي «ساتورن» و«سينتاور»، بينما كانت شركة «روكيت داين» تطور محرك «إف-1» ليكون باكورة مشروعاتها لإنتاج جيل جديد من محركات الصواريخ. في 29 يوليو، وقع آيزنهاور قانون إنشاء ناسا. كان مدير اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية، هيو درايدن، منخرطا حتى أذنيه في عملية التخطيط التي كانت ستحول اهتمام اللجنة من فن الملاحة الجوية وعلم الطيران إلى رحلات الفضاء. لتولي مهام عملية التخطيط هذه، استحضر درايدن إلى واشنطن آيب سيلفرستين، المدير المشارك لمركز لويس للدفع، وانطلاقا من خلفيته في مجال المحركات المبتكرة، شرع سيلفرستين في تولي مشروعات جديدة، وفي اجتذاب فريق عمل فون براون للعمل تحت مظلة ناسا، وقيادة هذه الوكالة نحو عصر جديد من الصواريخ الضخمة والرؤى الطموحة.
يصف سلوب - الذي كان قد عمل عن كثب مع سيلفرستين - سيلفرستين بأنه «حاد الذكاء، واسع الخيال، ومغامر، وحازم. كان مفاوضا صعب المراس على مائدة التفاوض لكنه كان يتسم بالدفء والإيثار الشديد في العلاقات الشخصية. كان يستطيع أن ينحي العمل جانبا كما لو كان عباءة يخلعها عنه، ويشع دفئا وتعاطفا تجاه الآخرين، حتى إن أولئك الذين سبق لهم أن شعروا بسياط نقده أثناء إحدى المناقشات الفنية ينسون أسفهم ويتجاوبون معه بدفء مماثل. استنكر كثيرون أسلوبه لكنهم كانوا يحبون شخصه. في بعض الأحيان، كانت تعتريه رغبة عارمة في إثبات حجته وإقناع الآخرين بها على نحو يقارب الهوس، لا سيما في المناسبات النادرة التي كان يبدو من الواضح فيها أنه مخطئ». لكنه، مع ذلك «كان يتمتع بحدس فني مدهش حيال النهج السليم الواجب اتباعه، ولم يحدث قط أن اتخذ قرارا سيئا على إثر حجة واهية».
3
كان درايدن، رئيس سيلفرستين، خبيرا معروفا في مجال ديناميكا الهواء، لكنه لم يكن لديه نفوذ كبير في واشنطن. عبر آيك عن التزامه بجعل وكالة ناسا قوية من خلال تخطي درايدن في اختيار مدير الوكالة. أفسح آيك المجال أمام درايدن لشغل ثاني أهم موقع في الوكالة، ونفذ توصية من جيمس كيليان في اختيار مدير الوكالة. كان المنصب من نصيب كيث جلينان، وهو عضو سابق في هيئة الطاقة الذرية. بدأت ناسا العمل رسميا في الأول من أكتوبر، وبدأ سيلفرستين ودرايدن وجلينان في البحث عن مشروعات جديدة ومؤسسات قائمة للتعاون معها.
كان المحرك «إف-1» من إنتاج شركة «روكيت داين» بمنزلة جائزة مبكرة حازت عليها الوكالة. كان عقد الشركة مع القوات الجوية يتضمن تقديم تمويل لمدة لا تزيد عن بضعة أشهر؛ حيث كان قد تقرر منذ البداية نقل هذا المشروع إلى إدارة ناسا. تقدم سيلفرستين بمقترح أفضل إلى القوات الجوية من خلال عرض تصميم محرك بقوة دفع 1,5 مليون رطل؛ مما جعل هذا المحرك الوحيد الذي يماثل في قدرته الصاروخ «ساتورن» الذي يتضمن ثمانية محركات. جرى العمل بالعقد في يناير 1959؛ حيث بدأت عملية تطوير واسعة النطاق.
كان المحرك «إف-1» بدوره يتضمن آفاقا جديدة تخدم مساعي فون براون لإنتاج صواريخ تعزيز عنقودية. اعتمد فون براون على هذا الأسلوب في مقالاته التي نشرت في مجلة «كوليرز» عام 1952، والتي اقترح فيها بناء صاروخ ضخم يتضمن واحدا وخمسين محركا في المرحلة الأولى، وتبلغ قوة دفعه الإجمالية ثمانية وعشرين مليون رطل. وبالنظر إلى إمكانية استخدام المحرك «إف-1» التي أصبحت مواتية آنذاك، استطاع فون براون التطلع إلى بناء الصاروخ «نوفا»، وهو صاروخ تعزيز ذو خواص مشابهة. كان من المقرر أن يحتوي الصاروخ «نوفا» على مجموعة من محركات «إف-1»؛ إذ كان من المقرر أن يحصل فون براون على قوة دفع تصل إلى ثمانية عشر مليون رطل إذا استخدم اثني عشر محركا. كما كان مقررا أن يصل ارتفاع الصاروخ إلى عدة مئات من الأقدام، بما يضاهي ارتفاع نصب واشنطن التذكاري، وكان الصاروخ سيحمل رواد فضاء يهبطون على سطح القمر.
تجددت هذه الرؤية في مارس 1959، عندما أجرت شركة «روكيت داين» عملية إطلاق تجريبية أولية للمحرك «إف-1» في نموذجه الذي كان يوفر قوة دفع مقدارها مليون رطل. لم يكن المحرك «إف-1» محركا صاروخيا حقيقيا، بل كان غرفة دفع، لا توجد بها مضخات توربينية ويجري تغذيتها من خلال خزانات الوقود الدفعي المضغوط في منصة الاختبار. كانت غرفة الدفع ذات جدار صلب سميك، ولم تكن تعمل إلا لمدة اثنين على عشرة من الثانية، وهو ما يكفي لضمان سلامة الإشعال واستقرار عملية الاحتراق. مع ذلك، ها هو محرك صاروخي يعقب الصاروخ «نوفا»، تزيد قوة دفعه عن قوة الدفع في الصاروخ «آر-7» الكامل الذي صممه كوروليف.
كانت ناسا في تلك الأثناء بصدد تقديم عرض بخصوص مجموعة صواريخ فون براون كذلك، بيد أن الجيش لم يوافق على طلب الوكالة، وهو ما أجبر جلينان على الانصياع إلى سيطرة مختبر الدفع النفاث. في ضوء توقعات الجيش للدور البارز المزمع لعبه في مجال الفضاء، كان الجيش يأمل في استغلال الثغرة في قرار وزير الدفاع ويلسون في عام 1956 إلى أقصى حد. كان ذلك القرار لا يزال قائما. وكانت هانتسفيل قد ظفرت بحق المضي قدما في تطوير الصاروخ «جوبيتر» الباليستي المتوسط المدى، لكن القوات الجوية كانت لا تزال تستأثر وحدها بمسئولية التشغيل الكاملة لجميع الصواريخ البعيدة المدى، وعندما صار الصاروخ «جوبيتر» جاهزا للاستخدام ، انتقلت سلطة تقرير هذا الأمر إلى القيادة الجوية الاستراتيجية؛ لكن، ربما كان سيظل «ساتورن» ملكا للجيش.
مع ذلك، كانت وكالة ناسا أوفر حظا عندما سعت إلى استعادة الصاروخ «سينتاور» من القوات الجوية. لم تظفر الوكالة بعقد تنفيذ المشروع وحدها؛ إذ ظلت القوات الجوية مشاركة في تنفيذه، لكن في منتصف عام 1959، انتقل تطوير الصاروخ «سينتاور» رسميا من هيئة المشروعات البحثية المتطورة إلى ناسا. في شركة «برات آند وتني»، دار محرك «سينتاور» بنجاح خلال عملية اختبار أولية أجريت في شهر أغسطس، كخطوة نحو تحقيق قوة دفع تقدر بنحو 15 ألف رطل، وهو ما كان مكملا لعمل جون سلوب في ناسا «لويس»، الذي حقق محركه - الذي تبلغ قوة دفعه 20 ألف رطل، والذي جرى اختباره أكثر من مرة خلال عام 1959 - معايير عالية وأظهر أداء متميزا.
لم يمض سوى عامين أو أقل في عصر الصواريخ حتى كانت البلاد تتطلع إلى إنتاج عائلة من صواريخ التعزيز تستطيع إطلاق أي شيء، بدءا من الأقمار الصناعية الصغيرة الحجم وحتى البعثات المأهولة إلى سطح القمر. كان الصاروخان «ثور-إيبل» و«ثور-أجينا» لا يزالان في الخدمة، وسرعان ما أصبح الصاروخ «أطلس-أجينا» متوافرا. وأعقب ذلك بعدة سنوات الصاروخ «أطلس-سينتاور»، الذي كان من المقرر أن يحمل أحمالا أثقل كثيرا. كذلك، نجح الصاروخ «ساتورن»، الذي جرى إنتاجه في منتصف الستينيات من القرن العشرين، في حمل أطقم كاملة من رواد الفضاء إلى مدار فضائي، وربما إلى محطة فضائية، بينما كان الصاروخ «نوفا» يعد بالانطلاق إلى القمر. وبينما كانت جهود التطوير الكاملة لعائلة الصواريخ هذه تتطلب ما يقرب من عقد من الزمان على أقل تقدير، كان الوقت ملائما تماما لوضع الأهداف التي كانت تتجاوز أهداف مشروع «ميركوري».
في ربيع عام 1959، شكل جلينان لجنة برئاسة هنري جويت - الذي صار لاحقا رئيس مركز جودارد الجديد - وأسند إلى هذه اللجنة مهمة اقتراح برنامج طموح للرحلات الفضائية المأهولة خلال فترة الستينيات من القرن العشرين. اقترح ألفرد إجرز، أحد أعضاء اللجنة، أن هدف ناسا المقبل يجب أن يكون إرسال بعثة فضائية تدور حول القمر ثم تعود إلى الأرض، ويكون على متن هذه البعثة رائدا فضاء. حذر أحد الزملاء من «وضع أهداف متواضعة للغاية». حض ماكس فاجت الذي شارك في برنامج «ميركوري»، وجورج لو - أحد أقرب معاوني سيلفرستين - ناسا على مراعاة ألا يقل هدفها عن إرسال بعثة فضائية مأهولة للهبوط على سطح القمر، على أن يكون ذلك خطوة مبدئية نحو السفر إلى كوكب المريخ. في أواخر شهر يونيو، صدقت اللجنة بحماس على هذا الهدف، وعلى حد تعبير جويت: «كان أحد الأسباب الرئيسية وراء اختيار هذا الهدف أنه كان يمثل هدفا نهائيا حقا، وله مبرراته الخاصة، ولم يكن في حاجة إلى دعم على أساس أنه يؤدي إلى هدف أكثر نفعا لاحقا.»
لم يكن في مقدور أحد تقديم هذا التعهد إلا رئيس الوكالة؛ إذ كان جل ما يركز عليه جلينان آنذاك هو عمليات التخطيط البعيدة المدى، ولا شيء أكثر من ذلك. في صيف ذلك العام، بدت الفجوة بين الخطط الموضوعة والواقع الفعلي في طريقها إلى الاتساع؛ إذ واجه الصاروخ «ساتورن» تهديدا وشيكا بإلغاء برنامجه. وعلى أية حال، كان برنامج «ساتورن» أحد مشروعات الجيش، وكان ثمة تساؤل حقيقي حول استطاعة الصاروخ تلبية حاجة عسكرية قائمة. حاول الجنرال مداريس تقديم المساعدة، مصرحا لإحدى لجان مجلس النواب: «أعتقد أن الجيش الأمريكي عليه أن يضع خططا طويلة المدى لنقل فرق قتالية صغيرة عن طريق الصواريخ. أعتقد أيضا أن نقل البضائع عن طريق الصواريخ مسألة ذات جدوى اقتصادية.»
كان ثمة كثيرون ممن كانوا لا يؤمنون بذلك، وفيهم هربرت يورك، الذي كان كبير العلماء في هيئة المشروعات البحثية المتطورة، والذي شغل أعلى منصب في البنتاجون في مجال البحث والتطوير في أوائل عام 1959. كان الجنرال مداريس يسعى إلى الحصول على زيادة هائلة في الميزانية المخصصة لصاروخ «ساتورن»، بيد أن يورك أجابه قائلا: «لا شيء في الجيش، حتى بعد سنوات عديدة من المحاولات الصعبة، يشير إلى أي حاجة حقيقية لإرسال بشر إلى الفضاء.» في شهر يونيو، أعرب يورك عن عدم موافقته على توفير تمويل جديد لمشروع «ساتورن»، وأبلغ روي جونسون في هيئة المشروعات البحثية المتطورة بذلك. في رسالة تالية إلى جونسون، كتب يورك قائلا: «قررت أن ألغي برنامج «ساتورن» نظرا لعدم وجود أي تبرير عسكري مقبول للاستمرار فيه.» لم يجد جونسون سببا للاعتراض.
اعترض المسئولون في وكالة ناسا بشدة، وفي سبتمبر التقى يورك درايدن. بادر يورك باقتراح تولي ناسا برنامج «ساتورن»، والاستعانة في ذلك بخبرات جميع أفراد فريق فون براون لتطوير الصواريخ. لاقت هذه الفكرة تأييدا واسع النطاق، إلا أن شخصين مهمين اعترضا عليها، ألا وهما سكرتير الجيش ويلبر بروكر وفيرنر فون براون. كان بروكر قد ناضل بنجاح لإبقاء هانتسفيل في حوزة الجيش، وشعر بغضب هائل لإثارة الموضوع مجددا. كان وزير الدفاع ماكلروي أعلى منه رتبة، وكان قد أيد نقل المشروع. تساءل فون براون إذا كانت ناسا تستطيع دعمه على النحو الذي كان يأمل أن يعهده فيها؛ فالتقى جلينان فون براون وأزال عنه مخاوفه. وفي نوفمبر، وافق آيزنهاور على الترتيبات الجديدة للمشروع.
احتفظت شركة «ردستون آرسنال» بدورها النشط في مجال الصواريخ الحربية، بيد أن كل برامج فون براون اتخذت غطاء مدنيا لتصبح بذلك جزءا من مركز مارشال لرحلات الفضاء التابع لناسا. صار فون براون نفسه يقدم تقارير إلى مسئولين مدنيين للمرة الأولى منذ الانضمام إلى رايخسفير في عام 1932. كانت ناسا منشغلة بالفعل ببرنامج الفضاء التابع لسلاح البحرية، الذي كان متمحورا حول «فانجارد»؛ إذ كانت القوات الجوية هي المنوطة بإدارة المشروع الفضائي العسكري المستقل الوحيد، إلى جانب الجهود المدنية في وكالة ناسا. كانت القوات الجوية بدورها تدير أنشطة الفضاء الخاصة بها دون الرجوع إلى هيئة المشروعات البحثية المتطورة كمؤسسة وسيطة؛ ومن ثم تضاءلت مع الوقت أهمية هيئة المشروعات البحثية المتطورة. أدى قرار آيك إلى سد الثغرة في قرار وزير الدفاع ويلسون حول الأدوار والمهام، الذي كان قد أصدره قبل ثلاثة أعوام، بمنع الجيش من ممارسة أي أنشطة تتعلق بالفضاء مثلما منع ويلسون الجيش من تنفيذ مشروعات تطوير للصواريخ الطويلة المدى . في ضوء هذه التطورات، تبلورت مؤسسات الفضاء في أمريكا في صورتها الدائمة.
كان فون براون قد ركز على «ساتورن» بوصفه صاروخ المرحلة الأولى، وترك موضوع المراحل العليا معلقا. عالج سيلفرستين هذا الأمر على الفور ؛ حيث شكل لجنة تقدم توصيات رسمية إلى جلينان. كانت خبرة سيلفرستين في اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية ومركز لويس، قد جعلته مؤيدا قويا لاستخدام الهيدروجين كوقود. كان سيلفرستين قد ساند جهود جون سلوب، وأدرك بنفسه أن محركات سلوب واعدة ومبشرة. استهوت وجهة نظر سيلفرستين فون براون المتشكك، الذي لم يكن لديه أي خبرة عن وقود الهيدروجين، وفي منتصف ديسمبر كتب تقريرا يشير إلى ضرورة استخدام الهيدروجين في المراحل العليا من الصاروخ «ساتورن»، ومن ثم تحقيق أعلى أداء.
تسارع إيقاع العمل مجددا خلال عام 1960. كان ثمة نموذج أولي من الصاروخ «ساتورن» منصوب بالفعل فوق إحدى منصات الاختبار في هانتسفيل، وفي أبريل جرى إشعال جميع المحركات الثمانية، وهو ما أسفر عن قوة دفع بلغت 1,3 مليون رطل، وصوت هدير كان يمكن سماعه على مسافة مائة ميل. وبالطبع، كانت الصحراء غير الآهلة بالسكان هي المكان الوحيد المناسب لإجراء تلك الاختبارات ذات القوة الهائلة، وبالفعل عثرت شركة «روكيت داين» على المساحات الشاسعة التي كانت تحتاج إليها في قاعدة إدواردز التابعة للقوات الجوية، في صحراء موهافي. أقامت شركة «روكيت داين» منصة اختبار لصواريخ «إف-1» ذات أبعاد هائلة على غرار المسلات الفرعونية، بارتفاع 250 قدما، وألواح صلبة من الخرسانة لدعم عاكس اللهب.
بالإضافة إلى ذلك، تابعت ناسا تقرير سيلفرستين بإرساء مجموعة من العقود على عدة شركات لإنجاز صواريخ المراحل العليا من الصاروخ «ساتورن». في مايو، قرر جلينان أن تتولى شركة «دوجلاس إيركرافت» بناء صاروخ المرحلة الثانية، الذي أطلق عليه اسم «إس-4». طبق هذا الصاروخ في تصميمه مبدأ الصواريخ العنقودية؛ حيث وضعت فيه ستة محركات طراز «سينتاور» بقوة دفع إجمالية بلغت 90 ألف رطل، ومع ذلك لم يكن هذا إلا تصميما مؤقتا فقط؛ إذ كانت لجنة سيلفرستين قد أوصت أيضا بتصميم محرك جديد تماما يستخدم الهيدروجين كوقود، ويتسم بقوة دفع مرتفعة للغاية. أرسي عقد تصميم هذا الصاروخ الجديد على شركة «روكيت داين» في يونيو، حيث وضع «حدود الأمان القصوى للرحلات الفضائية المأهولة». أظهر هذا المحرك، «جيه-2»، مبلغ طموح ناسا مجددا ، ولأن هذا المحرك قد صمم للاستخدام في صاروخ المرحلة الثانية للصاروخ «ساتورن»، كان من المقرر أن يوفر قوة دفع تصل إلى 200 ألف رطل، وهو ما كان يزيد على قوة دفع محرك الصاروخ «ثور» أو «جوبيتر».
شهد العام نفسه أيضا نشاطا هائلا بين الشركات المتعاقدة المحتملة، التي كانت بصدد دراسة تصميمات لمركبات فضائية مأهولة تطلق في بعثات إلى القمر. كان الاهتمام المبدئي ينصب على إرسال ثلاثة رواد فضاء يدورون حول القمر، وهو أحد المتطلبات التي كان الصاروخ «ساتورن» يستطيع القيام بها، ولم يكن يتطلب الاستعانة بالصاروخ «نوفا» الأكبر حجما بكثير. في أواخر شهر يوليو، اجتمع نحو ألف وثلاثمائة شخص في جلسة تخطيطية حول مشروع ناسا. كان سيلفرستين، الذي كان قد اقترح اسم «ميركوري» لأول برنامج فضائي مأهول، لديه مقترح فيما يخص المركبة الجديدة. في بداية المؤتمر، أعلن درايدن أن: «المركبة الفضائية التالية لمركبة «ميركوري» سيكون اسمها أبولو.»
كان آيزنهاور قد صدق على الصاروخ «ساتورن». وفي حقيقة الأمر، كان آيزنهاور قد أمر بأن يحظى الصاروخ بأولوية عليا؛ حيث أصدر تعليماته إلى جلينان «بالإسراع من إيقاع برنامج صواريخ التعزيز الفائقة». لكن، بينما كان جلينان يستعد لطرح موضوع «أبولو»، أطلت مسألة التكلفة برأسها. طلب آيك من مستشاره العلمي، جورج كستياكوفسكي، أن يعد دراسة «تحدد الأهداف، والبعثات، والتكاليف» في برنامج ناسا الفضائي المأهول المقترح. عملت لجنة كستياكوفسكي عن كثب مع مسئولي ناسا وبحثا مشروعين، ألا وهما إرسال رواد فضاء حول القمر بحلول عام 1970، وإجراء عملية هبوط مأهولة على سطح القمر في عام 1975. كانت التكلفة التي تمخضت عنها الدراسة باهظة للغاية بالمقارنة مع تكلفة برنامج «ميركوري»:
مشروع «ميركوري» (الصاروخ أطلس التعزيزي): 350 مليون دولار أمريكي.
مشروع المركبة المدارية القمرية (الصاروخ ساتورن): 8 مليارات دولار أمريكي.
بعثة الهبوط على سطح القمر (الصاروخ نوفا): 26-38 مليار دولار أمريكي زيادة على التكاليف السابقة.
كان مشروع «ساتورن» وحده سيستهلك معظم ميزانية ناسا، التي كانت تتجاوز مليار دولار أمريكي سنويا وتزيد. كان البرنامج الكامل الذي يستغرق خمسة عشر عاما خارج نطاق المناقشة، وكانت تكلفته الإجمالية المحتملة، التي تبلغ 46 مليار دولار أمريكي، تفوق الميزانية الفيدرالية بأكملها حتى عام 1951 أو نحوه. (في الاقتصاد الحالي، يساوي هذا التقدير الإجمالي تقديم مقترح بإنفاق 700 مليار دولار أمريكي على برنامج الفضاء. كانت ميزانية ناسا في عام 1997 تبلغ 13,7 مليار دولار أمريكي.)
تلقى آيك هذا التقرير في البيت الأبيض في ديسمبر، وطلب تقديم تفسير. قارن أحدهم الرحلة إلى القمر برحلة كولومبوس لاكتشاف أمريكا، التي من المزمع أن الملكة إيزابيلا قد رهنت ماساتها لإتمامها. أجاب آيزنهاور أنه «لن يخاطر بميزانية البلاد» لصالح برنامج «أبولو». وصف المؤرخ جون لوجسدون الجو العام الذي ساد في أثناء اللقاء بأنه «كان يتضمن مشاعر دهشة حقيقية - أو مشاعر استمتاع حتما - بأن أحدا يمكن أن يفكر في مهمة كتلك. قال أحد الحاضرين: لن يقنع هذا الأمر الجميع. لكن عندما يفرغون جميعا من البرنامج، فسوف تسيطر عليهم رغبة عارمة في السفر إلى الكواكب. تعالت الأصوات بالضحك لطرح هذه الفكرة.»
4
لكن، وسط هذه الرؤى حول السفر إلى القمر، كان جلينان ونظراؤه في البنتاجون يديرون برنامجا فضائيا غير مأهول كان يتسم بالقوة والحماسة. كان البرنامج يتمحور حول خمسة موضوعات وأنشطة رئيسية، ألا وهي عمليات الاستطلاع العسكري، والأرصاد الجوية، والملاحة الفضائية، والاتصالات، وعلم دراسة الكواكب. خلال العقود التالية، كانت هذه الموضوعات ستشهد نموا وازدهارا مثل شجرة فارعة، تمتد جذورها عميقا إلى مجموعات من العملاء والأشخاص الذين يعتمدون على هذه الخدمات المقدمة، وتزهر فروعا جديدة مع ابتكار المجتمعات المستهلكة لاستخدامات جديدة. في هذه المجالات، وبالأحرى في الرحلات المأهولة، برزت الأهمية الحقيقية للبرنامج الفضائي.
صارت أقمار الأرصاد الجوية واقعا ملموسا خلال عام 1960، عندما أطلقت ناسا القمر «تيروس 1» (وهو قمر الرصد الجوي باستخدام الأشعة التليفزيونية والأشعة فوق الحمراء) في أوائل شهر أبريل من ذلك العام. ونظرا لأنه كان في الأساس مشروعا تابعا لهيئة المشروعات البحثية المتطورة، انبثق المشروع عن نتيجة توصلت إليها القوات الجوية، في أغسطس 1957، مفادها أن وضع كاميرا تليفزيونية في مدار فضائي لن يوفر الدقة العالية اللازمة في عمليات الاستطلاع العسكري. لم ينل اليأس من «آر سي إيه»، التي كانت قد ساندت جهود إطلاق كاميرا تليفزيونية في مدار فضائي، ولم تثبط همتها؛ إذ إنه على الرغم من أن الصور التي كانت توفرها الكاميرات التليفزيونية لم تكن تناسب الأغراض العسكرية، فإن هذه الكاميرات كانت تبشر بمستقبل واعد في الأرصاد الجوية. تولت ناسا إدارة المشروع بدلا من هيئة المشروعات البحثية المتطورة في أبريل 1959، وأرسلت مركبة فضائية منفردة في محاولة الإطلاق الأولى، وضعتها أعلى الصاروخ «ثور-إيبل».
أبلت المركبة الفضائية بلاء رائعا على مدى شهرين ونصف؛ حيث أرسلت ما يقرب من 23000 صورة أبيض وأسود. لكن، لم تدم بعثة المركبة لمدة طويلة بما يكفي لتقديم العون أثناء موسم الأعاصير، وفقد خبراء الأرصاد الجوية صور المركبة عندما ضرب الإعصار «دونا» الساحل الشرقي. بالإضافة إلى ذلك، لم تكن المركبة في المدار المتزامن مع الأرض، بل كانت تدور في مدار منخفض، على ارتفاع 22300 ميل، وهو ما كان من شأنه أن يجعلها تدور في مدار ثابت حول الأرض وتقدم عروضا ومناظر بانورامية لنصف الكرة الشمالي بأكمله؛ بيد أن تقديم هذه العروض البانورامية تأخر إلى حين إرسال أول قمر صناعي مخصص للتكنولوجيا التطبيقية (أي في مجال تطبيقات تكنولوجيا الفضاء)، في عام 1966. لكن، مثل القمر «تيروس» تطورا هائلا مقارنة باستخدام الطائرات التقليدية في رصد العواصف العاتية. وعلى خلاف الطائرات، لم يكن القمر «تيروس» عرضة للإسقاط أو الهبوط الاضطراري في ظل الأحوال الجوية السيئة.
برزت الملاحة عبر الأقمار الصناعية كمبادرة جديدة انبثقت عن احتياجات غواصة «بولاريس». كانت غواصات «بولاريس» تستخدم نظم توجيه داخلية للملاحة أثناء وجودها تحت سطح الماء، بيد أن رباني هذه الغواصات كانوا في حاجة إلى تصحيح الأخطاء في نظم التوجيه من خلال تحديث إحداثيات موضعها باستخدام نقاط مرجعية معروفة. لم تكن سبل أداء ذلك واضحة في البداية؛ إذ كان من تعاليم طاقم الغواصات عدم الإفصاح عن إحداثياتهم، كأن يصعدوا مثلا إلى السطح. لم يكن رصد النجوم يوفر دليلا استرشاديا جيدا؛ حيث كان هذا الأسلوب يصل إلى محاولة إجراء ملاحة فلكية من خلال منظار غواصة. بالإضافة إلى ذلك، كانت غواصات «بولاريس» تقضي وقتا طويلا في بحر النرويج؛ حيث كانت السحب تحجب رؤية النجوم في كثير من الأحيان.
بدا «لوران» - وهو نظام ملاحة لاسلكي تقليدي - واعدا، لكنه لم يكن يجدي نفعا عندما تكون الغواصات في عرض البحار. كان علماء المحيطات يضعون خرائط أيضا للمناطق تحت سطح البحر باستخدام أشعة السونار؛ ومن ثم كان قائد الغواصة يستطيع الملاحة من موضع محدد جيدا إلى الموضع الذي يليه. لكن، كانت الغواصات لا تتعرف على تلك المعالم إلا باستخدام أشعة السونار التي تطلقها، وهو ما قد يفصح عن موضعها لأي سفن أو غواصات أخرى قريبة متجسسة. بالإضافة إلى ذلك، لم يفلح هذا أسلوب إلا في المناطق المحدودة التي كانت البحرية تضع خرائط مفصلة بها.
طرح الفيزيائي فرانك ماجواير الحل من مختبر الفيزياء التطبيقية التابع للبحرية؛ إذ رأى ماجواير أنه مثلما يمكن تحديد الموقع الصحيح لقمر صناعي من خلال عمليات الرصد الأرضية، فإنه يمكن بالمثل تحديد الموقع الصحيح من خلال تلقي إشارات لاسلكية من قمر صناعي في مدار معروف بدقة. أقنع ماجواير رئيسه ريتشارد كرشنر بالفكرة، التي أقنع بها بدوره الأدميرال أرليه بيرك، رئيس العمليات البحرية. في سبتمبر 1959، أخفق أول قمر صناعي من هذا النوع، وهو «ترانزيت 1-إيه»، في أداء مهمته؛ لكن في شهر أبريل من العام التالي، بلغ القمر «ترانزيت 1-بي» مداره بنجاح. استعان «ترانزيت 1-بي» بإحدى نماذج الصاروخ «ثور- إيبل» للانطلاق إلى مداره، وهو الصاروخ الذي قدم إسهاما كبيرا في مجال تطوير الصواريخ؛ فقد أعيد تشغيل صاروخ المرحلة الثانية المعزز في الفضاء، ومن ثم قدم طريقة جديدة ومفيدة في بلوغ مدار على النحو المأمول.
انطلق أيضا أول قمر صناعي حقيقي لأغراض الاتصالات في عام 1960. كان القمر «سكور»، في وقت سابق على ذلك، قد اجتاز بعض اختبارات الإطلاق غير الناجحة، بيد أن القمر الذي عول عليه هو القمر «إكو». كان «إكو» عبارة عن بالون مملوء بالهواء المضغوط مصنوع من طبقة مايلار رقيقة مطلية بالألومنيوم، بقطر مائة قدم. عند عرض القمر داخل إحدى حظائر مناطيد المراقبة التابعة للبحرية، بدا مثل كرة شاطئ فضية ضخمة. وضع أحد مهندسي اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية، ويدعى ويليام أوسوليفان، تصورا لاستخدام القمر الصناعي باعتباره قمرا يقيس الكثافة عند حدود المجال الجوي من خلال الاحتكاك والمقاومة. فكر جون بيرس، مدير بحوث الاتصالات في «بيل لابس»، في استخدام مختلف؛ إذ كان يعلم بإمكانية إرسال إشارة لاسلكية من القمر الصناعي، ثم استقبالها على الطرف الآخر من البلاد. عندما انطلق «إكو 1» في مداره في أغسطس 1960، تابع بيرس العمل على تحقيق ذلك التصور، ونظرا لأن «بيل لابس» كانت جزءا من شركة «إيه تي آند تي»، كان هذا هو القمر الأول الذي يلبي احتياجات القطاع الخاص. كان القمر «إكو 1» أول خطوة مهمة نحو تحقيق مشروع تجاري في الفضاء، وصار المجال التابع له، وهو مجال الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، يمثل الاستخدام الشائع للفضاء على مستوى العالم بأسره. انبثقت كل تلك التوقعات الطموحة من ريادة بيل.
بعدما حصل بيرس على درجة الدكتوراه في هندسة الكهرباء من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، انضم إلى «بيل لابس» في عام 1936 ضمن مجموعة منتقاة شملت دين وولدريدج فضلا عن ويليام شوكلي، الذي أدار عملية اختراع الترانزستور. عمل بيرس على نظم الرادار خلال الحرب، وفي عام 1944، في زيارة إلى إنجلترا، التقى رودلف كومفنر، وهو أحد النمساويين المقيمين في إنجلترا وكان قد اخترع مكبرا شديد الحساسية، وهو أنبوب الموجات المتنقلة. كان الأنبوب يستطيع إرسال واستقبال نطاق كبير من الترددات، وهو ما جعله مثاليا في الوصلات الهاتفية التي تحمل أعدادا كبيرة من المحادثات المتزامنة، وأمضى بيرس العقد التالي يطور فيها. لم يكتف بيرس ببناء نماذج مطورة منها بل وضع نظرية لتشغيلها، وصفها كومفنر بقوله: «إنها مختلفة جدا عن نظريتي، ولا تتميز بأنها أكثر اتساقا فحسب، بل أكثر قوة.» بمرور الوقت، برز أنبوب الموجات المتنقلة باعتباره العنصر الرئيسي في الأقمار الصناعية المخصصة للاتصالات.
بدأ بيرس في التفكير لأول مرة في هذه الأقمار الصناعية في عام 1954. كان الحديث عن الصواريخ ورحلات الفضاء منتشرا في كل مكان، وعندما دعي بيرس لإلقاء كلمة في أحد اللقاءات الهندسية، جلس وحسب متطلبات الطاقة اللازمة في عمليات الاتصال عبر الأقمار الصناعية. وعندما تلقى استجابة مشجعة، توسع بيرس في هذا العمل المبدئي وأعد ورقة بحثية فنية مفصلة عنه، بعنوان «المرحلات اللاسلكية المدارية». نشرت الورقة البحثية في أوائل عام 1955 في مجلة «جيت بروبولجن»، الصادرة عن جمعية الصواريخ الأمريكية.
كانت «بيل لابس» آنذاك في قمة مجدها. كان العلماء في «بيل لابس» قد اخترعوا الخلية الشمسية، فضلا عن أنواع جديدة من الترانزستور، وكانوا يستهلون عصر إلكترونيات الحالة الصلبة من خلال ابتكار طرق جديدة لاستخدام السيليكون كمادة هندسية عملية. كان المناخ الإبداعي لا نظير له، وكانت مجلة «فيزيكال ريفيو» - المجلة الرائدة في البلاد في مجال الفيزياء - تنشر أوراقا بحثية من «بيل لابس» تفوق ما تنشره من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا أو هارفرد أو برنستون. أخبر أحد رؤساء قسم الأبحاث في «بيل لابس» مجلة «فورتشن» أنه لم يكن من الصعب تقييم أي عالم ضمن أعضاء الفريق: «كل ما كان علينا هو أن نسأله، هل هذا مجال عمله ونطاق تخصصه، هل هو ملم بأدواته، وهل له بحث رائد في مجاله؟ هل يسعى الآخرون إلى الاستعانة بأفكاره؟» كانت هذه المعايير تنطبق على بيرس؛ إذ كان ينظر إلى الورقة البحثية التي كان قد أعدها حول أنبوب الموجات المتنقلة باعتبارها ورقة بحثية حاسمة في مجاله. على حد تعبير يوجين فوبيني، أحد كبار مديري البحوث في البنتاجون الذي عد كلا من بيرس وكومفنر ضمن أصدقائه: «اخترع رودي أنبوب الموجات المتنقلة، واكتشفها جون.»
كان من بين التخصصات في «بيل لابس» تشكيل مجموعات بحثية صغيرة يمكنها تقديم إسهامات كبيرة؛ وقد أسفر هذا التعاون عن الترانزستور. بالإضافة إلى ذلك، فضلت إدارة المختبر اتباع أسلوب تدريجي، رافضة أن تأخذ قفزات غير محسوبة نحو المجهول. جاء القمر «إكو» ملائما لهاتين السياستين، ونظرا لأن ناسا كانت هي من سيتولى بناء القمر، فإنها أفسحت بذلك المجال أمام «بيل لابس» للتركيز على البحوث المتعلقة بالمحطات الأرضية ذات المكبرات الحساسة، وهو مجال ساهم في ازدهار تلك الشركة وزاد من قوتها. تولى تنفيذ هذه المهمة مجموعة من الأشخاص، جميعهم أصدقاء مقربون، ولم يتخط العدد الإجمالي للعاملين في «بيل» في مشروع القمر «إكو» أكثر من أربعين شخصا.
مع ذلك، لم يكن «إكو» يصلح فعليا في الاتصالات العملية؛ إذ لم يكن جهاز الاستقبال الموجود فيه يتلقى إلا جزءا واحدا من المليار من الإشارة المنقولة. وللتعامل مع هذا القصور، فيما أشار بيرس بأنه نقص في قوة الإشارة بمقدار 180 ديسيبل، كان القمر «إكو» في حاجة إلى تليسكوب لاسلكي بحثي عالي الجودة يستخدم كمحطة أرضية، فضلا عن مكبر مازر، وهو أكثر مضخمات النبضات الكهربائية حساسية وأكثرها دقة. كان التغلب على تلك العقبة يتطلب أقمارا لا تعتمد فقط على الانعكاس السلبي مثلما في القمر «إكو»، بل تعتمد أيضا على تلقي الإشارات وتكبيرها وإعادة نقلها على نحو فعال.
كان هذا القمر سيعتمد على أنبوب الموجات المتنقلة، وكانت «بيل لابس» تبني «تلستار»، أول أنبوب من هذا النوع، على الرغم من عدم وصوله إلى مدار حتى عام 1962. في أكتوبر 1960، أطلق الجيش القمر «كورير 1-بي»، وعلى الرغم من أن هذا القمر الصناعي لم يكن يشتمل على أنبوب بيرس، فقد كان من بين الأجهزة الإلكترونية التقليدية به خمسة أشرطة تسجيل؛ شريط لتسجيل الصوت وأربعة أشرطة لماكينات الآلة الكاتبة عن بعد. كان القمر يرسل حتى 800 ألف كلمة من النصوص خلال الأربع عشرة دقيقة التي كانت في مرمى رؤية محطة أرضية. لم يكمل القمر مهمته بعد سبعة عشر يوما، لكن ذلك كان بمنزلة خطوة وسيطة مهمة.
ظهرت مبادرة أخرى مثيرة للاهتمام في عام 1960، كخطوة تمهيدية لإرسال بعثات غير مأهولة إلى كوكبي الزهرة والمريخ. كان يتعين استخدام الطاقة الشمسية لتشغيل هذه المركبات الفضائية لعدة أشهر، بينما تتصل بالأرض عبر عشرات الملايين من الأميال. كانت عربة السبر الفضائية الأولى التي تعتمد على الطاقة الشمسية هي «بايونير 5»، التي انطلقت في مارس. تولت هذه البعثة نفس المجموعة التي تولت إطلاق القمر «بايونير 1» التابع للقوات الجوية، وتألفت هذه المجموعة من دولف ثيل وجورج مولر، وألن دونوفان وورب متلر، ولويس دان، وجورج جلجهورن، وريتشارد بوتن، وغيرهم ممن ساهموا في هذا المشروع. حاول مجددا أفراد هذه المجموعة الذين أصقلتهم التجربة؛ وانضم إليهم السير برنارد لوفيل، مستخدما تليسكوبه اللاسلكي العملاق ليس فقط في تتبع المركبة الفضائية، بل أيضا في إصدار أوامر إليها.
انطلق الصاروخ في سماء الصباح الصافية، حاملا القمر «بايونير 5» في رحلته، ومخلفا وراءه لسانا من اللهب. مرت أسابيع، وكانت الإشارات اللاسلكية الصادرة عنه واضحة ومحددة. بدأ الطلاب المتظاهرون حركة حقوق مدنية بالجلوس على طاولات طعام منفصلة في الجنوب، ولا تزال عربة السبر الفضائية مستمرة في رحلتها. فاز السيناتور جون كينيدي في الانتخابات التمهيدية في فرجينيا الغربية ويسكونسن، واضعا نفسه على طريق البيت الأبيض. واصلت المركبة الفضائية رحلتها، وأرسل جهاز الإرسال في المركبة ما لا يزيد عن 5 وات من الطاقة، وهو ما لا يزيد عن طاقة مصباح في شجرة الكريسماس، إلا أن لوفيل ظل يتلقى الإشارة بوضوح. وأخيرا، في أواخر شهر يونيو، على مسافة اثنين وعشرين مليون ميل عن المحطة الأم، أرسلت المركبة آخر رسالة لها ثم اختفت في غياهب الفضاء الكوكبي الشاسع.
بين عامي 1952 و1954، وضعت مجلة «كوليرز» جدول أعمال رحلات الفضاء الذي تتبعه ناسا حتى اليوم (المصدر: مجموعة «روبرت كلاين»).
ويليام بولاي، رائد الصواريخ في فترة ما بعد الحرب في أمريكا (المصدر: السيدة جين بولاي).
صاروخ «نافاهو»، إحدى نقاط الانطلاق الأولى في برنامج تطوير الصواريخ في القوات الجوية (المصدر: متحف الطيران والفضاء الوطني، مؤسسة «سيمثونيان»، صورة رقم 77-10905).
محرك صاروخ قيد الاختبار في موقع سانتا سوزانا. انبثق الإطار الرئيسي لعمليات تطوير صواريخ الوقود السائل من بحوث بولاي (المصدر: شركة «روكيت داين»).
الجنرال برنارد شريفر، الذي بنى الصواريخ الكبيرة في القوات الجوية (المصدر: القوات الجوية الأمريكية).
الصاروخ «ثور»، الأول من نوعه في عصره (المصدر: القوات الجوية الأمريكية).
صاروخ «آر-7» السوفييتي الباليستي العابر للقارات، الذي حمل أقمار «سبوتنيك» في عصر الاتحاد السوفييتي (المصدر: موقع
Sovfoto ).
إلى اليسار، يوري جاجارين، أول إنسان يصعد إلى القمر، مع سيرجي كوروليف، مصمم الصواريخ السوفييتي الرائد (المصدر: متحف الطيران والفضاء الوطني، مؤسسة «سيمثونيان»، صورة رقم 2بي-09182).
صورة استطلاعية تظهر فيها صواريخ سوفييتية في كوبا، 1962 (المصدر: وكالة الاستخبارات المركزية).
اتصالات الأقمار الصناعية: القمر «إكو 1» لشركة «بيل لابس»، 1960. الإشارات اللاسلكية الصادرة عن هذا القمر الصناعي ترتفع عن الأرض في شكل أعمدة لتصل إلى جهاز استقبال على بعد آلاف الأميال (المصدر: وكالة ناسا).
عمليات استكشاف القمر: القباب البركانية قرب فوهة ماريوس، كما صورتها المركبة الفضائية «لونار أوربيتر 2» (المصدر: شركة «بوينج»).
تطوير الصواريخ: المحرك «إف-1»، الذي استخدم في إرسال الصاروخ «ساتورن 5» في بعثة إلى القمر. وفر المحرك «إف-1» قوة دفع بلغت 1,5 مليون رطل (المصدر: شركة «روكيت داين»).
فيرنر فون براون، الذي بنى صواريخ أمريكا التي صعدت إلى القمر (المصدر: متحف الطيران والفضاء الوطني، مؤسسة «سيمثونيان»، صورة رقم 2بي-28636).
لحظة إطلاق «أبولو 8»، أول بعثة مأهولة إلى القمر (المصدر: وكالة ناسا).
صورة الأرض مأخوذة من مركبة «أبولو 11»، التي كانت تحمل على متنها نيل أرمسترونج وباز أولدرين، أول رائدي فضاء يهبطان على سطح القمر (المصدر: وكالة ناسا).
باز أولدرين على سطح القمر (المصدر: وكالة ناسا).
كوكب المريخ: جزر تشكلت بفعل المياه المتدفقة (المصدر: مختبر الدفع النفاث).
كوكب المشتري: بقعة حمراء كبرى والمنطقة المحيطة بها (المصدر: مختبر الدفع النفاث).
الصاروخ «إن-1» السوفييتي المتجه إلى القمر (المصدر: متحف «آر كيه كيه إنرجيا»).
لحظة إطلاق مركبة فضائية (المصدر: وكالة ناسا).
محطة «مير» الفضائية في عام 1995 (المصدر: وكالة ناسا).
الفصل السابع
ما بعد الظهيرة في شهر مايو
كينيدي يتعهد بالصعود إلى القمر
مطعم لوك أوبرز في بوسطن المشهور بباره الهادئ الذي يقدم المحار. خلال فترة الخمسينيات من القرن العشرين، كان من بين رواد المطعم المعتادين جاك وروبرت كينيدي، اللذان غالبا ما كانا يمكثان في المطعم حتى إغلاقه. كان كبير الندل في المطعم، الذي كان يطلق على نفسه اسم فريدي، مولعا بالصواريخ، وفي إحدى الأمسيات قدمهما إلى عميل آخر، وهو ستارك دريبر الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. كان فريدي يأمل أن يقنعهما دريبر بمزايا البرنامج الفضائي، لكن الأخوان كينيدي رفضا الفكرة جملة وتفصيلا. ذكر دريبر لاحقا أن جون فيتزجيرالد كينيدي، الذي كان عضو كونجرس آنذاك، «لم يكن من الممكن إقناعه أن ليست كل الصواريخ هدرا للأموال، وأن الملاحة الفضائية ليست أسوأ.»
لم يكن ثمة ما يدعو كينيدي للتفكير بأسلوب مختلف. كان كينيدي يمثل ماساتشوستس؛ حيث كان غياب الشركات الكبرى في مجال صناعة الفضاء لافتا. كتب هيو سايدي من مجلة «تايم»، وهي مجلة لها باع في مراقبة أداء الرؤساء، أنه من بين الموضوعات التي صادفها في البيت الأبيض، «ربما كان الفضاء هو الموضوع الذي عرف عنه أقل القليل ولم يفهمه كثيرا». لكن الديمقراطيين كانوا قد قطعوا شوطا كبيرا في ذلك باتهام آيزنهاور بعدم الاكتراث بهذا المجال، وكان كينيدي يعرف القضية الرابحة متى ارتآها. خلال حملته الانتخابية في عام 1960، تبنى موضوع الرحلات الفضائية وجعله قضيته الشخصية؛ إذ تطرق إلى الموضوع مرارا وتكرارا في خطاباته، بينما اتهم السياسات الجمهورية بأنها جعلت البلاد ضعيفة في مواجهة هذا التحدي. وبينما هو يحذر من خطورة التحدي، كان سيرجي كوروليف يزيد التحدي خطورة.
منذ عام 1957، كان كوروليف قد عمل على تطوير الصواريخ التعزيزية ومركبات الفضاء العسكرية، مؤهلا إياها لإجراء اختبارات إطلاق تجريبية تحقق أفضل دعاية ممكنة. كان كوروليف قد نجح في تحقيق ذلك مع بعثات أقمار «لونا»، التي كانت قد برهنت على كفاءة الصاروخ «آر-7» في التحليق باستخدام صاروخ المرحلة العليا لسيمون كوزبرج. كان النموذج الأولي للمرحلة العليا قد جرى تصميمه في عجلة، إلا أن كوزبرج قد بنى نموذجا محسنا منه ذا قوة دفع أكبر. ومن خلال هذا الصاروخ، استطاع كوروليف الإعداد لإطلاق أول قمر استطلاعي، باسم «زينيت» (زينيث).
على غرار ما كان في صواريخ «ديسكفرر»، التقطت هذه الأقمار صورا لمساحات شاسعة بجودة عالية. كانت كل رحلة تغطي الولايات المتحدة بكامل مساحتها، وبينما لم يستطع القمر «زينيت» تقديم صور تظهر كرات الجولف في ملاعب الجولف الرئاسية، كانت الصور التي يبعث بها واضحة بما يسمح لمحللي الاستخبارات بإحصاء عدد السيارات في باحة انتظار. بالإضافة إلى ذلك، كان «زينيت» يشبه «ديسكفرر» في الاعتماد على كبسولة تعود إلى الأرض، وهو ما يسمح بالاسترجاع العيني؛ ومن ثم، طرح البرنامج المشكلة نفسها التي كانت تقض مضجع ريتشارد بسل، ألا وهي كيفية تطوير الوسائل لتنفيذ عملية الاسترجاع هذه على نحو موثوق فيه. بالإضافة إلى ذلك، كان على كوروليف حل المشكلة قبل دخول «زينيت» الخدمة في وزارة الدفاع، وكان عليه أن يتأكد من أن كبسولات القمر ستعود إلى موضعها الصحيح. ولم يكن مجديا بناء قمر مناظر للقمر «ديسكفرر 2»، الذي سقط في أيدي السوفييت.
لكن كوروليف كانت لديه ميزة مهمة؛ لأن «زينيت» كان أكبر حجما من «ديسكفرر»، وهو ما كان يعني أن نسخة معدلة من القمر يمكنها أن تحمل على متنها كلابا ورائد فضاء؛ أما كبسولة «ديسكفرر» فكانت غاية في الصغر، حتى إن أقصى ما يمكنها حمله هو الفئران. لكن من خلال «زينيت»، استطاع كوروليف إرسال أول إنسان إلى الفضاء، محققا نصرا مؤزرا؛ وأطلق على هذا النموذج المأهول اسم «فوستوك» (أي الشرق).
بعد عام 1958، واصل كوروليف تطوير تصميم مشترك لكل من «فوستوك» و«زينيت»، وعلى غرار الصاروخ «آر-7» الذي كان يستخدم كصاروخ إطلاق متعدد الأغراض، وفرت هذه المركبة وحدها الوسائل اللازمة لتنفيذ مهام مأهولة ومهام استطلاعية. نشرت مجلة «بريرودا» (أي الطبيعة) في عام 1993، في إثر عمليات الكشف عن غطاء السرية، أن «في حال وضعت المركبتان الفضائيتان - المعروفتان على نطاق واسع باسم «فوستوك» و«زينيت»، واللتان لم يجر عرضهما على الإطلاق من قبل - جنبا إلى جنب في إحدى صالات العرض، لن يستطيع زوار صالة العرض على الأرجح التفرقة بينهما دون النظر إلى ما في داخلهما.»
1
كانت السمة الأكثر تمييزا للمركبتين هي كبسولة مستديرة لمعاودة الولوج إلى المجال الجوي للأرض. مثلما فعل ألن وإجرز من اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية، قدر مصممو كوروليف أن هذه المركبة لم يعوزها سوى شكل انسيابي غير حاد بدلا من الشكل الحاد ذي المقدمة المدببة. في اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية، كان خبير ديناميكا الهواء ماكس فاجت قد أجرى مجموعة تجارب عند سرعات تفوق سرعة الصوت في أنفاق هوائية، ومن ثم برهن على أن الشكل المخروطي العادي لكبسولة «ميركوري» يمكن أن يحافظ على ثباته عند ولوجه المجال الجوي. كان كوروليف يفتقر إلى وجود المنشآت اللازمة لإجراء هذه الدراسات، وهو ما كان يعني أن أي شكل يجري اختياره لكبسولته ربما يتسبب في تعثرها أثناء ولوجها المجال الجوي: ستنساب الكبسولة المستديرة بحرية عبر الفضاء. وعلى الرغم من أن هذا قد يسبب حالة من عدم الارتياح لرائد الفضاء على متنها، فلن يؤدي إلى الإضرار ببكرة فيلم على سبيل المثال.
بلغ النموذج التجريبي الأول للمركبة «فوستوك» مداره في مايو 1960. لم تكن المركبة تحمل كلابا أو كاميرا، ولم تكن تتوافر فيها أنظمة حماية حرارية؛ ومن ثم، احترقت كبسولتها في المجال الجوي للأرض. توقف نظام توجيه المركبة، ومثلما حدث مع «ديسكفرر 5»، انطلق صاروخها الارتكاسي الكابح في الاتجاه الخطأ، وهو ما جعل الكبسولة تنطلق في مدار جديد وأعلى ارتفاعا.
مع ذلك، ناقشت المصادر السوفييتية عملية إطلاق المركبة بشيء من التفصيل، مشيرة إليها بوصفها نموذجا أوليا لمركبة مأهولة، يزن خمسة أطنان. أقر السوفييت بصراحة أنهم حاولوا تنفيذ عملية ولوج المجال الجوي للأرض لكنهم فشلوا في ذلك، ولكنه أمر لم يسفر عن أي أضرار؛ فلم يكن ثمة أي شخص على متن الكبسولة، إذ كانت عليها دمية فقط. أدهش هذا التصريح الكثيرين، وصرح السيناتور جاكسون والجنرال مداريس أن هذه المركبة كان على متنها إنسان بالفعل. نشرت صحيفة «لندن إيفنينج ستاندرد» رسما كاريكاتوريا يظهر فيه رائد فضاء يرسل إشارة لاسلكية يقول فيها: «من الدمية إلى القاعدة، من الدمية إلى القاعدة، ما هذا الحديث عن عدم العودة؟» لكن، كانت موسكو تقول الحقيقة، وكانت لديها أسبابها للقيام بذلك؛ إذ كانت تستطيع أن تحقق مكاسب دعائية من خلال إظهار أن لديها الوسائل اللازمة لإرسال إنسان إلى الفضاء، حتى إن لم تكن قد فعلت ذلك بعد، وهو ما أضاف بدوره مزيدا من الضغط على الأمريكيين.
في أواخر شهر يوليو، انفجرت مركبة فضائية وأفضت إلى مقتل كلبين، اسمهما «تشايكا» و«ليزيشكا». أظهرت مجددا عملية الإطلاق التالية للمركبة «فوستوك»، في منتصف أغسطس، تشابها عجيبا بين البرامج السوفييتية والأمريكية. كانت حكومتا هذين البلدين قد منحتا برامج الصاروخين الباليستيين العابرين للقارات، الصاروخ «آر-7» والصاروخ «أطلس»، أولوية قصوى خلال الأسبوع نفسه من شهر مايو 1954. كان يفصل بين اختبارات إطلاق الصاروخين أقل من أربعة أسابيع في ربيع 1957. بعد عام ونصف العام، أرسل كوروليف والجنرال شريفر بعثات فضائية إلى القمر في اليوم ذاته، ومع نجاح عمليات استرجاع كبسولتي القمرين «ديسكفرر 13» و«ديسكفرر 14» خلال الأسبوع الماضي، حققت المركبة «فوستوك» الثانية نجاحا مماثلا، عند عودتها بعد يوم واحد فقط من عودة «ديسكفرر 14». كان على متن المركبة السوفييتية كلبان اسمهما «بيلكا» و«ستريلكا» (أي السنجاب والسهم)، وفقا للصور التي أرسلتها كاميرا تليفزيونية على متن المركبة إلى المحطة الأرضية. اعترض أحد العلماء الأمريكيين قائلا: «سيرسلون في المرة القادمة فريق كرة قدم وشاحنة طراز «ماك» إلى الفضاء.» حذر جاك كينيدي قائلا: «كان اسم أول كلبين صعدا إلى الفضاء وعادا سالمين «ستريلكا» و«بيلكا»، لا «روفر» أو «فيدو».»
شجعت تلك النتائج المسئولين السوفييت على الموافقة على إرسال إنسان إلى الفضاء بحلول نهاية العام. جرت عملية إطلاق تجريبية أخرى في ديسمبر، لكن المركبة احترقت أثناء إعادة ولوجها المجال الجوي، ومات الكلبان «شيلكا» و«موشكا» اللذان كانا على متنها. في وقت لاحق خلال هذا الشهر، فشلت عملية إطلاق أخرى في الوصول بالمركبة إلى مدارها، بيد أن الكبسولة سقطت في سيبيريا، وجرى إنقاذ الكلبين اللذين كانا على متنها. فتحت روسيا جبهة جديدة أيضا في فبراير 1961، من خلال إرسال أول بعثة لها إلى كوكب الزهرة؛ إذ نشرت موسكو رسوما لهذه المركبة، توضح أنها كانت أكثر تطورا بكثير من المركبة «بايونير 5». كانت لدى المركبة أيضا مهمة عاجلة؛ إذ كان عليها الاقتراب من كوكب الزهرة ثم المرور بجواره. تعطل جهاز نقل الإشارات في المركبة عند ارتفاع 4,7 ملايين ميل، بيد أن العلماء الأمريكيين كانوا على استعداد للترحيب بالمحاولة . قال أحد أعضاء طاقم عمل المركبة «بايونير»: «عندما سمعت بالمتاعب التي واجهها السوفييت، كان رد فعلي الفوري هو الرضا عن أدائنا، وأننا أبلينا بلاء أفضل. ثم، شعرت بالخزي من رد فعلي.»
لم تكن المركبة «فوستوك» جاهزة بعد لإرسال إنسان في بعثة فضائية؛ لذا أجري اختبارا إطلاق آخران خلال شهر مارس، وكانت المركبة «فوستوك» في كلتا المرتين تحمل كلبا؛ في المرة الأولى «تشيرنوشكا» (أي الأسود)، وفي المرة الثانية «زفيزدوشكا» (أي النجم الصغير). عادت المركبة في كلا الاختبارين بسلام؛ وبذلك، تكون المركبة قد نجحت في العودة سالمة أربع مرات من إجمالي خمس محاولات، بما في ذلك تحقيق نجاح كامل في البعثتين الأخيرتين. لم يكن إطلاق رائد الفضاء الأول في بعثة مسألة بعيدة المنال. في تلك الأثناء، كان جون كينيدي يحمل زمام السلطة في البيت الأبيض، وكان عليه التعامل مع تلك النتائج.
الكل يعرف أن كينيدي وافق على المشروع الذي لم يشرع آيك في تنفيذه إلا في شهر ديسمبر. اختار كينيدي التصديق على مشروع «أبولو» وعلى إرسال رواد فضاء إلى القمر؛ كان هذا القرار أحد أكثر التحولات اللافتة في صناعة سياسات الحرب الباردة، وهو قرار كان له ما يبرره؛ إذ يعزى القرار في جزء منه إلى الجهود المستمرة لتوسيع نطاق الدور الفيدرالي في مجال التكنولوجيا، كما أنه كان يعتمد بقوة على وجهة نظر شائعة، ألا وهي أن أهم التقنيات الجديدة لن تتمخض عن العمل في القطاع الخاص، بل ستكون نتاج المبادرات الفيدرالية.
كان البرنامج الفيدرالي الأساسي في مجال التكنولوجيا يتضمن أشغالا عامة، وكان قد بدأ خلال القرن التاسع عشر؛ فبنى لنكولن أول خط سكة حديد عابر للقارات، لا من خلال عمليات مصادرة الأراضي، بل من خلال منح قطع أراضي شاسعة لشركتي بناء خطوط السكك الحديدية «سنترال باسيفيك» و«يونيون باسيفيك». امتدت خطوط سكك حديدية أخرى عبر البلاد بعد تلقي منح أراضي مماثلة. في حقيقة الأمر، كان تمويل القطاع الخاص في عالم خطوط السكك الحديدية، غير معتاد على الإطلاق، حتى إن رجل الصناعة صاحب النفوذ الواسع جيمس جيه هيل اشتهر باعتماده على التمويل الخاص، وهو ما أفضى إلى توفير دعم فيدرالي عندما شرع في بناء خط جريت نورذرن.
ثم جاءت قناة بنما، وهي مشروع فيدرالي سبق «أبولو» بأكثر من نصف قرن، لكنه أظهر رغم ذلك بعض أوجه التشابه المفيدة. انبثقت فكرة مشروع قناة بنما من الأحداث العسكرية الأخيرة؛ إذ لم تجد البحرية، خلال الحرب الإسبانية الأمريكية، طريقة لتحريك سفنها البحرية بسرعة بين المحيطين. وكان ثمة تحد آخر من الخارج؛ إذ كانت فرنسا قد حاولت حفر هذه القناة، لكنها فشلت؛ ومن ثم، كان المشروع اختبارا للصلابة الأمريكية. مثل مشروعا بنما و«أبولو» مركزا لأفضل المهارات والطاقات في البلاد، وقد استغرق كلا المشروعين عقدا لإتمامهما، سار العمل خلاله في ظل ثلاثة رؤساء وحزبين.
شهدت فترة الكساد العظيم، بعدها بعشرين عاما، عصرا من بناء السدود والمشروعات المائية: هيئة وادي تينيسي، وسد هوفر، وجراند كوليه. ثم في منتصف خمسينيات القرن العشرين، أطلق آيزنهاور أكبر برامج الأشغال العامة على الإطلاق؛ نظام الطرق السريعة بين الولايات. عكس المشروع إلى حد كبير حجم النشاط الذي كانت واشنطن مستعدة آنذاك لأدائه، كما أوضح هذا المشروع كيف يمكن لهذه المبادرة أن تغير حياة الناس إلى الأفضل.
كانت الحكومة الفيدرالية قد بدأت في بناء الطرق منذ عام 1916، ومرر الكونجرس مشروع قانون لإنشاء طريق سريع رئيسي في عام 1944. أدى توفير هذه التمويلات إلى بناء طرق مثل طريق «يو إس 1» على طول الساحل الشرقي، وكان من بين مشروعات الطرق الأخرى طريق 66 الأسطوري بين شيكاجو ولوس أنجلوس، وطريق 61 السريع شمال نيو أورلينز، وطريق لنكولن السريع الممتد عبر القارة، المعروف ب «يو إس 30»؛ لكن، لم يكن أي من تلك الطرق طريقا رئيسيا يربط بين الولايات، بل كانت عبارة عن حارات ضيقة يفصلها شريط أصفر مطلي، وكثيرا ما كانت تشهد حوادث تصادم بالمواجهة، لا سيما عند المنحنيات أثناء الليالي المطيرة. شهدت هذه الطرق السريعة أيضا حوادث تصادم بين مقدمة سيارة ومؤخرة سيارة أخرى؛ حيث إن السيارات في تلك الحقبة لم تكن تحتوي على إشارات انعطاف؛ إذ كان السائقون يعتمدون على إشارات اليد للإشارة إلى وجهتهم. وكانت حركة السيارات تتدفق كيفما تشاء عبر وصلات الطرق، وكان سائقو السيارات في كثير من الأحيان يتعرضون لحوادث تصادم من الخلف عندما كانوا يقللون فجأة من سرعة دراجاتهم للانعطاف نحو محطة على جانب الطريق.
نشأت أولى الطرق السريعة بين الولايات، بمفهومها الحقيقي، من خلال جهود حكومات الولايات. كان مسئولو الولايات يفضلون بناء الطرق الخاضعة لرسوم مرور، وذلك بتمويل من سندات حكومية تصدرها حكومة كل ولاية، بينما كانت الرسوم التي كان يدفعها سائقو السيارات على الطرق تغطي تكلفة أصل القرض وقيمة الفائدة. جاءت المبادرة الأولى من ولاية بنسلفانيا؛ حيث انتهى العمل في الطريق السريع الخاضع لرسوم مرور، الذي امتد ليغطي الولاية بأكملها بحلول عام 1951؛ لكن قطاعا كبيرا من هذا الطريق كان يمر عبر أراض زراعية لا تكاد تكون مأهولة ومراع مرتفعة. على النقيض من ذلك، كان طريق نيو جيرسي السريع الخاضع لرسوم مرور يمر في قلب المنطقة المأهولة بالسكان في الشمال الشرقي. حدد هذا المشروع وتيرة العمل؛ فقد صدر السند الحكومي بتاريخ 1950، وافتتح الطريق في عام 1952 قبل موعده وحقق نجاحا فوريا. قلص الطريق الجديد من فترة القيادة عبره - من نيويورك إلى ديلاور - من خمس ساعات إلى ساعتين، وأدى إلى الحد من الإجهاد الواقع على السيارات والسائقين على حد سواء. في غضون أشهر، جاءت النتائج مرضية، حتى إن مسئولي الطرق السريعة الخاضعة لرسوم مرور قد وجدوا أن حركة المرور والإيرادات فاقتا التوقعات. شجع هذا النجاح على نحو بالغ مؤيدي إقامة الطرق السريعة في الولايات الأخرى.
في يونيو 1952، في ظل الإنجاز الواضح الذي تحقق في نيو جيرسي، باعت ولاية أوهايو سندا حكوميا بقيمة 326 مليون دولار أمريكي لتمويل طريقها السريع الخاضع لرسوم مرور، ثم أعلن مسئولو ولاية إنديانا أنهم سينشئون الطريق السريع الخاص بالولاية لربطه بالطريق السريع لولاية أوهايو؛ كذلك، بدأت أعمال الإنشاءات في طريق نيويورك السريع، وهو طريق آخر خاضع لرسوم مرور. بالنسبة إلى سائقي السيارات، أسفر كل هذا النشاط عن توقعات مذهلة؛ فبإكمال مجموعة من الطرق، كانت لا تزال قيد الإنشاء والتخطيط آنذاك، يستطيع سائقو السيارات القيادة من نيو إنجلاند إلى شيكاجو دون الحاجة إلى إشارة توقف خلفية.
لكن، حتى مؤيدو الطرق السريعة الخاضعة لرسوم في الولايات كانوا يعلمون أن هذه الطرق لا يمكن ألا تكون سوى جزء صغير فقط من شبكة عامة للطرق السريعة بين الولايات. ونظرا لأن هذه الطرق كانت تمول من خلال السندات، لم يكن من الممكن إنشاؤها إلا في الأماكن التي بها كثافة مرورية بالقدر الذي يكفي لتحقيق الإيرادات المطلوبة. لم يكن أحد يشك في قيمة الطرق السريعة؛ إذ إنها لم تكن فقط توفر الوقت وتنقذ الأرواح، بل كانت أيضا توفر ميزة هائلة لصناعة الشاحنات. على الرغم من ذلك، كانت ثمة حدود تتصرف في نطاقها الولايات، وكانت تلك الحدود بادية للعيان.
في هذه المرحلة، تدخل آيزنهاور فأخبر مستشاريه في عام 1954 أنه «يريد خطة شاملة للبدء في إنشاء شبكة طرق سريعة ذاتية التمويل بقيمة 50 مليار دولار أمريكي»، وكان من المقرر أن تمول الطرق ذاتها من خلال الضرائب التي يدفعها سائقو السيارات. لم يكن هذا المبلغ صغيرا بالطبع؛ إذ كانت قيمة الميزانية الفيدرالية الإجمالية خلال هذا العام 68 مليار دولار أمريكي. مع ذلك، أدى نجاح الطرق السريعة الخاضعة لرسوم مرور إلى اجتذاب الدعم السياسي اللازم؛ وهو ما أدى إلى صدور قانون المساعدة الفيدرالية لتمويل الطرق السريعة لعام 1956. كانت شبكة الطرق السريعة الحديثة بين الولايات إحدى ثمار هذا القانون، ومع انتشار الطرق السريعة غير الخاضعة لرسوم مرور عبر البلاد، تجلى بوضوح كيف استطاع هذا البرنامج الفيدرالي الطموح تغيير الطريقة التي كان الناس يعيشون ويعملون بها.
أدت الطرق السريعة غير الخاضعة لرسوم مرور إلى تدفق هائل نحو ضواحي المدن. لطالما كانت المدن تضم مجموعات من سكان الضواحي غير الدائمين، الذين كانوا يتنقلون عبر القطار؛ حيث كانت طرق السكك الحديدية التي يستخدمها هؤلاء المسافرون المرتحلون بصفة يومية قد أنشئت قبل الحرب الأهلية. برزت الطرق السريعة بين الولايات بوصفها ممرات تنمية في حد ذاتها؛ فقرب بوسطن، كان طريق 128 يمثل قطاعا مبدئيا من طريق آي-95، وصارت هناك أربعون شركة على طول الطريق في منتصف عام 1955، وأكثر من مائتي شركة بعدها بثلاث سنوات. في تقرير صادر عن ولاية نيويورك، ورد أن بناء طريق نيويورك السريع قد أدى إلى تنفيذ استثمارات جديدة على طول الطريق بما لا يقل عن 650 مليون دولار أمريكي، من بينها مركز إلكترونيات كبير في سيراكيوز، بنته شركة «جنرال إلكتريك». صرح مسئولو الشركة أن طريق نيويورك السريع سيصبح كأنه خط نقل، يأتي بالمواد الخام وينقل المنتجات النهائية إلى الأسواق في الشمال الشرقي.
على غرار مركز الإلكترونيات في سيراكيوز، عادة ما كانت المصانع الجديدة نظيفة وغير ملوثة، من دون المداخن الكئيبة وساحات الشحن المثيرة للاشمئزاز التي كانت تميز الصناعة في أيامها الأولى. نتيجة لذلك، كانت هذه المصانع قائمة جنبا إلى جنب مع الضواحي الجديدة دون إثارة أي مشكلات، وسرعان ما شرع مختصو التنمية في بناء المزيد من كلتيهما. على طول شارع جاردن ستيت المشجر بولاية نيو جيرسي، على سبيل المثال، وضعت إحدى النقابات الكائنة في نيويورك خططا لبناء مائتي ألف منزل، فضلا عن منشآت صناعية ومجمعات سكنية. أفضت هذه الترتيبات إلى تحولات اجتماعية كبيرة؛ إذ إنه مع تدفق الوظائف إلى خارج المدن المركزية بطول الطرق الجديدة، لم تعد المدن أماكن التجمع الرئيسية في البلاد التي يقصدها الناس بغرض العمل والعيش. في عام 1960، لم يكن تدهورها التام قد حدث بعد. لكن، كان من الواضح آنذاك أن ضواحي المدن، التي تمر بها الطرق السريعة غير الخاضعة لرسوم مرور، ستصبح المراكز الجديدة للحياة الأمريكية.
أظهر نجاح الطرق السريعة بين الولايات على نحو لافت ما يمكن أن تفعله واشنطن، وهو ما أثار الأمل في أن تحقق مبادرات فيدرالية أخرى فوائد مماثلة. ساهم نشاط حكومي آخر في تحويل النظم العسكرية الكبرى إلى منتجات تنشئ صناعات جديدة في السوق المدنية، وكان من بين تلك الصناعات صناعة الطائرات النفاثة والطاقة النووية للأغراض السلمية.
ترجع أصول الطائرات النفاثة الأمريكية الكبيرة إلى الجنرال كرتيس لوماي، الذي رأس القيادة الجوية الاستراتيجية في الفترة ما بين عامي 1948 و1957، والذي ظل يقدم طلبات لا تتوقف لإرسال طائرات قاذفة نفاثة أكبر في حجمها ومداها وقوتها الضاربة. يرجع مسار تطوير هذه الطائرات إلى تطوير محرك نفاث جديد، وهو المحرك «جيه-57»، من قبل شركة «برات آند وتني». بلغت قوة دفع المحرك عشرة آلاف رطل، وهي قوة دفع مرتفعة للغاية آنذاك، وتساعد أيضا في ترشيد استهلاك الوقود بدرجة جيدة، بالنسبة إلى صواريخ المدى الطويل.
كانت شركة «بوينج» قد بنت الكثير من الطائرات القاذفة وقت الحرب، بما في ذلك الطائرة «بي-29» التي قد ساهمت في هزيمة اليابان. كانت الطائرة «بي-47» التي طورتها شركة «بوينج» أهم الطائرات القاذفة النفاثة الأولى، لكن كان لوماي يريد ما هو أكثر من ذلك. استجابت «بوينج» إلى ذلك بالطائرة الأكثر إمكانات «بي-52»، التي كانت تستخدم محرك «جيه-57». أخذت هذه الشركة أيضا زمام المبادرة في بناء خزانات لإعادة التزود بالوقود جوا، وهو ما سمح لطائرة لوماي بزيادة مدى طيرانها كيفما شاءت. في عام 1949، بشرت الطائرة «بي-50» التابعة للقوات الجوية بما يمكن لهذا الأسلوب أن يحققه في المستقبل، وذلك من خلال التحليق حول العالم دون توقف. كان بإمكان القاذفة «بي-50» حمل قنبلة ذرية، وكان ستالين يعرف ذلك.
كانت طائرات النقل الأولى تستخدم محركات ذات مكابس؛ مما يجعلها لا ترقى إلى مستوى القاذفات النفاثة الجديدة التي كانت أسرع بكثير. في عام 1952، قرر رئيس شركة «بوينج»، ويليام ألن، إنفاق 16 مليون دولار أمريكي من أموال الشركة لبناء طائرة نفاثة جديدة، يمكنه تقديمها إلى القوات الجوية لاستخدامها كطائرة نقل. بالإضافة إلى ذلك، كان ألن يحاول بيع الطائرة نفسها كطائرة نفاثة إلى شركة خطوط «بان أمريكان» العالمية وإلى شركات طيران أخرى، بل كان يبني كلا النموذجين في منشآت حكومية، باستخدام معدات وأدوات توردها الحكومة.
كان هذا أسلوبا جريئا، لكنه يحمل في طياته شيئا من اليأس المفضي إلى التهور؛ إذ لم تفلح «بوينج» قط في بناء طائرة مدنية ناجحة تجاريا؛ فقد ازدهرت «بوينج» بوصفها شركة مختصة ببناء طائرات حربية، تاركة سوق الطائرات المدنية للشركتين المنافستين لها، «لوكهيد» و«دوجلاس إيركرافت». كان دونالد دوجلاس، مؤسس «دوجلاس إيركرافت» ورئيسها التنفيذي، قد بنى معظم الطائرات المدنية المستخدمة وقتها في سوق الطائرات المدنية، ولم يكن في حاجة إلى نموذج أولي تبتكره الشركة أو تصميم ذي حجم واحد يلائم كل الأغراض. كان دوجلاس يعرف أن قرار ألن كان يعتبر محاولة للدخول إلى عالم الطائرات النفاثة المدنية مع تحميل لوماي فاتورة ذلك. جلس دوجلاس في هدوء، ينتظر أن يتعرف على رغبة عملائه، ويرقب ما يجري بينما كانت «بوينج» تضع نفسها في مأزق صعب بابتكار طائرة تلائم احتياجات لوماي بدلا من احتياجات عملائها من شركات الطيران، ثم يطل هو بطائرته النفاثة الجديدة، وهي طائرة تفوق نظيراتها كثيرا، تكتسح السوق وتخلف «بوينج» وراءها تلعق جراحها.
كان دوجلاس على دراية بما يفعله. كانت الكابينة في النموذج الأولي لطائرة «بوينج» ضيقة للغاية بما لا يوفر الراحة للركاب، فضلا عن أن المدى الذي كانت تقطعه الطائرة قصير للغاية بما لا يجعلها تتفادى التوقف في محطات مؤقتة في رحلاتها عبر المحيط الأطلنطي. انتظر دوجلاس حتى واتته الفرصة، ليفوز بعقد تصميم طائرة جديدة، هي «دي سي-8»، التي كانت تحتوي على محركات أكثر قوة يمكنها التزود بحمولات أثقل من الوقود؛ مما يمكنها من قطع المدى الكامل لرحلاتها عبر المحيط الأطلنطي دون توقف، فضلا عن كابينة ركاب أكثر راحة. بيد أن ألن كان على قدر هذا التحدي؛ فقد تقبل تكبد تكاليف إضافية عن طيب خاطر، فزود تصميم الطائرة الجديدة بجناح جديد أكبر حجما يتيح لها أيضا التزود بكمية أكبر من الوقود، كما وافق على تركيب المحركات الأحدث وتوسيع الكابينة كذلك. نجحت المحاولة؛ إذ فاقت طائرته الجديدة، «بوينج 707»، في مبيعاتها مبيعات طائرة «دي سي-8».
أطلقت شركة «بان أمريكان» أولى طائراتها النفاثة العابرة للمحيط الأطلنطي، الطائرة «بوينج 707»، في رحلة من نيويورك إلى باريس في أكتوبر 1958، وسرعان ما تبعتها شركات طيران أخرى في رحلات داخلية، وبحلول عام 1960 كانت طائرات «بوينج 707» تحلق في كل مكان في البلاد. اكتسبت مدينة سياتل، مقر شركة «بوينج»، ميزة جديدة عندما صارت شركة «بوينج» في مصاف الشركات العملاقة في مجال بناء الطائرات المدنية النفاثة. تدفقت أفواج المسافرين على الطائرات النفاثة الجديدة، التي كانت سرعتها وسبل الراحة فيها على النقيض تماما من الاهتزازات الشديدة وفترات السفر الطويلة في الطائرات الأولى التي كانت تعمل باستخدام المكابس. في غضون سنوات قليلة، باعت شركات الطيران الكبرى نماذج تلك الطائرات التي تعمل باستخدام المكابس إلى شركات الطيران المحلية، وانتقلت بالكامل إلى استخدام الطائرات النفاثة الجديدة.
بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من وجود بعض التفاصيل المهمة بالنسبة إلى المسئولين التنفيذيين في شركات الطيران، كالمسافة التي تقطعها الطائرة وحجم كابينة الركاب، فإن نموذجي «بوينج 707» و«دي سي-8» كانا يضاهيان النماذج التجارية من طائرة النقل التي طورها لوماي، «كيه سي-135»، حيث كانا يستخدمان محركات مطورة مباشرة من نموذج محرك «جيه-57». حدثت تطورات مشابهة في مجال الطاقة الكهربية، الذي لم يكن يحمل سوى القليل جدا من أوجه التشابه مع مجال الطيران التجاري؛ لكن، سنحت الفرصة هنا أيضا في مجال الطاقة الكهربية لتطبيق التكنولوجيا العسكرية لأغراض الاستخدامات المدنية؛ إذ طور أول مفاعلات توليد الطاقة من مفاعلات بحرية، مثل مفاعل غواصة «نوتلس» التابعة للبحرية الأمريكية.
لم يكن رؤساء شركات الكهرباء مهتمين بالذرة؛ إذ كانوا معتادين على توليد كميات تقدر بالميجا وات من الطاقة الكهربية من خلال السدود المائية، أو من خلال حرق الفحم أو زيت الوقود تحت غلاية لتوليد البخار. كان استخدام الطاقة الذرية سريا في البداية، وكانت الحكومة وحدها بحكم القانون هي الجهة الوحيدة المخول لها امتلاك مفاعلات خاصة بها. لكن خلال عامي 1953 و1954، اتخذ رئيسا هيئة الطاقة الذرية، جوردون دين ولويس شتراوس، خطوة رائدة في اتجاه نزع غطاء السرية عن الأنشطة النووية وإجراء تعديلات في القانون. كذلك، بنى شتراوس - الذي قال في تصريح شهير عام 1954 أن الطاقة النووية ستصبح زهيدة التكلفة للغاية، بما لا يجعل فرض رسوم على استهلاكها ذا جدوى اقتصادية - مفاعلا قويا في مختبر أرجون الوطني التابع لهيئة الطاقة الذرية قرب شيكاجو، ليكون بمنزلة محطة تجريبية.
أدى هذا الجهد الفردي إلى بناء أول محطة تجارية حقيقية. تمخضت هذه المبادرة عن شراكة بين الأدميرال ريك أوفر وهيئة الطاقة الذرية وشركات الكهرباء؛ حيث تعاقدت هيئة الطاقة الذرية مع شركة «وستينجهاوس» لبناء المفاعل. تولت شركة «دوكين لايت» - وهي شركة كهرباء في بيتسبرج - بناء المفاعل في شيبنجبورت بولاية بنسلفانيا واتفقت على تشغيله، بينما شجع ريك أوفر العمل في المشروع بفضل حماسه المميز واهتمامه الملموس. كان مقدار القدرة الكهربية التي كان هذا المفاعل يستطيع توليدها لا يتجاوز 60 ميجا وات، وهي قدرة صغيرة نسبيا، لكن سرعان ما تلته مفاعلات أخرى أكثر قدرة.
في عام 1955، أعلنت هيئة الطاقة الذرية - في إطار جهودها لتشجيع الشركات الأخرى على المشاركة في المشروع - عن بدء الجولة الأولى من برنامج المفاعلات النووية التجريبية لتوليد الطاقة الكهربية. تضمنت هذه المبادرة مجموعة من حزم الدعم المالي والمساعدة الفنية لتحفيز شركات الكهرباء لتمويل عمليات إنشاء محطات نووية كاملة. اقتنع الكثير من الشركات واستجابوا للمبادرة، بينما أعلنت شركتان - هما شركة «كونسيليداتيد إديسون» في نيويورك، وشركة «كومنولث إديسون» في شيكاجو - أنهما ستبنيان محطات بتمويل كامل من القطاع الخاص، وبقدرة نووية تصل إلى ثلاثة أضعاف القدرة النووية في شيبنجبورت. لم تكن هاتان الشركتان لتقبلا بعرض هيئة الطاقة الذرية على علته، بل كانتا ترغبان في اكتساب خبرة مباشرة فيما يتعلق بالتكلفة الحقيقة لهذه التكنولوجيا الجديدة.
دخلت محطة «شيبنجبورت» الخدمة في أواخر عام 1957، ونظرا لما حازته من الخبرة التشغيلية، صارت مدرسة للمسئولين التنفيذيين والمهندسين الإداريين. في تلك الأثناء، كانت شركات بناء المفاعلات - «وستينجهاوس» و«جنرال إلكتريك» و«بابكوك آند ويلكوكس» - تروج لمنتجاتها بكثافة. في أواخر عام 1960، أطلقت شركة «ساوذرن كاليفورنيا إديسون» مبادرة نحو بناء محطة تتسم بقدرة كبيرة حقا عندما أعلنت عن بناء محطة بقدرة 375 ميجا وات جنوب لوس أنجلوس، بمساعدة هيئة الطاقة الذرية. بعدها بأشهر قليلة، تقدمت شركة «باسيفيك جاس آند إلكتريك» في سان فرانسيسكو بخطة مماثلة لبناء محطة خاصة بها بقدرة 325 ميجا وات، دون أي دعم مالي أو مساعدة فيدرالية.
حدث التطور الحقيقي بعدها بثلاث سنوات، تحديدا في عام 1964، عندما أعلنت شركة «جيرسي سنترال باور آند لايت» أن محطتها المزمع بناؤها في أويستر كريك ستنتج فعليا طاقة كهربية بتكلفة أقل من تكلفة إنتاجها في المحطات التي تعمل بالفحم؛ أدى هذا التصريح إلى طفرة هائلة بين شركات بيع المفاعلات النووية، بينما حاول المسئولون التنفيذيون في شركات الفحم التصدي للأمر بخفض الأسعار لديهم؛ لكن لم يفلح الأمر. تصدرت الطاقة النووية خلال عام 1965 سوق الطاقة بقوة، وخلال السنوات العديدة التي أعقبت ذلك، أصبحت الطاقة النووية تمثل نصف القدرة الجديدة المطلوبة من قبل شركات الكهرباء الأمريكية.
في عام 1960، كانت ثمة أسباب كثيرة للاعتقاد بأن الطاقة النووية ينتظرها مستقبل باهر؛ فقد كانت الطاقة النووية مواكبة لروح العصر، في عصر كان فيه الناس يعجبون بالتكنولوجيا على نحو أقل انتقادا مما في السنوات اللاحقة. كانت الطاقة النووية تحمل في طياتها شعورا بالتكفير عن الذنب؛ حيث أعطت الأمل بأن الطاقة الذرية التي دمرت مدنا من قبل ربما تمدها بالطاقة والضوء. لم يكن ثمة استنكار جماهيري واسع النطاق لكل ما هو نووي؛ كان الناس مستعدين لقبول ادعاءات الصناعة وهيئة الطاقة الذرية، دون تمحيص.
بالإضافة إلى ذلك، كانت الطاقة النووية تبشر بإمكانية تحقيق فوائد بيئية. كانت محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم آنذاك تشتهر بإطلاق الأدخنة والسخام، في ظل وجود القليل من القوانين التي تلزمها بتنظيف مداخنها، وكان تعدين الفحم معروفا بالأضرار المتعددة التي يخلفها، مثل تجريف التربة وتلويث المجاري المائية، فضلا عن أنه قد تسبب أيضا في قتل عشرات الآلاف من الرجال في حوادث المناجم. كانت البلاد تمر بحالة توسع سريعة في مجال صناعة الطاقة، وإذا جرى الاعتماد على الفحم في إنتاج تلك الكميات الهائلة من الطاقة الكهربية المقدرة بالميجا وات، فمن المتوقع أن تكون التكلفة باهظة حقا ممثلة في تجريف التربة وتلويث الأنهار وتكوين سحب دخان كثيفة تغطي المدن؛ لذا، بدلا من الاقتصار على المحطات التي تعمل بالفحم، كان كثير من المسئولين التنفيذيين على استعداد للتحول إلى استخدام البديل النووي، في وقت لم تكن فيه تكاليف الطاقة النووية ومخاطرها معروفة جيدا بعد.
لكن، عند دخول كينيدي البيت الأبيض، لم تكن النقاشات قد حدثت بعد؛ كان أغلبية الناس ينظرون إلى الحكومة باعتبارها المنبع الذي ستتدفق منه الابتكارات التكنولوجية الجديدة، ومن الأمثلة البارزة على ذلك الطرق السريعة بين الولايات، والطائرات النفاثة، والطاقة النووية. ساد هذا الاتجاه حتى في مجال الإلكترونيات؛ إذ كان التليفزيون يرتبط ارتباطا وثيقا بنظم الرادار، وهي ابتكار عسكري. كانت شركات الإلكترونيات الكبرى - مثل: «آي بي إم»، و«آر سي إيه»، و«إيه تي آند تي» - جميعا شركات خاصة وليست أذرعا للحكومة، لكنها جميعا كانت متعاقدة مع البنتاجون، وكانت أشبه بالمنشآت الخاضعة للتوجيه الحكومي أكثر منها للشركات الناشئة في منطقة سيليكون فالي في العقود التالية.
بناء عليه، عندما اقترح جون كينيدي اتخاذ مبادرة فيدرالية كبرى جديدة في مجال الفضاء، كان يعلم أن جهوده ستؤتي ثمارها المرجوة. كان الناس يثقون في الحكومة، وهو شعور مستقى من تجربة شخصية؛ لو كنت أحد المعاصرين لجيل كينيدي، فلربما كنت ممن التحقوا بالجامعة بفضل مشروع قانون «جي آي». لو لم تلتحق بالجامعة، وحصلت على وظيفة في أحد المصانع أو في شركة كبرى، فلربما كنت عضوا في أحد الاتحادات العمالية آنذاك، وكنت على دراية جيدة بأن الديمقراطيين قد شرعوا قوانين تحمي حقوق العمال. بالإضافة إلى ذلك، كانت الرواتب التي تدفعها الاتحادات العمالية مرتفعة بما يكفي لتقديم توقعات كانت تعتبر فيما سبق ضربا من الخيال، مثل منزل في إحدى الضواحي وإلحاق الأبناء بالجامعة. وعندما كان المرء يخطط للانتقال من شقة في إحدى المدن إلى منزل خاص به، وسط الحدائق الوارفة والمدارس الجيدة، كانت إدارة الإسكان الفيدرالية تساعد البنوك في تقديم قروض عقارية على مدى ثلاثين عاما بفائدة خمسة في المائة.
كان كينيدي مستعدا لتقديم المزيد؛ كان كينيدي أول عضو من الحزب الديمقراطي يخلف رئيسا جمهوريا منذ الرئيس روزفلت في عام 1933، وكانت عقول مستشاريه تمتلئ بالتشريعات المعد لها . لم يكن النجاح حليف كينيدي دوما؛ فقد رفض مشروع الرعاية الصحية لكبار السن (المديكير) - وهو أحد أهم الإصلاحات الأساسية في فترة ما بعد الحرب - في مجلس الشيوخ في يوليو 1962؛ لكن لم يستح كينيدي من طرح مبادرات جديدة، ولم يكن «أبولو» البرنامج الوحيد من نوعه في ظل جهوده في مجال الفضاء الجوي. في جهد فردي، خلال عام 1963، قرر كينيدي تحويل إدارة الطيران الفيدرالية إلى هيئة مناظرة لوكالة ناسا في مجال الفضاء الجوي، وجعلها تقود جهود صناعة طائرة مدنية تفوق سرعتها سرعة الصوت، «إس إس تي»؛ حيث يعني هذا الاختصار: طائرة نقل بسرعة تفوق سرعة الصوت.
كان تصميم طائرة نقل تفوق سرعتها سرعة الصوت ينطوي على تحد خارجي آخر، ممثلا هذه المرة في بريطانيا وفرنسا. كانت شركة «دو هافيلاند» البريطانية قد بنت بالفعل أول طائرة نقل نفاثة في العالم، الطائرة «كوميت»، وأدخلتها مجال الخدمة خلال عام 1952؛ خلال العامين التاليين لذلك، حققت الطائرة دعاية ضخمة ومبيعات هائلة، وبدا أن البريطانيين الروتينيين كانوا يتخطون الأمريكيين الذين يتمتعون بروح عملية. ثم سرعان ما تلاشت هذه التوقعات تماما خلال عام 1954؛ إذ ثبت أن جسم طائرة «كوميت» يتعرض لإجهاد معدني؛ مما كان يتسبب في تحطم الطائرة أثناء طيرانها. استغرق الأمر أربع سنوات لإصلاح المشكلة، وكان الوقت متأخرا جدا آنذاك؛ كان الأمريكيون قد ابتكروا الطائرتين «بوينج 707» و«دوجلاس دي سي-8»، اللتين كانتا أكثر تطورا بكثير.
بعد ذلك، تولد إحساس قوي لدى قادة الطيران البريطاني بأنهم كادوا يحققون نجاحا ولم يخسروا المنافسة إلا بالمصادفة؛ كانوا متحمسين لإعادة المحاولة، لتحدي الولايات المتحدة مجددا، ووجدوا حليفا لهم في شارل ديجول، الرئيس الفرنسي. كانت صناعة الطيران في فرنسا من أقوى صناعات الطيران في العالم؛ إذ كان رائد تصميم الطائرات الفرنسي، مارسيل داسو، رائدا في مجال الطيران بسرعات تفوق سرعة الصوت، وكان ديجول يكره ما سماه «استعمار أمريكا للسماء»؛ كان يرغب في أن يرفع العلم الفرنسي بألوانه الثلاثة على أفضل الطائرات المدنية في العالم، وكان على استعداد تام للانضمام إلى رئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان لتحقيق ذلك. تمخض عن هذه الشراكة مشروع طائرة الكونكورد.
كانت الكونكورد تمثل تحديا شعر كينيدي بضرورة التصدي له. قرر كينيدي أن تصنع الولايات المتحدة طائرة النقل الخاصة بها التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، على أن تكون طائرة أكبر حجما وأكثر سرعة من نظريتها الأوروبية. كان الشائع وقتها أن تدخل الطائرات الجديدة مرحلة الإنتاج مبكرا من خلال تمويل القطاع الخاص، بينما تقدم شركات الطيران دفعات مقدمة وتتبرع شركات صناعة الطائرات برأس المال من خلال السندات القصيرة الأمد أو السندات الطويلة الأمد. لكن في أوائل الستينيات من القرن العشرين، كان الشغل الشاغل لشركات الطيران هو الطائرات النفاثة التي تقل سرعتها عن سرعة الصوت، وكانت طائرات النقل التي تفوق سرعتها سرعة الصوت تنطوي على مخاطر فنية جعلت مشروع تطويرها يبدو بصورة غير جذابة في وول ستريت؛ ومن ثم، قرر جون كينيدي أن تأخذ الحكومة بزمام المبادرة، وأعلن المبادرة في يونيو 1963:
أرى أن هذه الحكومة يجب أن تبدأ على الفور في تنفيذ برنامج جديد بالشراكة مع القطاع الخاص، لتطوير نموذج طائرة نقل مدنية فائقة لسرعة الصوت، تتفوق على أي طائرة جرى بناؤها في أية دولة في العالم، على أن يكون ذلك في أقرب وقت ممكن.
2
تولت هيئة الطيران الفيدرالية عملية تطوير طائرة النقل الفائقة لسرعة الصوت وتحملت ما وصل إلى 90٪ من نفقات التطوير.
عند دراسة الظروف المحيطة بتطوير «أبولو»، يكتسب المرء رؤية عميقة بملاحظة مساري التوسع المتوازيين اللذين سارت فيهما هيئة الطيران الفيدرالية وناسا خلال سنوات إدارة آيزنهاور وكينيدي. انبثقت هيئة الطيران الفيدرالية من إدارة الطيران المدني، وهي إحدى الإدارات التابعة لوزارة التجارة، وعلى غرار اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية قبل إطلاق القمر «سبوتنيك»، كانت ميزانية إدارة الطيران المدني منخفضة وكانت عباءة نفوذها محدودة، على الرغم من أنها كانت تتولى المسئولية المهمة المتمثلة في ضمان سلامة الطيران المدني.
في عام 1956، واجهت إدارة الملاحة الفضائية الوطنية حدثا مساويا في أبعاده المأساوية لحدث إطلاق القمر «سبوتنيك»؛ إذ اصطدمت طائرتان أثناء تحليقهما في الجو. حصد هذا الحادث أرواح 128 شخصا ليكون بذلك أسوأ كارثة في تاريخ الطيران، كما أنه أوضح بما لا يدع مجالا للشك أن عدم توفير التمويل الكافي يجعل طرق الطيران غير آمنة. ومثلما أشار القمر «سبوتنيك» إلى تهديد وشيك من قبل الصواريخ السوفييتية، أشار هذا الحادث الذي وقع في عام 1956 إلى خطر وشيك ينذر بأن الطيران سرعان ما سيصبح أقل أمانا. كانت الطائرات النفاثة الجديدة على وشك الدخول في الخدمة في ذلك الحين، وإن لم يتسن التعامل مع الطائرات السريعة التي تعمل بالمكابس وقتها لارتياد الطرق الجوية، فثمة خطر أكبر سيهدد سلامة ارتياد الطرق الجوية في حالة الطائرات النفاثة الجديدة.
تفاعل الكونجرس مع الأزمة بطريقته المعتادة من خلال زيادة مصادر التمويل، بينما قدم السيناتور مايك منوروني، وهو من جهات الدعم القوية لصناعة الطيران، ما هو أكثر من ذلك. قدم منوروني مشروع قانون، جرى التصديق عليه خلال عام 1958، وبموجبه تحولت إدارة الطيران المدني إلى هيئة الطيران الفيدرالية، لتصبح وكالة مستقلة بميزانية أكبر ونفوذ أوسع بكثير. كان مشروع القانون شبيها بمشروع القانون الذي تحولت بموجبه اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية إلى وكالة ناسا، ومع ذلك ظلت صلاحيات كلتا الوكالتين الجديدتين محدودة. كانت هيئة الطيران الفيدرالية تركز بصفة أساسية على سلامة الطيران، بينما كانت ناسا تركز على الأنشطة الفضائية في مدار أرضي.
ثم جاء كينيدي، الذي توسع كثيرا في مهام كلتا الوكالتين. تولت ناسا إدارة مشروع «أبولو»، وهو مشروع طموح لإطلاق مركبة فضائية مأهولة إلى القمر كان آيك قد رفضه من قبل. ومن جانبها، وسعت هيئة الطيران الفيدرالية من مجال تركيزها المتعلق في الأساس بنظم الرادار وسلامة الطيران، ليشمل كذلك توجيه الجهود لصناعة طائرة نقل مدنية تفوق سرعتها سرعة الصوت، باعتبار ذلك برنامجا جديدا كبيرا سيفضي إلى بناء الجيل القادم من طائرات النقل. ومثلما حدث في برنامجي الطاقة النووية وإطلاق رحلات مأهولة إلى القمر، كان برنامج طائرات النقل التي تفوق سرعتها سرعة الصوت مبادرة فيدرالية أخرى تبشر بآمال واعدة خلال سنوات كينيدي.
لا بد للمرء أن يأخذ في اعتباره عنصر الأمل هذا في إطار استيعابه لمشروع «أبولو». كان كينيدي شابا وكان على قدر كبير من النشاط والحيوية يفوق أي رئيس أمريكي على الإطلاق، وكان يدرك أنه من خلال انتهاز الظرف التاريخي، من خلال إرسال رواد فضاء إلى القمر، سيؤسس إرثا وطنيا سيظل العالم يتذكره طويلا. كان كينيدي دارسا فطنا للتاريخ؛ إذ كان قد ألف كتاب «صور في الشجاعة» الذي حاز عنه على جائزة بوليتزر. ومثل ونستون تشرشل، الذي كان مؤرخا أيضا، كان كينيدي يعتز أيما اعتزاز باللغة الإنجليزية. كان كينيدي يعرف كيف يستنفر الإخوة المواطنين للقيام بمهام كبرى ومواجهة تحديات هائلة؛ استخدم كينيدي «أبولو» كفكرة عامة رئيسية، مثلما حدث أثناء خطاب له في جامعة رايس في هيوستن، في سبتمبر 1962:
ستمضي رحلة استكشاف الفضاء قدما سواء انضممنا إليها أم لا، وهي واحدة من أعظم المغامرات والتجارب المثيرة في التاريخ كله، ولا يتسنى لأي أمة ترى أنها رائدة الأمم الأخرى أن تتوقع أن تتخلف عن الركب في سباق الفضاء هذا.
تتطلع أعين العالم الآن إلى الفضاء - إلى القمر وإلى ما وراءه من كواكب - ولقد أقسمنا على ألا نرى القمر يغزوه علم أمة معادية استعمارا، بل يرفرف فوقه لواء الحرية والسلام.
شرعنا في الإبحار في هذا البحر الجديد لأن أمامنا معرفة جديدة يجب أن نكتسبها، وحقوقا جديدة يجب أن ننالها، وهي معرفة وحقوق يجب الظفر بها واستخدامها بما يحقق تقدم البشرية.
لكن البعض يتساءل: لماذا القمر؟ لماذا نختاره هدفا لنا؟ وربما يسأل هؤلاء أيضا قائلين: لماذا نتسلق أعلى المرتفعات؟ مثلما طرح السؤال قبل ثلاثين عاما، لماذا نحلق عبر المحيط الأطلنطي؟ لماذا يلعب فريق جامعة رايس ضد فريق جامعة تكساس؟
قررنا الذهاب إلى القمر! قررنا الصعود إلى القمر خلال هذا العقد ، وقررنا أيضا القيام ببقية الأمور الأخرى؛ لا لأنها أمور سهلة، ولكن لأنها أمور صعبة. لأن هذا الهدف سيسهم في حشد أفضل طاقاتنا ومهاراتنا، وسيكون مقياسا لها. لأن ذلك التحدي هو تحد نقبل بمواجهته، تحد لا نرغب في تأجيله، تحد نعتزم مواجهته والتغلب عليه.
3
لكن، كان «أبولو» ينطوي على ما هو أكثر من الأمل البراق؛ إذ كانت ثمة تحديات مخيفة أيضا. كان كينيدي، مثل حزبه، يحمل عبئا ثقيلا؛ فقد تولى كينيدي وحزبه إدارة البلاد في ظل سقوط الصين في يد الحزب الشيوعي عام 1949.
تصعب المبالغة في تصوير حالة الحيرة والفزع التي مرت بها أمريكا في مواجهة التهديد الشيوعي في سنوات ما بعد الحرب؛ كان الأمر أشبه تقريبا بالقول بأن انتصار الولايات المتحدة في الحرب لا معنى له، فقد نجحت الولايات المتحدة في هزيمة اليابان وألمانيا لتجد نفسها في مواجهة قوة ستالين الأعظم شأنا. كان ترومان قد دعم شيانج كاي شيك بوصفه عميلا مواليا للولايات المتحدة، على الرغم من أن نظام كومنتاج كان فاسدا حتى النخاع ولم يكن يحظى بالتأييد الشعبي. عندما أطاح ماو تسي دونج بالنظام؛ مما جعل فلوله يسعون إلى اللجوء إلى تايوان وإعلان جمهورية الصين الشعبية، كانت روسيا قد انتهت توا من تفجير أول قنبلة ذرية. كان نابليون قد كتب قائلا: «دع الصين ترقد في سباتها. وعندما تستيقظ، سيشعر العالم كله بالأسف.» في أمريكا، دعمت هذه الأحداث التطورات التي جعلت هذه الحقبة من أقبح الفترات في تاريخ السياسة الوطنية.
لطالما كانت السياسة معتركا للآراء الحماسية المتعارضة، وبيئة لإثارة الفتن والمخاوف المغالى فيها. لكن، ثمة حدود عادة، مثلما يحدث عندما يجد الحزب المعارض لنفسه سبلا للتعاون مع الرئيس، بدلا من مساءلته ومحاولة سحب الثقة منه جديا؛ بيد أن هذه الحدود تتلاشى في أوقات الأزمات الكبرى، وهو ما حدث خلال فترة إعادة الإعمار في أعقاب الحرب الأهلية؛ إذ تعامل الجمهوريون المتطرفون مع الولايات الجنوبية المهزومة مثل أقاليم مستعمرة. تكرر الأمر مجددا في وقت مبكر من الحرب الباردة، عندما لم يكتف الجمهوريون باتهام ترومان بالتخبط وارتكاب أخطاء فادحة، بل أعلنوا أن إدارته مليئة بالشيوعيين، حتى إن مسئولين كبارا ارتكبوا جريمة الخيانة العظمى.
في ظل التهديد القادم من الخارج، أصر ترومان على مقاومة أي تقدم شيوعي آخر مهما كانت تكلفة ذلك، وهو ما يبرر تدخله الفوري في كوريا في يونيو 1950. لم تمنح البلاد كوريا الشمالية أي فرصة لالتقاط الأنفاس، وهللت عندما تقدم الجنرال ماكارثر في اتجاه نهر يالو، الذي كان يمثل الحدود مع الصين نفسها. عندما تدخلت الصين وأجبرت الأمريكيين على التراجع، ارتجف العالم للحظة؛ ظنا منه أنه على أعتاب حرب نووية؛ إذ كان قد أشار تورمان إلى أن رد الفعل ربما يتضمن استخدام القنبلة الذرية.
يربط المؤرخون بين هذا العصر وبين السيناتور ماكارثي، الذي دمر في طيش بالغ سمعة أشخاص فضلاء ومحترمين بوصمهم بتهمة الشيوعية. لكن، لم يكن ماكارثي سوى سياسي انتهازي؛ حيث أخذ يغذي المناخ العام في البلاد بالمخاوف التي كانت سائدة آنذاك. لم يكن ماكارثي هو من أوجد هذه المخاوف، لكنه استغلها فقط لتحقيق أغراضه الشخصية. صوت مجلس الشيوخ لتعنيفه وانتقاده في عام 1954، وسط تلاشي حالة التوتر في أعقاب وفاة ستالين ونهاية الحرب الكورية. مات ماكارثي بعد ذلك بسنوات قليلة، بعدما لحقته وصمة الخزي. كان كينيدي يعلم أنه في حال تجدد التهديد الشيوعي، ربما تتجدد معه حالة الماكارثية، التي توجه الاتهامات بالتآمر والخيانة دون الاهتمام بالأدلة.
كان شبح ماكارثي لا يقوى على الرقود في هدوء. كان من بين حلفائه المقربين عضو الكونجرس ريتشارد نيكسون، الذي صار معروفا بوصفه من أبرز من اتهموا بالشيوعية. كان نيكسون هو من فضح أمر ألجر هيس، وهو مسئول رفيع في وزارة الخارجية وأحد خلطاء دين آتشسون، وزير الخارجية. أثبت نيكسون أن هيس كان جاسوسا وأحد أعضاء الحزب الشيوعي، وأنه قد كذب بشأن ذلك. خدمت هذه الحادثة أغراض ماكارثي وحققت له أكبر نصر في حياته؛ حيث عملت على تعميق حالات الشك المريرة آنذاك وإطالتها. كان نيكسون خصم كينيدي في الانتخابات الرئاسية، وكان قاب قوسين أو أدنى من هزيمته.
كان من دواعي الفخر لدى الجمهوريين التابعين لآيزنهاور أنه في حين فقد ترومان أوروبا الشرقية وكذلك الصين، فقد حالوا هم دون توسع المد الشيوعي. لم يكونوا محقين تماما في تصريحهم هذا؛ ففي عام 1960، كانت كوبا تقبع في الشيوعية في ظل حكم كاسترو، ولم تكن تبعد إلا تسعين ميلا فقط عن مدينة كي ويست الأمريكية في ولاية فلوريدا. كانت الشيوعية لا تزال قريبة من أمريكا، وتعاملوا معها؛ بيد أن كوبا زادت كثيرا من التحدي الرئيسي في سياسة كينيدي الخارجية، وهو مواصلة التصدي للزحف الشيوعي، والحيلولة دون تحقيق أي انتصارات أخرى من جانب موسكو والصين.
مع ذلك، في ظل ما حدث في الصين، لم يكن كينيدي يستطيع المضي في سياساته بنفس الثقة الرزينة التي كانت تميز آيزنهاور وسياساته. كان الجميع يعلم أن أخطاء ترومان في كوريا - التي أوقعت البلاد في شرك صراع لم تتمكن من الانتصار فيه أو إنهائه - قد تسببت في هزيمته وخروجه من البيت الأبيض. كان الجميع يعلم أيضا أن آيك قد انتصر في الحرب في أوروبا، وأنهى الحرب في كوريا، محافظا في الوقت نفسه على السلام وسط أخطار متعاقبة في عالم محفوف بالمخاطر. تحت وطأة تلك الأحداث، وفي مواجهة تناقض كهذا، وجد الديمقراطيون التابعون لكينيدي أنفسهم مدفوعين إلى أن يكونوا أكثر مناهضة للشيوعية من الجمهوريين. في إطار جهود السياسة الخارجية، كان الديمقراطيون يعملون وسط مخاوف متزايدة من ثبوت ضعفهم، فكانوا يعوضون ذلك بالتصرف بجرأة مبالغ فيها، وكان من أهم النتائج المترتبة على ذلك الحرب في فيتنام.
كانت الفرصة قد سنحت لآيك للتدخل على نحو هائل في تلك البلاد، عندما هزم الفرنسيون في صراعهم ضد الرئيس الأول لفيتنام الشمالية هو تشي منه في عام 1954، بيد أن آيك أبى أن يتدخل وترك الفرنسيين يواجهون مصيرهم. لكن فيتنام كانت مجاورة للصين، في منطقة من العالم كان المد الشيوعي هو الأمر الأرجح، ولم يكن ذلك مقبولا على الإطلاق. كذلك، لم يلتفت كينيدي ومستشاروه إلى فيتنام الجنوبية في هذا الشأن، باعتبارها عميلا غير ذي أهمية للولايات المتحدة. قبل كينيدي ومستشاروه بنظرية الدومينو، التي كانت تعتبر فيتنام الجنوبية بمنزلة حجر زاوية؛ إذا سقطت، فسرعان ما ستتداعى أيضا منطقة جنوب شرق آسيا بأسرها. كان الأمر أشبه بافتراض أن فقدان سايجون سيفضي إلى ظهور مجال الازدهار المشترك لشرق آسيا الكبرى، الذي ستصبح فيه الصين هي القوة الاستعمارية بدلا من اليابان. لكن، كانت إدارة كينيدي تؤمن بذلك واتخذته أساسا لسياستها.
كانت فيتنام مهمة من جانب آخر؛ فقد كانت جزءا من العالم الثالث، الساحة الكبرى التي ربما تشهد انتصار الحرب الباردة أو هزيمتها. وكان يوجد في هذا العالم عدد كبير من الأمم المستقلة حديثا التي رأت أملا في الاشتراكية، وعادة ما كانت تزدري الغرب وتنظر إلى موسكو بإعجاب نظرا لأنها كانت تتبنى الاشتراكية ولم تبن أي إمبراطورية استعمارية خارج أراضيها. كانت المخاطر مرتفعة حتى في أمريكا اللاتينية؛ حيث كان من الممكن لأي من أمم القارة العشرين أن تصبح كوبا القادمة، وكانت مخاطر الاشتراكية مرتفعة بالقدر نفسه في أفريقيا وآسيا.
من هذا المنطلق، كان لا بد من دحض أي انتصارات دعائية وعسكرية لموسكو. كانت الرحلات الفضائية أحد الموضوعات الرئيسية التي تصدرت الحرب الدعائية، وكان من السهل تصور تسلسل النتائج المنطقية المترتبة على ذلك؛ روسيا في المقدمة؛ مما يعني أنها تمتلك أفضل الأسلحة؛ ومن ثم أفضل تكنولوجيا؛ ومن ثم مجتمعا أفضل وأكثر تميزا (وهو ما كان قادة العالم الثالث يميلون إلى الاعتقاد في صحته على أية حال).
لم يقر كينيدي قط - أثناء شنه حربا باردة شاملة - بفكرة أن تحشد موسكو الموارد في تنفيذ برامج رحلات فضائية مأهولة لخدمة أغراضها الدعائية، في الوقت الذي كانت تخذل مواطنيها في جوانب عدة أكثر أهمية. مرة أخرى، خلال حملة عام 1960، تحدث كينيدي عن العالم الثالث وشدد على أن الريادة في مجال الفضاء خطوة ضرورية إن لم تتخل أمريكا عن دعم برامجه:
تحترم شعوب العالم الإنجاز. خلال معظم سنوات القرن العشرين، كانت شعوب العالم تنظر بإعجاب إلى العلم والتعليم الأمريكيين، اللذين لم يكن لهما مثيل. أما الآن، فلا تعرف شعوب العالم على وجه اليقين أين سيكون المستقبل. كان اسم المركبة الأولى في الفضاء الخارجي «سبوتنيك»، وليس «فانجارد». كانت أول دولة تضع شعارها الوطني فوق القمر هي الاتحاد السوفييتي، وليس الولايات المتحدة.
إذا كان الاتحاد السوفييتي هو أول دولة تصعد إلى الفضاء الخارجي، فهذه أشد هزيمة منيت بها الولايات المتحدة على مدى سنوات عديدة؛ لأننا لم ندرك الأثر الذي كان سيتحقق لو كنا أول من ينطلق إلى الفضاء. ساد انطباع في جميع أنحاء العالم بأن الاتحاد السوفييتي يخطو بخطوات ثابتة نحو الأمام، بأن لديه أهدافا محددة، بأنه يعرف السبيل إلى تحقيق أهدافه، وبأنه يمضي قدما إلى الأمام بينما لا نزال في موضعنا لا نبرحه. هذا هو ما يجب أن نتغلب عليه، ذلك الشعور النفسي الذي استشرى في العالم بأن الولايات المتحدة قد بلغت مرحلة الشيخوخة، أن ذروة مجدنا ربما ولت وأننا الآن في طريقنا إلى فترة سبات طويل وبطيء.
4
كان مشروع «أبولو» يمثل إذن الكثير بالنسبة إلى كينيدي؛ كان برنامجا فيدراليا في مجال التكنولوجيا، في عصر كان الناس يعجبون بهذه البرامج ويتوقعون المزيد. كان «أبولو» يمثل خطة مدروسة جيدا من إحدى وكالات كينيدي التي استطاعت أن تعالج مشكلة ملحة، وكان كينيدي مسئولا عن التصديق على هذه الخطط واعتمادها. جاء مشروع «أبولو» متوافقا مع حسه التاريخي، ورؤيته للمستقبل، وروحه كإنسان. كما أنه كان مهما للغاية؛ لأنه كان من شأنه أن يحول دون تحقيق أي انتصارات إضافية من جانب موسكو، ويسهم في وقف المد الشيوعي في العالم الثالث. ولم يكن هذا كل ما في الأمر؛ إذ كان الاسم الذي اختاره كينيدي لإدارته، الحدود الجديدة، يشير بقوة إلى رحلات الفضاء. ومثل أي قائد سياسي، كان كينيدي يعرف كيف يكيف خطابه بما يتوافق مع الجمهور الذي يخاطبه؛ إذ أوضح كينيدي العلاقة في عبارة نشرت في المجلة التجارية «ميسايلز آند روكتس»: «هذا هو عصر الاستكشاف الجديد؛ فالفضاء هو أعظم حدودنا الجديدة.»
تولى كينيدي مهام منصبه في يناير 1961، وبدأ يباشر مهامه بنشاط وحماس بالغين، وسط سيل من البيانات والقرارات والإجراءات. أراد كينيدي منذ البداية أن يراه العامة بوصفه شخصا نشيطا ومتأهبا لاتخاذ خطوات، وعلى الرغم من أن الفضاء لم يكن مسألة ملحة، فقد تعامل كينيدي معه أيضا. أصدر كينيدي توجيها إلى نائبه، ليندون جونسون، لتولي المسئولية في هذا المجال لعلمه أن جونسون كان يتولى أمور الصواريخ والفضاء منذ إطلاق القمر «سبوتنيك» الأول؛ كما التقى كينيدي مع مسئولي ناسا واتفق على دعم موازنتهم للإسراع بعملية تطوير الصاروخ «ساتورن». مع ذلك، كانت قرارات كينيدي المبكرة تميل إجمالا إلى ترسيخ حذر آيك بدلا من توجيه البلاد نحو آفاق جديدة.
لكن، كان السوفييت يحققون انتصارات متوالية ولم يكونوا ليتوقفوا عن ذلك، حتى في حال موت رائد فضاء، وهو ما حدث في 23 مارس. كان الضحية، فالنتين بوندارينكو، يبلغ من العمر أربعة وعشرين عاما، وكان أصغر رواد الفضاء في بلاده. كجزء من تدريبه، قضى بوندارينكو عشرة أيام معزولا في غرفة ضغط ممتلئة بالأكسجين؛ كان يرتدي سترة تدريب من الصوف، وكانت ثمة مجسات موضوعة على جلده لتسجيل قياسات طبية. كانت الغرفة تحتوي أيضا على لوح تسخين كهربائي، كان يعد عليه وجباته.
مع نهاية الأيام العشرة، بدأ في إزالة المجسات، منظفا مواضعها على جلده عن طريق مسحها بقطعة قطن مغموسة في الكحول. ألقى قطعة القطن بعيدا دون أن ينظر، فسقطت على لوح التسخين؛ مما أدى إلى تصاعد ألسنة اللهب. انتشرت النيران بسرعة في هواء غرفته الصغيرة الغني بالأكسجين؛ مما أدى إلى اشتعال سترته؛ حاول بوندارينكو إطفاء النيران لكنه لم يفلح، وخرج الحريق عن السيطرة، كما أنه لم يستطع الهرب؛ لأن فرق الضغط جعل الباب محكم الغلق يأبى على الفتح.
رأى أحد الأطباء ألسنة اللهب عبر زجاج إحدى النوافذ، لكنه لم يستطع أيضا فتح الباب؛ فأدار صماما لمعادلة الضغط، لكن الأمر استغرق بعض الوقت قبل أن يتمكن من الوصول إلى بوندارينكو، وفي تلك الأثناء كانت النيران قد أحاطت برائد الفضاء الروسي تماما ونالت منه. مع ذلك، كان لا يزال واعيا وقال: «إنه خطئي، لا تلوموا أي شخص آخر.»
هرع الأطباء به إلى أحد المستشفيات، استحضر الطبيب المعالج لاحقا ما حدث قائلا: «لم أتمالك نفسي من الارتجاف، كان الجسد بأكمله عاريا من الجلد، وكانت الرأس عارية من الشعر، ولم يكن ثمة عينان في الوجه. كان احتراقا كاملا من الدرجة القصوى.» مع ذلك، ظل بوندارينكو يتحدث: «ألم هائل، افعلوا شيئا رجاء لتسكين هذا الألم.» ظلت قوى بوندارينكو تخور لمدة ثماني ساعات، ثم أسلم الروح في النهاية. ترك أرملة شابة وطفلا عمره خمس سنوات، فأمر وزير الدفاع ب «توفير كل مستلزماتهما، كما يليق بعائلة رائد فضاء روسي»، وهذا ما كان.
ثم في 12 أبريل، في صباح ربيعي جميل في تيوراتام، توقفت حافلة فجأة إلى جانب منصة إطلاق؛ كان على متنها رائدا فضاء روسيان آخران، هما يوري جاجارين ومساعده جيرمان تيتوف، وفي صحبتهما مجددا عدد من الأطباء. ترجل جاجارين عن الحافلة والتقى كوروليف، الذي حياه بالأحضان والقبلات، ثم استقل الرجلان مصعدا للصعود إلى متن الصاروخ. لوح جاجارين مودعا، ثم اختفى خلف باب مركبته الفضائية. سأل أحد أفراد برج المراقبة قائلا: «يوري، لن تشعر بالملل في الداخل، أليس كذلك؟» أجاب جاجارين: «إذا كان ثمة بعض الموسيقى، سأحتمل الأمر على نحو أفضل.» أمر كوريليف بتشغيل بعض أغاني الحب، لكن مر بضع دقائق قبل توفير تلك الأغاني. أخبر كوروليف جاجارين قائلا: «هذا هو حال الموسيقيين، يتنقلون هنا وهناك، لكن ما من شيء يفعلونه بسرعة كبيرة.»
جرت عملية الإطلاق بعد خمسين دقيقة تقريبا. قال جاجارين عقب رحلته: «كنت أسمع صوت الصمامات وهي تعمل، ثم بدأت المحركات تعمل مصدرة صوت هدير. كان الصوت الصادر يشبه تقريبا الصوت الصادر عن طائرة. كنت مستعدا لما هو أكثر من ذلك، ثم ارتفع الصاروخ بانسيابية وخفة عن موضعه.»
قال كوروليف: «سبعون ثانية بعد الإطلاق.» سبعون ثانية من وقت الإطلاق.
جاجارين :
أسمعك: 70. أنا في أفضل حال، أواصل الرحلة، يزداد معدل التسارع، كل شيء على ما يرام.
كوروليف :
100 ثانية بعد الإطلاق، كيف حالك؟
جاجارين :
أنا على ما يرام، ماذا عنك؟
كوروليف :
السرعة والوقت، كل شيء طبيعي.
وصف جاجارين القوى خلال عملية التسارع بأنها «تحت السيطرة تماما، مثل ما في الطائرات العادية.» وواصل قائلا: «معدل التسارع خمسة تقريبا، وهو ما يساوي خمسة أضعاف قوة الجاذبية العادية . عند هذا المعدل، كنت أرسل تقارير إلى المحطة الأرضية وأتواصل معها طوال الوقت. كان الحديث صعبا إلى حد ما؛ إذ كانت جميع عضلات وجهي متقلصة، ويعتريني بعض الإجهاد.»
عند الثانية 150 من وقت الإطلاق، انفصلت المقدمة المخروطية؛ مما سمح لجاجارين بالنظر عبر جهاز بصري.
جاجارين :
أرى السحب. موقع الهبوط، رائع. يا للجمال! هل تسمعني؟
كوروليف :
نسمعك جيدا، واصل الرحلة.
ذكر جاجارين خلال البيان الصحفي الذي أدلى به بعد الرحلة: «فجأة، لم تعد هناك سحب، رأيت الطيات الطبيعية للتضاريس الأرضية، منطقة جبلية قليلا. استطعت أن أرى الغابات والأنهار والوديان، لكنني لم أتمكن من تحديد مكانها على وجه الدقة. أعتقد أن ذلك كان نهر أوب أو إيرتيش، لكنني استطعت أن أرى أن ذلك كان نهرا كبيرا وتوجد جزر فيه.» كان الصاروخ لا يزال ينطلق بقوة الدفع، ثم سرعان ما توقف الدفع؛ أصبح جاجارين في مدار فضائي.
قال جاجارين لاحقا: «استطعت أن أرى الأفق، النجوم، السماء. كانت السماء مظلمة تماما، وكان حجم النجوم وبريقها أوضح قليلا إزاء هذه الخلفية السوداء. رأيت أفقا جميلا للغاية، وشاهدت انحناء الأرض وتقوسها. بدا الأفق جميلا بلونه الأزرق الفاتح. فوق سطح الأرض، يتحول تدريجيا اللون الأزرق الخفيف الناعم إلى لون داكن قليلا، ثم يتحول إلى لون بنفسجي يتغير تدريجيا إلى لون أسود.
أثناء تحليقي فوق البحر، كان سطح البحر يبدو رماديا، لا أزرق فاتحا. كان السطح غير مستو، مثل الكثبان الرملية في الصور الفوتوغرافية. كنت أتناول الطعام والشراب بصورة طبيعية، كنت أستطيع أن آكل وأن أشرب؛ لم أشعر بأي مشاكل فسيولوجية. كان شعور انعدام الوزن غير مألوف مقارنة بالوضع على الأرض؛ هنا، يشعر المرء بأنه معلق في وضع أفقي مربوط بوثاق.»
كان ضوء الشمس شديدا للغاية؛ ومن ثم كان عليه أن يصرف بصره عنه أو أن يغطي عينيه. حل وقت الشفق على الأرض، واستهواه كثيرا المنظر الذي شاهده: «كان التحول من اللون الأزرق إلى الظلمة تدريجيا تماما ورائعا للغاية.» لكن عندما حلقت مركبته الفضائية في ظل الأرض، كان التحول إلى الظلمة مفاجئا للغاية.
عبر المحيط الهادئ، وسار في مسار منحن فوق أمريكا الجنوبية، ثم رأى بزوغ الصباح فوق منطقة جنوب المحيط الأطلنطي. «عندما خرجت من ظل الأرض، بدا الأفق مختلفا؛ كان ثمة شريط برتقالي براق عبر الأرض تحول لونه مرة أخرى إلى اللون الأزرق، ثم تحول مجددا إلى لون أسود حالك.»
بعد مرور ست وسبعين دقيقة من زمن الرحلة، أصبح جاجارين فوق أفريقيا وأصبح جاهزا لمعاودة الولوج إلى المجال الجوي، وهو ما حدث آليا. شعر بدوران محرك صاروخ إبطاء الحركة، مع وجود «صوت أزيز بسيط وجلبة عبر جسم الصاروخ بالكامل». توقف الصاروخ بعد أربعين ثانية، مع وجود اهتزاز شديد، وبدأت المركبة في الدوران، تدور دورة كاملة مرة كل اثنتي عشرة ثانية تقريبا.
قال جاجارين: «كنت في حال أشبه تماما بفرقة رقص الباليه. تدور الرأس، ثم القدمان، بسرعة كبيرة؛ كل شيء كان يدور. رأيت أفريقيا أولا، ثم الأفق، ثم السماء. نجحت بالكاد في حجب عيني عن الشمس.» استمرت حركة الدوران، أثناء عبوره فوق الساحل الشمالي ورأى الصحراء الكبرى والبحر المتوسط. حدث عطل ما؛ حيث أدى كابل كهربي إلى احتجاز كبسولته في المركبة. بعد مرور عشر دقائق فقط من تشغيل صواريخ الكبح، عند الولوج في المجال الجوي، احترق الكابل الكهربي عن آخره فانفصلت كبسولته عن المركبة. تضاءلت حركة الدوار إلى حركة اهتزاز قوية إلى الأمام وإلى الخلف، ثم ما لبثت هذه الحركة الاهتزازية أن توقفت.
كان جاجارين قد أغلق تليسكوبه بستار، بيد أن «ضوءا قرمزيا ساطعا ظهر على طول حواف الستار». يقول جاجارين: «شعرت باهتزازات المركبة واحتراق الدرع الحراري. كان الدرع يتكسر بصوت مسموع؛ فإما أن هيكل المركبة ينكسر محدثا صوتا، وإما أن الدرع الحراري كان يتمدد مع زيادة حرارته. شعرت بارتفاع في درجة الحرارة، ثم بدأ معدل تسارع المركبة يزداد بانتظام؛ بدا كما لو أن معدل التسارع عشرة أمتار لكل ثانية مربعة. مرت ثانية أو ثانيتان قبل أن تبدأ المعدات في الظهور بصورة ضبابية؛ بدا كل شيء بلون رمادي. أمعنت النظر؛ مما ساعدني على الرؤية بوضوح، كما لو أن كل شيء قد عاد إلى موضعه.»
بدأت قوى التسارع في الانخفاض، وسمع جاجارين صوت صفير الهواء مع تباطؤ سرعة مركبته وانخفاض سرعتها عبر حاجز الصوت. على ارتفاع 23 ألف قدم، طارت فتحة الخروج بصوت دوي شديد. انطلق المقعد القذفي - لم تكن للكبسولة الثقيلة مظلة كبيرة تسمح بعملية هبوط آمنة - وهبط جاجارين ببطء مع انفتاح مظلته. رأى نهر فولجا ومدينة ساراتوف؛ كان يعتقد أنه سيهبط في واد، لكنه هبط في أحد الحقول، «محروث جيدا، وأملس للغاية، ولم يكن قد جف بعد». يقول جاجارين: «لم أشعر بعملية الهبوط. لم أدرك حتى أنني كنت أقف على قدمي. رأيت كل شيء سليما؛ وهو ما كان يعني أنني حي وعلى ما يرام.»
5
كان يوري جاجارين، وهو طيار في القوات الجوية السوفييتية، يتمتع بصحة جيدة لكن لم يكن لديه سوى القليل من الخبرة. ولد جاجارين في عام 1934 في مزرعة جماعية غرب موسكو، والتحق بمدرسة تجارية ليصير بعد ذلك عاملا ماهرا؛ لكن سجله كطالب كان جيدا بما يؤهله للالتحاق بمدرسة فنية في ساراتوف تحديدا. هناك، تعلم الطيران في نادي طيران محلي، وتأهل للانضمام إلى القوات الجوية، ثم انضم إلى مدرسة لتأهيل الضباط المرشحين في أورينبرج؛ حيث تخرج فيها بمرتبة الشرف الأولى في عام 1957.
تزوج جاجارين من اختصاصية في النواحي الفنية، تدعى فالنتينا إفانوفنا. أنجبا طفلتين، كان عمر أصغرهما شهرا واحدا فقط عندما انطلق في رحلته. كان هو وزوجته يعيشان في شقة متواضعة - مكونة من غرفة نوم، ومطبخ، وغرفة معيشة، وحمام - في الدور الخامس من مبنى مخصص لطياري الاختبار العسكريين، وكان جاجارين يسافر يوميا إلى موقع التدريب على ريادة الفضاء في وسط مدينة موسكو. في أعقاب رحلته، أظهر جاجارين مهارة في الحديث وقول ما يجب أن يقال: «بينما كنت في الفضاء الخارجي، كنت أفكر في حزبنا وفي بلادنا. عندما كنت في طريقي إلى الأرض، أنشدت أغنية «الوطن يسمع، الوطن يعرف».»
في واشنطن، دار الحديث مجددا حول «سبوتنيك». هاتف أحد الصحفيين «شورتي» باورز، المتحدث باسم رواد الفضاء، في الثالثة صباحا وأيقظه سعيا للحصول على تعليق منه، لكن باورز أجابه قائلا: «إذا كنت تريد أي شيء منا، أيها الأحمق، فالإجابة أننا جميعا نيام.»
لم يكن كينيدي نائما، لكنه لا شك انزعج كثيرا. دعا كينيدي إلى عقد مؤتمر صحفي في ظهيرة اليوم نفسه، فسأله أحدهم قائلا: «سيدي الرئيس، صرح أحد أعضاء الكونجرس اليوم بأنه سئم من مجيء الولايات المتحدة في المرتبة الثانية بعد روسيا في مجال الفضاء؛ فما هي فرص لحاقنا بروسيا وربما تخطينا لها في هذا المجال؟» أجاب كينيدي قائلا: «مهما سئم أحدهم، فلا يوجد من هو أشد سأما مني، سيستغرق الأمر بعض الوقت بالتأكيد. فلا نلبث أن نحسن الأمور وندفعها نحو الأفضل حتى يقع الأسوأ. سنمضي، مثلما آمل، في مجالات أخرى حيث يمكننا إحراز السبق والريادة؛ مجالات ربما ستعود بفوائد على البشرية على المدى البعيد. أما الآن، فلا نزال متخلفين عن الركب.»
في الأسابيع الأخيرة السابقة على ذلك، كان كينيدي قد تلقى ثلاثة تقارير. كان مستشاره العلمي، جيروم فيزنر الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، قد حذر من التركيز أكثر مما ينبغي على مشروع «ميركوري»؛ إذ لم يكن من الممكن هزيمة السوفييت بهذا المشروع، علاوة على أنه ينطوي على خطر قتل رائد الفضاء، ربما من خلال علوقه في مدار فضائي. دعا تقرير منفصل من تريفور جاردنر إلى أسلوب معاكس؛ حيث أوصى بتنفيذ برنامج مأهول كبير، تحت رعاية القوات الجوية، بالطبع. ناقشت الأكاديمية الوطنية للعلوم وجهة نظر ثالثة؛ حيث دعت لجنة برئاسة ليود بيركنر بحماس بالغ إلى إرسال رواد فضاء إلى القمر عبر ناسا. وسط هذه التوصيات المتضاربة، كان ثمة موضوع مشترك، ألا وهو: للفوز في سباق الفضاء، يجب ألا تقبل أمريكا بما هو أقل من إجراء عملية هبوط مأهولة على سطح القمر، وهي العملية التي سبقها إليها السوفييت على نحو رائع.
بعدها بيومين: في 14 أبريل، عندما توافد مواطنو موسكو إلى الميدان الأحمر للترحيب ببطلهم ترحيبا حارا، التقى كينيدي بمستشاريه. استمع إليهم، وهو يتمتم قائلا: «ربما لن نلحق بهم أبدا.» ثم استعاد حماسه قائلا: «دعونا نتأمل الأمر. هل ثمة أي مجال يمكننا اللحاق بهم فيه؟ ما الذي في وسعنا فعله؟ هل يمكننا أن ندور حول القمر قبلهم؟ هل يمكننا إرسال رائد فضاء إلى سطح القمر قبلهم؟ ماذا عن «روفر» و«نوفا»؟ («روفر» عبارة عن صاروخ نووي تجريبي، وهو أحد مشروعات هيئة الطاقة الذرية. انظر الفصل التاسع.) متي سيصبح «ساتورن» جاهزا؟ هل يمكننا تحقيق قفزة في هذا الشأن؟»
أشار درايدن من وكالة ناسا إلى أن أملهم الوحيد يتمثل في برنامج سريع يشبه مشروع «مانهاتن»، بيد أن برنامجا كهذا ربما يتكلف 40 مليار دولار أمريكي، وحتى ذلك الحين لم تكن فرصة الفوز في سباق الفضاء التي يطرحها هذا البرنامج تزيد عن خمسين في المائة. أجاب كينيدي قائلا: «التكلفة، هذا هو ما يقلقني.» فكر لحظة، ثم تابع قائلا: «عندما يتسنى لنا معرفة المزيد، أستطيع أن أقرر إن كان المشروع يستحق تكلفته أم لا. فقط لو أن شخصا في مقدوره أن يرشدني إلى كيفية اللحاق بهم! لنبحث عن شخص ما، أي شخص، لا أعبأ حتى إن كان هذا الشخص هو الحارس الواقف هناك، ما دام يعلم كيف نلحق بهم.»
توقف مرة أخرى لبرهة، محولا بصره من وجه إلى آخر، ثم أضاف في هدوء قائلا: «لا يوجد ما هو أكثر أهمية من ذلك.»
كانوا يجرون اجتماعاتهم في غرفة اجتماعات مجلس الوزراء في البيت الأبيض. وجه كينيدي الشكر إلى مساعديه لحضورهم، وطلب من ثيودور سورنسن - أحد المساعدين المؤتمنين - الانضمام إليه في مكتبه؛ وهناك تحدثا لمدة خمس دقائق ثم خرج سورنسن، وقال: «سنصعد إلى القمر.»
6
كان الرئيس قد اتخذ قراره بدافع حدسي؛ حيث كان يعلم أن التكلفة ستكون هائلة، لكنه قبل هذا التحدي باعتباره تحديا لا بد له من مواجهته، الآن وهنا. كان ينوي معرفة المزيد من زملائه الآخرين، ليتأكد من الأمر، لكن عندما فض الاجتماع، كان يدرك في قرارة نفسه ما يريد فعله. مع مرور أيام الأسبوع، انصرف انتباهه إلى مسألة منفصلة تماما، وهي عملية غزو ترعاها وكالة المخابرات المركزية لكوبا انطلاقا من خليج الخنازير.
شكل الغزاة قوة من اللاجئين الكوبيين المنفيين، أطلق عليهم كاسترو «جوسانوس»؛ أي الديدان. خطط ريتشارد بسل لتنفيذ العملية، مديرا إياها بأسلوبه الشخصي الذي سبق أن استخدمه مع برنامجي «كورونا» و«يو-2»؛ حيث وضع خطة صغيرة لتنفيذ عملية سرية يجري القيام بها من خلال غزو برمائي، في ظل دعم جوي. كانت وكالة الاستخبارات المركزية قد اتخذت خطوة مشابهة إلى حد ما في عام 1954، من خلال الإطاحة بإحدى الحكومات الماركسية في جواتيمالا؛ بيد أن كاسترو تعلم من ذلك، وأعد كوبا للتصدي لمثل هذا الهجوم. لم يؤد فشل هذه العملية إلى سقوط بسل فحسب، بل أيضا سقوط رئيسه ألين دالاس، مدير الوكالة.
كانت آمال بسل وكينيدي، ترتكز على الرأي القائل بأن الأجواء في كوبا كانت سانحة لاندلاع ثورة مضادة. أي قوة تستولي على رأس جسر ساحلي - حتى إن كانت قوة وليدة - يمكنها إعلان حكومة مؤقتة تحظى باعتراف أمريكا بها، وهو ما يفتح الباب أمام التقدم إلى هافانا. كان لدى وكالة الاستخبارات المركزية عملاء قليلون في كوبا (معظمهم اعتقل أو قتل رميا بالرصاص)، وعجزت عن إدراك نقطة غاية في الأهمية، ألا وهي أن شعوب تلك البلاد كانت فعليا على أتم الاستعداد للقتال من أجل كاسترو، والتضافر والاحتشاد من أجل مساندته ودعمه.
كان شعب كاسترو يعيش في فقر مدقع، وكان أميا، وتتفشى بين أفراده الأمراض. أخذ كاسترو يبني المدارس والعيادات الصحية، ويصادر أملاك الملاك غير المقيمين في أملاكهم. كذلك، قضى كاسترو على المافيا، التي كانت تدير هافانا كمدينة مفتوحة، تضم بيوت دعارة لا تتجاوز أعمار الفتيات فيها أربعة عشر عاما؛ لذا، عندما حاول لواء 2506 التابع لوكالة الاستخبارات المركزية مهاجمة خليج الخنازير ، لم يكن المدافعون عن الخليج في حاجة إلى سماع قيمة أن يموت المرء وطنيا، أو إلى تلقي خطب حماسية عن حب الوطن؛ كان يكفيهم معرفة أنه في حالة هزيمتهم، ستصبح بناتهم مرة أخرى عاهرات يمارسن البغاء مع السائحين الأمريكيين .
قدمت وكالة الاستخبارات المركزية دعما بالقدر الذي يكفي لزيادة اهتمام أمريكا بالأمر. مع ذلك، رفض كينيدي دعم الغزو بالقوة البحرية والجوية التي ربما كانت ستضمن تحقيق النجاح. منذ ما يزيد عن قرن مضى، كتب الشاعر البريطاني اللورد بايرون قائلا: «ألا تعلمون أن الذي يريد الحرية، عليه أن يحصل عليها بنفسه؟» لكنه ربما لم يكن يفكر في الناقلة البحرية «ريو إسكونديدو». كانت ناقلة القوات القديمة هذه غير مطلية وصدئة، وكان محركها صعب التشغيل وقاعها ممتلئا بالروائح الكريهة. كانت الناقلة تحمل مخزون الحملة الكامل من الذخيرة والجازولين والمؤن، وانفجرت مطلقة لسانا هائلا من اللهب عندما استهدفها طيار كوبي بصاروخ. مع ذلك، لم يكن لأحد أن ينكر أن أمريكا قد زودت جانبا واحدا على الأقل بأسلحة فعالة؛ إذ كانت الطائرة النفاثة التي يقودها الطيار الكوبي من الولايات المتحدة.
لم تكن هذه هزيمة شريفة، مثلما كانت الحال في الفلبين خلال الحرب العالمية الثانية أو في يالو في كوريا؛ كانت إهانة بالغة. كانت رحلة يوري جاجارين قد أوضحت القوة السوفييتية والضعف الأمريكي، لكن ها هي ذي الحقيقة الملموسة. كتب جيمس رستون من صحيفة «نيويورك تايمز» لاحقا يقول إن خروتشوف «كان سيتفهم لو أن كينيدي ترك كاسترو وشأنه أو قضى عليه، لكن بما أن كينيدي كان متهورا بالدرجة التي تجعله يوجه ضربة إلى كوبا لكنه يفتقر إلى الجرأة الكافية لإنهاء المهمة كما يجب، فقد أدرك خروتشوف أنه يتعامل مع قائد شاب غير متمرس يمكن تخويفه وابتزازه.»
7
مضى سباق الفضاء إلى الأمام كجزء من رد فعل واسع للغاية لحرب باردة صارت فجأة أكثر إثارة. لم يجد كينيدي بدا من الالتقاء بقادة الكونجرس، لاستشعار رد الفعل إزاء «أبولو» في كابيتول هيل؛ كان يريد من وزير الدفاع ماكنمارا أن يقدم وجهة نظر البنتاجون، وكان في حاجة إلى أن يعرف المزيد من ليندون جونسون مستشاره لشئون الفضاء. التقى كينيدي ليندون جونسون في 19 أبريل 1961، يوم فشل غزو كوبا، وأرسل إليه مذكرة في اليوم التالي: «هل لدينا أي فرصة لهزيمة السوفييت من خلال وضع مختبر في الفضاء، أو من خلال القيام برحلة حول القمر، أو عن طريق صاروخ يهبط على سطح القمر، أو من خلال صاروخ يصعد إلى القمر وعلى متنه إنسان ثم يعود إلى الأرض؟ هل ثمة أي برنامج فضاء آخر يبشر بتحقيق نتائج كبيرة نتفوق بها عليهم؟»
كان الأساس الفني الذي قامت عليه هذه المبادرات جيدا. كان «ساتورن» على وشك الخضوع لأول عملية إطلاق تجريبية في أكتوبر، بينما كان قد أجري اختبار لغرفة دفع محرك «إف-1» على منصة الإطلاق في أبريل. حقق محرك «إف-1» قوة دفع بلغت 1,64 مليون رطل، وهو ما يساوي تقريبا ضعف قوة الدفع الإجمالية في الصاروخ «آر-7». لكن، عندما رد ليندون جونسون على مذكرة كينيدي، في أواخر ذلك الشهر، شدد بصفة رئيسية على الموضوعات السياسية؛ ذكر بإيجاز «إمكانية تحقيق إنجازات تكنولوجية هائلة من خلال عملية استكشاف الفضاء»، لكنه كان يتعامل مع أهمية الفضاء باعتباره أداة من أدوات الحرب الباردة:
السوفييت متقدمون على الولايات المتحدة في المكانة العالمية التي تحققت من خلال الإنجازات التكنولوجية المبهرة في مجال الفضاء. يجب أن تتحلى هذه البلاد بالواقعية وتدرك أن الأمم الأخرى، بصرف النظر عن تقديرها لقيمنا المثالية، ستميل إلى الانحياز إلى جانب الدولة التي يعتقدون أنها ستكون الدولة الرائدة في العالم؛ الدولة المنتصرة على المدى الطويل. يشار إلى الإنجازات الهائلة في مجال الفضاء على نحو متزايد بوصفها أحد المؤشرات الرئيسية على الريادة العالمية.
إذا لم نبذل قصارى جهدنا الآن، فسيأتي سريعا وقت يميل فيه هامش السيطرة على الفضاء وعلى عقول الشعوب من خلال الإنجازات الفضائية إلى الجانب الروسي بدرجة كبيرة، حتى إننا لن نستطيع اللحاق به، فضلا عن تحقيق الريادة.
إن عمليات استكشاف القمر المأهولة، على سبيل المثال، ليست إنجازا ذا قيمة دعائية كبيرة فحسب، بل إنه ضروري أيضا بوصفه هدفا، سواء أكنا أول من يحقق هذا الهدف أم لا، وربما في وسعنا أن نكون أول من يحققه.
8
ثم بعدها بأسبوع، في 5 مايو، سجل مشروع «ميركوري» أول نجاح ذي قيمة سياسية . كان رائد الفضاء ألان شيبارد على متن الصاروخ «ردستون» في رحلة استمرت خمس عشرة دقيقة، بلغت ارتفاع 115 ميلا، ليكون بذلك أول أمريكي يصعد إلى الفضاء.
في الواقع، لم تكن الرحلة سوى مشروع «آدم» لفون براون، الذي كان درايدن قد استبعده قبل ثلاث سنوات بدعوى أنه ضرب من ألعاب السيرك البهلوانية. على الرغم من ذلك، ظل نموذج الصاروخ موجودا ليصير عنصرا في برنامج «ميركوري»، ولنفس السبب الذي كان قد دفع آيك إلى الاستعانة به لإطلاق أول قمر صناعي، ألا وهو أن هذا صاروخ متاح وجاهز ويمكن الاستعانة به في دعم عمليات إطلاق مهمة، قبل أن يصبح الصاروخ «أطلس» متوافرا وجاهزا لتنفيذ مهمات كبيرة. كان طاقم المشروع يأمل في ربيع ذلك العام أن تتاح الفرصة لأن يحمل الصاروخ «أطلس» رائد فضاء في مدار حول الأرض بنهاية عام 1961. لكن، في غمار تلك اللحظة الملحة، بدا الصاروخ «ردستون»، بمداه الذي بلغ ثلاثمائة ميل، الصاروخ الذي كان الجميع يحتاج إليه.
عرضت الشبكات التليفزيونية عملية الإطلاق وقدمت تغطية حية سرعان ما صارت تغطية قياسية، وهو ما كان يعني أن الجميع كان يشهد عملية الإطلاق؛ ومن ثم، لو كان الصاروخ قد انفجر، فإن العالم بأسره كان سيرى ذلك. قاطعت لحظة الإطلاق المثيرة سير الإجراءات القانونية في المحاكم؛ ففي أنديانابوليس، أمر أحد القضاة بوقف محاكمة للسماح للحاضرين في قاعة المحكمة بمشاهدة تليفزيون كان حرزا من أحراز حادث سرقة. في مختلف أنحاء البلاد، تقلصت حركة المرور على الطرق السريعة نظرا لتوقف مستخدميها إلى جانب الطريق للاستماع إلى المذياع. جذبت التغطية المباشرة انتباه الجميع؛ نظرا لأنه كان ثمة رجل على متن ذلك الصاروخ بالفعل. كانت البلاد كلها عن بكرة أبيها تصغي إلى صوت شيبارد الذي يأتي متقطعا عبر إشارة اللاسلكي:
شيبارد :
يظهر عبر التليسكوب منظر بديع، يا له من منظر رائع! تغطي السحب نحو ثلاثة إلى أربعة أعشار فلوريدا قرب الساحل الشرقي، ثم تحجب المنطقة تماما حتى هاتيراس.
غرفة التحكم في البعثة :
إنه يتحدث عن غطاء السحب مثلما شاهده تماما في خريطة الطقس.
شيبارد :
رأيت جزيرة أندروس توا، وشاهدت الشعاب المرجانية.
ربما كانت روسيا تمتلك الصواريخ الكبيرة، إلا أن أمريكا كان لديها أطقم عمل التليفزيون والسينما، وهو أمر من شأنه أن يقدم ميزة مؤثرة وقوية في معركة نيل المكانة العالمية. على حد تعبير صحيفة «إيفنينج نيوز» التي تصدر في مدينة لندن: «لقد فعلوها في وضح الدعاية المبهر.»
بعدها بثلاثة أسابيع، بعد ظهيرة 25 مايو، دخل كينيدي في دائرة الضوء نفسها عندما ألقى خطابا في جلسة مشتركة للكونجرس فيما سماه الرسالة الثانية لحالة الاتحاد. تناول خطابه، الذي كان يبث بثا مباشرا، عددا من الموضوعات، وقال فيه: «هذه أوقات استثنائية، ونحن بصدد تحد استثنائي.» تحدث عن الاقتصاد، مقترحا برنامجا جديدا للتدريب الوظيفي، وخصما ضريبيا لتشجيع الاستثمار، لكنه تحدث في جانب كبير من خطابه عن الحرب الباردة.
دعا كينيدي إلى إعداد الجيش وقوات المشاة البحرية (المارينز). حث المواطنين على بناء الملاجئ الآمنة للوقاية من الغبار الذري المتساقط من جراء الهجوم النووي. اقترح زيادة المعونة الخارجية، فضلا عن توفير مزيد من التمويل لإذاعة «صوت أمريكا» كوسيلة لمواجهة حرب الدعاية الشيوعية. وقرب نهاية الخطاب، قدم إلى ناسا ميثاق عملها والمهمة المنوطة بها التي بلورت دورها في العقود التي أعقبت ذلك:
إذا كنا نريد أن ننتصر في المعركة الدائرة في كل أرجاء العالم بين الحرية والطغيان، إذا كنا نريد أن ننتصر في معركة الظفر بعقول الناس؛ فقد أوضحت الإنجازات الهائلة التي تحققت في مجال الفضاء خلال الأسابيع الأخيرة لنا جميعا، مثلما أوضحت «سبوتنيك» في عام 1957، أثر هذه المغامرة على عقول البشر في كل مكان، الذين يحاولون أن يتخذوا قرارا بالطريق الذي عليهم أن يسلكوه.
حان الوقت الآن لاتخاذ خطوات أكبر، لتحقيق إنجاز أمريكي عظيم وجديد، لأن تلعب هذه الأمة دورا رائدا وواضحا في إنجازات الفضاء، الذي ربما سيكون من نواح كثيرة مفتاح مستقبلنا على الأرض.
أعتقد أن هذه الأمة يجب أن تلزم نفسها بتحقيق الهدف، قبل نهاية هذا العقد، وهو إنزال إنسان على سطح القمر والعودة به سالما إلى الأرض. لا يوجد مشروع فضائي واحد في هذه الفترة أكثر إثارة، أو أكثر إبهارا للبشرية، أو أكثر أهمية في مجال استكشاف الفضاء على المدى الطويل. وليس ثمة مشروع فضائي يستحيل تنفيذه لصعوبته أو ارتفاع تكاليفه.
9
كان اختيار هذا الهدف يلبي عدة متطلبات. كان الهدف يتجاوز قدرة الصواريخ في عام 1961، بما في ذلك الصاروخ «ساتورن»، وكانت موسكو ستحظى بميزة بسيطة بفضل ريادتها الحالية. كان الهدف يتطلب تطوير صواريخ من نوع جديد تماما، وهو ما قد يشمل أيضا الصاروخ «نوفا»؛ ومن ثم فمن شأنه أن يغير من شروط المنافسة؛ وعليه، فبدلا من أن يجعل الولايات المتحدة تسعى إلى اللحاق بقدرات الصاروخ «آر-7» في المستقبل القريب، كان على الاتحاد السوفييتي أن يحشد قدراته الفنية والصناعية إزاء قدرات صاروخية أكبر كثيرا للولايات المتحدة.
في الوقت نفسه، كان هدف الهبوط على سطح القمر هدفا يمكن إنجازه. لم يكن هذا الهدف يقبع في المستقبل البعيد، لكنه استغرق فترتين رئاسيتين فقط لتنفيذه. كان هذا المدى الزمني مهما جدا؛ إذ لم يكن كينيدي يريد الانتظار حتى عام 1975 لإنزال رواد فضاء على القمر، وهو ما كان عنصرا أساسيا في خطة ناسا التي كان آيك قد رفضها قبل خمسة أشهر فقط بسبب التكلفة. رفض كينيدي الخطة لسبب مختلف؛ إذ كان يعلم أن العامة لن يطيقوا صبرا حتى خمسة عشر عاما.
بالإضافة إلى ذلك، كان الهدف يتميز ببساطته وسهولة استيعابه. أشار فون براون إلى أن «الجميع يعرف ما هو القمر، الجميع يعرف ما هو هذا العقد، والجميع يمكنه التمييز بين رائد فضاء حي عاد من القمر وآخر لم يعد.»
أخبر جيروم ويسنر، المستشار العلمي لكينيدي، المؤرخ جون لوجسدون، قائلا: «لو كان في مقدور كينيدي التخلي عن برنامج فضائي كبير دون أن يضر قراره بمصلحة البلاد، فربما كان سيفعل. لعله كان طرازا مختلفا من الرجال، كان سيخاطب بلاده قائلا: «انظروا، سنمضي بطريقتنا. سندع الروسيين يسبقون. لا نأبه.» أعتقد أنه كان مقتنعا بأن الفضاء صار رمز القرن العشرين. اتخذ قراره بحسم بالغ. كان يعتقد أنه قرار صائب يصب في مصلحة البلاد.»
10
سار تطوير الصواريخ على غرار نمط يماثل نمط الإجراءات التنفيذية في برنامج الفضاء. كان ثمة تمييز واضح بين البرامج غير المأهولة التي يمكن استخدامها في تطبيقات عملية، وبين البرامج المأهولة الأكثر تكلفة التي تخدم أهدافا سياسية. برز تمييز مماثل بين الصواريخ المستخدمة في رحلات مأهولة، التي كانت أكبر حجما بكثير، والصواريخ العسكرية - مثل «مينتمان» و«بولاريس» - المصممة بحيث تكون صغيرة بما يتلاءم مع أحجام الصوامع والغواصات.
كانت موسكو متخلفة كثيرا في سعيها لتطوير هذه الصواريخ الصغيرة. في حقيقة الأمر، كانت لا تزال تركز جل اهتمامها على الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وكانت بصدد تطوير صاروخ جديد ضخم للغاية، وهو الصاروخ «آر-16». كان هذا المشروع محل اهتمام كبير لدى مارشال ميتروفان ندلن، أحد نائبي وزير الدفاع وقائد سلاح الصواريخ الاستراتيجية؛ إذ كان يستعد لخوض حرب نووية حرارية، وعلى غرار كيرتس لوماي، لم يكن يخفي رغبته في ذلك.
كان ندلن قد أشرف على اختبار أول قنبلة هيدروجينية حقيقية في بلاده، في 22 نوفمبر 1955. أسفر انفجار القنبلة عن 1,6 ميجا طن من الآثار الانفجارية، وهو ما يزيد بمائة مرة تقريبا عن الآثار الانفجارية لقنبلة هيروشيما. في مساء ذلك اليوم، أقام ندلن مأدبة ودعا مصمم الأسلحة أندريه سخاروف إلى اقتراح النخب الأول. قال سخاروف: «لنأمل أن تنفجر كل قنابلنا بنجاح مثل القنابل التي انفجرت اليوم، لكن ليكن انفجارها دوما فوق مواقع إجراء الاختبارات، لا فوق المدن.»
لم يعجب هذا النخب ندلن، الذي أجاب بقصة معبرة: «كان ثمة رجل عجوز يصلي أمام تمثال صغير، ويدعوه قائلا: «أرشدني، اشدد من عزيمتي. أرشدني، قوني.» سمعته زوجته وهو يتلو صلاته فقالت: «تصلي كي تصبح أكثر صلابة، أيها العجوز. أستطيع الاهتداء إلى هذا الأمر بنفسي».» نظر ندلن إلى الحضور وواصل قائلا: «لنحتس نخب أن يشتد عودنا ونصير أشد بأسا.»
11
شعر سخاروف بالغضب؛ إذ كان هذا الجنرال الواسع النفوذ قد أجاب ببذاءة ومجون على وجهات نظر كان خروتشوف نفسه يتبناها. بعدها بخمس سنوات ، دفع ندلن حياته ثمنا لعدم احترام قوة الأسلحة الحديثة.
صواريخ الجيل الثاني: صواريخ «مينتمان» و«بولاريس» (ثلاثة نماذج) و«تايتان 2» الأمريكية، الصاروخ «آر-16» السوفييتي. نماذج الصاروخ «بولاريس»، من اليسار: مدى يبلغ 1200 ميل بحري، جرى استخدامه في عام 1960؛ مدى 1500 ميل بحري، 1962؛ مدى 2500 ميل بحري، 1964 (دان جوتييه).
جاء ندلن إلى تيوراتام في أكتوبر 1960 لمشاهدة أول تجربة إطلاق للصاروخ «آر-16»، الذي كان سيحل محل الصاروخ «آر-7». بلغ طول الصاروخ مائة قدم، واستطاع إلقاء قنبلة على مسافة 6500 ميل بآثار انفجارية بلغت عشرة ميجا طن. لم يكن الصاروخ في ضخامة «آر-7»، لكنه كان لا يزال ضمن أكبر الصواريخ التي وصلت إلى مرحلة الاستخدام التشغيلي. كان الصاروخ من عمل أحد تلاميذ كوروليف الذين تلقوا التدريب والتوجيه على يديه، ويدعى ميخائيل فانجل، الذي كان يدير مركزا هندسيا مستقلا.
كان فانجل مهتما اهتماما كبيرا بأنواع الوقود القابلة للتخزين، بما في ذلك حمض النيتريك وهيدرازين، اللذان استخدمهما في الصاروخ «آر-16». كان كوروليف يرفض وقود حمض النيتريك باعتباره «سم الشيطان»؛ حيث كان يخشى استخدامه نظرا لسميته الشديدة. في حقيقة الأمر، كان وقود حمض النيتريك يتسبب في حروق شديدة عند ملامسته الجلد. لم تكن لدى فانجل هذه الهواجس؛ حيث كان يتوقع إمكانية الاستخدام الآمن له مع التزام الاحتياطات الاحترازية الصارمة. صمم الصاروخ «آر-16» من مرحلتين، مستخدما حمض النيتريك في محركات كلتا المرحلتين.
في منتصف شهر أكتوبر، قبل أيام قليلة من عملية الإطلاق، كان خروتشوف يزهو فخرا بقوة الصواريخ السوفييتية في خطاب أمام الأمم المتحدة. كان لديه العديد من الصواريخ المتوسطة المدى مثل الصاروخ «آر-5»، ولم يكن لديه سوى القليل من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات الجاهزة للإطلاق، هذا إن وجدت من الأساس، وربما كان على الصاروخ «آر-16» أن يقطع شوطا طويلا قبل أن تتوافق الحقيقة مع خطابه الرنان. كان الأمر إذن يمثل أهمية استثنائية، وفي ظل ما كان يمارسه خروتشوف من ضغوط هائلة على ندلن، ذهب ندلن إلى تيوراتام ليظهر اطلاعه على آخر التطورات. لم يبث حضور ندلن الطمأنينة في نفوس طاقم الإطلاق، بل جعلهم يشعرون بالتوتر، ويميلون أكثر إلى ارتكاب أخطاء.
ضخ الفنيون الوقود في الصاروخ، بينما كان ندلن وعدد من الأشخاص الآخرين يجلسون إلى مقاعد قرب الصاروخ. ظهرت مشكلات عند بدء العد التنازلي، واستلزم الأمر إجراء بعض الإصلاحات. كانت قواعد السلامة تتطلب عادة تصريف الوقود والمادة المؤكسدة، للحد من مخاطر اندلاع حريق، لكن لم يطق ندلن صبرا. أشار ندلن بنفسه على طاقم الإطلاق أن يتركوا الصاروخ ممتلئا بالوقود ويمضوا قدما في الإصلاحات. لم يغير هذا الإجراء، حتى عندما شرع بعض أفراد طاقم الإصلاح في استخدام مشاعل لحام، وهي ربما تؤدي إلى اشتعال أي وقود متسرب.
أرسلت إحدى وحدات التحكم إشارة إلى الصاروخ، ونظرا لوجود وصلة غير جيدة في الأسلاك، وصلت الإشارة إلى صاروخ المرحلة الثانية، وتسببت في اشتعال المحرك. اخترق لهب عادم صاروخ المرحلة الثانية صاروخ المرحلة الأولى كما لو أنه موقد لحام ضخم؛ مما أضرم فيه النيران. سرعان ما أحاطت كرة نار ضخمة بمنصة الإطلاق، مع تفكك الصاروخ وتسرب المزيد من الهيدرازين وحمض النيتريك، وهو ما ساعد بدوره في احتدام ألسنة النيران. لم يحترق حمض النيتريك عن آخره؛ إذ تبخر معظمه، مشكلا سحابة سامة ومسببة للتآكل تحدث ألما شديدا في الرئتين. وعلى حد تعبير أحد الناجين:
اندلع فجأة عمود كثيف من الدخان، حاجبا كل شيء حوله. كان الجميع يعدو نحو شرفة خاصة. لكن، كان في طريقهم قطاع مرصوف حديثا بالأسفلت؛ اندلعت ألسنة اللهب على الفور في القطاع، محتجزة الكثيرين وسط الأسفلت اللزج الساخن. لاحقا، كانت لا تزال ترى في الموقع أشلاء، ومواد غير قابلة للاحتراق مثل عملات معدنية، ومجموعة مفاتيح، ودبابيس، وأبازيم أحزمة. كذلك، لاقى الأشخاص الذين كانوا في المستويات العليا من برج الخدمة أسوأ حتف؛ فقد طوقتهم النيران وأضرمت بهم ألسنة لهب مثل لظى كثيف. لاحقا، كانت الجثث المحترقة معلقة في كل مكان على السلك الشائك الذي كان يحيط بالموقع.
12
كانت إحدى هذه الجثث هي جثة ندلن؛ إذ كانت ألسنة النيران قد أحاطت به بينما كان جالسا قرب الصاروخ. كان بعض العاملين في المستويات العليا من برج الخدمة يربطون حبالا لضمان السلامة، وها هم الآن يتدلون منها، بعد احتراق أجسادهم. مات كذلك الكثير من أبرز مساعدي يانجل، وفيهم نائبه. أكثر من مائة شخص لقوا حتفهم في هذا الحادث؛ مما جعله أسوأ كارثة في تاريخ دراسة الصواريخ وتصميمها.
كان يانجل قد قصد غرفة معزولة لإشعال سيجارة، وهو ما أنقذ حياته. قليل هم من حالفهم الحظ كما حالف يانجل. دفن المارشال ندلن في حائط الكرملين، وسط مراسم جنائزية رسمية مهيبة كاملة، بينما دفن معظم الآخرين في مقبرة جماعية في تيوراتام.
أحدثت الكارثة طفرة هائلة في الاهتمام بتدابير السلامة. جرى تأجيل رحلة جاجارين المدارية التي كان مقررا لها أن تنطلق في أواخر ديسمبر 1960 إلى الربيع، للسماح بإجراء المزيد من الاختبارات الإضافية باستخدام الكلاب. جرى بنجاح استئناف العمل في برنامج إطلاق الصاروخ «آر-16» في أوائل شهر فبراير؛ وهو ما جعل الصاروخ جاهزا لدخول الخدمة في عام 1962. وفي أعقاب عملية خليج الخنازير، التقى خروتشوف كينيدي في فيينا. خرج خروتشوف من الاجتماع مقتنعا من جديد بإمكانية الانتصار من خلال الترهيب، وهدد باستيلاء ألمانيا الشرقية على برلين الغربية.
كان كل من قرار كينيدي حول «أبولو»، والإجراءات الأخرى التي أعلنها في الخطاب نفسه، يمثل جزءا فقط من رد فعله. في أواخر شهر يونيو، طلب كينيدي توفير مزيد من التمويل لصالح البنتاجون، واستدعاء جنود الاحتياط، وزيادة عدد القوات القتالية، ومضاعفة عمليات استدعاء المواطنين للتطوع في الجيش بمقدار ثلاثة أضعاف، وإدخال تعديلات على الطائرات والسفن التي كانت مستبعدة من الخدمة. اتخذ خروتشوف خطوته في أغسطس ببناء حائط برلين، كما أجرى اختبارات لقنابل نووية ذات قدرات مرتفعة للغاية، وكان منها قنبلة تبلغ آثارها التفجيرية 50 ميجا طنا. لكنه لم يستول على برلين الغربية، بل عزلها من خلال الحائط؛ مما جعل الأزمة تهدأ تدريجيا. مع ذلك، شعر كينيدي أن عليه فعل المزيد؛ حيث تحول بناظريه إلى جنوب شرق آسيا. توقع الجنرال ليمان لمنيتسر، رئيس هيئة الأركان المشتركة، بأنه في حالة سقوط فيتنام الجنوبية، «سنفقد جميع دول آسيا حتى سنغافورة». في ديسمبر، أطلق كينيدي حملة تعبئة، فزادت التزاماته؛ إذ بعد أن كان مسئولا عن ثمانمائة مستشار، صار مسئولا عن ستة عشر ألف جندي في أرض المعركة.
في تلك الأثناء، كانت الخيارات الاستراتيجية تنفد من بين يدي خروتشوف. لم تتجاوز قوة القاذفات البعيدة المدى ثمانيا وخمسين قاذفة تعمل باستخدام المكابس، وستا وسبعين طائرة طراز «تي-يو 95»، تعمل بالمحركات المروحية التوربينية وبطيئة ويسهل إسقاطها من قبل الدفاعات الجوية الأمريكية. شرع خروتشوف في نشر صواريخ «آر-16»، لكن لم يكن لديه إلا عشرون صاروخا باليستيا عابرا للقارات؛ كان يستطيع مهاجمة الولايات المتحدة بنحو 220 سلاحا نوويا، لكن لم يكن الكثير منها سيبلغ هدفه.
كانت القوة الأمريكية هائلة؛ إذ كان لدى أمريكا 122 صاروخا باليستيا عابرا للقارات جاهزا للاستخدام، فضلا عن 1381 قاذفة نفاثة، كان نحو خمسيها تقريبا من طائرات «بي-52». كان لدى أمريكا أيضا ستون صاروخا طراز «ثور» في إنجلترا، وخمسة وأربعون صاروخا طراز «جوبيتر» في إيطاليا وتركيا، فضلا عن ثمانية وأربعين صاروخا طراز «بولاريس» على متن ثلاث غواصات جاهزة للانطلاق والمزيد في مخازن أسلحتها. كانت الآثار الانفجارية الجاهزة التي يمكن لأسلحة الولايات المتحدة إحداثها تقدر بحوالي 4000 ميجا طن. ووفقا لتقديرات هيئة الأركان المشتركة، كان يمكن لهذه القوة التدميرية أن تودي بحياة نصف مليار شخص، بزيادة ثمانين مرة عمن لقوا حتفهم في محرقة اليهود على يد النازيين (الهولوكوست).
مع ذلك، لم يستطع خروتشوف أن يفعل سوى شيء واحد لمواجهة حالة عدم التوازن هذه. في إطار من السرية، قرر خروتشوف أن ينشر أربعين صاروخا متوسط المدى في كوبا، لزيادة عدد الأسلحة التي يستطيع توجيهها مباشرة إلى الولايات المتحدة زيادة كبيرة. تمخض ذلك عن أزمة الصواريخ الكوبية في أكتوبر 1962. في غضون أيام قلائل، بات العالم قاب قوسين أو أدنى، عن أي وقت مضى، من اندلاع حرب نووية؛ إذ بدا أن المنطق المرعب وراء حرب تطوير الصواريخ والقذائف، التي كانت دائرة بلا هوادة منذ عام 1945، سيبلغ نهايته المنشودة.
كم اقتربنا في حقيقة الأمر من حرب عالمية ثالثة؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال من خلال الإشارة إلى حالة الأزمة التي اندلعت يوم السبت، 27 أكتوبر؛ أي قرابة أسبوعين بعد معرفة كينيدي بهذا الخطر الوشيك.
كان كينيدي قد فرض حظرا اقتصاديا على كوبا، وهو ما كان في حد ذاته ضربا من أعمال الحرب، لكن الصواريخ كانت قابعة هناك بالفعل، وكانت أطقم العمل تباشر عملها بحماس محموم لتجهيز الصواريخ. كان وزير الدفاع ماكنامارا مستعدا لشن ضربات جوية؛ إذ كان كرتيس لوماي قد صار آنذاك رئيس أركان القوات الجوية، وكان سيرحب بتنفيذ الضربة الجوية؛ بيد أن ماكنامارا أشار على كينيدي بأنه لا يضمن أن تستأصل تلك الضربات كل الصواريخ، وأعرب عن خشيته أنه في حال تبقي أي من تلك الصواريخ دون تدميرها، ربما يطلقها القادة على الفور ردا على الضربات الجوية، استنادا إلى مبدأ «استخدمه أو اخسره»، قبل أن توجه أمريكا ضربة ثانية.
كان ماكنامارا قد بنى أيضا قوة هائلة كانت على استعداد لغزو كوبا إذا أعطى كينيدي الإشارة. توقع محللو البنتاجون أن تتراوح الخسائر في الأرواح بين أربعين ألف أمريكي وخمسين ألف أمريكي.
كانت التحركات الدبلوماسية تقترب من بلوغ طريق مسدود؛ فقد أرسل خروتشوف رسالة شخصية في يوم الجمعة، مقترحا سحب الصواريخ مقابل وعد من الولايات المتحدة بألا تهاجم كوبا، وهو ما أحيا آمالا مؤقتة في إمكانية التوصل إلى تسوية. لكن جاءت في تلك الأثناء رسالة جديدة، أعدتها فيما يبدو إحدى اللجان، جعلت الشروط أكثر صرامة. كانت موسكو تصر آنذاك على أن واشنطن يجب أن تسحب صواريخ «جوبيتر» المنشورة في تركيا، أحد حلفاء الناتو. كان هذا شرطا غير مقبول؛ حيث كان يعني التخلي عن تركيا لحماية الولايات المتحدة، ومثل هذا الصنيع كان من شأنه أن يدمر التحالف داخل الناتو، الذي كان يعتمد على التزامات الدعم العسكري المتبادلة بين الدول الأعضاء.
أشار ماكجورج باندي، مستشار الأمن القومي، على كينيدي بتجاهل الرسالة الثانية والرد على الرسالة الأولى، منتقيا الشروط التي يراها أفضل. كانت تفوح من هذه الخطة الماكرة رائحة القنوط؛ الاستجابة إلى عرض لم يتقدم به خروتشوف. مع ذلك، كان الرد يمثل فرصة أخيرة للحل الدبلوماسي، من خلال تفادي رفض شروط موسكو في ذلك الوقت، الذي كان سيفضي إلى مضاعفة مخاطر الحرب.
قدم أعضاء هيئة الأركان المشتركة، وفيهم لوماي، توصياتهم الخاصة المتمثلة في توجيه ضربة جوية يوم الإثنين، تعقبها عملية غزو. أظهر كينيدي عدم اكتراثه قائلا: «ليست الخطوة الأولى هي ما يهمني، لكن ما يهمني حقيقة هو تصعيد حدة التوتر من قبل كلا الطرفين إلى الخطوة الرابعة والخامسة، حين لن يكون في مقدورنا أن ننتقل إلى الخطوة السادسة؛ إذ لن يكون ثمة أحد ليتخذ هذه الخطوة. يجب أن نذكر أنفسنا بأننا نسير في طريق غاية في الخطورة.»
صدق كينيدي على رد على رسالة خروتشوف وأرسله، وأعلن على الملأ قبوله شروط موسكو، ثم أخبر شقيقه روبرت السفير الروسي أن الوقت قصير جدا. لم تكن أمامه إلا سويعات قليلة؛ كان يتحتم على خروتشوف الرد في اليوم التالي.
في فلوريدا، كانت القوات الأمريكية مستعدة للتحرك؛ وفي كوبا، كانت القوات السوفييتية تجهز عشرين رأسا حربية نووية لوضعها في صواريخها. كان السوفييت يجهزون أيضا تسعة أسلحة نووية تكتيكية، وكان لقائد العمليات في كوبا صلاحية استخدامها. لم يكن كينيدي يعرف عنها شيئا. كان مستشاروه يعلمون أن خروتشوف نفسه كان أول من بادر برسم مبدأ بلاده في دخول الحرب.
كان هذا المبدأ يقضي بأنه إذا ما خاضت موسكو الحرب، كانت ستخوض حربا عالمية شاملة. ربما بدأ هذا المسار بصراع محلي تصاعدت حدته، لكن كان من «الحتمي» حدوث مزيد من التصعيد يصل إلى المستوى النووي، وهو ما كان من شأنه أن يؤدي إلى شن ضربات «متزامنة» ضد المدن فضلا عن الأهداف العسكرية، مع «أقصى» استخدام للأسلحة النووية من بداية الصراع. كانت الحرب تتضمن استخدام الاتحاد السوفييتي لمخزون القوة الضاربة الاستراتيجية بالكامل، ذاك المخزون الذي استخدمه الاتحاد السوفييتي من قبل.
كان اليوم لا يزال يوم السبت، وفي المساء عاد ماكنامارا إلى البنتاجون. كان يتساءل عن مرات غروب الشمس التي كان سيراها مرة أخرى.
حل صباح الأحد، مع إعلان من إذاعة موسكو. ربما كانت هذه هي الفرصة الأخيرة للسلام؛ إذا رفض خروتشوف الشروط الأمريكية، كان كينيدي مستعدا للرد يوم الإثنين من خلال توجيه ضربة جوية أولية إلى مواقع صواريخ أرض جو السوفييتية في كوبا، وهو ما ربما يشكل أولى خطواته نحو حرب نووية. ربما لم يتبق في العد التنازلي نحو حرب عالمية ثالثة إلا أربع وعشرون ساعة في عمر هذا العالم. قرأ مذيع الراديو السوفييتي رسالة خروتشوف:
من أجل القضاء بأسرع طريقة ممكنة على الصراع الذي يهدد قضية السلام، أصدرت حكومة الاتحاد السوفييتي - فضلا عن التوجيهات السابقة حول وقف إجراء المزيد من الأعمال في مواقع بناء الأسلحة - أمرا جديدا بإزالة الأسلحة التي تصفونها بأنها هجومية، وبأن يجري شحنها وإعادتها إلى الاتحاد السوفييتي.
13
انتهت الأزمة.
في ذلك المساء، تحدث آل كينيدي عن الأمر، وتذكر جون نهاية الحرب الأهلية قائلا: «ربما هذه هي الليلة المناسبة للذهاب إلى المسرح.» ضحك كينيدي وروبرت، ثم أضاف روبرت قائلا: «إذا كنت ستذهب إلى المسرح، فإنني أعتزم الذهاب معك.»
الفصل الثامن
علامة فارقة
سباق رحلات الفضاء المأهولة إلى القمر
عندما انطلق جون جلين رود في مدار فضائي في فبراير 1962، رأى الشمس ضخمة وساطعة، لم يكن لونها أصفر بل كان أبيض مائلا إلى الزرقة. غارت الشمس في اتجاه الأفق الساطع. وبينما هي تقترب، تحرك ظل أسود عبر الأرض وترك سطحها في ظلام. بدا الأفق بعدها أكثر وضوحا بكثير، مع تحول لونه من اللون الأبيض تقريبا إلى لون قوس قزح لامع امتد على جانبي الشمس لمئات الأميال، بطول انحناءة سطح الأرض.
هنا كانت الشمس نفسها مسطحة وذات لون أصفر مميز قبل أن تغيب عن الأنظار، كانت فوقها حلقات مشعة بلون برتقالي قزحي وذهبي لامع، تميزها ظلال السحب البعيدة، التي كانت بالألوان البني المائل إلى الحمرة، والأزرق الفاتح، والأزرق الداكن، ولون أرجواني فخم ورائع ممزوج بسواد الفضاء. كانت الألوان محددة بوضوح ومتوهجة ومفعمة بالضوء. مع استمرار تحليق مركبة فضاء جلين في الظل، ضاق نطاق غروب الشمس وحلقات الألوان، لكن ظلت حلقة ضوء ظاهرة لعدة دقائق، بلون أزرق رائع، حتى تحول كذلك اللون الأزرق للغسق إلى اللون الأسود.
ثم رأى يراعات مع شروق الشمس. وكانت حوله في كل مكان مجموعات هائلة من الجسيمات الصغيرة التي كانت تعكس الضوء، حتى دخل النطاق الكامل لضوء الشمس ولم يستطع تمييزها وسط ضوء الشمس الساطع، لكنه رأى اليراعات مرارا وتكرارا خلال لحظات شروق الشمس التالية، أعدادا هائلة منها كانت تبدو مثل رقاقات الثلج المضيئة؛ لم تكن هذه إلا قطعا صغيرة من الثلج تزحزحت عن سطح الكبسولة البارد، لكن جلين لم يكن يعرف هذا في البداية؛ كان الأمر بالنسبة إليه لغزا من ألغاز الفضاء.
تلت ذلك لحظة من الخطر، عندما رأى مسئولو محطة التحكم الأرضية إشارة إلى أن الدرع الحراري ربما انفصل قبل أوانه؛ إذا تسربت الغازات الساخنة وراء الدرع الواقي أثناء إعادة الولوج إلى المجال الجوي، كانت الغازات ستحرق جلين حيا. كان ثمة صاروخ ارتكاسي كابح مربوط إزاء الدرع، ومشدود الوثاق من خلال أربطة، ونبه مسئولو محطة التحكم الأرضية جلين إلى ألا يتخلص من حزمة هذا الصاروخ بعد إطلاق الصواريخ الارتكاسية الكابحة، بل يحتفظ بها كما هي. ساعدت الأربطة في إبقاء الدرع الحراري في موضعه. بيد أن الإشارة كانت خاطئة؛ لم تكن ثمة مشكلة في الدرع، وحمى الدرع المركبة أثناء ولوج الغلاف الجوي لإتمام عملية هبوط آمنة على سطح الماء.
نشأ جون جلين وسط البلدات الصغيرة في أوهايو، وهو ما أمده بعقيدة إيمانية قوية والتزام حقيقي وصادق نحو العائلة والوطن. أصبح طيارا حربيا في قوات المارينز؛ حيث شارك فيما يقرب من ستين مهمة في جزر مارشال خلال الحرب العالمية الثانية، ثم تخطى هذا الرقم في كوريا. هذه الخلفية أهلت جلين لتلقي تدريب كطيار اختبار. في عام 1957، بينما كان مسئول مشاريع في مشروع الطائرة «إف 8 يو كروسيدر» الجديدة، سجل جلين رقما قياسيا بالتحليق من لوس أنجلوس إلى نيويورك في أقل من ثلاث ساعات ونصف . تزوج جلين خلال مسيرته المهنية من حبيبته التي تقطن في مسقط رأسه، وحصل على وسام صليب الطيران المميز خمس مرات، ووصل إلى رتبة مقدم في الجيش.
لم تكن رحلة جلين المدارية قد بلغت بعد أفضل الرحلات المدارية الروسية؛ حيث كان أوجست جيرمان تيتوف، مساعد جاجارين، قد قضى أربعا وعشرين ساعة كاملة في الفضاء، وهو ما يمثل تفوقا واضحا على المدارات الثلاثة التي بلغها جلين والساعات الخمس التي قضاها في الفضاء. بيد أن بعثة جلين رسخت موقف أمريكا في سباق الفضاء، وفعلت البلاد كل ما في وسعها عند استقباله. استقل الرئيس كينيدي، الذي كان قد استقبل ألان شيبارد في البيت الأبيض في شهر مايو الماضي، طائرته متجها إلى كيب كانافيرال للترحيب بجلين في مقر عمله. قال كينيدي، الذي كان هو نفسه ضابطا في البحرية: «هذا محيط جديد، وأعتقد أن على الولايات المتحدة الإبحار فيه.»
في واشنطن، أدلى جلين بخطاب في جلسة مشتركة لأعضاء الكونجرس، وهو شرف لا يتأتى إلا للقليل من رؤساء الدول. ثم انتقل الموكب إلى مانهاتن، حيث احتشد أربعة ملايين شخص تعالت أصواتهم بصيحات التهليل والترحيب. سار الموكب في برودواي عبر ما بدا كما لو أنه عاصفة ثلجية في نهاية الشتاء، لكنه في الحقيقة لم يكن أكثر من سيل من الأوراق المتطايرة من نوافذ المكاتب ترحيبا بالموكب. كان هذا الموكب هو أبرز المواكب التي شهدت إلقاء شرائط ورقية على الإطلاق؛ حيث بلغ عدد الشرائط الورقية 3500 طن، وهو ما زاد كثيرا على الرقم السابق الذي بلغ 3249 طنا عند استقبال الجنرال دوجلاس ماكارثر في عام 1951.
كان زملاء جلين من رواد الفضاء وعائلاتهم في صحبته، ونزل الجميع في فندق والدورف-أستوريا، في أجنحة يحتوي كل منها على غرفتي نوم فاخرتين وغرفة معيشة فخمة . عادوا إلى برودواي لمشاهدة المسرحية الغنائية الناجحة الجديدة آنذاك «كيف تنجح في مجال الأعمال دون أن تحاول فعليا ذلك» من تأليف فرانك لويسر. تحولت المسرحية إلى عرض مسرحي بالأمر المباشر؛ حيث تخلى بعض أفراد الجمهور عن مقاعدهم المميزة، بينما أجلت شركة إنتاج المسرحية رفع الستار حتى وصول موكب جلين. كرم جلين في الأمم المتحدة، والتقى عمدة مدينة بيرث في أستراليا، الذي أضاء أنوار مدينته عندما كان جلين يمر بمركبته فوقها، والذي سافر إلى نيويورك خصوصا للترحيب به للحظات قصيرة. ثم عاد الموكب إلى أوهايو لتلقي مزيد من الترحيب من الأشخاص الذين كانوا على معرفة أكبر به.
كان من المقرر عرض الكبسولة التي استقلها في متحف سميثونيان مع طائرة «سبيريت أوف سانت لويس» التي حلق بها لندبرج. في يوتا، وظهرت حركة أضافت حرف
n
ثان (على غرار اسم جلين
Glenn )، إلى سد وادي جلين الذي كان بناؤه قد اكتمل جزئيا. كما أرسل نيكيتا خروتشوف تحياته، مثلما فعل غيره من رؤساء الدول الذين كان يزيد عددهم على ثلاثين رئيسا. وجاءت رسالة من الفنان بابلو بيكاسو: «إنني فخور به كما لو أنه أخي.»
أظهر جلين خلال ذلك كله لباقة فطرية وتواضعا وهدوءا، وتجاوز مسئولي واشنطن المتملقين، الذين هللوا عندما قال: «لا يزال يخالجني شعور يصعب تحديده عندما أرى العلم يرفرف أمام ناظري.» تكيف جلين على مضض مع الاهتمام المستمر الذي أولاه ليندون جونسون. كان يبتسم ابتسامات عريضة أثناء سيره في الموكب، وكان يدير رأسه نحو الجموع مثلما كان يفعل كينيدي عند خوض حملاته الانتخابية. كان الخبراء يعدونه لتولي مناصب سياسية عليا. وصار جلين عضوا في الكونجرس عن ولايته الأم.
مثلت هذه الرحلة نقطة فارقة خلال الأعوام التي تلت قرار كينيدي بإرسال إنسان إلى القمر. بالإضافة إلى ذلك، تحقق إنجاز جلين في إطار مؤسسة ناسا التي كانت تشهد توسعا سريعا. خلال النصف الثاني من عام 1961، التزمت ناسا بدعم «أبولو» من خلال بناء أربعة مراكز ومنشآت جديدة كبرى، جميعها في تكساس وفي الجنوب العميق. تحقق في المواقع الجديدة شرط نقل صواريخ التعزيز الكبرى على طرق مائية خالية من الثلوج؛ إذ كانت تلك الصواريخ أكبر كثيرا من أن يتسنى نقلها من خلال خطوط السكك الحديدية أو الطرق السريعة. عكست هذه المواقع أيضا سياسة كينيدي لضخ التمويل الفيدرالي إلى الجنوب، وهو إقليم كان مؤيدا للحزب الديمقراطي بقوة، وكان متخلفا اقتصاديا عن سائر أقاليم البلاد. بالإضافة إلى ذلك، كانت هذه السياسة تلبي حاجات بارونات الجنوب من رجال الكونجرس الذين كانوا يسيطرون على لجان مهمة في مجلسي النواب والشيوخ.
في أغسطس، شرعت ناسا في جهود بناء المنشآت بالإعلان عن إقامة ميناء فضائي للصعود إلى القمر على مساحة 125 ميلا مربعا من الأرض على جزيرة ميريت، شمال كيب كانافيرال. كان موقع كيب كانافيرال نفسه يتضمن العديد من منصات الإطلاق للصواريخ الموجودة، بما فيها صاروخ رو الباليستي العابر للقارات؛ حيث كانت توجد منصات ضخمة قرب المحيط، على مسافة لا تزيد عن بضع مئات من الياردات. بيد أن برنامج «أبولو» كان يحتاج إلى مسافة أكبر؛ كانت قاعدته على جزيرة ميريت تتمحور حول مبنى تجميع المركبات، الأكبر من نوعه في العالم، حيث كان حجمه الإجمالي 130 مليون قدم مكعبة. كان الحيز الهائل داخل المبنى يوفر مساحات كافية لإجراء عمليات تجميع وفحص متزامنة لأربعة صواريخ قمرية.
كانت ناسا تحتاج أيضا إلى مصنع تستطيع من خلاله الشركات الصناعية المتعاقدة تجميع صواريخ المرحلة الأولى. وكانت الحكومة تمتلك مصنعا جيدا، وهو مصنع ميشو قرب نيو أورلينز، الذي كان يطل على نهر المسيسبي. شيد المصنع خلال فترة الحرب لإنتاج سفن «ليبرتي»، وكان حجمه ضخما حقا؛ حيث كان حجم الحيز بين جنباته يزيد عن 1,8 مليون قدم مكعبة، وهو ما كان يعادل ألف منزل في مناطق الضواحي.
بالإضافة إلى ذلك، كانت الصواريخ المرحلية المكتملة تتطلب إجراء اختبارات استاتيكية في موقع قرب مصنع ميشو الذي كان يوفر حيزا عازلا كبيرا. لم يكن مركز مارشال لرحلات الفضاء في هانتسفيل يصلح لذلك؛ فبعد إجراء الاختبارات الأولية على الصاروخ «ساتورن» الذي كان يتضمن ثمانية محركات، تعالت أصوات الشكاوى من سكان المدينة حتى باتت تحاكي في ارتفاعها صوت انطلاق الصواريخ نفسها. وجد فون براون ضالته في نهر بيرل في ولاية مسيسبي، على مسافة خمسة وثلاثين ميلا فقط من مصنع ميشو. كانت أرض الموقع عبارة عن أرض منبسطة من غابات الصنوبر، ولم يكن يقطنها سوى عدد قليل من السكان، وكان يسهل الاستحواذ عليها بحق الاستملاك العام. بالإضافة إلى ذلك، كان النهر يوفر وسيلة انتقال عبر المياه العميقة.
في مبادرة رابعة، خصصت ناسا لمشروع «أبولو» قاعدة مؤسسية ضمن مركز جديد للمركبات الفضائية المأهولة. كان أعضاء فريق برنامج «ميركوري»، الذين كان يطلق عليهم مجموعة العمل المعنية بشئون الفضاء، قد عملوا في إطار مركز لانجلي البحثي التابع لناسا قرب نورفولك بولاية فرجينيا. كان هذا المركز أقدم مركز من نوعه لوكالة ناسا، وكان يعود تاريخه إلى الأيام الأولى لعمل اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الفضائية. لكن لم تكن مساحة المركز تسمح بإجراء توسعات، وذلك في الوقت الذي كانت مجموعة العمل المعنية بشئون الفضاء تمثل نواة يتوقع لها أن تنمو في حجمها وأنشطتها لتدير أنشطة «أبولو» بأكملها. كان الفريق يحتاج إلى مركز مستقل، وكان يفضل أن يكون مركزا كبيرا، وأبدت شركة «هامبل أويل» استعدادها للتبرع بقطعة أرض كبيرة في تكساس، على مسافة عشرين ميلا من هيوستن، وهو ما لم يكن يتوافق مع احتياجات ناسا فحسب، بل يتوافق أيضا مع وفد تكساس في واشنطن، الذي كان يتضمن نائب الرئيس جونسون ورئيس مجلس النواب سام رايبيرن. في سبتمبر 1961، أعلن مدير الوكالة الجديد، جيمس ويب، أنه سيبني في هذا المكان «مركز قيادة مركبات الفضاء المأهولة للهبوط على سطح القمر، وبعثات الرحلات الفضائية المأهولة التالية لذلك».
وسط هذا الزخم الهائل من الأنشطة، وجد فون براون نفسه في وضع غير معتاد يجبره على التراجع بخططه في ذات الوقت الذي صار فيه حلم الهبوط على سطح القمر سياسة وطنية. كان فون براون يتوقع أن ينجز هذه المهمة باستخدام صاروخ على غرار «نوفا» يشتمل على ثمانية محركات بقوة دفع مقدارها اثنا عشر مليون رطل. لكن استبعدت هذه الخطة؛ إذ لم يتسن تطوير الصاروخ «نوفا» خلال ذلك العقد، وهو ما كان كينيدي يصر عليه. تجلى هذا الأمر بوضوح مع اختيار مصنع ميشو في سبتمبر؛ إذ كان سقف المصنع منخفضا للغاية بما لا يتسع لصاروخ «نوفا» الضخم للمرحلة الأولى، حتى عند وضعه على جانبه.
لم يكن ثمة فهم واضح لكيفية سد الفجوة بين الصاروخ «ساتورن» الصغير للدرجة التي لا تسمح له بالقيام برحلة للهبوط على سطح القمر، والصاروخ «نوفا» بحجمه الكبير للغاية. في ناسا وفي مركز هانتسفيل، كان معدو التصميمات يتوقعون تطوير صاروخ متوسط الحجم، يحتوي صاروخ المرحلة الأولى فيه على أربعة محركات طراز «إف-1» بدلا من ثمانية. كان الهبوط على سطح القمر يستلزم صاروخين بهذه المواصفات، بحيث يحمل كل منهما نصف مركبة قمرية، بينما يجمع رواد الفضاء الجزأين معا في المدار الفضائي. لكن، على مدى النصف الثاني من عام 1961، كانت مسألة تصميم هذا الصاروخ التعزيزي محل نقاش واسع.
مع ذلك، كانت ثمة عناصر كبرى أخرى في البرنامج تحظى بالاهتمام، بما في ذلك المركبة الفضائية القمرية وصاروخ المرحلة الثانية في الصاروخ الرئيسي، «إس-2». تصدرت شركة «نورث أمريكان أفياشن» جهود تصميم الصاروخين. لم تستعن الشركة بخبرتها في بناء الصاروخ «نافاهو» لبناء قاعدة فنية قوية فحسب، بل انتزعت الصدارة في بناء القاذفات التابعة للقوات الجوية من شركة «بوينج». في عام 1957، كانت شركة «نورث أمريكان أفياشن» قد ظفرت بعقد بناء الطائرة «إكس بي-70»، وهي طائرة بسرعة 3 ماخ يمكن وصفها بأنها صاروخ «نافاهو» على متنه طاقم طيران. بالإضافة إلى ذلك، بنت الشركة الطائرة «إكس-15»، التي نال طياروها مرتبة رواد فضاء أكثر من مرة ببلوغهم ارتفاعات وصلت إلى سبعة وستين ميلا. كان السبب الرئيسي وراء تلك الإنجازات هو هاريسون «ستورمي» ستورمز، رئيس قسم الفضاء في الشركة.
نشأ ستورمز - شأنه شأن ويليام بولاي - في منطقة شيكاجو واتخذ المسار نفسه في معظمه؛ حيث تخرج في جامعة نورثوسترن، ثم انضم إلى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا و«ثيودور فون كارمان»، ثم إلى شركة «نورث أمريكان ». لكن، في حين صار بولاي معروفا بوصفه مديرا فنيا، صار ستورمز معروفا بوصفه مصمم طائرات. خلال الحرب العالمية الثانية، قدم ستورمز إسهاما حقيقيا من خلال إدارة عملية تركيب خزان وقود في جسم الطائرة «بي-51 موستانج»، وهو ما كان أكثر من مجرد مهمة هندسية روتينية؛ إذ تبين أنها كانت مفتاحا إلى النصر. استعاد سلاح لوفتفافا تفوقه الجوي على ألمانيا؛ لأن الطائرات المقاتلة التابعة للحلفاء لم يكن مداها يسمح بمرافقة القاذفات، لكن من خلال الخزانات الجديدة، استطاعت طائرات «بي-51» مرافقة القاذفات طوال الطريق إلى برلين. عندما رأى هيرمان جورينج أن القاذفات التي كانت تغير على مدينته تطير الآن في رفقة طائرات مقاتلة، أخبر معاونيه أن «الحرب انتهت».
مضى ستورمز في ترسيخ شهرته بتصميم سلسلة من الطائرات غير المسبوقة التي كانت تنافس طائرات كيلي جونسون من شركة «لوكهيد». تولى ستورمز تصميم ديناميكا الهواء للطائرة «بي-45»، وهي الطائرة النفاثة الأولى التي أنتجت أولا. تولى ستورمز المسئولية الكاملة عن تصميم الطائرة «إف-100»، وهي أول طائرة مقاتلة تكسر حاجز الصوت في مجال الطيران الأفقي المستوي. أظهر ستورمز قدرة مماثلة على القيادة في تصميم الطائرتين «إكس-15» و«إكس بي-70».
كانت سيرة ستورمز الذاتية تشير إلى اشتراكه الفعال في عدد من المشروعات بلغ إجماليها ثمانية وأربعين مشروع طيران ومركبة فضاء في مسار حياته المهنية، بدءا من الطائرة «إيه تي-6» التدريبية التي تعتمد على المكابس وحتى المكوك الفضائي، وهو ما يعني أنه كان سريع التعلم واستطاع أن يقدم إسهامات فعالة خلال العقود المثيرة التي شهدت تقدما سريعا؛ حيث توالت البرامج الجديدة الواحد تلو الآخر في تتابع سريع. بالإضافة إلى ذلك، كان طبعه يتلاءم مع هذه الفرص؛ قال الناس عنه: «بينما كان الآخرون يترددون، كان هاريسون ينطلق عاصفا ويغتنم الفرصة.» وكان يحيط نفسه بمجموعة منتقاة من المساعدين كانوا يطلقون على أنفسهم، بفخر، «قوات ستورم».
لم يكن تصميم صاروخ المرحلة الأولى من الصاروخ الرئيسي محسوما بعد، عندما أرسل فون براون إخطارات إلى مجموعات صناعة المركبات الفضائية والطائرات، داعيا إياها للتنافس في اقتراح تصميمات صاروخ المرحلة الثانية. كانت مرحلة مهمة للغاية، حيث كانت تتضمن دفع مكونات البعثة القمرية في مدار أرضي. كانت قوات ستورم شغوفة بإجراء محاولة للظفر بالعقد، لكن لم يكن لديهم سوى عشرة أسابيع لإعداد المقترح، الذي كان يتضمن ملء كومة من المستندات يصل ارتفاعها إلى قدمين.
يتذكر بيل إيزل من شركة «روكيت داين»، الذي شارك في المشروع، قائلا: «قضينا ليالي طوالا في ملء المستندات. كانت القهوة لنا بمنزلة الوقود الذي يحركنا. اجتمعنا جميعا في غرفة كبيرة؛ كان الأشخاص الذين لديهم مكاتب مستلقين على الأرض، يساعدون في الكتابة. كنا نبدأ في السابعة صباحا ونستمر حتى منتصف الليل.» كان المشاركون في المشروع يجرون العمليات الحسابية ويعدون التصميمات؛ إذ كانوا يكتبون مسودات على ورق مربع ومسطر ويرسلونها إلى كاتب على الآلة الكاتبة. يقول إيزل: «كانت ثمة فترات للكتابة، وفترات للمراجعة، وفترات لنقد عمل كل للآخر، ثم المزيد من أعمال الكتابة.»
1
كان تقليص الوزن أمرا غاية في الأهمية، ووجد هؤلاء طريقة جديدة لإنجاز ذلك. كانت الطائرة «إس-2» عبارة عن مجموعة من خزانات وقود الهيدروجين والأكسجين السائل، مزودة بخمسة محركات طراز «جيه-2» لتوفير قوة دفع مقدارها مليون رطل، ولإحكام غلق هذه السوائل الشديدة البرودة، كان يتعين عزل هذه الخزانات؛ وكان الأسلوب التقليدي للقيام بذلك يقتضي وضع الوقود داخل الخزانات، بيد أن مصممي ستورمز رأوا أنهم يستطيعون جعل صاروخ المرحلة أخف وزنا بوضع طبقة العزل خارج الخزانات. كان من المتوقع أن يصير معدن الخزانات المصنوع من الألومنيوم أكثر قوة عند تلامسه مع محتويات الخزانات الشديدة البرودة؛ لذا كان يتعين تقليل كمية الألومنيوم وتقليص الوزن في الطائرة «إس-2» حتى تتمكن من نقل حمولتها. في حقيقة الأمر، كان التصور المبدئي للطائرة أن سمكها سيكون رقيقا للغاية، ووزنها سيزيد عن مليون رطل عند تزويدها بكمية الوقود الكاملة، بيد أن وزنها سيصبح خفيفا بما يكفي لحملها على متن شاحنة خاصة عندما تكون فارغة. أفضى أسلوب التصميم المبتكر هذا إلى الفوز في المنافسة، ثم الفوز في شهر سبتمبر بالعقد.
كان إرساء العقد يؤكد وضع شركة «نورث أمريكان أفياشن» بوصفها شركة رائدة في مجال الصواريخ والفضاء. كانت الشركة قد ابتكرت في وقت سابق طريقة لقياس وزن المركبة النهائي بالرطل من خلال وزن معدن هيكل المركبة؛ كان أسلوب قياسها الجديد يتضمن إجراء عمليات هندسية لساعات عمل طويلة. في حقيقة الأمر، كانت أعمال البحث والتطوير هي السبب في أكثر من 70 في المائة من مبيعاتها. في إطار جهود «أبولو»، حصلت الشركة على عقود تنفيذ المحركين الرئيسيين، «إف-1» و«جيه-2»، وها هي ستبني مرحلة «إس-2» أيضا. مع ذلك، كان ستورمز يعتقد أن في مقدوره الظفر بالمزيد من العقود؛ حيث سعى إلى الحصول على عقد لبناء المركبة القمرية المأهولة.
حانت لحظة اتخاذ القرار بعد عيد الشكر مباشرة؛ إذ عقدت لجنة اختيار مقارنة بين عرض شركة «نورث أمريكان» وبين عروض الشركات الأربع الأخرى المنافسة. جاءت شركة «مارتن» في المقدمة، وعندما تسربت أنباء عن ذلك، سمع موظفو الشركة إعلانا عبر نظام الإذاعة الداخلية يفيد بأن الشركة فازت بالعقد. علم الموظفون بالحقيقة في اليوم التالي: أرسي العقد على شركة «نورث أمريكان». كان عرض شركة «مارتن» أقوى قليلا، بيد أن اللجنة اختارت شركة «نورث أمريكان» لكونها تمتلك أفضل المؤهلات الفنية، مشيرة إلى مشروعات مثل «نافاهو» و«إكس-15»؛ لذلك أوصت اللجنة باختيار هذه الشركة باعتبارها أفضل بديل. بالإضافة إلى ذلك، كان قادة ناسا يفضلون هذه الشركة لأنهم عملوا معها عن كثب في مشروع «إكس-15». لكن، هذا النجاح الأخير فاجأ الجميع وفيهم ستورمز نفسه الذي قال مرارا وتكرارا: «لا أستطيع أن أصدق ذلك.» فاق عدد عقود الشركة مع وكالة ناسا آنذاك إجمالي عدد عقود أقرب شركتين منافستين لها.
في تلك الأثناء، كان فون براون يحاول وضع تصورات لشكل صاروخ المرحلة الأولى من الصاروخ الرئيسي للهبوط على سطح القمر. في سبتمبر 1961، دعا فون براون ممثلين عن صناعة الفضاء والطيران إلى اجتماع في قاعة مجلس مدينة هانتسفيل. طلب فون براون من الحاضرين اقتراح تصميمات لصاروخ «ساتورن» متطور، يكون أصغر حجما من «نوفا» لكنه يظل مع ذلك قادرا على تنفيذ بعثة الهبوط على سطح القمر. أخبر فون براون الحاضرين قائلا: «الهبوط على سطح القمر هو محور تركيزنا الحالي، خطوتنا الكبيرة نحو السفر المأهول عبر الفضاء. لكن الأمر لن يتوقف عند ذلك الحد؛ لن تكون الحمولة هي الشغل الشاغل في الصاروخ «ساتورن» المتطور؛ فما هو إلا شاحنة كبيرة لزيادة قدرة هذه البلاد على نقل حمولة إلى الفضاء.»
كان من بين الحاضرين جورج ستونر، وهو مسئول رفيع في قسم الفضاء التابع لشركة «بوينج» في سياتل. عندما عاد ستونر إلى مقر الشركة، تذكر ستونر تلك الكلمات معانقا مديريه: «يقول فون براون إن الصاروخ «ساتورن» المتطور شاحنة. إنه كذلك فعلا؛ فهو نظام لوجيستي فضائي. لنر أثقل الأغراض التي يمكن لأي شاحنة أو قارب أو قطار أن يحملها على متنه. لنر ما إذا كنا نستطيع بناء الصاروخ «ساتورن» الذي يكون في مقدوره نقل حمولة ثقيلة على هذا النحو خارج نطاق الجاذبية الأرضية.»
2
وجد ستونر أن أقسام الحمولة التقليدية على متن السفن تحمل ما يصل إلى مائة ألف رطل، وهو ما كان يعادل تقريبا حمولة عربات قطارات السكك الحديدية وطائرات الشحن الأثقل حمولة، وما يعادل أيضا سبعين ألف رطل تقريبا بالنسبة إلى الشاحنات الكبيرة. كان في مقدور الصاروخ «ساتورن» المتطور المشتمل على خمسة محركات طراز «إف-1» نقل مثل هذه الحمولة. كان من المقرر أن تبلغ قوة دفعه 7,5 ملايين رطل، وأن يتمكن من نقل حمولة زنتها تسعون ألف رطل إلى القمر. بالإضافة إلى ذلك، كان من الممكن تطوير صاروخ كهذا خلال عقد الستينيات من القرن العشرين. قدم فريق ستونر تصميما مبدئيا، وقرر بحماس بالغ التوصية باستخدام هذا النموذج ذي المحركات الخمسة.
كان عمل الفريق يتفق مع آراء ميلتون روزن، الذي كان قد بنى الصاروخ «فايكنج» منذ وقت طويل، وصار مدير ناسا لمركبات الإطلاق. في وقت مبكر يعود إلى مارس 1961، قبل شهرين من خطاب كينيدي أمام الكونجرس، كان روزن قد أوصى بقوة أن يتضمن صاروخ المرحلة الأولى هذا خمسة محركات بدلا من أربعة . ظفر روزن بدعم ويليام مرازك، أحد أهم مصممي الصواريخ في هانتسفيل، واستطاعا معا إقناع فون براون بوجهة نظرهما. كنقطة أساسية في عملية الإقناع، أشارا ضمن نقاط الإقناع الأساسية إلى سهولة إضافة المحرك الإضافي. كان من المقرر وضع المحركات الأربعة من طراز «إف-1» على طرفي العمودين المتقاطعين الثقيلين في قاعدة الصاروخ، بينما كان سيجري وضع المحرك الخامس في المنتصف، عند نقطة تلاقي العمودين.
قبل أعياد الكريسماس بأحد عشر يوما، أصدر فون براون قراره. جاء القرار عبر صلصلة الآلة الكاتبة في مكتب ليزل وود، رئيس ستونر في شركة «بوينج». كانت الرسالة تنص على أن هذه الشركة قد وقع عليها الاختيار للتعاقد على بناء أربعة وعشرين صاروخ «ساتورن» متطورة كصواريخ تعزيزية. سرعان ما كان فون براون على الهاتف، مؤكدا الأنباء: سار الصاروخ على نهج مقترح ستونر كصاروخ يشتمل على خمسة محركات يستطيع نقل حمولة عربة قطار سكك حديدية كاملة إلى القمر، واختير لاسم الصاروخ الذي سيتألف من ثلاث مراحل، بما فيها المرحلة الأولى، «ساتورن 5»، ويحمل معه آمال الرئيس كينيدي.
اتفق مديرو ناسا بصفة عامة على أنه لما كان من الجيد إجراء عمليتي الانطلاق والهبوط على سطح القمر من خلال عملية إطلاق واحدة، فلا يوجد سوى الصاروخ «نوفا» الذي يستطيع تنفيذ ذلك. كان الصاروخ «ساتورن 5» الأصغر حجما يتطلب إجراء عمليتي إطلاق، إحداهما لإطلاق المركبة الفضائية القمرية المأهولة، والأخرى لإطلاق صاروخ المرحلة الذي سيؤدي إلى انطلاق المركبة خارج مجال المدار الأرضي إلى القمر. وكان يتعين أن تتلاقى المركبتان في الفضاء وتتصلان معا، وهو ما كان يشير بوضوح إلى أن الأمر يتطلب مهارات طيارين تتجاوز مهارات رواد فضاء مركبة «ميركوري» بكثير. لم يكن من الممكن إرسال قرد في هذه البعثة؛ لأنها كانت تتطلب عناية وحذرا على قدر ما في عمليات إعادة التزود بالوقود أثناء الطيران التي تجريها القوات الجوية؛ حيث تجد طائرة قاذفة خزانا في السماء الخالية وتتلقى حمولاتها من الوقود.
لكن في مجموعة المهام الفضائية، وفي شركة «ماكدونل إيركرافت» التي بنت كبسولات «ميركوري»، كان ثمة عدد من الأشخاص يدرسون التصميمات المتطورة التي كان يمكن من خلالها تطوير الصاروخ «ميركوري»، مع تدريب رواد الفضاء على ريادة مركبة «أبولو». في ديسمبر حققت هذه الخطط ثمارها؛ إذ أعلنت ناسا أن الخطوة التالية بعد «ميركوري» ستتضمن مركبة على متنها شخصان، واسمها «جيميني». كانت البعثة ستتضمن تطوير خبرات في جميع المهارات المطلوبة في بعثة هبوط على سطح القمر، مثل أطقم عمل في مدار فضائي، والتقاء، والتحام أو اقتران، وعمليات سير في الفضاء، ورحلات فضائية تصل مدتها إلى أربعة عشر يوما، وعمليات تحكم أرضية لعدة مركبات فضائية. على وجه التحديد، سيحدث التحام بين مركبة «جيميني» وأحد صواريخ «أجينا» المرحلية المطلقة في مدار محدد ودفعه إلى مدار أعلى، وهو ما سيحاكي العملية الأساسية في الرحلة القادمة إلى القمر.
خلال هذا الشهر نفسه شهر ديسمبر الحافل بالأحداث، تلقت شركة «دوجلاس إيركرافت» عقدا لتنفيذ المرحلة الثالثة من الصاروخ «ساتورن 5»؛ «إس-4 بي». كانت شركة «دوجلاس» تبني المرحلة الثانية من الصاروخ «ساتورن»، وهو الصاروخ «إس-4» الذي يشتمل على ستة محركات طراز «سينتاور». كان التصميم الجديد سيستخدم محرك «جيه-2» واحدا بدلا من محركات «سينتاور». كان هذا التصميم يمثل طفرة في الحجم، من «ساتورن» إلى «ساتورن 5»؛ ذلك أن صاروخ المرحلة الثانية من الصاروخ «ساتورن» - حتى مع تزويده بالمحرك الجديد الذي تبلغ قوة دفعه مائتي ألف رطل - لم يكن يستخدم إلا كصاروخ مرحلة ثالثة في الصاروخ «ساتورن 5».
في تلك الأثناء، كانت ناسا قد انتهت من وضع المخطط المبدئي لجهود التطوير، الذي ضاهى خلال ستة أشهر فقط ذروة جهود البنتاجون لتطوير الصواريخ في الفترة بين عامي 1954 و1956. أسفرت الجهود الأولى عن إقامة ثلاث مؤسسات جديدة، هي «رامو وولدريدج» وقسم التطوير الغربي ومكتب المشروعات الخاصة الخاضع لإشراف الأدميرال رابورن، وستة برامج: «أطلس»، و«تايتان»، و«ثور»، و«جوبيتر»، و«بولاريس» الذي يتضمن غواصات فئة «جورج واشنطن»، وصاروخ «دبليو إس-117إل» الذي يشتمل على صاروخ المرحلة العليا «أجينا».
بلغ عدد المؤسسات المنبثقة عن ناسا وقتها أربع مؤسسات، وعدد المشروعات الجديدة خمسة. تضمنت المؤسسات الجديدة ميناء جزيرة ميريت القمري، ومركز المركبات الفضائية المأهولة في هيوستن، ومنشأة اختبارات المسيسبي للاختبارات الاستاتيكية للمراحل الكاملة، ومصنع ميشو المختص بتجميعها. شملت المشروعات الجديدة، التي كانت جميعها مشروطة بعقود تنتهي بنهاية العام، مشروع «جيميني» ومركبة «أبولو» الفضائية للهبوط على سطح القمر، وثلاثة صواريخ مرحلية للصاروخ «ساتورن 5»، كل منها يمثل جهدا عظيما في حد ذاته. استطاعت أيضا وكالة ناسا الفخر بإرثها من وكالة المشروعات البحثية المتقدمة والجيش، متمثلا في مركز مارشال لرحلات الفضاء وبرنامج «ساتورن» التابع له، ومختبر الدفع النفاث، ومحركي «إف-1» و«جيه-2». كان ذلك يمثل بلا شك قفزة عملاقة، ربما للإنسانية لكن بكل تأكيد لناسا أيضا.
لكن، اعتبارا من أوائل عام 1962، كان الصاروخ موجودا كتصميم على الورق أكثر منه نموذجا فعليا وملموسا. كانت محركات الصاروخ الكبير تهدر على منصات الاختبارات؛ حيث كان محرك «إف-1» يشتمل على مضخات توربينية خاصة، ودار أول محرك طراز «جيه-2» بنهاية شهر يناير. بالإضافة إلى ذلك، كان محرك «ساتورن» الذي يشتمل على ثمانية محركات قد أبلى بلاء رائعا عند إطلاقه في أكتوبر؛ إذ إنه على الرغم من انطلاقه لمسافة لا تكاد تزيد عن مائتي ميل من مركز كيب إلى اتجاه المسار، وضعت قوة دفعه التي بلغت 1,5 مليون رطل الولايات المتحدة في صدارة القوة الصاروخية للمرة الأولى. لكن، لم تكن إقامة منشآت «أبولو» الجديدة بهذه السلاسة دائما.
كان مصنع ميشو مثالا مباشرا على ذلك وفي صلب الموضوع؛ فقد سمي المصنع على اسم الثري أنطوان ميشو في نيو أورلينز، وهو تاجر خردة وشخص منعزل كان يملك أرض المصنع. كانت الحكومة قد تركت الأرض دون استخدام منذ عام 1954 كما لو كانت تحافظ على ماضيها الفوضوي، وكان الوضع مزريا؛ فقد كانت الأرض مرتعا للفئران وقذرة من جراء فيضان حديث. أشار الكاتب المتخصص في شئون الطيران روبرت سترلينج إلى «بيوت العناكب، والأتربة، والقاذورات، والشقوق والتصدعات الأرضية، والأعمدة الصدئة، والرافعات العليا المتآكلة». مع ذلك، كل ما كانت تحتاج إليه هذه الأرض، التي تبلغ مساحتها ثلاثة وأربعين فدانا، هو عملية تنظيف جيدة. كان الوضع في منشأة اختبارات المسيسبي أسوأ.
كانت منشأة اختبارات المسيسبي تحتوي على طين من نهر المسيسبي، وشجيرات سرو مشبعة بالرطوبة، وثعابين سامة، وكميات هائلة من الناموس. كان من بين مناطق الترفيه المحلية مستنقع الشيطان وجدول النمر الميت، بينما كانت توجد بعض الحيوانات البرية التي من بينها خنازير برية تنحدر في أصولها إلى خنازير مزارع محلية. كانت منصة الاختبارات الرئيسية تتطلب ألفا وستمائة عمود لإرساء الأساس، يبلغ طول كل منها مائة قدم، وزاد الطين بلة عندما هطلت الأمطار بغزارة شديدة ذات شتاء، مسجلة رقما قياسيا غير مسبوق منذ ثلاثين عاما. كان من المخطط أن يبلغ ارتفاع منصة الاختبار أكثر من أربعمائة قدم، وهو ما كان يجعلها المنشأة الأطول في ولاية مسيسبي، بيد أن تجهيزها بحيث تصبح صالحة للاستخدام قد استمر حتى عام 1966. مع ذلك، لم يكن الأمر سيئا من جميع الأوجه؛ حيث لم يكن العلاج من عضة الثعابين يتكلف أكثر من 1,25 دولار أمريكي.
على الرغم من ذلك، ظل برنامج «أبولو» في عام 1962 من البرامج التي يستطيع شخص واحد من خلاله أن يصنع فارقا كبيرا، وذلك على الرغم من سرعة إيقاع العمل في البرنامج وضخامة حجمه. كان ذلك الرجل هو جون هوبولت، أحد المديرين في مختبر لانجلي التابع لناسا الذي كان قد فرغ من إجراء تحقيق ناجح حول سبب فقدان طائرات «إلكترا» التي تصنعها شركة «لوكهيد» للأجنحة أثناء الطيران. في عام 1959، في ظل خطط ما بعد الصاروخ «ميركوري» في جدول الأعمال، شكل هوبولت لجنة لبحث مشكلات تتعلق بالتقاء المركبات. كان هذا أسلوبا مميزا. في عالم لم يكن فيه أحد يمتلك أي نوع من الخبرة العملية في مجال البعثات المأهولة، كان من المهم انتقاء الأشخاص المميزين بدلا من البحث دون جدوى عن اختصاصيين متمرسين.
كان عمل هوبولت الأساسي يركز على عمليات الاتصال بمحطة فضائية، لكنه توسع في ذلك ليشمل الأمر البعثات القمرية، وصار فريق عمله يمثل نقطة جذب لكل من له اهتمام في لانجلي بأساليب التقاء المركبات الفضائية. ثم في مايو 1960، قدم إليه أحد الزملاء أسلوبا جديدا في «أبولو» يختص بالتقاء المركبات الفضائية في المدارات القمرية. كان الأسلوب يتعارض بشدة مع الأساليب التي كانت تستحوذ على الاهتمام الأكبر، وبدا كما لو كان يتضمن مميزات هائلة.
كانت أساليب الالتقاء التقليدية تتضمن مركبة قمرية مأهولة كبيرة تلج في مدار حول القمر، وتهبط على سطحه، ثم تعود إلى الأرض. كان أحد الصواريخ التعزيزية للصاروخ «نوفا» يستطيع إرسال المركبة القمرية إلى القمر مباشرة. كانت الصواريخ التعزيزية الأصغر، بما فيها الصاروخ «ساتورن 5» في صورته النهائية، تبدأ بإطلاق المركبة القمرية في مدار حول الأرض، لتلتقي مع صاروخ مرحلة كبير يتطلب عملية إطلاق منفصلة. لكن، بعد عملية الالتقاء هذه التي تتم في المدار الأرضي، كانت المركبة القمرية تضم جميع الرواد الموجودين على متنها معا خلال بقية البعثة.
كانت عمليات الالتقاء في مدارات قمرية تتطلب ولوج المركبة الفضائية في مدار حول القمر، دون هبوطها على سطحه. لكن بدلا من ذلك، كانت المركبة الفضائية ستصبح بمنزلة سفينة أم، ترسل مركبة هبوط صغيرة تحمل رائدي فضاء إلى سطح القمر ثم تعيدهما، بينما يظل رائد فضاء ثالث في المركبة الأم في مدارها حول القمر؛ ومن ثم، كان يتعين التقاء سفينة الهبوط هذه مع مركبتها الأم، في عملية صعبة تتم على مسافة ربع مليون ميل من الأرض.
لكن نظرا لأن جزءا واحدا فقط من المركبة القمرية كان سيتوجه إلى سطح القمر ويعود منه، تعين الحد كثيرا من المتطلبات العامة من الوقود المستخدم في المركبة؛ ومن ثم، صار من الممكن استخدام مركبة أصغر حجما وأخف وزنا. وفي ظل هذا التوفير في الحجم والوزن والوقود، لم تكن ثمة حاجة إلى إطلاق صاروخين إلى القمر من موقع كيب كانافيرال لتنفيذ بعثة واحدة على سطح القمر، بل صار إطلاق صاروخ واحد من هذين الصاروخين كافيا.
كان هوبولت يدرك منذ البداية أنه في سبيله إلى تحقيق شيء مهم؛ كتب لاحقا يقول: «لا أزال أذكر نوع الحسابات التي كنت أجريها على «ظهر المظروف» لضمان أن تسفر الخطة عن توفير هائل في متطلبات وقود الصواريخ التعزيزية حول الأرض. على نحو عفوي تقريبا، صار واضحا أن عمليات الالتقاء بين المركبات في مدار قمري قدمت سلسلة متتابعة من التبسيط لجميع الإجراءات السابقة عليها في مجال التطوير والاختبار والتصنيع والتنصيب والعد التنازلي وعمليات الطيران ... إلخ. كل تلك الإجراءات جرى تبسيطها. جالت الفكرة بخاطري، ووجدتني أقول لنفسي: «هذا رائع. إذا كانت ثمة أي فكرة نريد الترويج لها، فإنها لا شك هذه الفكرة!» أقسمت على أن أكرس جهودي لتنفيذ الفكرة.»
3
شرع هوبولت في العمل بحماس بالغ، حاثا طاقم عمله على وضع تصميمات جديدة وإجراء حسابات جديدة، مع الإعلان عن الجهود المبذولة من خلال تقديم بيانات موجزة وعروض تقديمية إلى كل من يهمه الأمر. صادف هوبولت موجة شك عارمة، وكان بعضها من اختلاقه. في غمرة حماسه لتصميم مركبة صغيرة جدا تهبط على سطح القمر، أيد تصورات مثل تصميم مركبة يعززها صاروخ يركب على متنها رائد فضاء يرتدي حلة فضائية خاصة، بينما يجلس دون أي غطاء يحميه، مثل بحار في قارب نجاة. بيد أن هوبولت واجه أيضا فرضية قوية تمثلت في أن عمليات الالتحام يجب أن تجري في مدار أرضي، ومن ثم يستطيع رواد الفضاء - في حال فشل إحدى عمليات الالتقاء - الهبوط على سطح القمر من خلال عملية بسيطة تتضمن معاودة الولوج إلى المجال الجوي. لكن في المقابل، كان فشل عملية الالتقاء في مدار قمري يعني احتجاز رواد الفضاء دون أي سبيل للعودة إلى الأرض، ليلقوا حتفهم في مركبة تدور في مدار حول القمر تصير كفنا لهم.
كان هدف هوبولت الأصلي يتمثل في الحصول على دعم مجموعة العمل المعنية بشئون الفضاء في مركز لانجلي، التي كانت مسئولة عن إجراء عمليات التخطيط لمشروع «أبولو». سرعان ما صار مدير المجموعة، روبرت جيلروث، رئيسا لمركز المركبات الفضائية المأهولة، لكنه اعترض على كل التصورات الخاصة بعمليات الالتقاء؛ نظرا لأنه رأى أنها ستصرف التركيز عن بساطة أسلوب الصعود المباشر، أو مثلما صاغها قائلا: «أخشى أن تستخدم خطط الالتقاء كركيزة لوضع تواريخ محددة سلفا لتوفر صواريخ الإطلاق، وأن يجري تجنب صعوبة تطوير صاروخ إطلاق فعال من فئة صواريخ نوفا.»
عندما تراجع الاهتمام بالصاروخ «نوفا»، صرف جيلروث انتباهه إلى عمليات الالتقاء في المدارات الأرضية، لكن مع دراسة مجموعة العمل المعنية بشئون الفضاء لعمليات الالتقاء ، اكتسبت عيوب تلك العمليات أهمية جديدة، بينما صارت مزايا أفكار هوبولت أكثر وضوحا. في حقيقة الأمر، لم تكن ثمة طريقة جيدة للتأكد من أن تتمكن المركبة القمرية الكبيرة - بعد إجراء عمليتي إطلاق للصاروخ «ساتورن 5» لتجميع أجزاء البعثة الفضائية في مدار أرضي - من الهبوط بسلام على سطح القمر، مع الاحتفاظ بكمية كافية من الوقود تستطيع معها العودة إلى الأرض. قال ماكس فاجت، وهو مصمم رائد ضمن مجموعة المهام الفضائية، إن أفضل شيء في أسلوب هوبولت على النقيض من ذلك «أنه سمح لنا ببناء مركبة منفصلة لإجراء عملية الهبوط». بحلول نهاية عام 1961، كان جيلروث وفاجت وبقية أعضاء مجموعة المهام الفضائية في صف هوبولت تماما.
جاء دعم إضافي من مقر ناسا؛ حيث أظهر مدير مشارك جديد يدعى روبرت سيمانز اهتماما كبيرا بعمليات الالتقاء. في «آر سي إيه»، كان سيمانز قد أشرف على دراسات حول الاستخدامات العسكرية لعمليات الالتقاء، لتدمير الأقمار الصناعية التابعة للعدو. في ناسا، علم سيمانز بجهود هوبولت خلال خريف عام 1960 ومنحه تشجيعا كبيرا، ثم في يوليو عام 1961، اختار سيمانز مساعدا فنيا يدعى نيكولاس جولوفين لرئاسة لجنة تتولى اقتراح أسلوب التقاء في مشروع «أبولو». تضمن تقرير اللجنة، الذي صدر في نوفمبر، كلمات طيبة حول أفكار هوبولت، لكنه أكد على الفكرة التقليدية من خلال التوصية بإجراء عملية التقاء في مدار أرضي.
لم يكن هوبولت راضيا عن التقرير. ربما كان سيمانز يشغل أحد أهم المناصب في ناسا، لكن هوبولت كان يتخطى سلسلة القيادة بالكتابة إليه مباشرة، وها هو يفعل هذا مجددا؛ حيث كتب إليه خطابا واصفا نفسه بأنه «صوت منفرد لا يسانده أحد، ينتابه الذعر من التفكير في الأفراد واللجان»، وتساءل هوبولت قائلا: «هل نريد أن نذهب إلى القمر أم لا؟» رد سيمانز على هوبولت بخطاب خاص، مشيرا إلى أن موضوعات هوبولت «تستحق دراسة جادة»، كما أثنى على نشاط هوبولت ومبادرته قائلا: «سيكون لتقييد قدرات أطقم عملنا المؤهلة من خلال اللوائح المقيدة مردود سيئ وضرر بالغ على مؤسساتنا وبلادنا.»
لم يكن هذا تصديقا على أسلوب هوبولت، بل كان يعني أن سيمانز كان سيحرص على أن يحظى أسلوب هوبولت بدراسة مفصلة في صناعة المركبات الفضائية. بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من أن جيلروث قد غير رأيه لينحاز إلى دعم عمليات الالتقاء في مدارات قمرية، كان فون براون لا يزال يروج بشدة لإجراء عمليات الالتقاء في مدارات أرضية. كان من الضروري أن يتفقا على رأي واحد، وكانت الدراسات الجديدة سببا في اقتناع فون براون أيضا وتغيير رأيه؛ ففي لقاء مهم في يونيو 1962، أعلن فون براون عن تغيير رأيه. انضم مركز مارشال لرحلات الفضاء، الذي كان فون براون يديره، إلى مركز المركبات الفضائية المأهولة الذي كان تحت قيادة جيلروث لدعم إجراء عملية التقاء في مدار قمري باعتبارها عاملا أساسيا في نجاح «أبولو».
كان لا يزال ثمة بعض الأشخاص المهمين المعارضين لإجراء عملية الالتقاء في مدار قمري، وكان أبرزهم جيروم فيزنر، المستشار العلمي للرئيس كينيدي. أقنع فيزنر جولوفين بترك سيمانز والعمل لديه. شن الرجلان هجوما عنيفا على قرار ناسا، وفي شهر سبتمبر، عندما حل كينيدي ضيفا على مارشال وسمع فون براون يصف أسلوب الالتقاء في مدار قمري، قال: «أتفهم أن الدكتور فيزنر لا يوافق على هذا التصور. أين جيري؟» تقدم جيري إلى الأمام، وناقش الموضوع مع فون براون أمام جميع الصحفيين حتى طلب منهما الرئيس أن ينتقلا إلى موضوعات أخرى.
تسببت معارضة فيزنر في تأخير تنفيذ ناسا لقرارها النهائي عدة أشهر، بيد أن مدير الوكالة، جيمس ويب، تشبث بموقفه. كان ويب مدير الميزانية لدى هاري ترومان، وكان يعلم بحصوله على ثقة كينيدي. تلاشى التحدي الذي كان يمثله فيزنر خلال شهر أكتوبر، ثم أكد ويب على التزامه على نحو جلي بإرساء عقد مركبة إنزال على سطح القمر. استقر الخيار على شركة «جرومان إيركرافت»، التي كان كبار مديريها قد حصلوا على ميزة إحراز السبق من خلال المساهمة في جهود هوبولت منذ عام 1960. في ظل إرساء هذا العقد على الشركة، في نوفمبر 1962، اتضحت الأمور بشأن العنصر الرئيسي الأخير في مشروع «أبولو ».
ساهم قرار مهم آخر، اتخذ خلال عام 1963، في تشكيل خطورة، إلا أنه ساعد في الإسراع كثيرا من تنفيذ المشروع. تضمن القرار التزاما بإجراء «عملية اختبار شامل»، بحيث يجري اختبار جميع الصواريخ المرحلية التي يشتمل عليها الصاروخ «ساتورن» اعتبارا من رحلة إطلاقه الأولى. كان الأسلوب التقليدي يقتضي إجراء عملية إطلاق أولية باستخدام صاروخ المرحلة الأولى فقط، تعقبها عمليات إطلاق لاحقة يجري من خلالها اختبار صاروخي المرحلتين الثانية والثالثة على التوالي. كان الصاروخ «ساتورن» الذي يشتمل على ثمانية محركات يسير على هذا المنوال؛ إذ استخدمت صواريخ تجريبية كمراحل عليا في أربع رحلات تجريبية في الفترة ما بين عامي 1961 و1963، ولم يحلق هذا الصاروخ التعزيزي باستخدام صاروخ مرحلة ثانية حقيقي حتى يناير 1964. لكن، على الرغم من أن عمليات الاختبار الشاملة هذه قد وضعت جميع مكونات الصاروخ «ساتورن 5» في سلة واحدة، فإن إجراء الاختبارات على هذا النحو كان سيمثل ضغطا كبيرا على جدولها الزمني، هذا في حال نجحت الاختبارات.
كان نموذج المركبة نتاج خبرة جورج مولر، الذي قاد جهود تطوير مركبات السبر القمرية «بايونير» لصالح القوات الجوية، عندما كانت عمليات تطوير هذه المركبات لا تزال في بداياتها حول العالم. تولى مولر مسئولية مماثلة في مشروع «أبولو»؛ حيث استعان به ويب كمدير مشارك في برنامج رحلات الفضاء المأهولة التابع لناسا. كان مولر قد أدخل مفهوم الاختبارات الشاملة في برنامج «مينتمان». عند إطلاقه لأول مرة في أوائل عام 1961، كان الصاروخ الرئيسي قد أطلق صواريخ المراحل الثلاث وحلق في مدى كامل، مستقطعا عاما كاملا من الجدول الزمني للبرنامج. فعل مولر شيئا مماثلا مع الصاروخ «تايتان 2»، وهو صاروخ باليستي عابر للقارات مكون من صاروخين مرحليين، كان يستخدم الوقود السائل. حقق الصاروخ نجاحا مشابها بعدها بعام.
عند توليه المسئولية في سبتمبر 1963، وجد مولر نفسه تحت ضغوط هائلة لخفض التكاليف. استجاب مولر إلى ذلك بما أطلق عليه ويب «خطوة جريئة جدا»؛ إذ أصدر مولر بعد شهرين تعليمات بأن تتضمن رحلة «ساتورن 5» الأولى جميع الصواريخ المرحلية الحقيقية، وأن يحمل نموذجا كاملا من مركبة «أبولو». ارتاب طاقم عمل فون براون في الأمر؛ ففي إطار عالمهم الذي كان يتضمن إجراءات حذرة وتدريجية، لم يكن من الممكن تنفيذ هذه التعليمات ببساطة؛ بيد أن فون براون أرسل ردا بعد تعليمات مولر بأسبوع قائلا: «لا يوجد سبب جوهري يعوقنا عن إطلاق «الصاروخ بكامل مراحله» في رحلة الإطلاق التجريبية الأولى.» كان هذا الإجراء أسلوبا مكملا لأسلوب هوبولت في عمليات الالتقاء في مدارات قمرية، وكلاهما أفضى بدوره إلى تحقيق نجاح كامل خلال ذلك العقد.
مع ذلك، بينما كانت ناسا تخطط لإجراء عمليات التقاء، كان كوروليف يبرهن على معرفته بكيفية إجراء تلك العمليات. كانت الرحلات المدارية التي قام بها يوري جاجارين وجيرمان تيتوف، خلال عام 1961، قد أكملت أهلية مركبته الفضائية القابلة للاسترجاع؛ إذ كانت المركبة جاهزة للاستخدام سواء مثل قمر «زينيت» الصناعي الاستطلاعي أم مركبة «فوستوك» المأهولة. بدأت رحلات «زينيت» في ديسمبر 1961، وعلى مدى العقدين التاليين وصل نحو أربعمائة مركبة منها إلى مدار حول الأرض. بالإضافة إلى ذلك، أتبع كوروليف رحلة تيتوف التي استغرقت يوما كاملا بإرسال مركبتي «فوستوك» إلى الفضاء في الوقت نفسه.
بدأت البعثة في 11 أغسطس 1962، عندما انطلق رائد الفضاء الروسي أندريان نيكولاييف في مدار من موقع تيوراتام، وفي اليوم التالي، قام بافل بوبوفيتش بالأمر نفسه. كان مسار المدار الذي انطلق فيه يتطابق كثيرا مع مركبة نيكولاييف؛ حيث كانت مركبته تميل بنفس درجة الميل التي بلغت خمسا وستين درجة عن خط الاستواء، وكان الفارق بينهما في الارتفاع يتراوح بين ثلاثة وأربعة كيلومترات فقط. استطاع طاقم الإطلاق ضبط التوقيت تماما؛ حيث سمحوا للمركبتين بالتقارب على مسافة تقل عن خمسة كيلومترات، وفوق ذلك كله، ظل نيكولاييف في الفضاء لأربعة أيام تقريبا قبل أن يعود إلى الأرض.
كان استعراضا رائعا في الدقة؛ ففي ظل تحليق المركبتين في مداريهما بسرعة ثمانية كيلومترات في الثانية، كان أي تأخير في عملية الإطلاق بمقدار ثوان معدودة من شأنه أن يؤجل هذا الالتقاء الوشيك إلى أجل غير مسمى ويجعله أمرا بعيد المنال. كانت مركبات «فوستوك» تحتاج إلى جهاز رادار وصواريخ مناورة على متنها لإجراء عمليات الضبط الدقيقة لمسار الرحلة اللازمة لإجراء عملية التقاء حقيقية. لكن، كان ثمة شرط أساسي يتطلب البرهنة على إمكانية إطلاق صاروخ تعزيزي في لحظة معينة، وتوجيهه نحو مدار محدد سلفا. أثبتت هذه البعثة أن الصاروخ «آر-7» الذي صممه كوروليف كان على المستوى المطلوب.
في يونيو 1963، كرر كوروليف هذه الرحلة المزدوجة، وكان أحد رائدي الفضاء في هذه الرحلة امرأة تدعى فالنتينا تريشكوفا. كان الجنرال نيكولاي كامانين، رئيس إدارة تدريب رواد الفضاء الروسيين، قد أمر بأن يشمل هذا الالتزام السوفييتي فكرة المساواة بين الجنسين، لكنها كانت نظرة محدودة. كان ثمة رواد فضاء آخرون هم في الأساس طيارو طائرات نفاثة، في حين لم تكن تريشكوفا على دراية بما هو أكثر من القفز الحر بالمظلات. تلقت تريشكوفا مهمة بوصفها ملازما في القوات الجوية، وحصلت على تدريب شامل وموسع في قيادة طائرات «ميج» ذات المقعدين، لكنها لم تقد طائرة قط بمفردها.
لكن، لم تكن مؤهلاتها السياسية تشوبها أية شائبة؛ فقد ولدت في عام 1937 في مزرعة جماعية قرب مدينة ياروسلافل. مات والدها، الذي كان سائق جرار، وهو يحارب الألمان. انتقلت العائلة بعد ذلك إلى المدينة، حيث عملت أمها في مصنع. تخرجت تريشكوفا في المدرسة الثانوية ثم حصلت على وظيفة في مصنع نسيج. كان ثمة فرع لرابطة الشباب الشيوعي في المصنع، فصارت عضوا نشطا؛ حيث شغلت منصب سكرتيرة الفرع. بعد رحلة جاجارين، كتبت خطابا تعبر فيه عن أملها في أن تخرج هي الأخرى في رحلة عبر الفضاء. لفت هذا الخطاب انتباه إحدى لجان الاختيار التي كان يرأسها الجنرال كامانين، والتي اختارتها مع أربع نساء أخريات باعتبارهن يمثلن الكتلة النسائية ليتلقين تدريبات على ريادة الفضاء.
أثبتت تريشكوفا خلال مهمتها أن تدريبها كان شاملا حقا. كانت ترسل عبارات عبر جهاز اللاسلكي بصورة متكررة تقول فيها: «تحياتي الحارة من الفضاء إلى رابطة الشباب الشيوعي اللينينية المجيدة التي احتضنتني. كل شيء جميل حدث لي أدين بالفضل فيه إلى حزبنا الشيوعي.» ظلت في الفضاء ثلاثة أيام، وهو ما أكد خروتشوف على أنه يمثل فترة أطول من جميع الرحلات الأمريكية مجتمعة، ثم هبطت إلى الأرض باستخدام الطيار الآلي لإعادة الولوج إلى الغلاف الجوي.
عادت تريشكوفا إلى موسكو في الوقت المحدد لإلقاء كلمة في اجتماع في الكرملين للمؤتمر العالمي للمرأة، ثم انطلقت في جولة حول العالم شملت الهند وباكستان فضلا عن الولايات المتحدة. عند عودتها إلى بلادها، وقع في غرامها زميلها رائد الفضاء الروسي نيكولاييف؛ فتزوجا في شهر نوفمبر، وكان زواجهما آنذاك محط اهتمام كبير في موسم المناسبات الاجتماعية الكبرى في موسكو. كانت العروس حاملا في شهرها الثاني.
في أمريكا، ساهمت رحلة تريشكوفا في تجديد مشاعر الخوف من التفوق الروسي، في ظل ثناء الكتاب والقادة السياسيين على المساواة بين الجنسين في روسيا. لكن، حسبما قال زوجها لاحقا بعد عام: «إننا الآن نبقي نساءنا على الأرض؛ فنحن نحب نساءنا كثيرا، ونتحمل عنهم قدر ما نستطيع.» كانت تريشكوفا هي المرأة الوحيدة التي سافرت فعليا عبر الفضاء، ولم تحلق أي امرأة سوفييتية أخرى في مدار فضائي حتى عام 1982. انهار زواجها، وعلى الرغم من أنها ظلت تتلقى أسمى درجات التكريم، فإن كل من يعرفها كان يقول إنها لا تزال فتاة مصنع مملة، تتصرف بخيلاء وتكلف.
على الرغم من ذلك، في مجال الرحلات الفضائية، كانت مهمتا مركبتي «فوستوك» المتماثلتين في عامي 1962 و1963 تتناقضان بشدة مع الأداء المحدود لمركبة «ميركوري». كانت كبسولة «ميركوري» تتطلب بعض التعديلات، وفي مايو 1963، نجح رائد الفضاء جوردون كوبر، من خلال زيادة احتياطيه من الأكسجين ووقود التحكم في الاتجاه، في أن يظل محلقا في اثنين وعشرين مدارا، لما يقرب من يوم ونصف يوم. لكن بعدها بشهر، خلال رحلة تريشكوفا، ظل زميلها فاليري بيكوفسكي محلقا بمركبته لمدة خمسة أيام؛ كان في هذا تكرار للقصة القديمة ذاتها؛ حيث كانت ناسا تبذل قصارى جهدها بينما تعجز عن إنجاز ما في مقدور كوروليف القيام به بسهولة.
نماذج أولية لمركبات فضائية مأهولة: مركبتا «ميركوري» و«جيميني» الأمريكيتان؛ ومركبتا «فوستوك» و«فوسخود» السوفييتيتان، كانت مركبة «فوسخود» مزودة بغرفة معادلة ضغط لاستخدامها في السير عبر الفضاء. يوضح الشكل مقياس الرسم (دان جوتييه).
بالإضافة إلى ذلك، كان ثمة مجال للتطوير في مركبة «فوستوك» أيضا. كان كوروليف يعد نموذجا جديدا يستطيع نقل رائدي فضاء بدلا من رائد فضاء واحد. أطلق على النموذج اسم «فوسخود» (أي شروق الشمس). كما كان على وشك استخدام نموذج جديد وفعال من الصاروخ «آر-7»، يشتمل على صاروخ مرحلة عليا ذي قوة دفع كبيرة. كان يطلق صواريخ «فوستوك» باستخدام صاروخ المرحلة العليا الذي طوره كوزبرج عام 1958، وجرى تطويره لمنح قوة دفع أكبر. كان كوروليف قد صمم أيضا صاروخا باليستيا عابرا للقارات جديدا تماما، وهو الصاروخ «آر-9»، الذي كان يتألف من مرحلتين. كان محرك صاروخ المرحلة الثانية في الصاروخ «آر-9» يوضع في صاروخ مرحلة عليا جديدة أعلى الصاروخ «آر-7»، لزيادة سعة حمولته من خمسة آلاف إلى سبعة آلاف كيلوجرام. أصبح الصاروخ «آر-7» المطور هذا جاهزا للخدمة، وصار الصاروخ التعزيزي الأكثر استخداما والأوسع نطاقا في المخزون السوفييتي.
لكن، لم يهنأ لخروتشوف بال؛ فلم يكن ثمة انتصارات نهائية في سباق الدعاية؛ حيث لم يكن الأمر يقتصر على تصميم مجموعة معينة من المركبات الفضائية لأداء مهمة محددة، مثل عمليات الاتصال عبر الأقمار الصناعية. كان لا بد من بذل المزيد دائما لتخطي إنجازات الأمس والتفوق عليها؛ ففي حين أن رحلة جوردون كوبر التي استغرقت 34 ساعة كانت تمثل أفضل ما كان في مقدور أمريكا القيام به في عام 1963، لم يمض إلا أقل من عام حتى كانت أول مركبة فضائية من طراز «جيميني» تدور في مدار فضائي. لم تكن هذه المركبة تحمل على متنها رواد فضاء، لكنها سرعان ما صارت جاهزة لاستضافة طاقمها المؤلف من شخصين.
بناء عليه، أصدر خروتشوف قرارا؛ إذا كان الأمريكيون على وشك إرسال شخصين في مدار فضائي في عام 1965، فسوف يفوقهم بإرسال ثلاثة أشخاص في مدار فضائي خلال عام 1964. تضمن الأمر، الذي صدر إلى كوروليف، إرسال ثلاثة من رواد الفضاء في مركبة فضائية صممت لتقل شخصين، حيث لم تكن توجد مركبة جاهزة لتنفيذ هذه المهمة سوى مركبة «فوسخود». على الرغم من أن الشخص الثالث كان سيشكل وزنا إضافيا على المركبة، فلم تكن ثمة مشكلة في ذلك؛ حيث صار لدى كوروليف آنذاك الصاروخ «آر-7» الفعال. كانت المشكلة تكمن في النجاح في ضم هؤلاء الثلاثة معا.
كان مصمم «فوستوك» الرئيسي، كونستانتين فيوكتيستوف، قد عارض تحويل «فوستوك» إلى «فوسخود»، لكن ها هو الآن يدير العمل؛ فقد نجح كوروليف في إقناعه بأن وعده أن يصبح ضمن طاقم إحدى الرحلات. اقترح فيوكتيستوف وضع ثلاثة أشخاص في مركبته المدارية التي تشبه كابينة الهاتف، وذلك بالاستغناء عن كثير من المعدات التي كانت مهمة لضمان السلامة. على حد تعبير فاسيلي ميشين، نائب كوروليف، حين قال: «كان من المستحيل وضع طاقم مكون من ثلاثة أشخاص، مرتدين ملابس الفضاء، في كابينة «فوسخود»؛ لذا، لا داعي لارتداء ملابس الفضاء! صعد الرواد إلى الفضاء دونها. كان من المستحيل أيضا تصميم ثلاثة أبواب لخروج رواد الفضاء؛ لذا وجب التخلص من أجهزة الإخراج. هل كان الأمر ينطوي على خطورة؟ بالطبع نعم، كان الأمر كما لو أنها مركبة من نوع ما ذات ثلاثة مقاعد، وفي الوقت نفسه لم تكن تشتمل على أي مقاعد. في حقيقة الأمر، كان ضربا من أعمال السيرك؛ إذ لم يكن من الممكن أن يؤدي ثلاثة أشخاص أي عمل مفيد في الفضاء؛ كل ما هنالك أنهم كانوا يجلسون في حيز ضيق للغاية، فضلا عن خطورة الطيران من الأساس.»
4
يحكي الروس قصة مهندس معماري صمم بناية سكنية من عشرة طوابق دون مصاعد؛ وكعقاب له، حكم عليه بالسكن في الطابق العلوي. بالمثل، اختير فيوكتيستوف للانضمام إلى الطاقم المؤلف من ثلاثة أشخاص؛ لا شك أن ذلك كان شرفا عظيما، وليس عقابا. مع ذلك، أبدى فيوكتيستوف تركيزا رائعا خلال الرحلة كما لو كان يعلم بقرار إعدامه شنقا خلال أسبوعين، وهو ما جعله ينفذ المهمة بنجاح. انطلقت المركبة في أكتوبر 1964، ومع أنها لم تمكث في الفضاء سوى يوم واحد فقط، أقنعت العالم بأن روسيا تمتلك بالفعل مركبة فضائية مجهزة لحمل ثلاثة أشخاص. بدا النظام الرأسمالي مجددا مكتوف اليدين إزاء المجتمع السوفييتي.
ثم جاء عام 1965، عندما صارت المركبة «جيميني» جاهزة للقيام بسلسلة كبرى من الرحلات المأهولة. صارت رحلات السير في الفضاء - أو «أنشطة خارج المركبة الفضائية» بحسب تعبير ناسا - تحتل مركزا مهما في صدارة جدول الأعمال، باعتبارها خطوة أساسية نحو زيادة قدرات رواد الفضاء. على أية حال، كان على رائد الفضاء أن يغادر مركبته الفضائية بعد الهبوط على سطح القمر، محتميا بزيه الفضائي، للسير على سطح القمر. أصبحت عمليات السير في الفضاء ضرورية أيضا لإنقاذ رائد فضاء عالق، أو لإصلاح مركبة فضائية متضررة، أو لتركيب معدات جديدة داخل مركبة موجودة، أو لإجراء عملية بناء واسعة النطاق في المدار الفضائي. وكان مشهد شخص يسبح بمفرده دون خوف في الفضاء اللامتناهي، بينما يظهر كوكب الأرض في الخلفية؛ يمثل مصدرا للإمتاع البصري لا يمكن إنكاره.
كان كوروليف أيضا يحب السير في الفضاء، وشرع في التفوق على الأمريكيين بإطلاق «فوسخود 2». كان رائد الفضاء الروسي أليكسي ليونوف أول من سار في الفضاء، بينما ظل صديقه بافل بلياييف في الداخل. خرج ليونوف في غرفة معادلة ضغط، فتش عن كاميرا، ثم حاول العودة إلى الداخل، لكنه لم يستطع؛ إذ كان الضغط في بزته الفضائية أعلى كثيرا مما ينبغي؛ مما جعلها صلبة مثل بالون منتفخ، وهو ما حال دون انحنائه من منطقة الخصر للمرور بقدميه عبر فتحة الخروج.
كان ليونوف يعلم جيدا باحتمال موته، واقترب كثيرا من الإصابة بحالة من الذعر مع ارتفاع معدل نبضه وتنفسه بحدة؛ ثم أخذ يدرس الموقف من حوله، فأدار صماما وقلل ضغط الهواء في بذلته. نجح الأمر؛ إذ استطاع الانحناء قليلا وتثبيت قدميه على عتبة باب الخروج، وهو ما منحه قدرة على السيطرة، وسرعان ما صار في الداخل سالما. لكن، حسبما أشار المحلل جيمس أوبرج قائلا: «كان غارقا في عرقه، وكان يشعر بلسع في عينيه من جراء الملح في عرقه، وكان يلهث بشدة حتى تضبب قناعه.»
سرعان ما حل موعد إعادة الولوج إلى المجال الجوي. تعطل جهاز الطيار الآلي واضطر رائدا الفضاء إلى العودة باستخدام أجهزة التحكم اليدوي. انتظر بلياييف حتى حلق في مدار آخر، ثم أطلق صاروخا ارتكاسيا كابحا، آملا في الهبوط وسط منطقة الإستبس المنبسطة في كازاخستان. لكن، بدلا من ذلك، انتهى بهما المطاف وسط الثلوج الكثيفة في سلسلة جبال الأورال، وسط غابة من أشجار الباتولا الكثيفة والجبلية، على مسافة أكثر من ألف ميل من طواقم الاسترجاع.
لم يكن لديهما ما يحميهما من البرد سوى بزتيهما الفضائيتين، ولم يكن لديهما ما يأويان إليه سوى كبسولة «فوسخود» الباردة. سرعان ما اكتشفا أنهما في حاجة إليها؛ لأنهما عندما أشعلا نارا يستدفئون بها، جذب ذلك الذئاب الجائعة. ترك رائدا الفضاء النيران وفرا هاربين للاحتماء بمركبتهما، التي قضيا فيها ليلة مؤرقة؛ حيث واصلت الذئاب عواءها؛ لكن كان جهاز البيكون اللاسلكي الخاص بهما لا يزال يعمل، وسرعان ما سمعا صوت طائرة. عند الفجر، وصلت دورية تزلج وأخرجتهما سالمين إلى طائرة هليكوبتر كانت بانتظارهما.
مرة أخرى، اقتحم الروس السماوات بنجاح. لكن، كان من المتوقع أن يمثل هذا ذروة برنامجهم؛ إذ مثلما كشفت الأحداث لاحقا، لم تتمكن موسكو من مواكبة الجهود الأمريكية المتصاعدة، وعجزت عن مواجهة التحدي؛ فقد صارت مركبات «جيميني» جاهزة واستطاعت أمريكا من خلالها تحقيق الريادة.
لم تكن مركبات الإطلاق في أبولو جاهزة بعد، بيد أن مركبة «جيميني» أثبتت منذ البداية أنه لا يزال من الممكن تحقيق المزيد حتى باستخدام صواريخ تعزيزية مستلهمة من برامج الصواريخ الباليستية العابرة للقارات في خمسينيات القرن العشرين. كان من المنتظر أن تدور المركبة المأهولة برائدي فضاء في مدار أعلى الصاروخ «تايتان 2»، وهو نموذج فعال من الصاروخ «تايتان» الأصلي الذي صمم في سنوات سابقة . حلق الصاروخ على ارتفاع أكثر من مائة قدم، وعلى غرار الصاروخ «آر-16» الروسي، الذي كان يشبهه كثيرا، كان الصاروخ «تايتان 2» يماثل في ضخامته أي صاروخ، وكان لا يزال من الممكن نشره كسلاح عملي. كان حجم «تايتان 2» يعكس بدوره مهمته العسكرية، ألا وهي نقل رأس حربية زنة 9 ميجا طن، وهي واحدة من أكبر الرءوس الحربية وأثقلها في البلاد.
كان الصاروخ «تايتان 2» - شأنه شأن الصاروخ «آر-16» - مكونا من مرحلتين ويعتمد على حرق أنواع وقود دفعي قابلة للتخزين. لم يكن يعتمد على حمض النيتريك («سم الشيطان» حسبما سماه السوفييت)، بل كان يستخدم رابع أكسيد النيتروجين الأعلى أداء كمادة مؤكسدة، والهيدرازين كوقود. كان متعدد الاستخدامات تماما؛ ففي القوات الجوية، لعب «تايتان 2» دورا مكملا للصاروخ «مينتمان» الصغير والمتعدد من خلال اقتباس ميزاته الرئيسية، مثل وضع صوامع تحت أرضية، بالإضافة إلى عملية الإطلاق السريعة الاستجابة. في الفترة بين عامي 1963 و1965، مع دعم البنتاجون لعمليات نشر أسطول الصواريخ الاستراتيجية التابع له ضمن قوة شاملة تضم صواريخ «بولاريس» و«مينتمان»، أعادت القوات الجوية صواريخ «ثور» و«جوبيتر» من أوروبا، بينما أخرجت أساطيلها من صواريخ «أطلس» و«تايتان 1» من الخدمة. لكن، ظل أربعة وخمسون صاروخا طراز «تايتان 2» في وضع تأهب حتى عام 1987.
حاز هذا الصاروخ إعجاب ناسا أيضا. بلغت قوة دفع صاروخ المرحلة الأولى فيه 430 ألف رطل، وهو ما كان يمثل تطورا مرحبا به للصاروخ «أطلس» الذي كانت قوة دفعه تبلغ 360 ألف رطل. كان الصاروخ يتضمن أيضا صاروخ مرحلة ثانية بقوة دفع 100 ألف رطل، وهو ما يحسن كثيرا من قدرته على رفع أحمال ثقيلة إلى مدار فضائي. لم تكن عملية تطويره سلسة؛ إذ كانت ثمة مشكلة مقلقة تسمى مشكلة «البوجو»، التي كان الصاروخ يهتز على إثرها اهتزازا قويا أثناء الرحلة على غرار عصا البوجو. لم يكن في مقدور أي رائد فضاء أن يعتلي متن هذا الصاروخ التعزيزي، واستغرقت المشكلة عاما من الجهد المكثف لإصلاحها. لكن الصاروخ النهائي كان بسيطا؛ فعلى حد تعبير ألفين فلدمان، مدير برامج في شركة «إيروجت جنرال»: «تخلصنا من كل ما لا يلزم. مع الصاروخ «تايتان 1»، كان علينا أن نعدل الأكسجين السائل حتى يحين موعد العد التنازلي، بيد أننا هذه المرة لم نكن نشعر بقلق حيال أي شيء حتى قبل يومين من الرحلة. لم يكن علينا سوى تحميل الوقود سلفا ، وهذا كل ما في الأمر.»
كانت مركبة «جيميني» تطابق في شكلها الخارجي كبسولة «ميركوري»، لكنها كانت أكبر حجما بكثير. كان طاقمها المؤلف من شخصين يجلسان جنبا إلى جنب، ينظران عبر نوافذ مثبتة فيما يشبه كثيرا قمرة إحدى الطائرات المقاتلة النفاثة. كان لكل منهما مقعد قذفي على غرار قائدي الطائرات النفاثة. كانت المركبة تتفوق أيضا على فوسخود من خلال احتوائها على صاروخ ذي قدرة عالية على المناورة؛ كان وزنه الذي يزيد على ثمانية آلاف رطل يمثل ميزة عند مقارنته بالصاروخ «ميركوري» الذي كان وزنه يقل عن ثلاثة آلاف رطل؛ ومن ثم، كان يحتاج إلى قوة دفع إضافية لبلوغ مدار فضائي. لكن، أمكن تعزيز قوة الصاروخ على نحو ملحوظ بإضافة صاروخ مرحلة ثانية جيد، وكان الصاروخ «تايتان 2» يتضمن واحدا من أفضل صواريخ المرحلة الثانية.
انطلقت المركبة في بعثتها المهمة الأولى، «جيميني 4»، في يونيو 1965، وكانت تتضمن برنامجا مستقلا للسير في الفضاء. لم يطف رائد الفضاء إدوارد وايت بحرية في الفراغ بل ظل مربوطا بمركبته باستخدام حبل تزويد، عبارة عن خرطوم مرن يزوده بالأكسجين من خلال اتصاله بالجزء الأوسط المنتفخ من بذلة الضغط. كان يحمل أيضا خرطوم مناورة نفاثا، متصل بخزانين صغيرين يحتويان على غاز مضغوط. بالضغط على زناد معين، كان في إمكانه إطلاق دفعات صغيرة من الغاز وتوليد قوة دفع تتيح له التحرك في أرجاء المكان من حوله. قضى وايت عشرين دقيقة سابحا بحرية، واستمتع بذلك تماما. عندما طلب منه قائد المركبة جيمس مكديفيت العودة إلى المركبة، أجابه وايت مازحا: «ألن تنضم إلي؟» وعندما أصر مكديفيت، قال وايت: «هذه أتعس لحظة في حياتي.»
ظلت المركبة في الفضاء أربعة أيام، مقتربة بذلك من الرقم القياسي الروسي البالغ خمسة أيام. حلقت المركبة التالية، «جيميني 5»، في مدار فضائي في أغسطس وظلت هناك لمدة ثمانية أيام، وهو ما جعل الرقم القياسي في المدة ينتقل إلى الولايات المتحدة، التي ظلت محتفظة به حتى عام 1970. وكان رائدا المركبة، جوردون كوبر وتشارلز كونارد، قد انطلقا إلى الفضاء لسبب معين، وهو إثبات أنهما يستطيعان السفر في الفضاء لمدة كافية حتى يبلغا القمر ثم يعودا. أثبتت الفحوص الطبية تمتعهما بلياقة جيدة، ولخص كبير جراحي البرنامج، تشارلز بري، الوضع قائلا: «أهلنا أشخاصا للسفر إلى القمر.»
ركزت عمليات الإطلاق التالية على عمليات الالتقاء بين المركبات الفضائية في مدار وزمن محددين، وكان صاروخ المرحلة العليا «أجينا» هو الهدف. انطلق هذا الصاروخ في أكثر من 140 رحلة فضائية منذ عام 1959، بيد أن محركه جرى تعديله لاستخدامه في مركبة «جيميني». كنتيجة لذلك، انفجر المحرك عند اشتعاله على ارتفاع، ومن ثم ظل رائدا الفضاء على متن الصاروخ «جيميني 6»، وهما والي شيرا وتوم ستافورد، على الأرض دون أن يذهبا إلى أي مكان. مع ذلك، كان البرنامج يتسم بقدر كبير من المرونة، وسرعان ما أدرك مسئولو ناسا أنهم يستطيعون في غضون أسبوع تقريبا إطلاق مركبة «جيميني 7»، وإعداد «جيميني 6» للانطلاق، ثم إرساله للالتحام بتوءمه. عندما أعلن الرئيس ليندون جونسون أن ناسا ستقوم بذلك، كان الأمر قد قضي بالفعل.
انطلق «جيميني 7» في السماء في ديسمبر 1965، في بعثة استغرقت أربعة عشر يوما، لم تكن التجهيزات الصحية جيدة بما يكفي، وبالنسبة إلى أعضاء الطاقم، فرانك بورمان وجيم لوفيل، كانت التجربة أشبه بالجلوس جنبا إلى جنب في دورة مياه للرجال لأسبوعين، دون أي فرصة للاستحمام. بعد مرور ثمانية أيام على بدء البعثة، جاء دور «جيميني 6». اشتعلت المحركات الرئيسية في الصاروخ «تايتان 2» ثم توقفت عن العمل؛ كان قابس كهربي قد سقط من موضعه في صاروخ التعزيز، واستشعر نظام كشف الأعطال ذلك، فأوقف تشغيل المحركات وألغى عملية الإطلاق.
كان شيرا وستافورد يرقدان على ظهريهما في المركبة الفضائية، أعلى صاروخ مزود عن آخره بالوقود يشبه كثيرا صاروخ المارشال ميتروفان ندلين «آر-16»، الذي كان من الممكن أن ينفجر على نحو مماثل. كان كل منهما يحمل حلقة على شكل حرف
D ، تؤدي عند جذبها إلى إطلاق مقعد قذفي، وما كان أحد ليلومهما إذا هما استخدماها. لكن، كان ثمة كابح إطلاق يثبت صاروخ التعزيز في منصة الإطلاق خلال تلك اللحظة الحرجة، حائلا دون ارتفاعه. لو كان ارتفع ولو قدرا بسيطا، كان سيسقط محطما؛ مما كان سيؤدي إلى فتح خزاناته وسط كرة هائلة من النار. لكن، لم يشعر شيرا، قائد المركبة، بأي حركة ارتفاع لأعلى، وظل محتفظا بهدوئه؛ مما أنقذ البعثة. أبدى طيار الاختبار هذا قدرا من حضور الذهن ورباطة الجأش، فضلا عن معرفته أيضا بأن استخدام المقعد القذفي كان ينطوي على خطر الإصابة البالغة. في لحظة الخطر، اعتلى شيرا متن صاروخه، وهو يدرك أنه لن يستخدم المقعد القذفي إلا إذا كان البديل هو الموت حرقا.
بعدها بثلاثة أيام، وصل «جيميني 6» إلى مداره في هدوء، وتابع رائدا الفضاء على متنه التحليق لإتمام عملية الالتقاء. لم يكن من الممكن تنفيذ هذا الأمر بسهولة عن طريق توجيه مركبتهما نحو الهدف وإطلاق صاروخ؛ إذ كانت آليات الالتقاء أكثر تعقيدا بكثير. لو حاولا تقليص المسافة بين المركبتين بزيادة السرعة، على سبيل المثال، لكانا سيندفعان إلى مدار أعلى وأكثر بطئا وسيتخلفان في حقيقة الأمر. كان الإجراء الذي تعين اتخاذه بدلا من ذلك هو الإبطاء قليلا، بحيث يهبطان إلى مدار أكثر انخفاضا حيث سيحلقان بسرعة أكبر. كانت المناورة أقرب إلى مناورات عالم أليس في بلاد العجائب؛ حيث تزداد السرعة من خلال الإبطاء، بيد أن شيرا وستافورد كان لديهما كمبيوتر على متن مركبتهما مبرمج بالمعادلات التي تتحكم في انطلاق الرحلة في المدار، كذلك كان على متن المركبة نظام رادار بإمكانه تحديد مكان الهدف على مسافة 250 ميلا، وهذا النظام هو الذي حدد مسافة المركبة وحركتها النسبية، مغذيا الكمبيوتر بالبيانات، وهو ما تولى بدوره حساب المناورات اللازمة.
رأى شيرا المركبة الفضائية الأخرى على مسافة ستين ميلا؛ حيث كانت تعكس ضوء الشمس وتبدو مثل نجم ساطع. كانت كلتا المركبتين غارقتين في الظلام مع إجرائه مناورة الاقتراب الأخيرة. كانا على مسافة بضع مئات من الأقدام عندما ظهرت «جيميني 7» مرة أخرى في ضوء الشمس، ونظرا لاعتياد رائدي الفضاء على الظلام، كان الضوء ساطعا للغاية بما يحول دون النظر إليه. بعدها بلحظات جاء صوت ستافورد الهادئ قائلا : «نحن على مسافة 120 قدما وجالسان.» في مركز مراقبة الرحلة في هيوستون، وقف الموجودون وهللوا.
واصلت المركبتان التحليق في تشكيل، مقتربتين بمسافة قدم واحدة، حتى إن طاقم كل مركبة كان يستطيع النظر عبر نوافذ المركبة الأخرى. قبل ذلك بيوم، بعث بورمان بإشارة عبر جهاز اللاسلكي قال فيها: «نقترب من مرحلة الشعور بحكة خفيفة، بدأنا نشعر بقدر من عدم النظافة.» كان كيس بلاستيكي يحتوي على كمية من البول قد انفجر في يده، وتكسر السائل البرتقالي اللون الموجود داخله إلى كريات سابحة في القمرة بينما حاول هو ولوفيل الإمساك بها. مع ذلك، كانت روحهما المعنوية مرتفعة. عندما قال شيرا: «صارت لحيتك كبيرة.» رد بورمان قائلا: «ها نحن نساير الموضة ولو لمرة واحدة.» وعندما حمل خريجا الأكاديمية البحرية شيرا وستافورد لافتة: «سحقا للجيش.» أجاب بورمان، وهو خريج كلية وست بوينت، ببطاقة مكتوب عليها: «سحقا للبحرية.»
كانت لا تزال ثمة مهمة الالتحام بمركبة «أجينا» في مدار فضائي والصعود بها إلى مدار مرتفع. في مارس 1966، أجرى رائدا الفضاء نيل أرمسترونج وديفيد سكوت محاولة طيبة باستخدام مركبة «جيميني 8»، عندما لامست مقدمة مركبتهما موضع التحام، لكن قبل أن يشرعا في إجراء مناورات باستخدام المركبة الملتحمة، بدآ الدوران على نحو عشوائي لا يمكن السيطرة عليه. عندما فصل سكوت المركبتين، زاد الدوران إلى دورة كاملة في الثانية. حافظ رائدا الفضاء على ثبات رأسيهما، مدركين أنهما قد يصابان بحالة دوار شديد لا يستطيعان معها استعادة السيطرة. أرسل سكوت إشارة عبر اللاسلكي يقول فيها: «لدينا مشكلات خطيرة هنا؛ ننقلب رأسا على عقب، وقد انفصلنا عن أجينا.»
كان كلا الرجلين يعرف جيدا كيف يظل محتفظا برباطة جأشه؛ فقد سبق لسكوت، على أية حال، أن قاد مركبته «إف-104» بأمان إلى هبوط اضطراري عندما اختار رفيقه في المقعد الخلفي الضغط على زر المقعد القذفي. أما أرمسترونج، فقد اشتهر بالإنجاز الذي حققه من خلال مركبة «إكس-15»؛ حيث حلق بها على ارتفاع تجاوز 200 ألف قدم بسرعة اقتربت من 4000 ميل في الساعة. اتضح أن المشكلة في مركبة «جيميني 8» كانت تكمن في أن جهاز التحكم في الاتجاه كان عالقا، لكن لم يستغرق اكتشافها وقتا طويلا. قال أرمسترونج: «لم يعد متبقيا لدينا سوى نظام التحكم في معاودة الولوج إلى المجال الجوي.» من خلال فصل نظام التحكم الرئيسي في الاتجاه، واستخدام نظام التحكم في معاودة الولوج إلى المجال الجوي هذا كبديل، نجحا في الحفاظ على اتزان المركبة؛ لكن كانت قواعد البعثة صارمة؛ إذ كان أي استخدام سابق لأوانه لنظام التحكم في معاودة الولوج إلى المجال الجوي يعني إنهاء الرحلة على الفور. هبطا قرب أوكيناوا، وعندما سئل أرمسترونج عن حالته أثناء الأزمة، أجاب قائلا: «لست متأكدا إن كان يمكن وصفها بأنها حالة قلق.»
لم تتكرر هذه المشكلة في مركبة «جيميني 9»؛ لأن الصاروخ التعزيزي للصاروخ «أجينا-أطلس» خرج عن السيطرة وأدى إلى سقوطها في المحيط الأطلنطي. حلق توم ستافورد ويوجين سيرنان في مدار فضائي على أية حال، وأجرى سيرنان أول نشاط خارج المركبة الفضائية منذ سار إد وايت في الفضاء قبل عام. مثل جميع رواد الفضاء، كان سيرنان قويا ومفعما بالحيوية، بيد أن تنفيذ أنشطة خارج المركبة الفضائية تطلب جهودا كبيرة فاقت قدرته بكثير. قال ستافورد عبر جهاز اللاسلكي: «إنه يبذل جهدا يفوق ما توقعناه بأربع أو خمس مرات.» كان سيرنان يتنفس بصعوبة ويتصبب عرقا، فامتلأت بزته الفضائية برذاذ فوق ما تحتمل، وتضبب قناع خوذته بكثافة، حاجبا الرؤية عنه، وزادت حرارة بزته الفضائية بدرجة كبيرة. كان سيرنان يخطط لقضاء قرابة ثلاث ساعات خارج المركبة الفضائية، لكنه استكفى بعد مرور ساعتين؛ وصل معدل نبضه 180 دقة في الدقيقة، وعندما عاد إلى الداخل كان يلهث بإجهاد.
ماذا حدث؟ كان يجاهد بزته الفضائية مع كل حركة، مقاوما ضغطها الداخلي، وهو ما جعلها تقاوم الانحناء أو الانثناء. ولم يستطع أيضا أن يستقر بارتياح وسهولة؛ إذ كانت الحركات البسيطة تدفعه إلى الحركة في هذا الاتجاه أو ذاك، وهو ما كان يتطلب منه بذل مزيد من الجهد لمقاومة هذه الحركات. أدى ذلك إلى بعض المتاعب خلال رحلة إد وايت القصيرة ، بيد أن رحلة مدتها بضع ساعات كانت أمرا مختلفا تماما.
حدث الشيء نفسه تقريبا في مركبة «جيميني 11»، وهي مهمة التقاء أخرى. تقدم رائد الفضاء ريتشارد جوردون نحو «أجينا»، ممتطيا إياها مثل جواد، ثم نادى على زميله بيتي كونراد قائلا: «فلتعتل صهوتهم، يا راعي البقر!» لكن جوردون كان يشعر بالإجهاد بالفعل؛ فبينما هو يواصل سيره عبر الفضاء، زادت حرارة بزته الفضائية بنسبة خمسين في المائة أكثر مما كانت تحتمل. كان وجهه يتصبب عرقا وكان يشعر بلسعة في عينيه، وعاد إلى الداخل بعد أكثر من نصف ساعة بقليل.
أوضحت هذه التجارب أن ناسا أساءت تقييم مستوى صعوبة تنفيذ أنشطة خارج المركبة الفضائية، ودعت إلى انتهاج أسلوب جديد. طبق رائد الفضاء باز ألدرين، الذي اختير في بعثة «جيميني 12»، أسلوبا جديدا يتمثل في محاكاة الأنشطة التي تتم خارج المركبة الفضائية من خلال ارتداء بزة الضغط في خزان كبير من الماء؛ مما جعله يطفو كما لو كان في حالة انعدام الوزن. تعلم كيف يضبط خطواته، وعندما حلق في مدار فضائي في نوفمبر، وضعت قيود ومقابض يدوية في مركبته الفضائية سهلت له البقاء حيث كان يريد. استمرت أنشطته خارج المركبة الفضائية أكثر من ساعتين، وأكمل قائمة المهام الموكلة إليه دون أن تزداد درجة حرارته أو يشعر بالتعب.
نجحت عمليات الالتقاء على نحو كامل أيضا. في يوليو، التحم جون يونج ومايكل كولينز مع مركبتهما «أجينا» وحافظا على ثبات المركبة، ثم أدارا محركها لتوفير قوة دفع جعلتهما ينطلقان لمسافة 475 ميلا. قال يونج: «كان الأمر مشوقا حقا. عندما تنطلق هذه المركبة، فلا مراء في ذلك.» بعدها بثمانية أسابيع، أبلت «جيميني 11» بلاء أفضل كثيرا، حيث بلغت 850 ميلا.
عندما دار الصاروخ «أجينا» الملحق بها، أرسل بيتي كونراد بإشارة عبر جهاز اللاسلكي يقول فيها: «إنه يعمل، إنه يعمل حقا. هلموا نحتفل!» بعد قطع نصف المدار، ومع الاقتراب من ذروة الارتفاع، لم يستطع كونراد احتواء مشاعر الإثارة التي تملكته عندما تحدث إلى المراقبين في أستراليا: «إنه أمر رائع. لن تصدقوا ذلك، أرى الهند في النافذة اليسرى، وبورنيو أمامي مباشرة، وأراكم في النافذة اليمنى. العالم مستدير!»
كان رواد الفضاء في المدارات المنخفضة يقولون عادة إن الطيران في الفضاء لا يختلف كثيرا عن الطيران في طائرة نفاثة؛ لكن اتضح أن الأرض على الرغم من تقوسها وانحنائها لا تزال تملأ مجال الرؤية. ربما يحلق رائد فضاء بسرعة أكثر عشرين مرة من قائد طائرة نفاثة، لكنه سيكون أيضا على ارتفاع أعلى عشرين مرة؛ لذا سيمر العالم أسفله بنفس سرعته المعتادة. لكن، كان الأمر مختلفا بالنسبة إلى كونراد وجوردون؛ ففي ذروة الارتفاع، كانت رؤيتهما من أفق إلى أفق تمتد قرابة خمسة آلاف ميل.
لم يظهر تقوس الأرض فحسب، بل كانت مستديرة وشديدة التحديد كما لو أنها كرة شاطئ. ضمت صورة واحدة التقطت من ارتفاع 460 ميلا فوق النيل كلا من سيناء وإسرائيل والأردن. بالتحليق فوق المحيط الهندي، التقطت الكاميرا صورة أخرى تضم الهند بأكملها، من طرفها الجنوبي إلى سلسلة جبال الهيمالايا في أقصاها. وعند التحليق عاليا فوق أستراليا، التقطت صورة أخرى شملت في لقطة واحدة ثلث هذه القارة.
في ظل إطلاق عشر رحلات مأهولة على مدار عشرين شهرا، قدم برنامج «جيميني» كادرا من رواد الفضاء المدربين لمشروع «أبولو»، وجعل تلك البعثات المأهولة روتينا متبعا. فاقت إنجازات البرنامج بلا جدال أفضل البرامج في روسيا، بينما أسفرت عن خبرات عملية ذات قيمة هائلة في مجالات مهمة مثل عمليات الالتقاء، والأنشطة خارج المركبة الفضائية. لم يكن البرنامج مكلفا أيضا؛ إذ بلغت ميزانيته الإجمالية، من بدايته إلى نهايته 1,15 مليار دولار أمريكي. أثبت برنامج «جيميني» أنه برنامج متنوع الاستخدامات ومرن ويمكن التعويل عليه، ولو أن قدرات البرنامج قد تعاملت مع الاحتياجات المستمرة والمتطورة وعملت على تلبيتها، لو أنه كان أكثر من مرحلة تمهيدية لأبولو، لظلت مركبته تستخدم إلى هذا اليوم.
في تلك الأثناء، كانت استعدادات «أبولو» تمضي في طريقها بخطى سريعة. كان أحد محاور الاهتمام الرئيسية مبنى تجهيز الصواريخ الضخم في كيب كانافيرال، وهو مبنى مكعب الشكل بطول 674 قدما، وعرض 513 قدما، وارتفاع 526 قدما. كان من المقرر تصميم جوانب المبنى على شكل ألواح كبيرة يمكنها التصدي لقوة إعصار كاملة؛ لذا ثبت مهندس المبنى، ماكس إربان، إياه في قاعدة صخرية. كما كانت بقية أجزاء المبنى على قدر مماثل من الضخامة.
داخل مبنى تجهيز الصواريخ، كانت طواقم الإطلاق بصدد تجميع الصاروخ «ساتورن 5» فوق منصة تحمل برج دعم بارتفاع 380 قدما. كانت ثمة زحافة، وهي عبارة عن مركبة زنة 3000 طن، تتحرك أسفل المنصة لترفع جسما في حجم ملعب كرة البيسبول فوق سطح منبسط، ثم تبدأ ثمانية جرارات، طول كل منها أربعون قدما وارتفاعها عشرة أقدام، في التحرك محدثة صوتا عاليا، وكانت مجموعة المعدات بأكملها - الزحافة، والمنصة، والبرج، والصاروخ، التي يبلغ وزنها إجمالا 9300 طن - تشق طريقها عبر باب كبير بما يكفي لتمرير مبنى مؤلفا من 45 طابقا. كانت الزلاقة تتجه بعد ذلك نحو منصة إطلاق، على مسافة ثلاثة أميال، وبذلك كانت البعثة تنطلق إلى القمر بسرعة تلك الجرارات، وهي ميل واحد في الساعة.
كان ثمة نشاط أكثر جنوب شرق لوس أنجلوس، حيث كانت شركتا «أمريكان أفياشن» و«دوجلاس إيركرافت» تبنيان المرحلتين الثانية والثالثة من الصاروخ «ساتورن 5». كان يفصل بين مصنعيهما أميال قليلة، في المدينتين المتجاورتين سيل بيتش وهنتنجتون بيتش، وهو ما يسر لقاء مهندسيهما على الغداء، ربما على جسر هنتنجتون، وهو مكان محبب إلى ممارسي رياضة التزلج على الماء. كان عرض صاروخ المرحلة الثالثة، «إس-4 بي»، يبلغ حوالي اثنتين وعشرين قدما؛ وهو ما جعل قطره مساويا لقطر طائرة «بوينج 747». أثار ذلك أسئلة مهمة حول كيفية نقله، الأمر الذي توصلت شركة «دوجلاس» إلى حل له من خلال الاستعانة برجل أعمال محلي، هو جون كونروي.
كان كونروي يمتلك عددا إضافيا من طائرات «ستراتوكروزر»، تعمل باستخدام المكابس ويعود تاريخها إلى أربعينيات القرن العشرين. زود كونروي إحدى الطائرات بجسم عريض ومنتفخ، وأطلق عليها اسم «بريجنانت جابي»، وقدمها إلى ناسا لاستخدامها في نقل صواريخ المراحل الكبيرة. كان كونروي يعتمد على ميزانية محدودة؛ حتى يتسنى له السفر إلى هانتسفيل للإدلاء بعرض تقديمي أمام فون براون. اضطر كونروي إلى اقتراض وقود طائرات من صديق له في أوكلاهوما، لكنه كان مقنعا، وظفر بالعقد الذي كان يسعى إلى الحصول عليه. بالنسبة إلى «إس-4 بي»، ابتكر مركبة «سوبر جابي» الأكثر انتفاخا، التي كانت تبدو مثل منطاد مزود بأجنحة. دشنت شركته «إيرو سبيسلاينز» مجالا جديدا، ألا وهو النقل الجوي للبضائع الكبيرة والضخمة.
كان حجم صاروخ المرحلة الثانية «إس-2» أكبر، حيث بلغ عرضه ثلاثا وثلاثين قدما. شغل الصاروخ - أثناء نقله على شاحنة خاصة - الحارات الأربع بأكملها في شارع سيل بيتش، باعتباره الحمولة الأكثر عرضا. كان ذلك الشارع يفضي إلى ميناء قريب تابع للبحرية؛ حيث وضع الصاروخ على متن سفينة كبيرة تنطلق إلى قناة بنما، في رحلة بحرية تنتهي في منشأة اختبارات المسيسبي. كان صاروخ المرحلة الأولى، الذي بني في ميشو، ينقل أيضا عبر سفينة كبيرة ويصل إلى منشأة اختبارات المسيسيبي بطريقة مشابهة.
كان مركز الاختبارات موجودا وسط منطقة سبخة قذرة مكدسة بأوراق الأشجار، ومشبعة بالرطوبة، وكانت تفوح منها روائح العفونة. كانت التماسيح تجوس في أرجاء المكان، وكانت الشمس تغرب في الغسق على نحو مفاجئ يبعث الخوف في النفوس، مخلفة ظلاما شديدا ومخيفا. أما الآن، فثمة أضواء وسط الظلام، الأضواء المبهرة والساطعة لمنطقة الاختبارات. عندما وضع أحد الصواريخ المرحلية للصاروخ «ساتورن 5» لإطلاقه ليلا، كان لهبه الساطع يلقي بأضواء باهرة عبر الأراضي المحيطة. خلال إطلاقه الذي استغرق دقائق وجيزة، كان ينزع عن الليل حلكته. وفي تلك الأثناء، كان الأمل يراود الجميع في أن تتولد يوما بطريقة أو بأخرى أنوار، أكثر سطوعا وقوة، تنزع الظلال من قلوب الرجال.
شكلت هذه الاستعدادات، بالإضافة إلى نجاح «جيميني»، تحديا لموسكو لم تستطع تجاهله. في حقيقة الأمر، كان الاتحاد السوفييتي يرد على ذلك ببرنامجه للهبوط المأهول على سطح القمر، وكما هي الحال في كثير من أنشطة الفضاء في تلك الدولة، كان البرنامج ينبثق من متطلبات عسكرية، كما كان ينبثق أيضا من جهود رائد جديد في تطوير الصواريخ، وهو فلاديمير تشلومي.
بدأ تشلومي مصمما لصواريخ «كروز» المطلقة من الغواصات، وأحدث انقلابا حقيقيا من خلال توظيف سيرجي خروتشوف، ابن نكيتا، في منصب مهندس نظم توجيه، وهو ما مكنه من الاتصال بأعلى مستوى في الحكومة السوفييتية. كان تشلومي يأمل في الانضمام إلى المشروعات الجديدة في مجال الصواريخ الباليستية العابرة للقارات؛ مما جعله يؤسس لعلاقة مع فالنتين جلشكو، الذي كان قد صمم محركات الصاروخ «آر-7». كان جلشكو يتحول بسرعة إلى استخدام الوقود القابل للتخزين، وكان يستعد لبناء محركات لمرحلتي صاروخ ميخائيل يانجل «آر-16» الجديد. وافق تشلومي، وأبدى ترحيبه باستخدام هذه المحركات في تصميماته.
سنحت الفرصة لخروتشوف في عام 1960، عندما حصل على تصريح بتولي مسئولية مركز تطوير طائرات كبير في فيلي، أحد أحياء موسكو. كان المركز تحت إدارة مصمم الطائرات فلاديمير مياسشتشيف، الذي كان قد بنى طائرات قاذفة نفاثة يكفي مداها لبلوغ الولايات المتحدة، بيد أن خروتشوف بدأ يفقد الاهتمام تدريجيا بالقاذفات، وبدأ يتجه أكثر نحو الاعتماد على الصواريخ الباليستية. لم تلق قاذفات مياسشتشيف استحسانه، ولم يكن يرغب في منح مصمم الطائرات هذا دورا كبيرا في برنامج الصواريخ. على النقيض من ذلك، كان تشلومي يتمتع بحظوة خروتشوف، وكانت لديه خطة طموحة للصواريخ الجديدة، بما في ذلك الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، لحمل رأس حربية زنة ثلاثين ميجا طنا.
أعجب خروتشوف بالقنابل الكبيرة؛ إذ كان أحد نماذج هذه القنابل، التي جرى اختبارها في نوفمبر 1961 وكانت تزن 50 ميجا طنا، لديه من القوة ما يجعله قادرا على تحويل منطقة نيويورك الحضرية بأكملها إلى منطقة تشبه هيروشيما. لكن هذه الأسلحة كانت ثقيلة؛ حيث كانت تعتمد على غلاف خارجي كبير من اليورانيوم لتلقي النيوترونات من مركز نووي حراري، ولإنتاج معظم الآثار الانفجارية أثناء التفاعلات الانشطارية. لم يكن ثمة أي صاروخ باليستي عابر للقارات بوسعه نقل هذه الحمولة ، بما في ذلك الصاروخ «آر-16». لم يصرح الكرملين بتطوير صاروخ تشلومي فحسب، بل صرح أيضا بتطوير محرك جديد.
حصل جلشكو على مهمة بناء هذا المحرك الجديد، «آر دي-253». بلغت قوة دفعه 150 طنا متريا، أو 330 ألف رطل، وكان من المقرر أن يستخدم وقودا قابلا للتخزين . كان من المقرر أن يستخدم صاروخ تشلومي، «يو آر-500»، ستة من تلك المحركات للحصول على قوة دفع مليوني رطل، وهو ما يزيد بحوالي 1,5 مليون رطل عن قوة الدفع في الصاروخ «ساتورن» ذي المحركات الثمانية الذي طوره فون براون. جدير بالملاحظة أنه بينما لم يكتشف مصممو «ساتورن» استخداما عسكريا له، كان الصاروخ «يو آر-500» استخداما عسكريا منذ البداية. لكن، لم يكن مبدأ الولايات المتحدة الاستراتيجي يستلزم قنابل زنة ثلاثين ميجا طنا، فضلا عن صواريخ باليستية عابرة للقارات لحملها.
كان واضحا منذ البداية أن «يو آر-500» سيكون صاروخ تعزيز فضائيا رائعا. في عام 1961، أصدر خروتشوف توجيها إلى تشلومي باستخدام الصاروخ لهذا الغرض، وبتصميم مركبة فضائية تستطيع أن تقل شخصا في رحلة دائرية حول القمر. كانت هذه هي الرحلة الدائرية نفسها حول القمر التي كانت ناسا قد تقدمت بمقترح بها إلى آيزنهاور في ديسمبر الماضي. في هذا الدور الجديد، اكتسب «يو آر-500» الاسم الجديد «بروتون».
في تلك الأثناء، كان كوروليف يكمل التصميمات المبدئية لصواريخ التعزيز الثقيلة الحمولة، وواجه مسألة المحركات. كان بإمكانه أن يستخدم محرك جلشكو إذا أراد، بيد أنهم استخدموا فيه حمض النيتريك وهو ما لم يكن ليقربه. لم يستطع كوروليف أيضا أن يهيئ الأجواء لجلشكو كي يبتكر نماذج جديدة أكثر توافقا مع ما كان يريده؛ حيث كان جلشكو مشغولا تماما بمشروع منفصل، وهو تصميم محرك بقوة دفع 1,3 مليون رطل يستخدم أيضا الوقود القابل للتخزين. لكن كوروليف يحتفظ بورقة رابحة؛ إذ كان ينمي مهارات مصنع جديد لمحركات الصواريخ، وهو نيكولاي كوزنتسوف، الذي كانت لديه دراية سابقة بوصفه مصمم توربينات نفاثة للطائرات.
كان كوروليف قد استعان قبل ذلك بكوزننتسوف وساعده في الدخول إلى علم الصواريخ بإعطاء توجيهات له بتصميم «إن كيه-9»، وهو محرك كان كوروليف يسعى لاستخدامه في صاروخه الباليستي العابر للقارات «آر-9»، الذي كان منافسا للصاروخ «آر-16» لفانجل. اتفق كوروليف مع كوزننتسوف على تطوير نسختين محدثتين من محرك «إن كيه-9»، وهما «إن كيه-15» و«إن كيه-15في»، للمرحلتين الأولى والثانية من صاروخ التعزيز المقترح. كما كان سيستخدم محرك «إن كيه-9»، لصاروخ المرحلة الثالثة.
ربما كانت هذه الخطة تتضمن في ظاهرها القرار المباشر نفسه الذي كانت شركة «مارتن» قد اتخذته في تصميم الصاروخ «تايتان 2»؛ حيث أدى تفضيل الوقود القابل للتخزين إلى اختيار الشركة لمحركات من إنتاج «إيروجت» بدلا من «روكيت داين». في حقيقة الأمر، أدت القرارات في موسكو إلى نشوب نزاع شديد بين كوروليف وجلشكو.
ترجع جذور النزاع إلى خلاف سابق حول محركات الصاروخ «آر-9» الباليستي العابر للقارات؛ حاول جلشكو بناء المحركات لكنه واجه مشكلات جمة. قصد كوروليف الكرملين وأصر على السماح له بالاستغناء عن محرك جلشكو لصالح محرك كوزننتسوف «إن كيه-9» الجديد. استدعت هذه الواقعة المنافسة التي نشأت في عام 1958 حول محرك صاروخ المرحلة العليا في الصاروخ «آر-7». كان جلشكو قد خسر تلك المنافسة لصالح سيمون كوزبرج، وهو وافد جديد آخر ساعده كوروليف أيضا، لكن هذه المرة، لم يقبل جلشكو رغبة كوروليف الواضحة في تحويل مصممي الصواريخ غير المتمرسين إلى غرماء رئيسيين. كان جلشكو يتمتع بنفوذ في موسكو، وقدم التماسا إلى إحدى اللجان؛ فأصدرت اللجنة حكمها ضد كوزننتسوف؛ وهو ما أجبر كوروليف على استخدام محركات من جلشكو في الصاروخ «آر-9» في النهاية.
كانت المحركات تستخدم الكيروسين والأكسجين السائل، الوقود الذي كان كوروليف يفضله. بالنسبة إلى صاروخه التعزيزي الجديد المقترح، زادت مسألة استخدام الوقود القابل للتخزين من وطأة النزاع. كان كوروليف يكره الوقود القابل للتخزين؛ إذ إنه يذكره بوفاة ندلين. لكن، على العكس من ذلك، كان جلشكو ينظر إلى هذا الوقود باعتباره الطريق إلى المستقبل؛ حيث كان يعد ببساطة التصميم. في الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، كان الوقود القابل للتخزين يسمح بنشرها في صوامع فضلا عن سرعة إطلاقها، أما في صواريخ التعزيز الفضائية، فكان الوقود القابل للتخزين يعني إمكانية الاعتماد عليها وتقليل عدد محاولات الإطلاق الفاشلة.
بعد أن رفض كوروليف محرك جلشكو «آر دي-253»، رد جلشكو على حسن صنيعه بإعلان عدم اشتراكه في بناء صاروخ كوروليف الجديد الكبير، بما في ذلك محركات مركبته الفضائية المأهولة . لو أن كوروليف كان مولعا للغاية بذلك المبتدئ كوزننتسوف، لاستطاع الذهاب إلى كوزننتسوف لبناء جميع محركاته رغبة منه في تطوير قدراته على حساب جلشكو، ولقضي الأمر. كان كوروليف يدرك جيدا أن مركز جلشكو الهندسي هو الأكثر خبرة في هذا الصدد، لكنه ما كان سيقصد المركز لبناء محركاته؛ حيث كان جلشكو نفسه قد أصبح هو أساس المشكلة.
اتخذ النزاع طابعا شخصيا. قلل جلشكو من شأن العمل الذي يقوم به كوروليف، قائلا إن استخدام محرك جيد كفيل بأن يجعل عصا مكنسة تطير. ساهم هذا الصراع في عرقلة جهود كوروليف في التصميم مع التراجع التدريجي للدعم السياسي الذي كان في حاجة إليه. تدخل خروتشوف بنفسه، محاولا إصلاح ذات البين بين الشريكين اللذين مضت على شراكتهما مدة طويلة، بيد أنه لم يفلح. مع انهيار شراكتهما التي دامت طويلا، تحول كوروليف إلى مصادر أخرى لبناء محركاته الإضافية، وكان من بين هذه المصادر كوزننتسوف.
حصلت مركبة الإطلاق الجديدة، «إن-1»، لكوروليف على تصميم مقبول في أواسط عام 1962 وسط مراجعة دقيقة من قبل لجنة كان يرأسها مستيسلاف كلديش، الذي صار آنذاك رئيس أكاديمية العلوم. كان التصميم يتطلب صاروخا حقيقيا على غرار الصاروخ «ساتورن 5» للسفر إلى القمر. كان التصميم يقتضي أيضا إرسال رواد فضاء إلى القمر، وبينما كان كوروليف يتوقع في البداية إجراء عمليتي إطلاق أو ثلاث لتجميع مركبة فضائية قمرية في مدار أرضي، تبنى أيضا بمرور الوقت أسلوب الالتقاء في مدار قمري. كان من المتوقع آنذاك أن تطلق مركبة «إن-1» واحدة مركبة فضائية كبيرة مأهولة برائدي فضاء للدوران حول القمر، مع إرسال مركبة هبوط صغيرة إلى سطح القمر على متنها رائد فضاء واحد، تعود لاحقا إلى هذه السفينة الأم.
في ظل الأراضي الداخلية غير الساحلية الشاسعة، لم تكن ثمة فرصة أمام كوروليف لتطبيق الأسلوب المتبع في إطلاق الصاروخ «ساتورن 5» ببناء مراحل الصاروخ بعيدا عن مركز الإطلاق وشحنها على متن سفن كبيرة. بدلا من ذلك، أقام كوروليف مصنع تجميع في تيوراتام، لبناء مركبة «إن-1» الكاملة. كان العاملون سيتسلمون محركات الصاروخ من كوزننتسوف في مدينة كيوبيشف؛ حيث كان من المقرر إجراء عملية التجميع للمراحل الثلاث في الموقع، ثم توصيلها أفقيا. كان من المقرر أن توضع مركبة «إن-1» الكاملة على جانبها في حامل كبير.
اعتمد فلاديمير بارمين، كبير مصممي مجمعات الإطلاق لدى كوروليف منذ فترة طويلة، على خبرته بالصاروخ «آر-7» في الإعداد لإطلاق مركبة «إن-1». مثلما هي الحال مع الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، كان من المقرر أن ينقل الصاروخ القمري على خطوط السكك الحديدية إلى منصة إطلاقه، محفوظا في حامله. ثم ينصب في وضع رأسي باستخدام رافعة هيدروليكية كبيرة مما سيؤدي إلى تمايل صاروخ التعزيز الضخم هذا، بارتفاع 345 قدما، عبر منحنى قوسي قيمته تسعون درجة. سيزود الفنيون الصاروخ بعد ذلك بالوقود ويعدونه للإقلاع.
في تلك الأثناء، في منتصف عام 1962، كان تطوير محرك ناسا «إف-1» يسير على خطى جيدة؛ حيث كان قد جرى تشغيله بكامل قوة دفعه وطوال فترة الطيران الكاملة في مايو. عكس هذا الإنجاز التزام أمريكا المبكر الذي يعود إلى عام 1958، ومنحها الريادة طوال أربع سنوات. لم يكن لدى كوروليف محرك كهذا في متناول يديه؛ إذ كان عليه أن يقبل محرك كوزننتسوف «إن كيه-15»، الذي كانت قوة دفعه تبلغ 340 ألف رطل مقابل قوة دفع «إف-1» التي كانت تبلغ 1,5 مليون رطل. استخدم كوروليف ثلاثين محركا من هذا الطراز في تصميمه النهائي، بقوة دفع إجمالية تتجاوز عشرة ملايين رطل، وهو ما كان يتجاوز بكثير قوة دفع «ساتورن 5» البالغة 7,5 ملايين رطل.
كان ذلك صاروخا حقيقيا على طراز صاروخ «نوفا»، يشبه كثيرا ما كان العالم سيراه في الصاروخ الضخم ذي الواحد والخمسين محركا الذي كان فون براون قد ناقشه في مجلة «كوليرز» قبل عقد مضى. لكن، كان الصاروخ أقل قدرة من الصاروخ «ساتورن 5»؛ حيث كان يستطيع نقل رائد فضاء واحد إلى سطح القمر، مقارنة بإمكانية نقل رائدي فضاء في «أبولو». بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من أن «ساتورن 5» كان أثقل قليلا، فقد كان يتطلب قوة دفع أقل، وهو ما كان يرجع إلى أن «إن -1» كانت به محركات إضافية، كإجراء احترازي حال توقف بعض المحركات أثناء الطيران.
في حقيقة الأمر، كان يحرك جهود بناء «إن-1» بأكملها توقع أن تفشل صواريخ التعزيز الضخمة أثناء عمليات الإطلاق التجريبية. لم يكن هذا من قبيل التسليم بالقدر. عكس الأمر مجددا تجربة الصاروخ «آر-7»؛ حيث كان مصممو كوروليف قد تعلموا دروسا من حوادث تحطم ذلك الصاروخ العنيفة المصحوبة بانفجارات، ومضوا يبنون مركبة يمكن التعويل عليها. لم يكن ثمة نظير حقيقي لبرنامج «إن-1» في منشأة اختبارات المسيسيبي التابعة لناسا. على الرغم من أن كوروليف كانت لديه منشآت إطلاق استاتيكي للمراحل العليا في مركبة «إن-1» الكاملة، فلم يكن ثمة أي مركز في مقدوره إجراء مثل هذه الاختبارات الاستاتيكية على مرحلته الأولى المهمة. وعلى الرغم من أن كوزننتسوف كان يختبر محركاته بعناية، فلم يكن تتولد عن عددها الوفير قوة دفع إلا خلال رحلة الطيران. كان كوروليف يتوقع حدوث بعض الانفجارات التي تتولد عنها كرات نارية هائلة، وكان مستعدا لقبول ذلك.
في تلك الأثناء، انطلق صاروخ تشلومي «بروتون» أولا. في يوليو 1965، رفعت الرحلة الأولى حمولة 27 ألف رطل في مدار فضائي، وأثبتت مجددا أن الوقود القابل للتخزين يوفر البساطة والموثوقية، حتى عندما يستلزم الأمر تشغيل ستة محركات في آن واحد. كرر الصاروخ «بروتون» هذا النجاح في نوفمبر من خلال رحلة مشابهة. كان صاروخ أمريكا «ساتورن» قد حلق من قبل في مدار فضائي وعلى متنه حمولات أثقل، كنماذج تجريبية لمركبة «أبولو» الفضائية؛ بيد أن هاتين المهمتين سجلتا رقما قياسيا في الوزن لصالح موسكو.
سباق الهبوط على سطح القمر: الصاروخان «ساتورن 1-بي» و«ساتورن 5» الأمريكيان، والصاروخ «بروتون» السوفييتي الذي يتضمن المحركين «زوند» و«إن-1» (دان جوتييه).
كان تشلومي يطور المركبة الفضائية المأهولة التي كانت ستوضع أعلى أحد صواريخ «بروتون» في رحلتها الفضائية حول القمر، بيد أن مركزه الهندسي كان يفتقر إلى خبرة التعامل مع هذه المركبة، وهو ما منح كوروليف فرصة جديدة. كانت خبرة مجموعته في هذا المجال لا تضاهى؛ حيث إنها كانت قد بنت الصاروخين «فوستوك » و«فوسخود». بالإضافة إلى ذلك، كان كوروليف يطور آنذاك مركبة فضائية مأهولة جديدة، وهي مركبة «سويوز» (أي الاتحاد)، كان من المقرر أن تجري عمليات التقاء والتحام، وهو ما كان يضاهي إنجازات مركبة «جيميني» التابعة لناسا.
كانت فرصة كوروليف عظيمة نظرا لأن خروتشوف، راعي تشلومي، كان قد ترك السلطة في أكتوبر 1964. على النقيض من ذلك، كان كوروليف لا يزال يتمتع بعلاقات طيبة مع مستشاره، ديمتري أوستينوف، الذي كان يرأس آنذاك برنامج الفضاء. في سبتمبر 1965، أخذ كوروليف خطوة جريئة لانتزاع مبادرة مركبة «بروتون» التي تدور حول القمر من تشلومي، وإحلال نموذج معدل كثيرا من مركبة «سويوز» باسم «زوند» (أي مسبار) محلها. التقى كوروليف تشلومي بصفة شخصية في سلسلة من اللقاءات التي كانت تتسم بالعدائية؛ حيث هاجم تصميماته بشراسة وأوضح أوجه قصورها. انتصر كوروليف في الصراع؛ ومن ثم وجد نفسه مسئولا عن مهمة الدوران حول القمر، فضلا عن عملية الهبوط على سطحه.
كان كوروليف لا يزال يشغل منصب كبير المصممين. على الرغم من صراعه مع جلشكو، وإزاء التحديات التي واجهها من فانجل وتشلومي، صار يتحكم آنذاك في إمبراطورية أوسع نطاقا بكثير من إمبراطورية فون براون. كان فون براون، بوصفه مدير مركز مارشال لرحلات الفضاء التابع لناسا، مسئولا عن جميع صواريخ التعزيز فئة «ساتورن»، ومسئولا أيضا عن محركاتها الرئيسية. جاءت هذه المحركات من «روكيت داين»، بيد أن رئيس الشركة سام هوفمان كان يتطلع إلى هانتسفيل للحصول على عقود لشركته. كان نفوذ فون براون يشمل أيضا مصنع ميشو ومنشأة اختبارات المسيسيبي، لكن مركبة «أبولو» القمرية كانت تقع في نطاق سلطة روبرت جيلروث، مدير مركز المركبات الفضائية المأهولة في هيوستن، بينما كان مركز كيب كانافيرال يعمل كمركز مستقل ومكافئ لناسا.
استطاع كوروليف، شأنه شأن كورتيز البدين في قصيدة الشاعر كيتس، أن يرى آفاقا أبعد. كانت رؤيته الاستشرافية تشمل مركبة «سويوز» وصاروخ إطلاقها «آر-7»، في النموذج المزود بصاروخ مرحلة عليا جديد. كان «بروتون» ينتمي إلى تشلومي وجلشكو، لكن كوروليف كان يمتلك مركبة «زوند» الفضائية الخاصة به. تولى كوروليف أيضا مسئولية الصاروخ «إن-1» القمري بالكامل، فضلا عن مركبته الفضائية التي تدور حول القمر، بما في ذلك مركبة الإنزال. كانت معظم محركاته من تصميم كوزننتسوف، الذي كان قد دعمه باعتباره أحد تلامذته. كان مصنع تجميع الصاروخ «إن-1»، وهو نظير مصنع ميشو، يقع في نطاق مسئولية كوروليف أيضا. بالإضافة إلى ذلك، كان مجمع إطلاق «إن-1» في مركز تيوراتام ومنشآت النقل المرتبطة به تقع جميعا ضمن مسئولية بارمين، أحد مساعديه المقربين منذ أيام الصاروخ «في-2».
مع ذلك، لم يتربع كوروليف على عرش هذه الإمبراطورية طويلا؛ ففي يناير 1966، دخل كوروليف المستشفى لإجراء عملية جراحية لإزالة ورم نزفي في أمعائه الدقيقة. كفلت له مكانته العالية تلقي عناية فائقة، وكان الجراح بوريس بتروفسكي مشهورا بما يكفي لتقلده منصبا وزاريا، كوزير للصحة. لكن كوروليف نزف على طاولة الجراحة، نزفا شديدا؛ حاول بتروفسكي وقف تدفق الدم بإجراء جراحة في البطن؛ فاكتشف ورما سرطانيا ضخما لم يكتشف من قبل؛ لذا، صار من المتوقع أن تستغرق العملية وقتا أطول بكثير، استعان بتروفسكي بزميل على مستوى عال من الخبرة لمساعدته في إزالة النسيج السرطاني. نجح كلا الجراحين معا في إكمال العملية والسيطرة على النزيف وتخييط الجروح.
مع ذلك، عادة ما تضع العمليات الجراحية الكبرى عبئا هائلا على المريض، ولم يكن كوروليف في حالة طيبة. زاد وزنه زيادة مفرطة، وصار قلبه ضعيفا. استغرقت العملية، التي بدت روتينية في بدايتها، ثماني ساعات. توقف قلب كوروليف قبل أن يستعيد وعيه، وكان يبلغ من العمر آنذاك تسعة وخمسين عاما.
انتقلت مهام كوروليف إلى فاسيلي ميشين، نائبه وزميله منذ عام 1945، بيد أن كوروليف لم يكن له مثيل يمكنه أن يحل محله. كان الجميع يعلم أن موته كان يمثل خسارة فادحة، ودفن رفات كوروليف في حائط الكرملين، وهو تشريف عظيم حاز عليه بعد مماته. كان من اللائق أيضا تحية هذا الرجل بكلمات كتبت لإحياء ذكرى وفاة أبراهام لنكولن:
وعندما سقط في الدوامة، هبط إلى أسفل
مثلما تسقط شجرة أرز شامخة، تعلوها الأغصان الخضراء
تسقط بصوت مدو على التلال
وتخلف مكانا موحشا قبالة السماء.
في تلك السماء، كانت صواريخ «بروتون» و«ساتورن» تحلق بنجاح أثناء الاختبارات، على الرغم من أنها لم تكن تحمل على متنها أشخاصا بعد؛ بيد أن هذا أمر كان في سبيله إلى التغيير، وأخذت الولايات المتحدة بزمام المبادرة مرة أخرى. أفسح الصاروخ «ساتورن» ذو المحركات الثمانية في السنوات السابقة المجال أمام نموذجه النهائي، «ساتورن 1-بي». بلغت قوة الدفع الكاملة لكل محرك في هذا الصاروخ 200 ألف رطل، وهو ما يزيد بنسبة خمسين في المائة عن نظرائه من المحركات الأخرى التي جرى تطويرها قبل عقد من الزمان، والتي كان يبلغ إجمالي قوة دفعها 1,6 مليون رطل. حمل صاروخ المرحلة الثانية «إس-4 بي» إحدى مركبات «أبولو» الفضائية، لكن من دون مركبة الإنزال القمري. كان من المقرر أن يحمل هذه المركبة الفضائية في مدار فضائي في أوائل عام 1967، وكان طاقمه المؤلف من ثلاثة رواد فضاء جاهزا. كان قائد المركبة، جاس جريسوم، عضوا مخضرما في طواقم عمل «ميركوري» و«جيميني». كان يوجد بالإضافة إليه إد وايت، الذي سار في الفضاء أثناء بعثة «جيميني 4»، وروجر شافي، وكان مبتدئا.
كانوا جميعا يرقدون على ظهورهم في المركبة الفضائية في مساء 27 يناير 1967؛ حيث كانوا يجرون تدريبا مطولا. قال شافي على نحو عفوي قليلا: «حريق! أشم رائحة حريق!» ثم جاء صوت وايت بعدها بلحظات، أكثر حزما، يقول: «حريق في القمرة!» في برج المراقبة، تابع المراقبون الأرضيون في حالة من عدم التصديق المشهد على شاشة تليفزيون ذي دائرة مغلقة، بينما كانت ألسنة اللهب تتصاعد بقوة وامتلأت القمرة بالدخان. صاح أحدهم على نحو هيستيري قائلا: «ثمة حريق في المركبة!»
في غضون خمس عشرة ثانية قفز الضغط الداخلي إلى ثلاثة أضعاف الضغط الجوي تقريبا، وتصدعت جدران المركبة. تماوجت ألسنة اللهب في القمرة ثم خمدت، مخلفة دخانا كثيفا فضلا عن أول أكسيد الكربون. أصيب رواد الفضاء الثلاثة بحروق بالغة، بيد أنها لم تشكل خطرا على حياتهم، بل ماتوا بالاختناق.
ماذا حدث؟ كانت مركبة «أبولو» تحتوي على نظام لإنقاذ الحياة، يملأ القمرة بالأكسجين النقي عندما تكون المركبة في مدار فضائي، عند ضغط خمسة أرطال لكل بوصة مربعة، وهو ما يعادل ثلث الضغط الجوي. كان هذا النظام يوفر كمية من الأكسجين أكثر مما في الهواء عند مستوى سطح البحر. لكن، لم يكن هذا يمثل في الفضاء أي خطر لاندلاع حريق؛ لأن الحريق لا ينشب إلا إذا تصاعدت غازات الاحتراق الساخنة في ألسنة النيران من خلال عملية الطفو، وهو ما يسمح بوصول الأكسجين النقي إلى اللهب. عند انعدام الوزن، لا تحدث عملية الطفو؛ ومن ثم تظل الغازات المحترقة قريبة من النيران وتخمدها قبل أن تنتشر.
أثناء عمليات إطلاق «ميركوري» و«جيميني»، كانت ناسا تطبق أسلوب استخدام نظام الأكسجين في القمرة في التجارب الأرضية؛ حيث كانت تملأ المركبة بهذا الغاز عند ضغط أعلى قليلا من الضغط الجوي. استمر هذا الأسلوب في «أبولو». عند اندلاع النيران، كان رواد الفضاء يغمرون في الأكسجين النقي عند ضغط 16,7 رطلا لكل بوصة مربعة، وهو ما يزيد بمقدار خمس مرات عن تركيز الهواء عند مستوى سطح البحر. كان طيار الاختبار سكوت كروسفيلد يقول إن ذلك كان «أشبه بما لو كانوا موجودين في قنبلة ثرميتية شديدة الاحتراق».
كان من الممكن أن تنقذهم فتحة سريعة الإعتاق، وكانت كبسولات «ميركوري» مجهزة بهذا النوع من الفتحات. لكن للمفارقة، كانت رحلة جريسوم، في منتصف عام 1961، هي التي جعلت ناسا تتخلى عن هذه الفتحات في المركبات الفضائية اللاحقة. هبطت كبسولة جريسوم في المحيط الأطلنطي بواسطة مظلة، وكان قد ضغط دون قصد على أزرار المصاريع السريعة الفتح؛ مما أدى إلى فتح فتحة الخروج قبل الوقت المحدد لذلك. امتلأت مركبته بالماء وغطست تحت سطحه، بينما اضطر جريسوم نفسه - الذي كان يتحرك بصعوبة في الماء مرتديا بزة فضائية غير ملائمة - إلى السباحة حتى وصل بر الأمان وكاد يغرق.
كانت التعديلات النهائية في مركبة «أبولو» بسيطة وواضحة؛ حيث شملت فتحة تتضمن زر إعتاق عند الطوارئ، وجهودا كبيرة لجعل القمرة مقاومة للحريق، والأهم من ذلك أنها تضمنت نظاما مكونا من غازين؛ حيث يخفف الأكسجين باستخدام النيتروجين أثناء التجارب الأرضية. لكن، مثلما أشار فون براون قائلا: «كنا بصدد مشكلة لا نعلم عنها شيئا.» وكان ستورمي ستورمز، رئيس قسم الفضاء في شركة «نورث أمريكان أفياشن»، هو من تكبد صعوبات من جراء ما حدث.
كان ستورمز مسئولا عن صاروخ المرحلة الثانية «إس-2» في الصاروخ «ساتورن 5»، فضلا عن مركبة «أبولو»، ورأت ناسا أن أداءه لم يكن مرضيا فيما يتعلق بالصاروخ «إس-2». سجل الصاروخ رقما قياسيا في خفة الوزن، ولإبقاء وزنه خفيفا، تجنب مصممو الصاروخ استخدام المسامير، معتمدين في تصميمه على اللحام. استلزم الصاروخ نحو 3000 قدم من الأجزاء الملحومة، الشديدة الدقة والخالية من العيوب، التي بلغت دقة الكثير منها 1 / 75 من البوصة. بالإضافة إلى ذلك، اختار المصممون سبيكة ألومنيوم لم تكن مفضلة في عمليات اللحام؛ مثل هذا الخيار إجراء آخر من إجراءات تخفيف الوزن؛ لأن السبيكة كانت تكتسب قوة عند تعرضها إلى وقود الغازات السائلة الفائقة البرودة في الصاروخ؛ وهو ما يسمح باستخدام كمية أقل من المعادن في هيكل الصاروخ.
لم يكن يصلح لهذه المهمة عامل لحام تقليدي، يتطاير الشرر من مشعل قرب رأسه الذي يعتمر عليه خوذة؛ كان الأمر يتطلب معدات آلية. لكن، تعطلت عملية تجميع أجزاء صواريخ المراحل الأولى للصاروخ «إس-2»، وزاد الأمر سوءا عندما تحطم صاروخان منها أثناء الاختبارات. استاء مسئولو ناسا كثيرا لذلك، وكان على ستورمز أن يقبل بإجراء تغييرات شاملة في إدارة مشروعه قبل أن تخرج الصعوبات عن نطاق السيطرة. في ظل مرور مركبة «أبولو» بمصاعب مشابهة، أصرت ناسا على رحيله، وإلا فالاحتمال الأرجح أن تفقد شركة «نورث أمريكان» عقدها مع ناسا.
رأى رئيس ستورمز، لي آتوود، في ذلك ظلما شديدا؛ إذ كانت ناسا، وليس ستورمز، هي من اتخذت القرار بملء المركبة بأكسجين عالي الضغط. في حقيقة الأمر، تولت تلك الوكالة المسئولية الكاملة عن الأنشطة التي كانت تتم في مركز كيب، ولم تكترث حتى بأن تخبر ستورمز بما كان يفعله عاملوها. لكن، كان لا بد من وجود كبش فداء للإطاحة به، وكان ستورمز مناسبا لذلك. أثبت ستورمز أنه سيئ الحظ. كان نابليون قد عزل جنرالات لسوء حظهم، وكانت ناسا على استعداد لأن تفعل المثل. في النهاية، كان على كبار مسئولي ناسا أن يبحثوا عمن يشغل منصب ستورمز ليطمئنوا له؛ لم يكونوا يرغبون في الانتظار حتى يتلقوا مزيدا من الأخبار السيئة منه. كذلك، لم تقر الوكالة قط بأنها كانت مخطئة في قرار العزل، بينما لم يكن ستورمز سوى كبش فداء. مع ذلك، ظل ستورمز في «نورث أمريكان»، وأنزل منصبه إلى نائب رئيس؛ ومن ثم، صار كل ما في وسعه هو تقديم توصيات؛ إذ كانت الإدارة الجديدة وحدها هي من لها سلطة التصرف.
أحلت عملية التغيير الجديدة ويليام برجن، الذي كان رئيسا لشركة «مارتن»، محل ستورمز. جاء مع برجن مساعدان مهمان، هما باستيان هالو لإدارة منشأة كيب كانافيرال التابعة لشركة «نورث أمريكان»، وجون هيلي لتولي مسئولية مركبة «أبولو» الفضائية. قال كروسفيلد، وهو أحد أفراد فريق ستورمز المخلصين، شاكيا: «عينوا أشخاصا من شركة «مارتن» في مستويات الإدارة العليا.» لكن، أسفر هذا التغيير الشامل عن نتائج؛ حيث بلغ أداء الشركة المستوى المطلوب.
مثل انفجار «أبولو» انتكاسة شديدة الوقع، وسرعان ما مر السوفييت بمأساة مشابهة مع «سويوز». أجريت ثلاث رحلات تأهيلية غير مأهولة لمركبة «سويوز»، انفجرت المركبة في إحداها على منصة الإطلاق؛ لم ينجح سوى بعثة واحدة في العودة بسلام، وتعين انتشالها من بحر آزوف بعد غرقها هناك. على الرغم من ذلك، شرع السوفييت في أبريل 1967 في إطلاق مركبتين من مركبات «سويوز» الفضائية، في بعثة ثنائية أخرى؛ كان من المقرر أن تحمل إحداهما رائد فضاء واحدا، هو فلاديمير كوماروف، الذي كان قد ترأس بعثة «فوسخود» التي كانت تقل على متنها ثلاثة من رواد الفضاء في عام 1964، في حين كان من المقرر أن تحمل مركبة «سويوز» الثانية طاقما من ثلاثة رواد فضاء، وأن تلتقي بالمركبة الأولى وتلتحم بها؛ ثم كان اثنان من رواد الفضاء الثلاثة سيشقان طريقهما إلى مركبة «سويوز» الأولى، ثم تعود كلتا المركبتين إلى الأرض.
حلق كوماروف بمركبته في مدار فضائي، لكن لم يعمل أحد الألواح الشمسية؛ فأدى نقص الطاقة الناتج إلى عدم امتلاكه الطاقة اللازمة لمركبته لإتمام عملية الالتقاء؛ لذا ظلت مركبة «سويوز» الثانية قابعة على الأرض. صرخ متجهما، بينما كان يحاول بإصرار ضبط نظم التحكم العقيمة على متن المركبة: «آلة ملعونة، لا شيء مما أضع يدي عليه يعمل!» نجح في الحفاظ على توازن مركبته، لكنه عاد من مداره بعد يوم واحد فقط.
مر نظام المظلات بتجارب موسعة في بعثات مدارية غير مأهولة؛ لكن هذه المرة، لم تنفتح المظلة الرئيسية، بينما علقت مظلة احتياطية بالمظلة الأولى؛ اصطدمت مركبته بالأرض بسرعة كبيرة وأردته قتيلا. كانت وفاته تشبه وفاة طاقم «أبولو». بينما كانت «أبولو» تفتقر إلى الفتحة السريعة الإعتاق التي كانت من مكونات مركبة «ميركوري»، لم يكن في مركبة «سويوز» التي قادها كوماروف أي مقعد قذفي شخصي كالموجود في مركبة «فوستوك». كانت «سويوز» مركبة تقل على متنها ثلاثة من رواد الفضاء، ومثلما كان في نموذج «فوسخود» السابق، كانت المقاعد القذفية ستتطلب وزنا ومساحة أكثر من اللازم.
لكن، إذا كانت عملية هبوط مظلي بسيطة من شأنها أن تودي بحياة رائد فضاء، فإن مهمة الدوران حول القمر المخطط لها تشكل خطرا أكبر بكثير. عاودت مركبة «زوند»، وهي أحد نماذج مركبة «سويوز»، الولوج إلى المجال الجوي بسرعة فائقة. لو كانت زاوية الولوج حادة للغاية، لتأثرت المركبة بقوى جذب وتباطؤ فائقة، وهو ما يعرض طاقمها إلى قوى جاذبية كفيلة بأن تعرض أفراده للإصابة أو القتل؛ لذا تعين إبقاء الكبسولة في طبقة الجو العليا لوقت كاف لخفض سرعتها بسلام، قبل هبوطها النهائي.
واجهت «أبولو» المشكلة نفسها، وتوصلت إلى حل لها من خلال مركبة معاودة ولوج إلى الغلاف الجوي توفر قدرا بسيطا من قوة الرفع. تمكن رواد الفضاء من استخدام قوة الرفع هذه في تشكيل مسارهم أثناء ولوج الغلاف الجوي، مع الحفاظ على ارتفاعات مثالية أثناء الولوج. بالإضافة إلى ذلك، سار ترتيب عملية الرفع على غرار الأسلوب المتبع في «جيميني»، التي كانت قد استخدمت عملية الرفع عند معاودة الولوج للتحكم في الهبوط والنزول في موقع محدد. لكن، كانت قوة الرفع بمركبة زوند أقل كثيرا أثناء ولوج الغلاف الجوي، وواجهت مهمة شاقة للغاية.
كان من المقرر أن تسلك «زوند» عند عودتها من القمر مسارا عبارة عن نطاق مقبول من الارتفاعات لا يزيد عن ستة أميال من أعلى إلى أسفل؛ في هذا المسار، كانت «زوند» ستفقد بعض سرعتها من جراء المقاومة التي يسببها الغلاف الجوي نتيجة الاحتكاك به، وكانت ستتباطأ سرعة ولوجها من سبعة إلى حوالي خمسة أميال في الثانية. كان من المقرر أن تخرج المركبة إلى الفضاء لفترة قصيرة، ثم تعود إلى مسار ولوج تقليدي، كما لو كان من مدار فضائي. كان هامش الخطأ محدودا للغاية في حقيقة الأمر؛ إذا قل الارتفاع أكثر مما ينبغي، فسيواجه رواد الفضاء قوى جاذبية زائدة؛ وإذا زاد الارتفاع أكثر مما ينبغي، فستنطلق المركبة إلى الفضاء مثل حجر مسطح فوق بركة مياه، خاسرة بعض سرعتها، وقبل أن تعاود الولوج إلى الغلاف الجوي لإجراء محاولة مرور ثانية، كانت كمية الأكسجين المتوافرة لأفراد الطاقم ستنفد ويلقون حتفهم.
لذلك، قبل أن تتأهل «زوند» لحمل رواد فضاء، كان عليها أن تثبت أولا من خلال تجربة طيران حقيقية قدرتها على العثور على المسار في ظل التحكم الآلي؛ لكن، إذا نجحت، فربما تتمكن موسكو من الفوز على الأمريكيين في سباق الصعود إلى القمر. كانت مهمة الدوران حول القمر تتضمن فقط إرسال طاقمها في دورة سريعة حول الجانب المظلم من القمر، بيد أن هذا سيكفي لتأهل البعثة لتكون أول رحلة مأهولة إلى القمر. ربما لن تبدو الإنجازات التالية لذلك - أول شخص يدور حول القمر أو أول أشخاص يهبطون على سطحه - أكثر من مجرد تطورات في الاتجاه ذاته.
خلال خريف عام 1967، سعت مهمتا إطلاق مركبتي «بروتون» إلى إجراء رحلات طيران تجريبية غير مأهولة؛ في الرحلة الأولى، توقف أحد المحركات الستة في صاروخ المرحلة الأولى؛ وفي الرحلة الثانية، توقف أحد المحركات الأربعة في صاروخ المرحلة الثانية . أدت قوة الدفع غير المتوازنة في كلتا الحالتين إلى فشل محاولتي الإطلاق؛ لكن في أوائل شهر مارس عام 1968، انطلق صاروخ التعزيز بنجاح، قاذفا بمركبته «زوند 4» لمسافة قمرية. لم تقترب المركبة من القمر، بل على العكس حلقت في الاتجاه المعاكس، في مسار بسيط أمكن من خلاله إجراء تدريب خالص على ولوج الغلاف الجوي. لم تنجز المركبة هذه الرحلة بنجاح؛ إذ ولجت المركبة الغلاف الجوي بزاوية حادة جدا، نظرا لخلل ما على متن المركبة أدى إلى خطأ في السيطرة على الاتجاه. سقطت «زوند 4» في مكان بعيد عن منطقة استرجاعها، حيث انفجرت أثناء طيرانها عندما ضغط أحد المراقبين الأرضيين على زر إطلاق شحنة متفجرة على متنها، وهو إجراء احترازي كي لا تقع في أيد معادية. مع ذلك، شكلت الرحلة خطوة مهمة نحو القمر.
مركبات فضائية مأهولة عام 1970: في أعلى الصورة، مركبة الإنزال القمري ومركبة «أبولو» الأمريكيتان، حيث تظهر مركبة «أبولو» في وضع التحام مع مركبة الإنزال القمري. وفي أسفل الصورة، المركبتان «زوند» و«سويوز» السوفييتيتان، بالإضافة إلى شكل لمقياس الرسم (دان جوتييه).
في الوقت نفسه، كانت ناسا تتعافى من كارثة «أبولو» التي حدثت منذ عام مضى. قبل ذلك الحريق، كانت ناسا قد أهلت مركبة «إس-4 بي» ومركبة «أبولو» الفضائية، في رحلات طيران ناجحة للصاروخ «ساتورن 1-بي». ثم في نوفمبر 1967، سجل الصاروخ «ساتورن 5» الكامل نجاحا، وهو ما برر بوضوح إصرار جورج مولر على إجراء اختبار شامل. كان صاروخا المرحلتين الأولى والثانية يحلقان للمرة الأولى، وكل منهما يشتمل على خمسة محركات. عمل كل شيء على نحو جيد، بينما انطلق هذا الصاروخ العملاق الذي يبلغ طوله 363 قدما في الفضاء، فوق عمود ساطع من اللهب الأبيض المائل للاصفرار. في أحد استوديوهات محطة «سي بي إس نيوز»، صاح المذيع والتر كرونكايت قائلا: «يا إلهي! مبنانا يهتز، سقط جزء من السقف هنا!» كان صوت الهدير مرتفعا كصوت ثوران بركاني هائل، وشاهد الناس صعود الصاروخ في جاكسونفيل، على مسافة 150 ميلا.
بعدها بخمسة أشهر، في أبريل 1968، حلق الصاروخ «ساتورن» مجددا، في تجربة غير مأهولة أخرى. هددت النتائج «أبولو» بانتكاسة كبيرة.
كانت المشكلات ترتبط بمحركات «جيه-2» من «روكيت داين»، في المرحلتين الثانية والثالثة؛ حدث انخفاض في ضغط غرفة الاحتراق في المحرك رقم 2 في مركبة «إس-2»، ثم فقد الضغط كله وتوقفت غرفة الاحتراق بعد 263 ثانية من عملها؛ وهو ما تسبب في توقف المحرك رقم 3 المجاور أيضا. عوض كمبيوتر على متن المركبة فقدان المحركين من خلال التبديل بين محركات الصاروخ الثلاثة المتبقية للحفاظ على التوازن وزيادة زمن الاحتراق. حدث انخفاض مشابه في الأداء في محرك «جيه-2» الوحيد في صاروخ المرحلة الثالثة، لكنه ظل يعمل لمدة 170 ثانية، وهي الفترة المخطط لها. مع ذلك، لم يستجب المحرك عند إعطاء الأمر بإعادة التشغيل.
في هذه الرحلة، على الرغم من أن المركبة الفضائية بلغت مدارها بالفعل، تعطل ثلاثة محركات «جيه-2» من واقع ستة محركات موجودة، إما بسبب توقفها قبل الوقت المقرر لذلك، وإما بسبب عدم استجابتها إلى أوامر إعادة التشغيل، وهو ما كان يعني أن المحرك غير موثوق فيه. على الرغم من تحقيق نجاحات في رحلات الطيران التجريبية السابقة على ذلك، لم يكن من الممكن الاعتماد على المحرك لنقل رواد فضاء في رحلة إلى القمر.
كان بول كاستنهولتس مدير مشروع «جيه-2»، وكان يدرك أنه كان يواجه متاعب. كان يتمتع بهيئة رياضية وغير متكلفة تتلاءم جيدا مع سمعته كرجل قوي وحازم؛ بالإضافة إلى ذلك، كان ناشدا للكمال يهتم بالتفاصيل الدقيقة؛ يتذكر قائلا: «في نهاية الرحلة، ذهبنا إلى غرفة اجتماعات كبيرة في كيب كانافيرال.» كان مصطفا أمامه رؤساء «أبولو» ومديروها بالكامل، الذين كانوا قد حضروا إلى الموقع لمشاهدة لحظة الإطلاق. ويستطرد قائلا: «قلت: «يجدر بي أن أخبركم أننا لا نعرف ما حدث، لكننا سنعمل فورا وفق جدول زمني على مدى أربع وعشرين ساعة كاملة، وسنوافيكم بالأخبار دائما.»
5
أضاف قائلا: «لعلها كانت أسوأ لحظة في حياتي كمهندس صواريخ، كنت أحدث نفسي قائلا: «ماذا يمكن أن يكون أسوأ من ذلك؟» أتذكر أنني كنت أقود سيارتي في الطريق، عائدا إلى المنزل، وكنت أحدث نفسي: هذا فظيع! هذا أسوأ مكان على الإطلاق».» في «روكيت داين»، وضع كاستنهولتس جدول أعمال على مدار الساعة. استدعى سام هوفمان، رئيس الشركة، كل من استطاع الاستغناء عنه في البرامج الأخرى. جلب كاستنهولتس أسرة، بحيث يستطيع العاملون المكوث في مكاتبهم ليلا.
لماذا كانت المشكلة خطيرة إلى هذه الدرجة؟ لم يقتصر الأمر على عدم معرفة أحد لسبب توقف المحركات، بل لم يكن ثمة مسار واضح نحو اكتشاف السبب. لم تكن ثمة معدات معطلة لفحصها؛ فقد احترق «إس-2» عن آخره في الجو، بينما كانت مركبة «إس-4 بي» في مدارها وبعيدة المنال. كذلك، كانت البيانات الواردة من أجهزة القياس عن بعد شحيحة. كان محرك «جيه-2» قد أبلى بلاء حسنا في رحلة «ساتورن 5» السابقة، فضلا عن أربع عمليات إطلاق للصاروخ «ساتورن 1-بي» خلال العامين السابقين؛ لذا، رحلة إثر رحلة، استبعدت قنوات البيانات من محركات «جيه-2»، وأعيد تعيينها لأنظمة أخرى. كما أنه لم يحدث قط أن توقف أي من محركات «جيه-2» على هذا النحو في الاختبارات الأرضية.
على الرغم من ذلك، كانت البيانات المتوافرة من أجهزة القياس عن بعد تكفي للإشارة إلى أحد الأسباب، وهو خط وقود مساعد، يحتمل أن يكون قد حدث فيه تسرب أو تشقق. أجرى مديرو «روكيت داين» عمليات تشغيل تجريبية على محرك «جيه-2» عرضت هذا الخط لإجهاد غير عادي، لكنه صمد؛ وهو ما كان يشير إلى أن المعلومات القليلة المتوافرة لديهم ربما تفضي بهم إلى طريق مسدود.
جاءت الانفراجة في غضون أيام قليلة. يتذكر كاستنهولتس التحدث إلى زميل يدعى مارشال ماكلور، الذي سأل قائلا: «هل سيكون الأمر مختلفا في الفضاء عنه على الأرض؟» كانوا يقضون وقتا طويلا يشاهدون أفلام اختبارات «جيه-2» على المنصات في سانتا سوزانا ، وعندما شاهد كاستنهولتس تلك الأفلام مجددا، رأى ما لم يكن قد استرعى انتباهه من قبل بوصفه مهما. كان الثلج يتراكم على كثير من خطوط الوقود والأكسجين، أثناء نقلها الغازات السائلة الفائقة البرودة؛ لكن في الفضاء، لم يكن ثمة مجال لتكون الثلج.
لماذا كان الثلج مهما ؟ كثير من خطوط وقود «جيه-2» كان مصمما على نحو مموج ومتعرج ليكون أكثر مرونة، مثل خرطوم مكنسة كهربية. ولكونها مرنة، كانت تهتز، وإذا اهتزت تلك الخطوط بقوة أكثر مما ينبغي، فربما ينكسر أحد الخطوط. لكن في سانتا سوزانا، كان الثلج المتراكم داخل التموجات - فيما عرف باسم الكير أو المنفاخ - يقلل من سرعة الاهتزازات ويحول دون زيادة قوتها، وربما كان هذا هو السبب وراء عمل الخطوط على نحو جيد في التجارب الأرضية، في حين إنها قد تضعف وتنكسر بعد دقائق قليلة من انطلاق الصاروخ في الفضاء. يقول كاستنهولتس: «كان خط الوقود المساعد المشتبه فيه مغطى بشبكة من الصلب الذي لا يصدأ؛ لذا، لم يكن لأحد أن يلاحظ أن السبب كان الكير، لكن عند مشاهدة الفيلم، أمكن مشاهدة الثلج وهو يتشكل.»
كانت «روكيت داين» لديها غرفة اختبارات متخصصة، استطاع كاستنهولتس أن يدرس فيها هذه المكونات في الفراغ. وضع مهندسوه ثمانية من خطوط الوقود في هذه الغرفة، وأداروها في ظل ظروف تحاكي ظروف تشغيل «جيه-2» في الفضاء، ورأوا ثمانيتها جميعا تنكسر؛ ومن ثم، كان هذا الخط هو المسئول، حيث انكسر في الفضاء وتسبب في توقف المحركات. بدا من الواضح إذن أن المشكلة عشوائية، تحدث في بعض محركات «جيه-2» ولا تحدث في أخرى. مع ذلك، كان إصلاح المشكلة بسيطا، وهو نوع مختلف من أنابيب الصلب الذي لا يصدأ. كان هذا التعديل مهما على الرغم من بساطته، وحال دون انفجار المحرك مجددا؛ لكن بإصلاح هذه المشكلة، استطاعوا المضي قدما في مشروع «أبولو» بكامل طاقتهم.
كان من المقرر أن تحمل الرحلة التالية للصاروخ «ساتورن 5»، وهي الرحلة الثالثة، رواد فضاء، وكانت ناسا تتوقع إطلاق مركبة «أبولو» ومركبة الإنزال القمري. وكان مقررا أن يحمل هذا الصاروخ بعد ذلك جميع المعدات اللازمة لتنفيذ عملية هبوط على سطح القمر؛ لكن، لم يكن الصاروخ سيتوجه إلى القمر، بل كان من المقرر أن تظل هذه المركبات في مدار أرضي لإجراء تدريبات على عمليات الالتقاء استعدادا للحدث الرئيسي. لكن خلال الصيف، صار من الواضح أن مركبة الإنزال لن تصبح جاهزة للطيران لعدة أشهر؛ ومع ذلك، كان الصاروخ «ساتورن 5» الثالث قيد التجهيز في كيب كانافيرال، فضلا عن مركبة «أبولو» الفضائية المتعلقة به.
في أغسطس، اقترح جورج لو - مدير «أبولو» في هيوستن - التحليق بجرأة وإقدام باستخدام ذلك المزيج، والتوجه إلى القمر. سرعان ما نال لو دعم رئيسه روبرت جيلروث، مدير مركز المركبات الفضائية المأهولة، فضلا عن قادة آخرين مهمين، وفيهم فون براون. لكن، كان الأمر سيكون مختلفا تماما لو أنه حظي بموافقة رسمية من مقر ناسا في واشنطن؛ حيث لم تكن خطة لو قد تبلورت بعد. لم يكن البرنامج قد أجرى بعد المهمة المستهدفة لرواد الفضاء الثلاثة الذين لقوا حتفهم في الحريق، ألا وهي التحليق بالمركبة الفضائية في مدار أرضي من خلال إطلاقها على متن الصاروخ «ساتورن 1-بي»، دون مركبة الإنزال القمري. كانت هذه البعثة مدرجة على جدول الأعمال باسم «أبولو 7»، لكن كان يتوجب نجاحها قبل أن يتعهد أي شخص فعليا بالذهاب إلى القمر.
في هذه الأثناء، وتحديدا في سبتمبر، تلقت ناسا دفعة تشجيعية من موسكو بمنحها مركبة «زوند 5»؛ أظهرت هذه المركبة تفوقا كبيرا على مركبة «زوند 4»، قبل ذلك في عام 1968، حيث طافت المركبة حول القمر، ولم يكن يفصلها عنه إلا 1200 ميل. ثم بدأت عودتها، مجرية مناورات للتحليق في المسار المطلوب في الغلاف الجوي وبلوغ الارتفاع الصحيح. في طريق العودة، التقطت المركبة صورة جيدة للأرض. أسفر خطأ من قبل أحد المراقبين الأرضيين مجددا عن إجراء معاودة الولوج في مسار حاد للغاية، بيد أن المركبة سقطت في المحيط الهندي واسترجعت بعد ذلك. تتبع السير برنارد لوفيل رحلة المركبة في مرصد جودريل بانك، وعندما وصلت المركبة إلى موسكو، كانت تحمل سلحفاتين عادتا بسلام. أشار جيمس ويب إلى هذه الرحلة التي انبهر بها كثيرا بوصفها «أهم إثبات قدمته أية دولة حتى الآن على قدرات الفضاء الشاملة».
بعدها بشهرين، أبلت مركبة «زوند 6» بلاء أفضل بنجاحها في تنفيذ رحلة عودتها المخطط لها. التزمت المركبة بالممر بدقة، حيث انحدرت لمسافة ثمانية وعشرين ميلا من سطح الأرض، بينما تباطأت سرعتها إلى 4,7 أميال في الثانية، وهو ما كان يقل عن السرعة المدارية. عادت لفترة وجيزة إلى الفضاء، ثم عاودت الولوج مرة ثانية إلى المجال الجوي؛ حيث هبطت داخل منطقة الاسترجاع المعتادة في وسط آسيا. واجهت المركبة مشكلات أثناء الرحلة، كان من بينها حشية مطاطية تالفة أدت إلى فقدان الضغط في القمرة، فضلا عن مشكلات في المظلة أدت إلى ارتطام المركبة بدلا من هبوطها بخفة وتمهل؛ لكن، نجحت المركبة في التحليق حول القمر، على مقربة 1500 ميل تقريبا، وعادت بصور ممتازة تؤكد ذلك، واستطاعت إنجاز مهمتها الأكثر صعوبة، وهي عملية معاودة الولوج الثانية الناجحة.
أثبتت بعثة «زوند» بذلك صلاحية جميع المواصفات اللازمة لإجراء رحلة مأهولة وآمنة للدوران حول القمر، وإن لم يكن ذلك خلال البعثة نفسها. لكن، باتت الطريق مفتوحة أمام موسكو لوضع تصور عام والتعهد بتنفيذ بعثة مأهولة، ربما في الرحلة التالية لذلك مباشرة. تأكيدا لجاهزيتهم، أكمل السوفييت أيضا بعثة ناجحة بمركبة «سويوز» في أكتوبر؛ حيث قضى رائد الفضاء جورجيو بيريجوفوي ثلاثة أيام في مدار فضائي. لم يكن صاروخ كوروليف العظيم «إن-1» جاهزا فحسب، بل كان موجودا في تيوراتام. أنتج النموذج الأول الجاهز للإطلاق في شهر مايو من العام الماضي، ووصل إلى منصة الإطلاق في شهر نوفمبر.
لكن ناسا كانت جاهزة أيضا. حقق «أبولو 7» نجاحا خاصا به في شهر أكتوبر من هذا العام نفسه؛ حيث قاد كل من والي شيرا ووالت كانينجهام ودون أيزل مركبة «أبولو» في مدار فضائي، ومكثوا أحد عشر يوما في الفضاء. أزال هذا النجاح الأخير آثار حريق «أبولو»، وأسفرت في غضون أسابيع عن التعهد الذي كان جورج لو يسعى إليه، وتقرر أن تذهب الرحلة التالية ، «أبولو 8»، فعليا إلى القمر. في الرحلة الأولى في تاريخ البشرية لتحقيق هذا المقصد الذي عقد عليه كثير من الآمال، لم تكتف المركبة بالدوران فقط على غرار مركبة «زوند»، بل أدارت محركها لدخول مدار قمري، حيث طافت حول القمر عشر مرات قبل إشعال صاروخها مجددا للابتعاد عن القمر والعودة إلى الأرض.
هل تذكر أين كنت في صبيحة يوم 21 ديسمبر 1968؟ في هذا اليوم، كان فرانك بورمان وجيمس لوفيل وويليام آندرز، جالسين في مقاعدهم كرواد فضاء على متن مركبتهم الفضائية، أعلى الصاروخ «ساتورن 5»، استعدادا لبدء رحلة أسفرت عن فوز أمريكا في السباق ووضعها في المقدمة لحقبة طويلة قادمة. في هذا اليوم أيضا، كان والتر كرونكايت يذيع التغطية التليفزيونية المباشرة محافظا على هدوئه واتزانه ورباطة جأشه.
ثم حانت لحظة الإطلاق، فاعترت الجميع - حتى كرونكايت - حالة من الحماس تأثرا بروعة الحدث. ردد جاك كينج من مركز قيادة البعثة في ناسا: «اثنا عشر، أحد عشر، عشرة، تسعة. بدأنا ترتيب الإشعال. المحركات مدارة. أربعة، ثلاثة، اثنان». وأضاف كرونكايت قائلا: «ها هي في طريقها إلى الارتفاع، وها أنتم ترون النيران.»
6
قال كينج: «إنها تنطلق، فعلناها. نجحنا في الإطلاق.»
قال كرونكايت بصوت شديد التأثر: «ها هي تغادر البرج، على عمود ساطع من اللهب.» ثم أضاف وهو يحاول جاهدا أن يجعل صوته أعلى من صوت الهدير: «نحن نهتز، نشعر بالدوي الهائل الآن. إنها تنطلق في خط مستقيم، وها هي تعتدل قليلا. تبدو رائعة، لسان لهب ياقوتي ساطع! سبعة ملايين ونصف مليون رطل، ها هم يمضون في طريقهم إلى القمر!»
الفصل التاسع
حصيلة الرحلات الفضائية إلى القمر
المحطات الفضائية والمكوك الفضائي
في أواخر عام 1968، انطلقت «أبولو 8» في رحلتها في ذروة حرب فيتنام. كان أحد الأسباب المهمة وراء مشروع «أبولو»، الذي يعود إلى عام 1961، هو رغبة الولايات المتحدة في إبهار دول العالم الثالث بقوة أمريكا الفنية؛ ومن ثم إثناؤها عن اعتناق الشيوعية. كانت حرب فيتنام قد انبثقت عن الأصل نفسه؛ فقد صدرت الأوامر بخوض حرب فيتنام وبدء مشروع «أبولو» عن قيادة الرئيس كينيدي. صرح كينيدي في خطابه الافتتاحي، الذي ألقاه في عام 1961 أيضا، بأن البلاد «ستدفع أي ثمن، وتتحمل أي عبء» في سبيل الانتصار في «الصراع الطويل المرير» ضد الشيوعية. بيد أن العالم قد تغير منذ ذلك الحين؛ كانت الحرب الباردة تضع أوزارها، وهو ما جعل تصور الانسحاب من فيتنام دون اشتراط النصر أمرا ممكنا. ولأن ناسا كانت قد تطورت لتكون إحدى أدوات الحرب الباردة، أصابها التغيير هي الأخرى.
بدأ الصراع يتراجع وتخف حدته في أعقاب أزمة الصواريخ الكوبية. في غضون أشهر، التقى الدبلوماسيون الأمريكيون والسوفييت لتوقيع معاهدة تجرم إجراء اختبارات على الأسلحة النووية فوق سطح الأرض، وهو ما مثل وقتها خطوة مهمة نحو الحد من الأسلحة. أثبتت المعاهدة إمكانية تحول القوى العظمى من المواجهة إلى التفاوض. في هذا المناخ، ومع تراجع النظر إلى الحرب النووية بوصفها خطرا وشيكا، كانت البلاد توجه اهتمامها نحو الشئون المحلية، وكان سباق الفضاء هو الموضوع الأساسي الذي برز خلال عام 1963.
ليس من قبيل المصادفة أن تصدرت حركة الحقوق المدنية الاهتمام وسط تراجع حدة التوترات بين القوتين العظميين. لا تجري الدول برامج إصلاح شاملة في ظل تهديد الحرب؛ إذ يجب إرجاء هذا الإصلاح إلى وقت السلم. يرجع عصر الحقوق المدنية الحديثة إلى عام 1954، عندما أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها التاريخي الذي يقضي بأن الفصل العنصري في المدارس غير دستوري؛ لكن، على الرغم من ذلك، تطلب الأمر عقدا آخر لحشد الاهتمام العام بدرجة كبيرة تسمح بسن التشريع الملائم. بعد ذلك، صارت قوانين الحقوق المدنية هذه جزءا من حركة تغيير أوسع نطاقا في وقت السلم، وهي حركة «المجتمع العظيم».
تصاعدت الحرب في فيتنام - أحد الآثار الأخرى للحرب الباردة - خلال ستينيات القرن العشرين، على الرغم من تراجع حدة التوترات بين القوتين العظميين. دعم عموم الشعب الأمريكي المجهود الحربي، وسط تطمينات من الرئيس جونسون وقادة آخرين بأن الصراع سينتهي قريبا. ثم في فبراير 1968، شن شمال فيتنام وفيت كونج - حلفاؤها في جنوب فيتنام - هجوما كبيرا. فشل الهجوم عسكريا، عندما أفضت الهجمات الأمريكية المضادة إلى هزيمة العدو؛ بيد أن الهجوم حقق نجاحا باهرا بإقناع الولايات المتحدة بأن الشيوعيين دخلوا الحرب غير مبارحين ولن يستسلموا. في أعقاب هذا الهجوم، استجابت واشنطن إلى ذلك، ليس من خلال مزيد من التصعيد، بل بإجراء محادثات فض اشتباك. أثناء الحملة الرئاسية، وعد ريتشارد نيكسون بإنهاء الحرب، وعندما فاز في الانتخابات، بدا واضحا أن الولايات المتحدة تنوي الانسحاب حقا من فيتنام، حتى إذا كانت التفاصيل غير مؤكدة.
ومثلما أدى فتور حدة الحرب الباردة إلى الانسحاب من فيتنام، كان من المقرر أن تؤدي أيضا إلى تراجع مماثل من القمر. في الوقت الذي حققت فيه «أبولو» نجاحا كاملا وأصبحت ناسا قاب قوسين أو أدنى من القمر، حالت الأولويات المتغيرة على مستوى البلاد دون أن تواصل هذه الوكالة برنامج متابعة لإجراء عملية استكشاف موسعة للقمر؛ مما أدى إلى إرسال رحلات مأهولة إلى المريخ. وبدلا من أن يمضي برنامج الفضاء إلى الأمام باعتباره محور آمال الأمة، صار يبحث عن دوره في عالم رتيب بعيد عن الخيال والإبداع، مع خبو جذوة التحدي الذي أعلنه كينيدي، ومع نظر الكثيرين إلى «أبولو» باعتباره إهدارا للمال.
حدث خلاف لفترة قصيرة حول مشروع «أبولو» خلال مرحلة دفء العلاقات الدبلوماسية في عام 1963، حيث انتقد قادة مؤثرون تكلفة المشروع وشككوا في قيمته. اقتطع الكونجرس بعد ذلك نصف مليار دولار أمريكي من ميزانية ناسا؛ لكن، في أعقاب اغتيال الرئيس كينيدي، تراجعت حدة هذا الخلاف. صار هدف الهبوط على سطح القمر هدفا مقدسا على الصعيد السياسي؛ حيث كان ينظر إلى الأمر باعتباره سيكون تخليدا لذكرى هذا القائد الشهيد. لم يكن من المستغرب أيضا أن تنهمك ناسا في توسيع نطاق المجتمع العظيم، حيث قاد ليندون جونسون الجهود منذ عام 1957 في الدفع في اتجاه برنامج فضاء نشط. كان جونسون قد أشار على كينيدي أن يواصل برنامج «أبولو»، واتخذ هذا هدفا شخصيا له بمجرد وصوله إلى البيت الأبيض.
سار العمل في مشروع «أبولو» بخطى سريعة بفضل الازدهار الاقتصادي؛ حيث ارتفع إجمالي الناتج القومي من 500 مليار دولار أمريكي في عام 1960 إلى 660 مليار دولار أمريكي بعد خمس سنوات فقط، مع انخفاض هائل في معدل التضخم. ساعد ذلك في تغطية تكلفة برنامج الصعود إلى القمر، مع زيادة ميزانية ناسا من 1,2 مليار دولار أمريكي في العام المالي 1962 إلى ذروة ارتفاعها وهي 5,9 مليارات دولار أمريكي في العام المالي 1966. عند تلك الذروة، كانت الوكالة تنفق ما يقرب من واحد في المائة من إجمالي الناتج القومي. بلغ إجمالي معدل التوظيف لدى الشركات المتعاقدة 411 ألف شخص، وفي ناسا نفسها 36169 شخصا. وعلى مستوى البلاد ككل، كان أكثر من مليون شخص يعيشون في أسر تعتمد في مصدر دخلها على برنامج الفضاء، وهو ما كان يقترب من تعداد سكان ولاية نبراسكا، متجاوزا يوتا ونيو مكسيكو ونيو هامبشير.
كدولة ناشئة آخذة في النمو، كان برنامج الفضاء يضع المستقبل نصب عينيه وينفذ مشروعات من شأنها أن توفر فرصا تتجاوز ما يقدمه مشروع «أبولو»؛ كان من أبرز هذه المشروعات مشروع «إكس-15»، الذي على الرغم من أنه يرجع إلى خمسينيات القرن العشرين، فإن أثره الممتد استمر لعقود لاحقة.
سجل الصاروخ «إكس-15» أرقاما قياسية في السرعة والارتفاع حتى عند تزويده بمحركيه الأصليين طراز «إكس إل آر-2»، من إنتاج شركة «ريأكشن موتورز»، اللذين كانا يوفران قوة دفع مقدارها 16 ألف رطل. وفي آخر مشروعاتها بعد ذلك، بنت شركة «ريأكشن موتورز» محرك «إكس إل آر-99» اللاحق لاستخدامه في الصاروخ «إكس-15»، الذي كانت قوة دفعه البالغة 57 ألف رطل تضاهي قوة دفع الصاروخ «في-2». بالإضافة إلى ذلك، لزيادة أدائه، لم تنطلق هذه الطائرة الصاروخية من ممر إقلاع، بل وضعت أسفل جناح طائرة قاذفة طراز «بي-52» على حاملة طائرات. بلغت في أنجح رحلاتها ارتفاع 67 ميلا بسرعة 4520 ميلا في الساعة، أو ما يساوي 6,7 ماخ. لم تستطع أي طائرة يقودها طيار تجاوز هذه الأرقام حتى ظهور المكوك الفضائي.
استمر برنامج رحلات «إكس-15» قرابة عقد من الزمان، من عام 1959 إلى عام 1968، وأسهم إسهاما كبيرا في بيان كيفية الحيلولة دون تعثر طائرة صاروخية عالية الأداء على نحو يجعلها خارج السيطرة. كانت اختبارات الطيران باستخدام المركبات الأولى، خلال خمسينيات القرن العشرين، قد أوضحت أن تلك المركبات يمكن أن تقع فريسة بسهولة لما أطلق عليه خبراء ديناميكيا الهواء دورانا مزدوجا قصوريا. في كتاب «مقومات أساسية»، كتب توم وولف عن «الطيارين الذين ينطلقون في محاولة الهبوط الأخير، الهبوط الذي أودى بحياتهم؛ حيث كان المرء يتدحرج متشقلبا من طرف لآخر في أنبوب زنة خمسة عشر طنا، في غياب طويل لديناميات الهواء، ولم تترك صلاة إلا تليت، وأدرك هو حقيقة الأمر، وكان يصرخ في الميكروفون قائلا: «جربت الخطة «أ»! جربت الخطة «ب»! جربت الخطة «ج»! أخبرني ماذا عساي أن أجرب أيضا».»
1
كان يمكن لهذا الأمر أن يحدث حتى لأفضل الطيارين وأمهرهم؛ فقد حدث لتشاك ياجر في عام 1953، عندما ارتفع بطائرة «إكس-1 إيه» بسرعة 2,44 ماخ، حيث سقطت الطائرة من ارتفاع 75 ألف قدم؛ جعلته حركاتها العنيفة يتخبط في القمرة ويفقد وعيه تقريبا، بينما انخفضت الطائرة إلى ما دون 30 ألف قدم قبل أن يستعيد رشده ويوقف دورانه. بعدها بعامين، حدثت الواقعة نفسها لميلبورن آبت في طائرة «إكس-2»؛ بلغ آبت ارتفاع 3,2 ماخ قبل أن يفقد السيطرة، لكن كانت لديه الفرصة لإنقاذ نفسه عن طريق فصل مقدمة «إكس-2» وفتح مظلة، لكنه لم يتمكن من القفز واستخدم مظلته الخاصة ولقي حتفه عندما اصطدمت مقدمة الطائرة بالأرض.
بالنسبة إلى «إكس-15»، كان الحل يتضمن إدخال أربع ريشات كبيرة، تركب على غرار الموجودة في سهم، فضلا عن نظام تحكم في رد الفعل يوجه المركبة باستخدام محركات نفاثة صغيرة، مثلما في مركبتي «ميركوري» و«جيميني». كانت هذه الريشات تحل محل الجنيحات والدفة عندما تصير كثافة الهواء منخفضة للغاية. كانت أجهزة التحكم في رد الفعل تعتمد على استخدام الأدوات الموجودة في القمرة، التي لم تكن مأمونة الاستعمال تماما. عندما تعطلت تلك الأدوات أثناء رحلة بقيادة مايك آدامز في عام 1968، هبط من ذروة ارتفاع بلغت خمسين ميلا وولج المجال الجوي بينما كانت طائرته تعاني انحرافات جانبية شديدة. دخلت الطائرة في حالة دوران، جاهد للخروج منها، ثم واجه انحدارا عنيفا عرضه لقوة جاذبية بلغت خمسة عشر مترا في الثانية المربعة؛ لم يستطع تحريك ذراعه لبلوغ أزرار التحكم، التي كانت على مسافة بضع بوصات فقط، ولقي حتفه عندما تحطمت الطائرة أثناء الطيران.
مع ذلك، كان هذا هو الحادث المميت الوحيد خلال أكثر من مائة بعثة على ارتفاع مائة ألف قدم. أوضحت طائرة «إكس-15» أن الطائرة ذات المحرك الصاروخي يمكنها التحليق نحو الفضاء والعودة بسلام، وهو ما أتاح المجال أمام تطوير صواريخ التعزيز المجنحة التي كانت تستطيع بلوغ مدار فضائي ثم العودة عن طريق الهبوط على ممر إقلاع.
كان من بين المبادرات الواعدة الأخرى لناسا، التي نفذتها بالاشتراك مع هيئة الطاقة الذرية، بناء محركات صواريخ تعمل باستخدام الطاقة الذرية. كانت هذه المحركات تعمل من خلال ضخ الهيدروجين عبر مركز المفاعل، عند درجات حرارة تصل إلى أربعة آلاف درجة مئوية، ثم ترتفع درجة حرارة الهيدروجين على نحو هائل وسرعان ما يتمدد، متدفقا عبر فوهة لتوفير قوة الدفع.
كانت الصواريخ النووية واعدة للغاية؛ لأن أداءها كان يتجاوز بمراحل أفضل نماذج الصواريخ المزودة بوقود كيميائي. يقاس أداء الصاروخ بسرعة عادمه؛ كانت سرعة عادم الصاروخ «إف-1»، الذي كان يستخدم الكيروسين والأكسجين، 8500 قدم في الثانية، بينما كانت سرعة عادم «جيه-2»، المزود بوقود الهيدروجين والأكسجين، 13700 قدم في الثانية، وهو ما كان يحسن كثيرا من قدرته على إرسال بعثات «أبولو» إلى القمر. كان الهدف من جهود تطوير الصواريخ النووية هو تحقيق سرعة عادم مقدارها 26500 قدم في الثانية، وهو ما كان يساوي تقريبا ضعف أداء «جيه-2»؛ وكان يمكن لمحرك كهذا أن يساعد في إرسال بعثة مأهولة إلى المريخ.
بدأ المشروع في عام 1955، وكان يمثل مشروعا آخر من المشروعات التي كانت ناسا قد خلفت القوات الجوية في إدارتها. أسفرت الجهود الأولى، التي بدأت منذ عام 1959، عن بناء سلسة من مفاعلات الصواريخ التجريبية كان يطلق عليها «كيوي»، على غرار اسم الطائر الذي لا يطير. خلال منتصف الستينيات من القرن العشرين، أجريت من خلال المشروع تجارب أرضية حول صاروخ نووي حقيقي يسمى «نيرفا» (أي المحرك النووي المستخدم في المركبات الصاروخية). بنت شركة «إيروجت» هذا الصاروخ باستخدام مفاعل من إنتاج شركة «وستينجهاوس»؛ دار المحرك لمدة ساعة كاملة عند مستوى القدرة المقدرة، وهي 1100 ميجا وات. بحلول عام 1968، صار البرنامج جاهزا للخطوة التالية، وهي تطوير محرك مقنن للطيران بقوة دفع 75 ألف رطل. لم يكن من المقرر أن يرتفع عن سطح الأرض، واحتاج إلى الصاروخ «ساتورن 5» ليتمكن من ذلك؛ لكن، بعد الدفع إلى مدار أرضي، تمكن هذا المحرك من الصعود إلى المريخ بسهولة.
لكن، في حين تمثل الصواريخ النووية المستقبل، كانت «أبولو» تمثل الحاضر. أثبتت رحلة «أبولو 8»، في أواخر عام 1968، أنها توفر كل المتطلبات. بعد الصعود إلى مدار فضائي، انشغل رواد الفضاء بعمليات الفحص على متن المركبة لمدة ساعتين ونصف، ثم صدر الأمر من هيوستن: «حسنا، ابدءوا في تنفيذ عملية حقن خارج مدار القمر.» كان هذا التوجيه المقتضب يعني أن فرانك بورمان، قائد المركبة، سيطلق الصاروخ «إس-4 بي» المرحلي لمدة خمس دقائق وثماني عشرة ثانية لتنفيذ عملية حقن خارج مدار القمر، ثم الصعود إلى القمر.
بلغ تسارع المركبة القمرية 24226 ميلا في الساعة، وهي سرعة جعلتها تفلت تقريبا من الجاذبية الأرضية. عند النظر عبر نافذة فتحة الخروج، بدا العالم كرة زرقاء وبيضاء. اختفت المسافة الفاصلة بين السحب والسطح، بل بدلا من ذلك التصقت تكوينات السحب بالسطح كما لو كانت طلاء. بعد الحقن خارج مدار القمر، تضاءل حجم الكوكب على نحو ملحوظ دقيقة بعد دقيقة، وخلال الأيام الثلاثة التالية، بدت الأرض ككرة سلة، ثم صارت كرة بيسبول، ثم تضاءلت أخيرا ليصير حجمها في حجم كرة براقة كبيرة من الرخام تومض بقوة في فراغ الفضاء السحيق.
اقترب رواد الفضاء كثيرا من القمر أثناء استعدادهم لإطلاق الصاروخ الذي كان من المقرر أن يضع المركبة الفضائية في مدار قمري. رأى آندرز سماء مليئة بالنجوم البراقة، ورأى قوسا محددا بدقة لم يستطع رؤية أي نجوم في نطاقه، وإنما هو ظلام فقط. وسط شعور بالخوف والغرابة، أدرك آندرز أن هذه الفجوة في مجالات الرؤية المرصعة بالنجوم هو القمر.
قضوا معظم اليوم في مدار قمري، ثم نقلوا بثا تليفزيونيا مباشرا:
بورمان :
القمر شيء مختلف بالنسبة إلى كل واحد منا؛ فالقمر من وجهة نظري كيان كبير، ووحيد، وموحش؛ امتداد هائل من العدم يشبه نوعا ما السحب وغيامات من حجر الخفان .
لوفيل :
تصوراتي مشابهة جدا لتصوراتك. تثير العزلة الهائلة هنا الرهبة، وتجعلك تدرك حقيقة ما لديك على الأرض عند عودتك. تبدو الأرض من هنا مثل واحة كبرى وسط فضاء شاسع.
آندرز :
الأفق واضح للغاية. السماء حالكة الظلام والقمر ساطع تماما. يبدو التباين بين السماء والقمر كخط مظلم شديد الجلاء.
في عشية الكريسماس لهذا العام، استمعت أنحاء كثيرة من العالم إلى الأصوات الرتيبة لرواد الفضاء الثلاثة، بينما تنقل عبر دائرة البث اللاسلكي:
آندرز :
في البدء خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه، وقال الله: «ليكن نور»، فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن، وفصل الله بين النور والظلمة.
لوفيل :
ودعا الله النور نهارا، والظلمة دعاها ليلا. وكان مساء وكان صباح يوما واحدا. وقال الله: «ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه.» فعمل الله الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد، وكان كذلك. ودعا الله الجلد سماء. وكان مساء وكان صباح يوما ثانيا.
بورمان :
وقال الله: «لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة.» وكان كذلك. ودعا الله اليابسة أرضا، ومجتمع المياه دعاه بحارا. ورأى الله ذلك أنه حسن.
ثم ختم بورمان حديثه قائلا: «ومن طاقم «أبولو 8»، نختم حديثنا بتمنياتنا لكم بمساء طيب، وحظ موفق، وعيد ميلاد سعيد، وليبارككم الرب جميعا، جميع من على الأرض الطيبة.» سرعان ما رد الشاعر آرشيبولد ماكليش قائلا: «إن رؤية السماء كما هي حقيقة، صغيرة وزرقاء وجميلة في ذلك الصمت الأبدي حيث تسبح، لهي رؤية لأنفسنا ونحن نمتطي صهوة الأرض معا.»
2
لكن، على الرغم من نجاح هذا الإنجاز، لم يصل رواد الفضاء إلى القمر ؛ حيث لم تطأ أقدامهم سطحه. كما أن هذا لم يتحقق أيضا مع «أبولو 9» أو «أبولو 10»؛ حيث كانت هذه البعثات تتمثل في تجربة مركبة الإنزال القمري، فضلا عن المركبة الفضائية المأهولة، في مدار أرضي أولا، ثم في مدار حول القمر. لكن، أجريت عملية الإنزال في بعثة «أبولو 11»، وأطلق على المركبتين الفضائيتين في هذه الرحلة اسمان يلائمان هذا الحدث القومي التاريخي؛ حيث أطلق رواد الفضاء نيل أرمسترونج وباز ألدرين ومايك كولينز عليهما اسمي «كولومبيا» و«إيجل» (أي النسر).
انطلق أول شخصين هبطا على سطح القمر من قاعدة كيب كانافيرال يوم 16 يوليو 1969، بعد سبعة أشهر من رحلة «أبولو 8». شاهدت أعداد هائلة من سكان العالم الحدث لحظة صعود الصاروخ «ساتورن 5»، واستمعت إليه وسط هدير هائل، فوق عمود من النيران أكثر سطوعا من الصلب المصهور الأبيض الساخن. بعدها بأربعة أيام وصلوا إلى مدار قمري، وولج أرمسترونج وألدرين مركبة الإنزال، التي أطلقت ناسا عليها «إل إم»، أي المركبة القمرية. عند انفصالها عن «كولومبيا»، المركبة الأم، أرسل أرمسترونج قائلا: «لإيجل جناحان»، كما كان بها وقود دفعي يكفي لاثنتي عشرة دقيقة من أجل استخدامه خلال عملية الهبوط على سطح القمر. لم تكن طبيعة القمر الخالي من الهواء لتسمح بأية حال بالهبوط بواسطة المظلات؛ لذا، كان على رواد الفضاء إبقاء محركاتهم قيد التشغيل في كل شبر من الطريق.
الآن، على ارتفاع 34 ألف قدم، سمعوا صوت جهاز الإنذار الرئيسي مدويا. أومض الكمبيوتر بعلامة تحذيرية، وأشار إلى وجود حمولة زائدة. تسارعت ضربات قلب أرمسترونج؛ إذ كان يعلم أن باستمرار ذلك سيضطرون إلى إنهاء عملية الإنزال. توصل إلى حل للمشكلة، لكن سرعان ما تكررت. بعد حدوث ذلك عدة مرات، نقلت هيوستن بعض المهام إلى كمبيوتر أرضي الموقع، على مسافة ربع مليون ميل. قل مستوى الصعوبة، وتضاءل احتمال إيقاف الإنزال. مضت «إيجل» في طريقها نحو إتمام عملية الإنزال وسط بحر السكون.
عمل الكمبيوتر الموجود على متن المركبة على توجيهها بينما تواصل هبوطها. على ارتفاع ألف قدم، رأى أرمسترونج أنهم يهبطون في اتجاه فوهة عرضها عدة مئات من الأقدام، يحيطها نطاق ممتد من الجلاميد الكبيرة. تولى أرمسترونج توجيه المركبة عوضا عن الكمبيوتر، موجها مركبة الإنزال بينما كان يبحث عن أرض خالية ومستوية. عثر أرمسترونج على مبتغاه، لكن في تلك الأثناء كان مستوى الوقود ينخفض بشدة.
الآن، مع اقتراب أرمسترونج ، أثار عادم صاروخه الغبار القمري وحجب رؤيته؛ قال أرمسترونج لاحقا: «صار هذا الغبار المتطاير أكثر كثافة، كان الأمر أشبه بعملية هبوط وسط ضباب أرضي سريع الحركة.» ركز عينيه على الصخور التي ظلت مرئية عبر الضباب. كانت لا تزال أمامه مسافة ستين قدما ليقطعها، والوقود الذي معه كان يكفي لستين ثانية. لم يطأ الأرض بقدميه بعد، ولم يعد متبقيا لديه سوى ثلاثين ثانية.
قال ألدرين: «ننحرف إلى اليمين قليلا، ضوء التماس. حسنا، توقف المحرك.» لامست المجسات في منطقة الهبوط السطح. أغلق المستكشفان المحرك وسط موجة سريعة وعارمة من النشاط، ثم تطلع كل منهما في الآخر وشبكا أيديهما. قال أرمسترونج: «هيوستن، هنا قاعدة السكون. هبطت «إيجل».» أجابت هيوستن: «روجر، قاعدة السكون، نسمعك على الأرض. لقد حبست أنفاس الرجال هنا وتحول لونهم إلى الزرقة. ها نحن نتنفس من جديد. شكرا جزيلا.»
وصف أرمسترونج بعد ذلك منطقة الهبوط قائلا: «خارج النافذة سهل مستو نسبيا، يحتوي على عدد كبير إلى حد ما من فوهات يتراوح محيطها بين خمس أقدام وخمسين قدما، وبعض النتوءات الصغيرة بارتفاع عشرين أو ثلاثين قدما، حسبما أظن. نرى أمامنا على مسافة بضع مئات من الأقدام بعض الكتل البارزة التي قد يصل حجمها إلى قدمين. ثمة تل في مجال الرؤية.» كان هذا الوصف ملائما؛ إذ كانوا قد تسلقوا تلا مرتفعا بالفعل.
استغرق الأمر بضع ساعات من الإعداد قبل أن يصبحا جاهزين لفتح فتحة الخروج والنزول على سلم من تسع درجات للسير على سطح القمر. خرج أرمسترونج أولا: «أنا في أسفل السلم. على الرغم من أن السطح يبدو دقيق الحبيبات للغاية عند الاقتراب منه، فإنه أشبه غالبا بمسحوق. سأترجل الآن عن المركبة القمرية.»
كان أرمسترونج قد خطط سابقا للكلمات الخالدة التي سيتفوه بها في هذه اللحظة: «هذه خطوة صغيرة للإنسان، لكنها وثبة عملاقة للبشرية كلها.» كان يقصد أن يقول «خطوة صغيرة للمرء»، بيد أنه تعثر في نطق عبارته نظرا لإثارة الحدث.
واصل قائلا: «السطح ناعم وترابي، أستطيع أن ألتقط حفنة منه ببساطة بأصبع قدمي.» ثم تلفت حوله في المشهد القمري. «يحظى القمر بجمال صارخ فريد من نوعه، يشبه كثيرا الصحراء المرتفعة في الولايات المتحدة. إنه مختلف، لكن المكان جميل جدا هنا.»
3
ثم انضم ألدرين إليه، مدليا بوصفه الخاص لما يرى بأنه: «وحشة مخيفة.» غرسا علما باستخدام دعامة سلكية لبسط ألوانه. جمعا عينات من الأحجار والتربة، وأحجار قمرية ذات قيمة جيولوجية كبرى، وأزال أرمسترونج الستار عن لوح عند إحدى ركائز الهبوط:
هنا وطأ رجلان من كوكب الأرض
بقدميهما للمرة الأولى على سطح القمر.
يوليو 1969 ميلاديا.
أتينا في سلام من أجل البشرية جمعاء.
كانت «إيجل» مركبة من مرحلتين. كان من المقرر أن تبقى المرحلة الأولى، التي كانت قد أدارت الهبوط، في القمر كتذكار دائم وغامض. بعد يوم تقريبا من الهبوط، انطلقت المرحلة الثانية للالتقاء بمركبة «كولومبيا»، حيث كان مايك كولينز ينتظر في مدار قمري. مع التقاء الرواد الثلاثة مجددا، انطلقوا بعيدا عن مرحلة «إيجل» التي نفد وقودها وعادوا إلى الأرض حيث تلقوا مظاهر الحفاوة المعروفة على هذا الكوكب.
في ناسا، أثار نصر «أبولو» الأمل في أن تحقق أيضا برامج تالية تقدما سريعا. كان على رأس تلك البرامج برنامج بناء محطة فضائية، يكون فون براون من أهم داعميها. فون براون يدير مركز مارشال لرحلات الفضاء كمركز لتطوير الصواريخ، الذي تولى بناء صواريخ التعزيز طراز «ساتورن»، لكنه كان يعلم أن المركز يحتاج إلى مشروعات جديدة وإلا فستتضاءل أهميته وسيتقلص كذلك طاقم عمله. بالإضافة إلى ذلك، كانت تداعب مخيلته أفكار حول محطات فضائية حتى وسط مشروعات الصواريخ السريعة الإيقاع في خمسينيات القرن العشرين. يتذكر سام هوفمان من مركز «روكيت داين» أن فون براون عندما جاء لزيارته في منزله قرب لوس أنجلوس، «كان يحمل مخططا كبيرا يتضمن نموذج محطة فضائية، بسطه على أرضية غرفة المعيشة. هذا ما كان يهتم به؛ إذ لم تكن الصواريخ والأمور الأخرى سوى خطوات على الطريق».
حظيت آمال فون براون بدعم مهم بعد عام 1965، عندما أطلق مدير ناسا جورج مولر برنامجا جديدا باسم برنامج «تطبيقات أبولو». كان الاهتمام في البداية منصبا على البحث عن أنشطة لتوفير مهام للصاروخ «ساتورن 1-بي»، الذي لم يستطع الوصول إلى القمر لكنه قدم توقعات جيدة حول عمليات يمكن تنفيذها في مدار أرضي. اقترحت مجموعة فون براون للمشروعات المتقدمة وضع ركيزة لهذه العمليات، ألا وهي محطة فضائية مبدئية يجري تطويرها انطلاقا من مرحلة «إس 4-بي» المنتهية. بعد الصعود إلى مدار على متن الصاروخ «ساتورن 4-بي»، كان من المقرر أن يحلق رواد الفضاء إليه على متن صاروخهم «1-بي»، مجرين التجارب وحاملين التجهيزات اللازمة لطاقم المركبة. كان من المقرر أن يحول رواد الفضاء هذه المرحلة إلى منزل ومختبر، حيث يقيمون ويعملون داخلها.
مع تبلور هذه الجهود التي أعقبت «أبولو»، تقدم مسئولون آخرون بمقترحات أخرى. كان من بين هذه المقترحات حامل منظار «أبولو» الذي كان من المقرر أن يحمل مرصدا شمسيا في مدار محدد، فضلا عن معدات لدراسة الشمس عند أطوال موجية للأشعة فوق البنفسجية والأشعة السينية، وهي الأشعة التي يحجبها الغلاف الجوي. ثم تطلب حامل منظار «أبولو» بعد ذلك صاروخين طراز «ساتورن 1-بي»، أحدهما لحمله عاليا للالتحام بالمحطة المدارية، والآخر لحمل طاقم المركبة.
كانت خطة هذه البعثة تدور حول فكرة «ورشة العمل المبللة»، وهي الصاروخ «ساتورن 4-بي» الذي كان خزانه الرئيسي يحوي الهيدروجين السائل، والذي استخدم فيما بعد كمقر لإقامة رواد الفضاء. كان من المقرر أن يوفر حيزه الداخلي الذي تبلغ سعته 9550 قدما مكعبة مساحة كبيرة، بينما كانت الألواح الشمسية - الموضوعة على الجسم الخارجي من هذه المرحلة وتعمل في المدار - ستوفر 5 كيلو وات من الطاقة. كأسلوب بديل لهذه الخطة، كانت «ورشة العمل الجافة» تتطلب محطة فضائية كاملة يجري تجميعها في الأرض، مع الالتحام بحامل منظار «أبولو» منذ البداية . كان هذا النموذج يتجنب مشكلات بناء محطة يتعين أن يحوي حيزها الداخلي وقود صواريخ. كان من المقرر أن يحمل هذا النموذج معدات أكثر تعقيدا، فضلا عن أكسجين إضافي ومؤن طواقم العمل، وهو ما كان يسمح لهم بالبقاء فترة أطول في الفضاء.
بلغ وزن المحطة الفضائية في شكلها النهائي 165 ألف رطل، كان الأمر يتطلب الصاروخ «ساتورن 5» لإطلاقها. بدا هذا الشرط بعيد المنال للحظة، واضطر جيمس ويب من وكالة ناسا أن يبذل قصارى جهده لإقناع الكونجرس ومكتب الإدارة والموازنة بأن «أبولو» تحتاج إلى خمس عشرة مركبة على الأقل من مركبات الإطلاق هذه، ولم يكن يسمح بالإشارة إلى إمكانية استخدام أي منها في برنامج «تطبيقات أبولو». لكن خلال النصف الأول من عام 1969، أصبح تحقيق النجاح الكامل وشيكا مما زاد من إمكانية توفير صواريخ «ساتورن 5»، وبنهاية شهر يونيو، نجح مولر في تحويل تركيز البرنامج من مفهوم ورشة العمل المبللة إلى مفهوم ورشة العمل الجافة. في 22 يوليو، بينما كانت «أبولو 11» لا تزال في طريق عودتها، صار القرار نهائيا. كان من المقرر أن تستخدم محطة «سكايلاب» الفضائية الصاروخ «ساتورن 5»، بينما كان مقررا أن تحمل ثلاثة صواريخ طراز «1-بي»، يجري إطلاقها تباعا، مركبة «أبولو» الفضائية التي تحمل على متنها طاقما من ثلاثة أفراد يعيشون داخلها.
في تلك الأثناء، مع تبلور خطط «سكايلاب»، لم يكن الوقت مبكرا جدا حتى يتصور مخططو ناسا المحطة الفضائية «التالية». كان النموذج الذي برز عبارة عن مركبة مأهولة دائما بطاقم من اثني عشر شخصا. على الرغم من ذلك، أوضحت دراسات ناسا أنه في مشروع كهذا لم يكن «ساتورن 1-بي» ليتمكن من أداء المهمة. بلغت التكلفة المقدرة لكل رحلة 120 مليون دولار أمريكي، وعلى الرغم من أن هذا السعر مقبولا بالنسبة إلى «سكايلاب»، التي لم تكن في حاجة إلا لبضع عمليات من عمليات الإطلاق هذه، كانت المحطة الفضائية التالية تتطلب الكثير من الرحلات، حتى إن الجانب الأعظم من الميزانية كان سيخرج لما لا يزيد عن الإجراءات اللوجيستية المتعلقة بإعادة تجهيز هذا المختبر المداري.
استجابة لذلك ، سعت ناسا إلى أساليب جديدة لإطلاق رحلات فضائية منخفضة التكلفة. كان للقوات الجوية نشاط واضح في هذا المجال بالفعل، وكانت نقطة انطلاقها تدور حول جهود فترة الستينيات من القرن العشرين، التي أسفرت عن تطوير صواريخ ضخمة تعمل بالوقود الصلب لاستخدامها كصواريخ تعزيز. على عكس صواريخ الوقود السائل التي كانت حساسة ودقيقة، كانت صواريخ الوقود الصلب الضخمة تشتمل على أغطية صواريخ خارجية كان يمكن لترسانة سفن - على وجه التحديد، شركة «صن شيببلدينج آند دراي دوك» - أن تصنعها بنجاح.
في سبتمبر 1964، أطلقت شركة «إيروجت» محركا بقطر 120 بوصة قرب ميامي، بقوة دفع 600 ألف رطل. كان لدى شركة «لوكهيد» في تلك الأثناء محرك قطره 156 بوصة، بقوة دفع 1,2 مليون رطل خلال دقيقتين ونصف. تجاوز صاروخ مشابه من شركة «ثيوكول» ثلاثة ملايين رطل في أوائل عام 1965؛ لكن، كان المشروع الذي انصبت عليه أعين الناس هو مشروع ناسا. كان قطر محرك ناسا 260 بوصة، بنته شركة «إيروجت».
كان تشغيل هذا المحرك العملاق صعبا للغاية؛ كان الحل يتطلب صاروخ وقود صلب يوفر قوة دفع ربع مليون رطل، مصدرا ألسنة لهب بارتفاع ثمانين قدما من شأنها أن تشعل سطح الوقود الصلب في الصاروخ الكبير في الحال. تطلب صاروخ الإشعال هذا جهاز إشعال خاصا به، وهو محرك وقود صلب زنة مائة رطل وبقوة دفع 4500 رطل. احتفظ بهذا المحرك الذي كان محيطه 260 بوصة في فوهة اختبار حيث كانت مقدمته متجهة لأعلى. جرت عملية إطلاق ليلية في فبراير 1966، قرب ميامي مجددا، فارتفعت ألسنة اللهب والأدخنة حتى 7500 قدم في الهواء؛ حيث رآها الناس على مسافة مائة ميل تقريبا. سجلت عملية إطلاق أخرى، في يونيو 1967، رقما جديدا حيث حققت قوة دفع بلغت 5,7 ملايين رطل.
في الوقت نفسه، كانت القوات الجوية تبني مركبة إطلاق جديدة عبارة عن مركبة نقل ثقيل بوضع صاروخي وقود صلب قطرهما 120 بوصة على جانبي الصاروخ «تايتان 2». كان هذا الصاروخ ذو المرحلتين يتميز في حقيقة الأمر بإمكانية استخدام أنواع الوقود السائل القابل للتخزين، وهو ما كان يقلل من تعقيده. بلغت قوة الدفع في كلا صاروخي الوقود الصلب 2,4 مليون رطل عند انطلاقهما من المنصة. تضمنت حزمة الصواريخ الكاملة وضع صاروخ مرحلة ثالثة أعلى الصاروخ «تايتان 2»، مع توافر إمكانية إعادة التشغيل في الفضاء ونقل حمولته من مدار إلى آخر. كانت مجموعة التجميع هذه، المكونة من ثلاثة صواريخ مرحلية بالإضافة إلى صاروخي وقود صلب، هي الصاروخ «تايتان 3». انطلق الصاروخ للمرة الأولى في يونيو 1965، حاملا 21 ألف رطل إلى مدار فضائي، وعلى الرغم من أن هذه الحمولة لم تكن تتضمن أكثر من قرميد من الرصاص، سرعان ما ظهرت المركبة الفضائية الحقيقية في أعقاب ذلك.
كانت شركة «مارتن» هي من تولت تصنيع هذا الصاروخ. بعدها بسنوات قليلة، عندما دخل «تايتان 3» مجال الخدمة وترك سجلا من التجارب، أعلنت شركة «مارتن» أن صاروخ التعزيز هذا يستطيع إطلاق حمولات بتكلفة 435 دولارا أمريكيا لكل رطل، ضاربا بذلك الرقم القياسي لتكلفة الصاروخ «ساتورن 5» البالغة 650 دولارا أمريكيا لكل رطل، والتي حققها الصاروخ «ساتورن» من خلال توزيع تكلفة إطلاقه على ربع مليون رطل من الأحمال. بالإضافة إلى ذلك، كان الصاروخ «تايتان 3» ينطوي على إمكانية كبيرة لمزيد من التطوير. من خلال الاستعاضة عن صواريخ التعزيز المثبتة به البالغ قطرها 120 بوصة بالوحدات البالغ قطرها 156 بوصة، أمكن إطلاق 100 ألف رطل إلى مدار فضائي بزيادة طفيفة في تكلفة الإطلاق، وهو ما كان من شأنه أن يقلل التكلفة لكل رطل إلى ما يقرب من 100 دولار أمريكي.
كانت ناسا أيضا ترغب في أن تصير التكلفة 100 دولار أمريكي لكل رطل، فاستعانت بالشركات المتعاقدة معها من أجل تقديم أفكار من خلال تمويل سلسلة من الدراسات في أوائل عام 1969. اقترح أحد الأساليب المفيدة ماكس هانتر من شركة «لوكهيد»، الذي كان كبير مهندسي التصميم في برنامج الصاروخ «ثور» قبل أكثر من عقد؛ إذ اقترح مركبة إطلاق ومعاودة ولوج متكاملة، من شأنها أن تقلل التكاليف من خلال إمكانية إعادة الاستخدام. لم يستطع الصاروخ «ساتورن 1-بي» أو «تايتان 3» الانطلاق سوى مرة واحدة قبل أن يسقطا في المحيط، بينما كانت مركبة الإطلاق ومعاودة الولوج المتكاملة تستطيع الانطلاق مرارا وتكرارا ، مثل أي طائرة. كان من المقرر أن تضع هذه المركبة مكونات صاروخ التعزيز الباهظة الثمن في مركبة رئيسية، وكانت هذه المكونات تتمثل في محركات الصاروخ والتجهيزات الإلكترونية وأجهزة الكمبيوتر على متن المركبة ونظم الحفاظ على حياة طواقم العمل، وما شابه ذلك. أما فيما يتعلق بوقود المحركات الرئيسية، فكان من المقرر تخزينه في مجموعة كبيرة من الخزانات القابلة للاستهلاك التي كان من المفترض تثبيتها بالغطاء الخارجي للمركبة الرئيسية. كان من المقرر إفلات الخزانات مع اقتراب مركبة الإطلاق ومعاودة الولوج المتكاملة من المدار؛ حيث ستحترق عن آخرها في الجو. لكن، لم تكن هذه الخزانات باهظة الثمن، وكان من الممكن أن تنخفض المركبة الرئيسية في مركبة الإطلاق ومعاودة الولوج المتكاملة، المتوسطة الحجم، عبر الغلاف الجوي لتهبط على مدرج هبوط.
في مركز المركبات الفضائية المأهولة في هيوستن، اقترح ماكسيم فاجت - الذي كان قد وضع الشكل النهائي لمركبتي «ميركوري» و«جيميني» قبل عقد - الحد من التكاليف أكثر من ذلك عن طريق قابلية إعادة الاستخدام الكاملة. لم يكن نموذجه يتخلص من أي شيء، حتى الخزانات غير باهظة الثمن. تطلب النموذج صاروخا من مرحلتين، بحيث تشكل كلتا المرحلتين صاروخي تعزيز مجنحين يستخدمان الهيدروجين والأكسجين. كان صاروخ المرحلة السفلى يحمل صاروخ المرحلة العليا على ظهره، منطلقا من كيب كانافيرال، ثم كان يزيد سرعته وصولا إلى عدة آلاف من الأميال في الساعة. كان صاروخ المرحلة العليا، الذي كان يتضمن غرفة حمولات، ينطلق بعد ذلك إلى المدار. كان كلا الصاروخين يحملان كمية الوقود الكاملة داخلهما، ويهبطان على مدرجات هبوط لإعادة استخدامهما.
كانت ناسا تتوقع أن تتنقل مركبة كهذه من المدار وإليه وفق جدول زمني متواتر، ومن ثم صارت تعرف باسم مكوك الفضاء. صارت هذه النماذج بالإضافة إلى مكونات أخرى ظهرت بعد ذلك - «نيرفا»، و«سكايلاب»، والمحطات الفضائية المتابعة - جزءا من تدريب كبير لتخطيط ما بعد «أبولو»، بدأ في فبراير 1969، بعد تولي الرئيس نيكسون شئون الرئاسة بفترة قصيرة.
قبل ثماني سنوات، أصدر جون كينيدي تعليماته إلى نائبه جونسون بوضع أهداف جديدة بشأن الفضاء؛ استجاب ليندون جونسون إلى ذلك بالتصديق على برنامج الهبوط المأهول على سطح القمر. وبعدما تولى نيكسون منصب الرئيس خلفا لكينيدي، أمر نائبه سبيرو أجينو بأن يترأس لجنة رفيعة المستوى تضع مزيدا من الأهداف. كان بين أعضاء اللجنة روبرت سيمانز، الذي كان يشغل آنذاك منصب قائد القوات الجوية، ولي دوبريدج، رئيس معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا المخضرم الذي كان مستشار نيكسون العلمي. كان مدير ناسا الجديد آنذاك، توماس باين، عضوا أيضا في هذه اللجنة. في صباح يوم إطلاق «أبولو 11»، جاء أجينو إلى كيب كانافيرال وأعلن أن ناسا سترسل رواد فضاء إلى المريخ.
في سبتمبر، أصدرت لجنته، التي أطلق عليها مجموعة العمل المعنية بشئون الفضاء، تقريرا يدعو إلى إطلاق برنامج فضاء يتجاوز «أبولو» في كل من نطاقه وتكلفته. كان الهدف الأساسي في البرنامج في حقيقة الأمر هو إرسال رحلة مأهولة إلى المريخ، بتكلفة 100 مليار دولار أمريكي تقريبا. على العكس من ذلك، بلغ إجمالي تكلفة «أبولو» 21,35 مليار دولار أمريكي خلال الهبوط الأول على القمر. في تلك الأثناء التي كان إجمالي الناتج القومي فيها يكاد يقترب من تريليون دولار أمريكي، قدرت تكلفة بعثة المريخ هذه بأنها تعادل تكلفة النشاط الاقتصادي لولاية كاليفورنيا بأكملها، خلال عام كامل.
اقترح التقرير مشروعات أخرى كذلك، مثل بناء مكوك فضائي ومحطة فضائية تضم اثني عشر شخصا، فضلا عن قاعدة فضائية تضم 100 شخص. اقتضت الخطة أيضا إطلاق محطة في مدار قمري، وبرنامجا قويا لإطلاق مزيد من الرحلات إلى القمر يكون مستقرها النهائي في محطة على سطحه. تقدم «نيرفا» أيضا وأتاح الإمكانية للسفر إلى المريخ بحلول عام 1983. قدمت الخطة ثلاثة خيارات، أكثرها طموحا كان يقتضي رفع ميزانية ناسا إلى 8 مليارات دولار أمريكي بحلول عام 1976.
سعت ناسا إلى الحصول على دفعة مقدمة، فأرسلت إلى مكتب الإدارة والموازنة طلبا بمبلغ 4,5 مليارات دولار أمريكي خلال العام المالي 1971. اعتادت الوكالة على معاملة التفويض المطلق وحرية التصرف خلال سنوات «أبولو»، بيد أن مسئوليها خذلوا وصدموا بالواقع؛ إذ رفض مكتب الإدارة والموازنة الطلب بلا تمحيص، مستقطعا نحو مليار دولار أمريكي من هذه الميزانية المقترحة، ثم حدثت استقطاعات أخرى خلال الأشهر التي أعقبت ذلك، وانتهى المطاف بناسا بالحصول على 3,4 مليارات دولار أمريكي فقط في ذلك العام. مع أخذ معدل التضخم في الاعتبار، كان هذا المبلغ يمثل انخفاضا بنسبة 54 في المائة من أقصى تمويل حصلت عليه الوكالة في عام 1966.
مع تقدم الخريف والشتاء وانتهاء عقد الستينيات من القرن العشرين، بدأت ناسا في خفض آفاق تطلعاتها. في رأي إدارة نيكسون، كانت مشروعات مثل القاعدة الفضائية والمحطات القمرية وبعثة المريخ مكلفة أكثر مما ينبغي. تلاشت الآمال في مشروع «نيرفا»، الذي لم يكن يتضمن أي توقعات لإطلاق بعثة فضائية؛ ومن ثم لم يتبق إلا المحطة الفضائية والمكوك الفضائي. مع ذلك، ظلت ناسا متمسكة بالأمل في ظل هذه المشروعات التي مثلت محور ارتكاز الخطط المستقبلية.
أشار مسئولو الوكالة إلى المكوك الفضائي والمحطة بوصفهما مشروعا واحدا معتمدا بعضه على بعض. اقترحوا تطوير المكوك الفضائي بالتزامن مع المحطة، بتكلفة 5 مليارات دولار أمريكي تقريبا لكل مشروع. اقترحت ناسا استخدامات أخرى للمكوك الفضائي، مثل إطلاق أقمار صناعية غير مأهولة وصيانتها، وإجراء دراسات بيئية من مدار ما، وإجراء عمليات استطلاع عسكري وعمليات إنقاذ في الفضاء. لكن، كان واضحا أن هذه الاستخدامات تأتي في مرتبة ثانوية بالنسبة إلى دورها في دعم المركبة الفضائية وبوصفها نقطة انطلاق رحلات مأهولة جديدة.
كانت محاولات الترويج لمشروعي «المكوك الفضائي/المحطة الفضائية» والإقناع بها كافية تماما، لكنها كادت تقضي على كلا المشروعين. زعم عضو الكونجرس جوزيف كارث (ديمقراطي عن ولاية مينسوتا) - عضو لجنة العلوم والفضائيات في مجلس النواب، التي عادة ما كانت مناصرا قويا لبرنامج الفضاء - أن ناسا كانت تسعى إلى أن تنتزع من الكونجرس التزاما جزئيا بما سماه «هدفها الأسمى» لإرسال رواد فضاء إلى المريخ. في أبريل 1970، اقترح كارث تعديلا في الاعتمادات المالية الكلية لبرنامج المكوك الفضائي/المحطة الفضائية. لم يفلح تمرير التعديل بأقل هامش ممكن؛ حيث تعادلت الأصوات بواقع 53 صوتا إلى 53 صوتا. في يوليو، اقترح السيناتور والتر مونديل تعديلا مشابها، لم يفلح تمريره أيضا حيث بلغت نسبة الأصوات 32 إلى 28 فقط.
مع ذلك، كان العمل آنذاك يسير في «أبولو» بعزيمة وهمة. وضعت ناسا برنامجا لإجراء عشر عمليات هبوط على سطح القمر فضلا عن «سكايلاب»؛ لأنها كانت تدرك جيدا أن هذا البرنامج القمري قد يلقى اهتماما هائلا من الرأي العام، وهو ما اتضح تماما في شهر أبريل من ذلك العام، عندما واجه رواد الفضاء في «أبولو 13» كارثة وشيكة. تعرضت مركبتهم، التي كانت تحمل المركبة القمرية، لانفجار مدمر بينما كانت في طريقها إلى القمر؛ وهو ما أدى إلى حدوث عطب مصدر الطاقة الرئيسي. لم يستطع رواد الفضاء تشغيل محركهم الرئيسي في ظل غياب الكهرباء. إذا كان هذا قد حدث بعدها بيوم، فبعد ولوجهم مدارا قمريا وإفلات المركبة القمرية، كانوا جميعا سيعلقون دون سبيل للعودة إلى الأرض.
لحسن الحظ، كانت لا تزال لديهم المركبة القمرية، التي كانت بمنزلة قارب نجاة بالنسبة إليهم. كانت المركبة تحتوي على محرك جيد، قادر على تنفيذ عمليات الاحتراق الكفيلة بأن تضعهم في مسار آمن حول القمر والعودة إلى الأرض. لكن، لم تكن بطارية المركبة القمرية تكفي للبقاء سوى يومين فقط على سطح القمر، واضطر الطاقم إلى مد هذه الفترة إلى أربعة أيام، وهو الوقت المستغرق للعودة إلى الأرض؛ مما كان يعني إغلاق جميع الأجهزة الممكنة، بما في ذلك الكمبيوتر. كان الأمر يعني أن تتحول القمرة إلى كهف رطب وشديد البرودة، في ظل درجات الحرارة التي في نطاق الأربعينيات، والرطوبة التي تتكثف مكونة كرات وشرائح مياه على النوافذ وألواح المعدات.
كانت لدى الطاقم كمية وافرة من الأكسجين، لكن المركبة القمرية لم يكن لديها ما يكفي من عبوات هيدروكسيد الليثيوم للتخلص من ثاني أكسيد الكربون الذي كان أفراد الطاقم يزفرونه. كانت ثمة عبوات إضافية في المركبة الفضائية، لكن المركبتين بنتهما شركتان متعاقدتان مختلفتان، ولم تكن أي عبوة من المركبة الفضائية ستصلح في المركبة القمرية. كان الشكل مختلفا؛ حيث كان أشبه حرفيا بمسمار مربع في ثقب مستدير. كان المراقبون الأرضيون في هيوستن على دراية بمكونات المعدات الموجودة على متن المركبة، وأخبروا الطاقم بكيفية تجهيز مأوى جديد من الأجزاء المتبقية، التي تمثلت في ورق مقوى من غلافي كتاب حول خطط الطيران، وأكياس تخزين بلاستيكية، وشريط لحام رمادي. في عالم التكنولوجيا المتقدمة، كانت هذه البدائل ضمانا لتحقيق الحد الأدنى من البقاء على الحياة؛ حيث نجحوا في تقليل تركيز ثاني أكسيد الكربون إلى مستوى آمن. نجح رواد الفضاء الثلاثة في «أبولو 13» - وهم جيم لوفيل، قائد البعثة، فضلا عن رائدي الفضاء المبتدئين جون سويجرت وفريد هيز - في تخطي الأزمة والعودة.
شعر مئات الملايين من البشر حول العالم بالقلق والترقب أثناء متابعتهم للأنباء؛ صلى كثيرون، وأدى البابا صلاة خاصة، وفي واجهات العرض بمتاجر بيع التليفزيونات، احتشد المارة في أعداد غفيرة. كان نيكسون قد خطط لإلقاء خطاب مهم حول تقليل أعداد القوات في فيتنام، لكنه أجل الخطاب حتى وقت لاحق في ذلك الشهر. ربما تابع البث المباشر لهبوط المركبة الناجح على سطح الماء أكبر عدد في التاريخ من جماهير المشاهدة التليفزيونية على مستوى العالم، وعندما اتضح أن رواد الفضاء سالمون، أجهشت النساء في البكاء بينما هلل الرجال وتعالت صيحاتهم.
كانت ناسا أيضا بصدد تطوير معدات بعثة «أبولو»؛ حيث كانت تعمل على توفير إمدادات إضافية تسمح لرواد الفضاء بالمكوث على القمر لمدة تصل إلى ثلاثة أيام. كان هاريسون شميت، أحد علماء الجيولوجيا، مدرجا على القائمة كأحد أفراد الطاقم في رحلة قادمة. بالإضافة إلى ذلك، أصبح لدى رواد الفضاء المستقبليين حوامة قمرية، وهي عبارة عن مركبة تعمل باستخدام البطارية، ذات مقاعد فردية وتوجيه كهربي. استطاعت الحوامة التجول لمسافة عشرين ميلا بعيدا عن المركبة القمرية، على الرغم من أن ناسا قللت هذه المسافة إلى ستة أميال بحيث يتمكن أفراد الطاقم من العودة سيرا على الأقدام في حال تعطل العربة.
مع ذلك، بلغت تكلفة كل بعثة من بعثات «أبولو» 400 مليون دولار أمريكي؛ كان هذا المبلغ المالي، في حال منحه لجامعة واستثماره بنسبة 6 في المائة، سيغطي رواتب ثلاثمائة أستاذ جامعي موفرا في الوقت نفسه أكثر من 10 ملايين دولار أمريكي سنويا لصالح صندوق استثمار عقاري؛ كل ذلك دون الانتقاص من رأس المال الأصلي. على النقيض من ذلك، كان مجال العلوم القمرية في «أبولو» منحصرا غالبا في النطاق الضيق للجيولوجيا الميدانية. دعمت الصخور التي جلبتها بعثة «أبولو» من القمر عمل مجموعة صغيرة فقط من مراكز البحوث المتخصصة - لا سيما مختبر الاستقبال القمري في هيوستن - مختبر «لوناتيك أسايلوم» البحثي الذي كان يديره جيرالد وازربرج في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. ولم تكن النتائج العلمية لهذه المراكز مبهرة؛ حيث لم تكن أكثر من وصف مادي للصخور نفسها. لم تلق هذه النتائج إلا قليلا من الضوء على مسائل مشوقة ومهمة مثل أصل الأرض، أو النظام الشمسي.
أجبرت عمليات خفض الميزانية في عام 1969 مدير ناسا توم بين على إلغاء إحدى بعثات «أبولو» ومد الجدول الزمني للرحلة بالنسبة إلى بقية البعثات. شهد صيف عام 1970 مزيدا من عمليات خفض التمويل؛ في سبتمبر، مع تأثر الوكالة بهذه الاستقطاعات الجديدة، ألغى بين بعثتين أخريين، وهو ما كان يعني أن «أبولو 17» ستصبح البعثة الأخيرة. حاول بين التعامل مع الأمر على أفضل وجه بالإشارة إلى أن هذا القرار سيصب في صالح صاروخي «ساتورن 5»؛ ومن ثم سيقدم فرصا جديدة من شأنها أن تمنح ناسا مرونة في تخطيطها المستقبلي، لكنه لم يكن مدركا لتبعات ذلك القرار؛ إذ لم يتلق أي من صاروخي التعزيز مهمة جديدة. انتهى المطاف بكلا الصاروخين بأن عرضا في مراكز ناسا في هيوستن وكيب كانافيرال أمام الجمهور.
كان ثمة اهتمام داخل ناسا بإطلاق «سكايلاب» ثانية. كانت التصورات الموضوعة لهذا المشروع تقضي بإمكانية استخدام أحد صاروخي التعزيز «ساتورن 5» كمركبة إطلاق لمحطة الفضاء الجديدة، وكانت لا تزال توجد أعداد قليلة من صواريخ «ساتورن 1-بي» لنقل رواد الفضاء إلى المحطة؛ لكن هذا الأمر كان سيتكلف 1,5 مليار دولار أمريكي، في حين أنه لم يكن يقدم ما هو أكثر من مجرد تكرار لمحطة «سكايلاب» الفضائية المعتمدة، ولم تكن الأموال متوافرة أساسا في الميزانية. كان من المقرر أن يتضمن البرنامج بناء محطة «سكايلاب» ثانية جاهزة للاستخدام كمحطة احتياطية، بيد أنها لم تنطلق قط؛ ففي عام 1976، أهدت ناسا المحطة إلى متحف الطيران والفضاء الوطني، حيث لا تزال معروضة هناك إلى يومنا هذا.
عندئذ فقط، في نهاية عام 1970، واجهت ناسا شتاء مفعما حقا بمشاعر الاستياء والامتعاض. كانت بعثة «أبولو» على وشك الانتهاء، بينما كانت «سكايلاب» ستنطلق دون رحلات متابعة. كان برنامج المكوك الفضائي/المحطة الفضائية في خطر؛ حيث كان عرضة للهجوم مع أقل زيادة في المشاعر المناهضة التي كانت تجتاح الكونجرس. كان السيناتور مونديل ينطق بلسان معظم العامة عندما هاجم برنامج المكوك الفضائي/المحطة الفضائية قائلا: «أعتقد أن من المؤسف الشروع في تنفيذ مشروع بهذه التكلفة الهائلة، في الوقت الذي يعاني كثير من مواطنينا من سوء التغذية؛ في الوقت الذي تعاني أنهارنا وبحيراتنا من التلوث؛ في الوقت الذي تلفظ مدننا ومناطقنا الريفية أنفاسها الأخيرة. ما هي قيمنا؟ ما الأهم في اعتقادنا؟»
4
لكن، كانت لدى بين وزملائه ورقة أخرى يلعبون بها؛ لم يكن من الممكن لمحطتهم الفضائية التي تحمل على متنها اثني عشر شخصا أن تعمل دون المكوك الفضائي، لكن كان من الممكن استخدام المكوك الفضائي بمفرده، بوصفه مركبة إطلاق متعددة الأغراض. مع تكلفة الإطلاق المنخفضة، التي تقل بكثير عن أي صاروخ تعزيز قابل للاستهلاك، كان من المتوقع أن المكوك الفضائي سيجعل هذه الصواريخ القابلة للاستهلاك مهجورة وغير مستخدمة، فضلا عن أنه كان سيستمر ليحمل جميع الحمولات المستقبلية؛ وهو ما كان سيحققه من خلال إدخال أسلوب إعادة الاستخدام المماثل لما في الطائرات؛ ومن ثم يصبح مركبة تفي بكل الأغراض للجميع. مع ذلك، كان هذا الاحتمال سيسمح لناسا بالمضي قدما في برنامج المكوك الفضائي ليكون برنامجها المأهول الكبير القادم، والحفاظ على كيانها بوصفها الوكالة التي صارت إلى ما صارت إليه، والتي لديها رغبة قوية في البقاء والاستمرارية.
كان الطرح مبتكرا وبسيطا. كان ذكيا؛ لأنه افترض مسبقا أن المكوك الفضائي، الذي كان مجرد فكرة على الورق، يستطيع الاعتماد على خبرة «أبولو» لتقديم إمكانات لم يقدمها أي صاروخ من قبل . كان كل مكوك فضائي سيمر بمرحلة التعديل الخاصة به والإعداد لمرحلة جديدة في غضون أسبوعين فقط، وكان من المقرر أن يحقق أسطول من هذه المركبات وفورات حجم من خلال الاستخدام المتكرر، الذي سيطلق خلاله جميع البعثات الفضائية للبلاد.
بالإضافة إلى ذلك، كان هذا الأسلوب يصلح أيضا لتطبيق تحليل التكلفة/الفائدة الاقتصادي الرسمي. وضع خبراء الاقتصاد فرضيات ملائمة - مثل تقديرات تكلفة التطوير، وتكلفة كل رحلة، وعدد الرحلات سنويا، ومعدل الفائدة الفعلي على الأموال التي أنفقت مقدما لأغراض التطوير - مكنتهم من التأكيد على أن المكوك الفضائي لم يكن سيوفر المال فحسب عند تشغيله، لكنه كان سيوفر أيضا ما يكفي لسداد كل تلك التكاليف المدفوعة مقدما. بالإضافة إلى ذلك، كانت لدى ناسا والقوات الجوية قوائم مطولة من الرغبات المتعلقة بالحمولات التي كان الناس يأملون في بنائها وإطلاقها ذات يوم. بافتراض تحقيق كل هذه الرغبات، كانت ناسا ستتمكن من الظفر بالدعم السياسي من الجهات الراعية لتلك الحمولات، بينما ستضع قائمة مبهرة بالبعثات والمركبات الفضائية المحددة التي سيحملها المكوك الفضائي.
لكن، كان الطرح بسيطا أيضا؛ حيث لم تكن له صلة بالموضوع في حقيقة الأمر. كان الطرح يتبنى وجهة النظر القائلة بأن التكلفة المرتفعة لمركبات الإطلاق ترجع إلى كون تلك المركبات تستخدم لمرة واحدة فقط، فيما كان المكوك الفضائي القابل لإعادة الاستخدام سيوفر أموالا ضخمة. لكن، على حد تعبير أدلبرت تشلر؛ اختصاصي دفع له ثقله وأحد زملاء إيب سيلفرشتين: «التكلفة هي البشر.» كان الأمر يتطلب 20 ألف موظف لفحص الصاروخ «ساتورن 5» وإطلاقه مع مركبة «أبولو» القمرية الملحقة به، ونظرا لأن المكوك الفضائي كان سيعتمد اعتمادا مباشرا على خلفية برنامج «أبولو»، كان بمنزلة تمرين على تسريح الأفراد، للإشارة إلى أن هذه المركبة الجديدة تتطلب عددا أقل جدا من الأفراد.
ربما كان مكوك فضائي غير مأهول، يجري توجيهه نحو ممر إقلاع في ظل تحكم أرضي، سيتطلب بالفعل أعدادا أقل من هذا الطاقم المقدر بالآلاف. لكن، لم تكن هذه الأفكار مقبولة على الإطلاق. في نهاية الأمر، وجدت ناسا في بعثاتها المأهولة مصدر فخر لها؛ كان العاملون في الوكالة مولعين بالقول: «لا دولارات بلا باك رودجرز.» وكحقيقة واقعة، كان على كل مشروع من المشروعات الجديدة الكبيرة أن يتلاءم مع الاحتياجات المؤسسية في مركز المركبات الفضائية المأهولة في هيوستن؛ حيث كان رواد الفضاء يعاملون كملوك.
أثارت الحمولات مزيدا من التساؤلات. كانت قوائم الرغبات تلك تتطلب أموالا كي تصير حقيقة، وفي ظل اتخاذ ميزانية ناسا منحنى هبوطيا حادا، لم تكن مصادر التمويل التي سيجري الاعتماد عليها واضحة. لتفادي هذا الأمر المعرقل، كان مؤيدو برنامج المكوك الفضائي يرون أن تكلفته المنخفضة سوف تستجلب عددا هائلا من أوجه الاستخدام الجديدة. كانت هذه الآمال تعتمد على واقع الخبرة والتجربة؛ إذ كانت شركات الطيران قد حرضت على إطلاق مشروعات جديدة بلجوئها إلى تخفيض الرسوم؛ لكن خطة ناسا التالية كانت تتضمن وضع تصور لأسطول من مكوكات الفضاء تحلق ستين مرة سنويا، حاملة ما يصل إلى أربعة ملايين رطل إلى مدار فضائي. في عام 1969؛ العام الأفضل حتى يومنا هذا، بلغ إجمالي الحمولات المدنية والعسكرية معا 442360 رطلا، جاء معظمها عبر أربع رحلات لمركبة «أبولو».
لكن، بينما كان مستقبل ناسا يعتمد على نجاح نقاشاتها، كانت إحدى المهام الأولية تتمثل في ضم القوات الجوية إلى صفها، بوصفها عميلا رئيسيا لديه برنامج فضائي قوي خاص به. منذ البداية، جعل ذلك الأمر مسئولي القوات الجوية يشعرون أن ناسا كانت بمنزلة «سانتا كلوز». كان حماس الوكالة الجامح يتناقض على نحو صارخ مع خبرة القوات الجوية في العقد المنصرم، عندما جاهدت عبثا في وضع برنامج فضائي مأهول خاص بها.
بدأت هذه الجهود عقب إطلاق «سبوتنيك» وتمحورت حول مركبة فضائية قابلة لإعادة الاستخدام زنة ستة أطنان، وهي «إكس-20». ظفرت شركة بوينج بعقد بناء تلك المركبة الفضائية في عام 1959، وأحرزت تقدما جيدا في تطويرها لصالح القوات الجوية وصولا إلى اختيار ستة من طياري الاختبار للتحليق بها. كان من المقرر أن توضع على الصاروخ «تايتان 3» ليحلق بها إلى مدار فضائي، مارا مرورا سريعا فوق هدف به معدات استطلاع. وبعد إطلاق صاروخ ارتكاسي كابح، كان من المقرر أن تستخدم أجنحة دلتا شديدة الانحناء للخلف حتى تتمكن من الانحدار بانسيابية وبسرعة تفوق سرعة الصوت في طبقات الجو العليا، وهي مناورة معروفة باسم الارتفاع التحريكي.
لذا، أطلق الناس عليها اسم «داينا-سور»، واتضح أن الاسم كان ملائما حيث انقرضت هذه المركبة شأنها شأن الديناصورات وصارت غير مستخدمة. في عام 1963، أدرك وزير الدفاع ماكنمارا أنه سيكون من الأفضل تنفيذ البعثات العسكرية لهذه المركبة باستخدام محطة فضائية صغيرة، وهي المختبر المداري المأهول؛ ألغى مركبات «إكس-20»، بيد أنه صرح للقوات الجوية بالمضي قدما في تطوير المختبر المداري المأهول بدلا من ذلك.
بعدها بعامين، ظفرت «دوجلاس إيركرافت» بعقد بناء هذه المركبة الفضائية. كان التصميم يتطلب أسطوانة، بطول واحدة وأربعين قدما وقطر عشرة أقدام، للتحليق على متن الصاروخ «تايتان 3». كان من المقرر أن تنطلق المركبة «جيميني» للالتقاء بالمركبة والالتحام معها، حاملة على متنها رائدي فضاء يستخدمان هذه المحطة في الاستطلاع. ثم في عام 1969، مع استمرار تحسن قدرة الأقمار الصناعية غير المأهولة التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية، أصدرت وزارة الدفاع قرارا أيضا بإلغاء المختبر المداري المأهول. بالنسبة إلى القوات الجوية، كان ذلك بمنزلة إهانة أضيفت إلى ما لحق بها من ضرر؛ لم تكن القوات الجوية ستفقد مختبرها الفضائي فحسب، بل زاد إلغاء المختبر من مخاوف الكونجرس من أن يكون المختبر المداري المأهول تكرارا هادرا للوقت والجهد لبعض مكونات «سكايلاب»، كما ساهم في ضمان مضي مشروع ناسا المنافس هذا إلى الأمام وبقوة.
في تلك الأثناء، بينما كان مكوك ناسا الفضائي يواجه صعوبات، وجد سيمانز - قائد القوات الجوية - نفسه في موقف موفق للغاية لم يعتده من قبل. كانت ناسا في حاجة إلى مشروعه أكثر من حاجته هو إلى مركبة إطلاق جديدة. أدلى بشهادته في جلسة استماع أمام الكونجرس في عام 1971 قائلا: «لا أستطيع الجلوس هنا اليوم والقول إن نظام النقل الفضائي مطلب عسكري ضروري.» وضعه هذا في موضع تطلب منه إدارة عملية تفاوض غاية في الصعوبة.
وفقا للاتفاق النهائي، كانت القوات الجوية ستسهم بدعمها السياسي وستوافق على استخدام المكوك الفضائي لإطلاق حمولاتها، لكنها لم تكن ستقدم أي أموال لتطوير المكوك. لم تكن ناسا ستدفع تكلفة التطوير بأكملها فحسب، بل كانت ستدفع أيضا كل تكاليف بناء المركبة الجاهزة للعمل، على الرغم من القوات الجوية كانت ستستخدم كلا من المكوك والمركبة استخداما كاملا. بالإضافة إلى ذلك، كانت ناسا ستصمم المكوك الفضائي لتلبية المتطلبات الخاصة للقوات الجوية.
كانت دراسات ناسا في التصميم قد ركزت على بناء مركبة مدارية، أو مرحلة عليا، ذات جناح مستقيم، بسيطة وخفيفة الوزن. كان الجناح يفتقد إلى «المناورة»، وهي القدرة على التحليق لمسافات طويلة يمينا أو يسارا خلال معاودة ولوج الغلاف الجوي. كانت القوات الجوية تحتاج إلى قدر كاف من القدرة على المناورة لإطلاق المكوك الفضائي في مدار فضائي واحد بغرض الاستطلاع، ثم إعادته إلى موقع إطلاقه لإفساح المجال لتنفيذ عمليات من قاعدة آمنة واحدة؛ وهو ما كان يعني تركيب جناح دلتا في المركبة المدارية؛ مما كان سيشكل وزنا إضافيا ويتطلب مزيدا من الحماية الحرارية.
كانت ثمة مجموعة أخرى من الطلبات تتضمن وزن الحمولة وحجم غرفة البضائع. قدرت ناسا سعة حمولة منخفضة وصلت إلى 25 ألف رطل، وهو ما كان يتطلب غرفة بضائع ربما يصل عرضها إلى 14 قدما، وطولها إلى 45 قدما. لكن، أصرت القوات الجوية على حمولة 65 ألف رطل، وغرفة بضائع بمساحة 15 قدما × 60 قدما؛ وهو ما كان سيزيد كثيرا من حجم المكوك النهائي ووزنه وتكلفته. لم تتزحزح القوات الجوية قيد أنملة عن موقفها؛ ربما لم تكن تستطيع إجراء عمليات استطلاع من المختبر المداري المأهول، لكنها كانت مسئولة عن إطلاق الأقمار الصناعية لوكالة الاستخبارات المركزية، وكان مصمموها قد توقعوا أن تتطلب النماذج المستقبلية هذا الحيز والوزن الكبيرين.
في اجتماع عقد في ويليامزبرج بولاية فرجينيا في يناير 1971، اتفق مسئولو ناسا على منح القوات الجوية معظم هامش المناورة الذي كانت تحتاج إليه، وسعة الحمولة الكاملة؛ كذلك، «فصلت» ناسا بين المكوك الفضائي والمحطة الفضائية. تراجع برنامج المحطة الفضائية إلى الظل داخل الوكالة، بينما استحوذ برنامج المكوك الفضائي على اهتمام مكتب المشروعات الخاصة في الوكالة. ولم يكن أحد يجرؤ حتى على مجرد التفكير في رحلة مأهولة إلى المريخ؛ ففي إحدى جلسات إعداد الميزانية في عام 1971، قال جورج لو، حالا محل توم بين: «لا يتضمن برنامجنا حاليا أي خطط لإجراء عملية هبوط مأهولة على سطح المريخ.» ثم أضاف، مشددا على دور المركبة غير المأهولة في استكشاف ذلك الكوكب، قائلا: «أكرر، لا توجد لدينا أي خطط حاليا لتنفيذ بعثة هبوط مأهولة على سطح المريخ.»
استحوذ برنامج المكوك الفضائي بمفرده على الساحة؛ إذ كان له ما يبرره اقتصاديا من خلال الأموال التي كان سيوفرها فيما يتعلق بإطلاق الأقمار الصناعية في برنامج فضائي «غير مأهول»، وهو ما كان يمثل تحولا كاملا في موقف ناسا قبل بضعة أشهر فقط، واقتنع الكونجرس بالمسألة. تلاشت المعارضة في مجلس النواب عندما انضم عضو الكونجرس كارث إلى الفريق المؤيد لبرنامج المكوك الفضائي، معلنا أنه «متحمس» الآن للبرنامج.
في مجلس الشيوخ، ظل والتر مونديل على موقفه؛ حيث رأى أن «ناسا قد عدلت مرارا وتكرارا من هيكلها، وأهدافها ومبررات وجودها، لا لتلبي أي متطلبات تكنولوجية أو علمية، بل حتى تصبح رائجة سياسيا. ترغب ناسا بشدة في تنفيذ هذا المشروع الذي يتكلف عشرات المليارات، وستسعى بأية وسيلة لتبرير تنفيذه. ما نراه، إذن، حالة كلاسيكية لبرنامج ووكالة يبحثان عن مهمة.»
5
لكن، كانت ناسا تحظى بدعم قوي من مسئولين مهمين في القوات الجوية والبنتاجون. آلت مساعي مونديل لإلغاء تمويل المكوك الفضائي إلى الفشل، بعدد أصوات بلغ 50 مقابل 26، ثم 61 مقابل 20.
مع اكتمال الدعم السياسي، استطاعت ناسا والشركات المتعاقدة المضي قدما في تصميماتهما. كان أسلوب ماكس فاجت لصاروخ المرحلتين القابل لإعادة الاستخدام بالكامل متصدرا للساحة، ظلت أهم نماذج التصميم لفترة تأتي من شركة «نورث أمريكان أفياشن» - التي اندمجت مع شركة تصنيع هي «روكويل ستاندرد» لتشكلان معا شركة «روكويل إنترناشونال» الجديدة - ومن «ماكدونل دوجلاس»، نتاج عملية دمج جرت في عام 1967 بين شركتي الفضاء والطيران الرائدتين. كانت الشركتان الأم قد حصلتا على معظم العقود الرئيسية لبرامج «ميركوري» و«جيميني» و«أبولو» و«ساتورن 5»، وكان لمسئوليهما التنفيذيين خبرة طويلة في منح ناسا ما تريده.
كانت ناسا تريد مركبة غاية في الضخامة، وكان يبدو أنها ستحصل على ما تريد. كان كلا التصميمين يتطلبان مركبة في حجم ووزن وتعقيد مركبة «أبولو»، مزودة بأكملها بالوقود، كما كان كلاهما يتضمن صاروخ مرحلة أولى مجنحا يتجاوز طوله 250 قدما؛ مما يجعله أكبر إلى حد ما من طائرة طراز «بوينج 747». كان هذا الصاروخ سيعزز من سرعة المركبة لتصل إلى 7400 ميل في الساعة، ثم يرتد عائدا إلى موقع الإطلاق؛ ثم تواصل المركبة المدارية، التي يبلغ طولها 200 قدم تقريبا، طريقها. بلغ وزن المركبة الكاملة، محملة بالوقود، 2500 طن عند الإقلاع، أو خمسة ملايين رطل.
نموذجا المكوك الفضائي لعام 1970: مركبة الإطلاق ومعاودة الولوج المتكاملة من إنتاج شركة «لوكهيد»، المزودة بخزانات وقود، المكوك الفضائي القابل لإعادة الاستخدام بالكامل المكون من مرحلتين من إنتاج شركة «نورث أمريكان» (دان جوتييه).
كان النموذج مبهرا بما يكفي، لا سيما لمن هو مهندس في مجال الطيران والفضاء الجوي. في هذه المهنة، كان معروفا أن مجرد مضاعفة وزن طائرة موجودة يمثل طفرة هائلة؛ وهذا ما حدث مع «بوينج» عند الانتقال من 707 إلى 747، وقد مرت بمشكلات كبيرة للغاية في أثناء ذلك، وسجلت رقما قياسيا جديدا في مديونية الشركات من خلال الاستعانة بمصارفها لاقتراض 1,2 مليار دولار أمريكي. كانت «بوينج» قد عملت أيضا في مجال النقل الفائق الصوت، في طائرة بسرعة 3 ماخ، زنة 675 ألف رطل. اعتمدت «بوينج» على خبرتها في المشروعات العسكرية، بما في ذلك القاذفة «إكس بي-70»؛ لكن المشروع كان محفوفا بكثير من المخاطر، وبقبولها إياه، أصرت «بوينج» على أن تسهم الحكومة الفيدرالية بنسبة تسعين في المائة من تكلفة التطوير.
كان صاروخا مرحلتي المكوك الفضائي لا يزالان يشكلان خطرا أكبر. وعلى الرغم من أن المرحلة الأولى كانت أثقل بمقدار خمس وسبعين مرة عن «إكس-15»، كان من المقرر أن تبلغ سرعتها 11 ماخ، في حين كانت سرعة هذه الطائرة التجريبية قد بلغت 6,7 ماخ فقط. كانت المركبة المدارية ستنفذ بعثة «إكس-20» نفسها، التي لم تكن قد انطلقت قط، لكنها كانت ستصبح أثقل بمقدار خمس وسبعين مرة. لكن إذا سارت الأمور على ما يرام، كان المكوك الفضائي سيحلق مقابل 4,6 ملايين دولار أمريكي لكل رحلة، محققا تكلفة إطلاق منخفضة للغاية بواقع 70 دولارا أمريكيا لكل رطل . كذلك، كان السعر المعلن شيئا لا يذكر، وهو 9,92 مليارات دولار أمريكي مقابل التطوير.
في تلك الأثناء، كان من الملائم أن يوضع في الاعتبار أن ما كانت ناسا تحاول فعله ربما هو بناء مركبة إطلاق جديدة تكون بمنزلة تطوير للنماذج غير المأهولة الموجودة بالفعل، التي كانت قد تطورت ابتداء من «ثور» و«أطلس» و«تايتان»، والتي كان يجري إطلاقها كل أسبوع تقريبا. الأشخاص الذين وضعوا هذا الأمر في حسبانهم كانوا من مكتب الإدارة والموازنة، الذي كان يدقق في طلبات مثل طلبات ناسا قبل إرسالها إلى الرئيس لإدراجها في الميزانيات المقدمة إلى الكونجرس.
كان مكتب الإدارة والموازنة قد أشار على ناسا بتعزيز مبرراتها الاقتصادية لبناء المركبة الفضائية من خلال التعاقد مع اقتصاديين محترفين لإجراء تحليلات التكلفة والفائدة. أرسي العقد على شركة «ماثمتيكا» المتحدة في برنستون بولاية نيو جيرسي، وكان أوسكار مورجنسترن - رئيس مجلس إدارة الشركة - قد اشتهر بكونه أحد مساعدي جون فون نيومان، وكانت الأنباء الواردة من ماثمتيكا تدعو إلى القلق؛ فمن الناحية الظاهرية، أجمعت التوقعات على أن ناسا تستطيع حقا تحقيق أهدافها من خلال التصميم القابل لإعادة الاستخدام بالكامل المكون من مرحلتين. في حقيقة الأمر، كانت تقاريرهم بمنزلة تحذير قوي منها؛ كان من المؤكد تقريبا أن التحديات الفنية في المكوك الفضائي ستؤدي إلى تجاوز التكلفة بفارق كبير، وهو ما سيطمس الميزات المتوقعة.
جاء هذا موافقا لرأي مكتب الإدارة والموازنة القائل بأن ناسا لا تستطيع تحمل التكلفة. كانت ميزانية الوكالة ثابتة عند 3,3 مليارات دولار أمريكي سنويا، وكان مكتب الإدارة والموازنة يتوقع أن تستمر الميزانية عند هذا الحد، وأنها يجب أن تغطي كل أنشطة ناسا. كان المكوك الفضائي الذي يراود أحلام ناسا يتطلب ما يصل إلى ملياري دولار أمريكي عند ذروة التمويل، وكان مكتب الإدارة والموازنة يرغب في تخفيض ذلك إلى مليار دولار أمريكي، من خلال اقتطاع التكلفة الكلية للتطوير بمقدار النصف. كذلك، لم يكن مكتب الإدارة والموازنة منبهرا بالرأي القائل بأن المكوك الفضائي يمكنه التوفير في التكلفة بإطلاق عدد كبير جدا من الحمولات. نعت ويليام نيسكانن - رئيس قسم التقييم في مكتب الإدارة والموازنة - قائمة رغبات مسئولي ناسا بأنها «غير واقعية»؛ فهم «يبدءون برقم يجاوز المصداقية ثم يزيدون عليه».
رأى نيسكانن - في ضوء تحليل وارد من «ماثمتيكا» - أن الحل يكمن في مكوك أبسط يشبه مركبة الإطلاق ومعاودة الولوج المتكاملة لماكس هانتر، على أن يتضمن هذا المكوك صاروخ مرحلة أولى ربما يشتمل على صاروخي وقود صلب كبيرين موثقين به، مثلما في «تايتان 3». كان هذا المكوك الفضائي يتطلب تكلفة أكبر لتشغيله، ولم يكن سيصل إلى تكلفة 70 دولارا أمريكيا لكل رطل، بيد أن ذلك لم يكن مهما، في ظل الثقة المحدودة لمكتب الإدارة والموازنة في تلك التكلفة المتوقعة في المقام الأول. كان السبب في انجذاب مكتب الإدارة والموازنة إلى هذا الأسلوب هو تخفيضه لتكلفة التطوير المهمة تماما، وهو بند الميزانية المتجدد سنويا الذي كان يتطلب اعتمادات من الكونجرس. كان أسلوب ناسا يتضمن تحمل تكاليف هائلة مقدما في مقابل الأمل الواهي في تحقيق وفورات كبيرة بعد أن تقاعد الجميع. كان مكتب الإدارة والموازنة يريد تكاليف أقل في المدى القريب في مقابل تكاليف إطلاق أكبر نسبيا بعد خمسة عشر عاما، وكان في يده معظم الأوراق.
لم يرق الأمر لناسا، وفي البداية واصلت الضغط بقوة لصالح المكوك الفضائي القابل لإعادة الاستخدام بالكامل المكون من مرحلتين. قال كلاوس هايس، الذي أشرف على دراسات «ماثمتيكا»: «بادئ ذي بدء، كان ثمة الإغراء الذي لا يقاوم لاستخدام أكثر التصميمات والتقنيات الممكنة تطورا، ثم كان ثمة تحيز بيروقراطي متأصل لصالح المركبتين المأهولتين.» عندما أوصى هايس باستخدام التصميم الأبسط لناسا، «ظل بعض الأشخاص هناك يخبروننا بجدية لفترة طويلة بأننا لا يمكننا المضي قدما في هذا الطريق؛ لأن علينا أن نقدم تصميما لمركز مارشال للفضاء وآخر لمركز هيوستن للفضاء».
6
كان من المقرر أن يدير مركز مارشال تطوير صاروخ المرحلة الأولى لمسار العودة، وهو عبارة عن المركبة المجنحة الأكبر من «بوينج 747» التي كانت ستتفوق في أدائها على «إكس-15». إذا أفضى هذا الأمر إلى أي شيء بسيط مثل صواريخ الوقود الصلب المربوطة، فلن يكون لدى هذا المركز سوى القليل ليفعله.
في تلك الأثناء، كان توم بين، مدير ناسا، بصدد تقديم استقالته احتجاجا على تخفيضات الميزانية. في مارس 1971، استقبلت ناسا رئيسا جديدا، وهو جيمس فلتشر؛ كان من بين خبراته العمل مع رامو وولدريدج، وعلى الرغم من قضائه السنوات الست الأخيرة رئيسا لجامعة يوتا، منحه هذا استقلالية في الرأي والتفكير؛ مما أتاح له إلقاء نظرة جديدة على المكوك الفضائي. سرعان ما أدرك فلتشر أنه إذا واصل الإصرار على التصميم المكوك الفضائي القابل لإعادة الاستخدام بالكامل المكون من مرحلتين، فربما ينتهي به المطاف إلى لا شيء على الإطلاق؛ فقد كان مكتب الإدارة والموازنة على هذا القدر من القوة لإلغاء البرنامج؛ لذا، شرع فلتشر في إبرام عقد صلح مع مكتب الإدارة والموازنة من خلال تحقيق طلباته، وإذا كان هذا الأمر يعني مخالفة الآراء الأخرى في وكالته، فإنه كان سيفعل. تصدى مرارا وتكرارا لآراء مسئولي ناسا الآخرين بقوله: «لست مقتنعا بافتراضاتكم حيال هذا الموضوع.»
في غضون أشهر، كان من الواضح أن المكوك الفضائي كان سيمر بعملية إعادة تصميم كبرى تركز على تخفيض تكاليف التطوير. مثلما أشار أحد المسئولين التنفيذيين في مجال الطيران وصناعة الفضاء: «كان البعض يدرك أن البرنامج في طريقه إلى التنفيذ، في حين لم يكن البعض الآخر يدركون ذلك. لكن على أية حال، بحلول شهر يوليو، علمنا جميعا أن هذا النظام اللعين برمته قد أصبح غاية ينشدها الجميع.»
علمت الشركات المتعاقدة مع ناسا أن كثيرا من المسئولين كانوا يرغبون إلى حد ما في التمسك بصاروخ العودة التعزيزي؛ ومن ثم حاولت بكل قوة أن تقترح تصميمات تتضمن ذلك ولا تتجاوز في الوقت نفسه سقف تكلفة التطوير المحدد بمليار دولار أمريكي سنويا من قبل مكتب الإدارة والموازنة. برزت الخزانات القابلة للاستخدام مرة واحدة بوصفها أسلوبا واعدا؛ نظرا لأن حجم المركبة المدارية للمكوك الفضائي وتكلفتها كانا سيتقلصان إذا لم تحتج إلى حمل الوقود داخليا. أجرت بوينج محاولة شجاعة في تحويل صاروخ المرحلة الأولى في الصاروخ «ساتورن 5» إلى صاروخ تعزيزي لعملية العودة، عن طريق اقتراح تصميم يتضمن أجنحة وجهاز هبوط ومقصورة طيار وعشرة محركات توربينية نفاثة. لكن، بينما كان احتمال قبول إطلاق المكوك الفضائي واردا، لم يلق المقترح قبولا.
تحت وطأة الإصرار المتواصل على خفض تكاليف التطوير، أظهرت شركات التصميم المتعاقدة براعة متزايدة في تقديم تصميمات مبتكرة، وهو ما شجع ناسا وغذى شكوك مكتب الإدارة والموازنة. نص أحد التقارير الصادرة عن مكتب الإدارة والموازنة في أواخر نوفمبر على أنه: «إذا أمكن لنا الاسترشاد بمهارة ناسا وسعة حيلتها في تغيير تصميم المكوك الفضائي حتى الآن، فإننا لم نشرع بعد في معرفة ما يمكن أن تقدمه ناسا إذا هي حاولت فعلا تحسين أداء نظام مقابل مبلغ يتراوح بين 3 و4 مليارات دولار أمريكي.» كان فلتشر يحاول بلوغ 5 مليارات دولار أمريكي، ولكي يصل إلى ما دون 4 مليارات دولار أمريكي، كان عليه أن يقسم غرفة الحمولة إلى نصفين، إلى عشرة أقدام × ثلاثين قدما وبسعة 30 ألف رطل.
دفعه هذا الأمر إلى تقديم مزيد من التنازلات. بنهاية العام، استجاب فلتشر إلى مطلب مكتب الإدارة والموازنة باقتراح حل وسط، وهو أن تكون غرفة الحمولة 14 قدما × 45 قدما وبسعة 45 ألف رطل، وهو ما لم يكن يناسب القوات الجوية، لكن كان الأمل معقودا بأن المكوك الفضائي قد يسهم في بناء محطة فضائية ذات يوم. وبينما كان الأمل في هذه المحطة واهيا آنذاك، فإنه كان أبعد ما يكون عن الأفول.
لكن، كان فلتشر على وشك الفوز بدعم الرجل صاحب النفوذ الأكبر، وهو الرئيس نيكسون. كانت رؤية الرئيس للفضاء تضاهي رؤية كينيدي وجونسون؛ إذ كان يرى أن الفضاء يمثل اختبارا لقدرة أمريكا على القيادة. كان شديد الإعجاب برواد الفضاء، حتى إنه رحب بنفسه بطاقم «أبولو 11» فور عودته، ولم يكن ذلك في واشنطن، بل كان على متن حاملة طائرات كانت قد استرجعتهم توا في المحيط الهادئ. عندما علم بأمر المكوك الفضائي، انبهر بالموضوع، وعندما التقى به فلتشر وأحضر معه نموذجا للمكوك الفضائي، أمسك نيكسون بالنموذج وأحكم قبضته عليه كما لو أنه لن يعيده.
في وقت مبكر من شهر يناير 1972، التقى فلتشر بجورج شولتس، رئيس مكتب الإدارة والموازنة. كان فلتشر مستعدا للدفاع عن غرفة الحمولات بمساحة 14 قدما × 45 قدما؛ حيث وصفها بأنها «أقل خيار مقبول». أسعده كثيرا ما فوجئ به من شولتز حين أخبره أن نيكسون وافق فعليا على تطوير المكوك الفضائي باستغلال غرفة الحمولات بأبعادها الكاملة (15 قدما × 60 قدما). عندما بلغت الأنباء مسمع ديل مايرز، مدير برنامج المركبة، اعترته الدهشة.
في النهاية، في وقت مبكر من عام 1972، استقرت ناسا على تصميم المركبة الذي نعرفه اليوم، الذي يشتمل على خزان خارجي كبير للوقود وصاروخي وقود صلب ملحقين به قطرهما 146 بوصة. تضمنت المركبة أيضا محركا صاروخيا جديدا، كان بمنزلة المحرك الرئيسي للمكوك الفضائي. كان من المقرر أن يستخدم المحرك الهيدروجين والأكسجين كوقود، بينما يوفر عملا لكل من «روكيت داين» بوصفها الشركة المتعاقدة، ومركز مارشال لرحلات الفضاء الذي كان مسئولا عن مباشرة تطويرها.
توقعت ناسا أن تكون تكلفة التطوير 5,15 مليارات دولار أمريكي، نصف السعر المعلن لتصميمات نماذج المركبات القابلة لإعادة الاستخدام بالكامل المكونة من مرحلتين في عام 1971، والبالغ 10 مليارات دولار أمريكي. ارتفعت التكلفة المتوقعة لكل رحلة من 4,6 ملايين دولار أمريكي إلى 10,4 ملايين دولار أمريكي. في ظل ثبات سعة الحمولات عند 65 ألف رطل، زعمت ناسا أن التصميم الجديد سيتكلف 160 دولارا أمريكيا لكل رطل. كانت هذه الأرقام لا تزال تتسم بالتفاؤل الشديد، وكان فلتشر يعلم ذلك، لكنه كان يضع الكونجرس نصب عينيه. صرح لاحقا مسئول آخر لمجلة «ساينس» قائلا: «لكننا كنا نحصل على أصوات كثيرة جدا ...»
في وقت مبكر من شهر يناير ذلك، التقى فلتشر ونائبه جورج لو بنيكسون لتلقي المباركة الرئاسية على المشروع. أثنى نيكسون على المكوك الفضائي ثناء كبيرا : «سيحدث ثورة في الانتقال إلى الفضاء القريب بجعله عملية روتينية. سيقضي على التكاليف الهائلة التي يعرف بها علم الفضائيات.» ثم استشهد بالشاعر أوليفر هولمز، في عبارة تذكر فيها جون كينيدي، قائلا: ««علينا أن نبحر في اتجاه الرياح حينا وضدها أحيانا أخرى، لكن علينا أن نبحر، وألا ننجرف، أو نقف عند مرسى ولا نتحرك.» هكذا هي الحال مع رحلة الإنسان الملحمية إلى الفضاء، رحلة تقودها الولايات المتحدة وستظل تقودها.»
7
بهذا التصديق، استطاعت ناسا أن تمضي قدما في الشأن المهم المتعلق بإرساء العقد الرئيسي لتطوير المكوك الفضائي. فازت «روكويل إنترناشونال» بالعقد، وكان أحد الأسباب المهمة في ذلك أن قسم الفضاء في هذه الشركة كان قد تعلم من الدروس الصعبة التي مر بها برنامج «أبولو». كان مقترح «روكويل» قويا، خاصة في مجالات الإدارة ونظم الطاقة الكهربائية، وهو ما كان يعكس الدروس المستفادة من المشكلات التي تسببت في حريق عام 1967، وقضت على سمعة ستورمي ستورمز كثيرا. بلغت قيمة العقد 2,6 مليار دولار أمريكي، ليكون بذلك أكبر عقد لناسا خلال عقد من الزمان.
لم تكن ناسا لتعود إلى مجد «أبولو» في ظل ميزانية قوامها 3,3 مليارات دولار أمريكي سنويا؛ كان عليها أن تمضي قدما دون فون براون، الذي رأى أن هذه الوكالة لم تقدم مجالات جديدة لاكتشافها وتركها في منتصف عام 1972 للعمل في القطاع الخاص. لكن، اجتمعت المجموعة القديمة من أيام «أبولو» مرة أخرى، ممثلة في «روكيت داين» و«روكويل»، في هانتسفيل وهيوستن؛ وبتعديلات طفيفة، تقرر أن تتولى مرافق الصاروخ «ساتورن 5» الهائلة في كيب كانافيرال إطلاق المكوك الفضائي أيضا.
في هذا الوقت كان الاتحاد السوفييتي يمضي قدما في جيله الجديد من مركبات الإطلاق والمركبات الفضائية. في أعقاب رحلتي «زوند» شبه الناجحتين للدوران حول القمر في عام 1968، فشلت عملية إطلاق في يناير 1969 عندما حدث خلل وظيفي في صاروخي المرحلتين الثانية والثالثة. كانت هذه هي المحاولة الثالثة ضمن المحاولات الست الأخيرة التي تمر بهذه المشكلات في صواريخ المرحلة العليا، وتوقف البرنامج لمدة ستة أشهر، بينما عكف طاقم العمل على تطوير كفاءة الصاروخ «بروتون» المكون من أربع مراحل. في هذه الأشهر نفسها كان برنامج «أبولو» يمضي حثيثا، من خلال مجموعة من المهام التي توجتها بعثة الهبوط على سطح القمر في يوليو. وحينما كان السوفييت على استعداد للمحاولة مجددا، كان الوقت قد تأخر أكثر مما ينبغي.
حققت رحلة «زوند 7»، التي أعقبت ذلك، نجاحا بطعم العلقم. كانت ناجحة تماما، بل اتضح أنها كانت في حقيقة الأمر الرحلة الوحيدة الناجحة في برنامج «زوند» بأسره. على غرار «زوند 5» في شهر سبتمبر الماضي، طافت المركبة حول القمر مارة خلال 765 ميلا من جانبه المظلم، بينما لم تصبها أي أضرار خلال رحلتها بالكامل التي استغرقت ستة أيام. وعلى غرار «زوند 6»، نفذت المركبة عملية معاودة الولوج الصعبة كما ينبغي. في حقيقة الأمر، نفذت عملية معاودة الولوج على نحو دقيق تماما، حتى إنها هبطت في محيط ثلاثين ميلا من هدفها. لكن، انطلقت «زوند 7» في أغسطس 1969، بعد شهر من اتخاذ نيل أرمسترونج خطوته الصغيرة؛ لذا، لم تحمل الرحلة أي قيمة دعائية؛ فلم تسفر عن كثير وجاءت بعد أن كان الوقت قد تأخر كثيرا.
كانت الرحلة مقياسا لقدرة أمريكا على القيادة، قيادة كانت تستند إلى الصاروخ «ساتورن 5» الفعال، وهي قيادة حاولت موسكو مرارا أن تحوزها لكنها فشلت في تحقيق ما بلغته «أبولو» بمحض المصادفة. كان هدف برنامج «زوند»، على أية حال، نقل رائدي فضاء إلى مدار حول القمر وإعادتهما بسلام. على مدى عمليات الإطلاق التسع، لم ينجح السوفييت قط في تأهيل مركبتهم لهذه المهمة؛ في حقيقة الأمر، لم يتمكنوا حتى من تكرار إنجاز «زوند 7»؛ فلم تكن عملية الإطلاق الأخيرة - التي أجريت في أكتوبر 1970 ضمن سلسلة عمليات الإطلاق الأخرى - سوى تكرار للمحاولة شبه الناجحة لمركبة «زوند 5»، بما في ذلك عملية معاودة الولوج الشديدة الانحدار فوق المحيط الهندي. على النقيض من ذلك، عندما حملت «أبولو 13» روادها الثلاثة في رحلة مماثلة تماما للدوران حول القمر، كانت تتضمن مركبة معطوبة نفذت عملية الدوران فقط كإجراء طارئ، للعودة الآمنة من فضاء القمر.
لكن، مثلما كانت ناسا قد تقدمت من «ساتورن 1-بي» إلى «ساتورن 5»، كانت روسيا أيضا تتقدم من الصاروخ «بروتون» التعزيزي إلى الصاروخ «إن-1» النهائي الضخم لكوروليف. كانت محركات صاروخ المرحلة الأولى في هذا الصاروخ القمري، وعددها ثلاثون محركا، مركبة في مجموعات ثنائية. كان من المفترض أن ثمة نظام تحكم في تشغيل المحركات (يدعى «كورد» بالروسية) على متن المركبة يستشعر أي عطب؛ ومن ثم، كان النظام سيوقف أي محرك معطوب فضلا عن المحرك الآخر المقترن به في مجموعته الثنائية، على الوجهة المقابلة، للحفاظ على توازن في قوة الدفع.
أجريت عملية الإطلاق الأولى في فبراير 1969. خلال الدقيقة الأولى في عمر الرحلة، قللت محركات صاروخ المرحلة الأولى من سرعتها لتخفيف الأحمال على المركبة، ثم عند الثانية 66 من وقت الإطلاق، عادت هذه المحركات للعمل بكامل طاقتها بسرعة أكبر مما كان مخططا لها؛ فأدى الإجهاد الناشئ إلى حدوث تصدع في أنبوب أكسجين سائل واندلاع حريق. فشل نظام «كورد» في وقف المحرك الذي كانت المشكلة متمركزة فيه، وبدلا من ذلك، بالغ النظام في استجابته تجاه المشكلة وتعامله معها، فأوقف محركات الصاروخ الثلاثين كلها. سقط الصاروخ «إن-1» على مسافة ثلاثين ميلا تقريبا من نقطة الانطلاق.
قال فاسيلي ميشن، خليفة كوروليف، مطمئنا: «هذا أمر طبيعي بالنسبة إلى عملية الإطلاق الأولى.» عقد ميشن آماله على الصاروخ «إن-1» الثاني، الذي أجريت محاولة إطلاقه الأولى في يوليو، قبل أسبوعين من «أبولو 11». كان ميشن يرغب في استخدام هذا الصاروخ لتسجيل أرقام قياسية، ونجح في ذلك، وإن لم يكن على النحو الذي يجعل أحدا فخورا بما تم. صار «إن-1» أكبر مركبة إطلاق تنفجر على المنصة على الإطلاق.
انطلق الصاروخ من المنصة وارتفع إلى بضع مئات من الأقدام، ثم نفذت قطعة معدنية شاردة إلى مضخة الأكسجين السائل التوربينية للمحرك رقم 8؛ مما تسبب في انفجارها؛ وهو ما أدى بدوره إلى قطع الكابلات الموجودة على متن الصاروخ في مجموعة الدوائر الكهربائية، وأتلف المحركات المجاورة، وتسبب في اندلاع حريق هائل. مرة أخرى، أوقف نظام «كورد» جميع محركات الدفع. سقط هذا الصاروخ القمري - الذي كان مزودا بالوقود عن آخره، وكان يماثل في وزنه وزن مدمرة بحرية - على مجمع الإطلاق وانفجر في شكل كرة هائلة من النيران.
كان ميشن يتوقع أن يواجه عثرات وأن يتعلم منها، وصار لديه آنذاك ما يكفي من الدروس لينال درجة الدكتوراه. أعيد تصميم نظام «كورد » بالكامل، بينما زود صاروخ المرحلة الأولى في «إن-1» بنظام لمكافحة الحريق باستخدام غاز الفريون. وضع نيكولاي كوزنتسوف، مصمم المحركات، برنامجا كبيرا لتحسين كفاءتها، يتضمن تركيب مرشحات بسيطة يمكنها غربلة القطعة المعدنية التي تسببت في تدمير الصاروخ ومنصة الإطلاق. تقررت إعادة بناء المنصة، بينما استكمل بناء مجمع إطلاق ثان، كان قيد الإنشاء بالفعل. مع ذلك، لم ينطلق الصاروخ «إن-1» لمدة عامين آخرين.
مع ذلك، لم يكن ميشن في حيرة من أمره؛ كان لا يزال لديه الصاروخ «آر-7» التعزيزي مع مركبته الفضائية «سويوز»، بينما كان «بروتون» قد أظهر قدرا من الكفاءة منذ مدة غير بعيدة في برنامج «زوند»، من خلال أربع محاولات إطلاق ناجحة من واقع خمس محاولات. أصدر ديمتري أوستينوف، الذي كان لا يزال يمثل ثقلا في الكرملين، تعليماته إلى ميشن باستخدام الصاروخين «آر-7» «وبروتون» لتنفيذ برنامجه المناظر لبرنامج «سكايلاب». كان البرنامج يتمحور حول بناء محطة فضائية صغيرة، هي محطة «ساليوت» (أي تحية) إلى يوري جاجارين. لكن لسوء الحظ، لم يكن جاجارين موجودا حتى يتلقى التحية؛ فقد لقي حتفه في عام 1968، عندما حلق بطائرته المقاتلة النفاثة نحو دوامات طرف الجناح القوية التي سحبت طائرة مقاتلة أخرى لمسافة كبيرة وراءها. خرجت طائرة جاجارين عن نطاق السيطرة، ولقي حتفه في حادث الاصطدام.
كإشارة ثناء رائعة، كانت «ساليوت» تزن أكثر من 40 ألف رطل، وبالتحام «سويوز» معها، كان الحيز الداخلي في المركبتين معا يساوي 3500 قدم مكعب، وهو ما يزيد بمقدار الثلث عن حيز «سكايلاب». كانت «ساليوت»، مثل نظيرتها الأمريكية، تركز على الرحلات الطويلة. كنوع من الإحماء، استعادت موسكو الرقم القياسي لزمن المكوث في المدار؛ حيث حملت «سويوز 9» ثلاثة من رواد الفضاء لمدة ثمانية عشر يوما في عام 1970. ثم في أبريل 1971، بعد عشر سنوات من رحلة جاجارين، انطلقت «ساليوت 1» إلى الفضاء، ثم انطلقت «سويوز 10» والتحمت بها، وإن كان عطل في فتحة خروج قد أبقى أفراد الطاقم في مركبتهم. بعدها بستة أسابيع، انضمت إليهما «سويوز 11»، حاملة جورجي دوبروفولسكي، وفلاديسلاف فولكوف، وفيكتور باتساييف. دخلوا جميعا هذه المحطة الفضائية ومكثوا فيها أكثر من ثلاثة أسابيع.
بانتهاء مهمتهم، أطلقوا مجموعة من القطع المعدنية القابلة للانفجار لفصل كبسولة مسئولة عن معاودة ولوج الغلاف الجوي عن بقية أجزاء «سويوز». كانوا لا يزالون على ارتفاع أكثر من مائة ميل عندما تسببت الانفجارات في فتح صمام مسئول عن معادلة ضغط القمرة مع الضغط خارج المركبة الفضائية. لم يكن رواد الفضاء يرتدون بزات ضغط؛ إذ لم تكن لدى أي منهم بزة ضغط على متن المركبة. كان من الممكن غلق الصمام يدويا، وربما فقد باتساييف اتزانه بينما كان يحاول جاهدا إغلاق الصمام في حيز انعدام الوزن؛ حيث تلقى كدمة شديدة في وجهه. لكن، تسرب الهواء الموجود في القمرة قبل أن يتسنى لأحد إغلاق الصمام، ولقي أفراد الطاقم حتفهم. على الرغم من وفاة رواد فضاء من قبل، كان أفراد هذا الطاقم هم أول من يلقون حتفهم في الفضاء فيما وراء الغلاف الجوي.
قال ميشن لاحقا: «أخضع هذا الصمام للفحص مئات المرات في وحدات الاختبار، واستخدم في جميع مركباتنا السابقة. كان يبلي بلاء حسنا دائما. لم يجل بخاطر أحدهم على الإطلاق أن أداة بسيطة كهذه قد تتعطل.» أعيد تصميم مركبة «سويوز» على غرار ما حدث مع «إن-1»، وصارت البزات الفضائية لرواد الفضاء فيما بعد ضرورة لا مراء فيها، ولكي يفسح المجال لها ولأنابيب الأكسجين الخاصة بها، جرى تعديل «سويوز» من مركبة تقل ثلاثة من رواد الفضاء، إلى مركبة تحمل رائدي فضاء فقط، وهو ما كان على النقيض من التعديلات التي أجراها فيوكتستوف على «فوسخود» في عام 1964، التي أدت إلى ظهور أول مركبة فضائية في العالم تقل ثلاثة رواد فضاء. مر عقد من الزمان قبل أن ينطلق السوفييت مرة أخرى بمركبة على متنها طاقم من ثلاثة أفراد.
خلال الأسبوع نفسه الذي قضى فيه رواد الفضاء نحبهم، أجرت «إن-1» محاولة أخرى. مع خروجها من البرج، تسببت قوى ديناميكية هوائية غير متوقعة في دورانها بسرعة حول محورها؛ مما أدى إلى تحطم الهيكل الداعم بين صاروخي المرحلتين الثانية والثالثة؛ انفصل صاروخ المرحلة الثالثة، وهو صاروخ ضروري في حد ذاته كان يحمل نموذجا محاكيا لمركبة الفضاء القمرية. تحطم الصاروخ وانفجر قرب منصة الإطلاق. واصل «إن-1» طريقه بما تبقى من أجزائه، دون إدراك انفصال رأسه آنذاك. استمرت حركة الدوران؛ إذ تعطل نظام التوجيه - الذي أجهد أيما إجهاد - بينما كان يحاول وقف حركة الدوران. كانت محركات صاروخ المرحلة الأولى تبلي بلاء حسنا، بيد أن نظام «كورد» أوقفها جميعا. انحنى الصاروخ القمري المقصوم خلال السماء مثل قذيفة مدفعية هائلة، وعندما اصطدم بالأرض، على مسافة اثني عشر ميلا من موقع الإطلاق، انفجر أيضا، وخلف فوهة عرضها مائة قدم.
مضى عام ونصف عام آخر، ثم في نوفمبر 1972 - بعد خمسة عشر عاما من رحلتي «سبوتنيك» الأوليين - كان «إن-1» جاهزا لإجراء محاولة أخرى. كاد الصاروخ ينجح في الانطلاق هذه المرة؛ حيث حلق على نحو عادي خلال الثواني التسعين الأولى. في تلك اللحظة، توقف ستة محركات في مركز صاروخ المرحلة الأولى مثلما كان مخططا له، للحد من تسارع المركبة، بينما واصلت محركات الصاروخ الأربعة والعشرون الأخرى توفير قوة الدفع. لسوء الحظ، كان توقف المحركات فجائيا أكثر مما ينبغي، وأدى تأثير ظاهرة الطرق المائي إلى تصدع بعض أنابيب الوقود، فاندلع حريق. لم يعمل نظام مكافحة الحرائق باستخدام غاز الفريون، فبدأت المحركات في الانفجار عند الثانية 105 من وقت الإطلاق، وبعدها بثانيتين، أوقف نظام «كورد» ما تبقى من محركات. عندئذ، كان الأوان قد فات؛ إذ انفجر الصاروخ بأسره. سقط صاروخ المرحلة الأولى خلال عشر ثوان من لحظة الانفصال العادية، بينما كان صاروخ المرحلة الثانية سيبدأ في العمل.
كان هذا السجل الحافل من الفشل الذريع يتناقض على نحو مرير مع سجل فون براون من النجاح الكامل. خلال أكثر من ثلاثين عملية إطلاق لصواريخ طراز «ساتورن» بين عامي 1961 و1975، بما في ذلك ثلاثون صاروخا من طراز «ساتورن 5»، بلغت جميع الصواريخ مداراتها أو حققت أهدافها دون المدارية. مع أخذ الاستثناء المهم للصاروخ «ساتورن 5» الثاني في الاعتبار، كانت جميع صواريخ المراحل العليا في أبريل 1968 تعمل كما يجب؛ ويمكن تلخيص السبب في كلمة واحدة، وهي الاختبار.
كان «أبولو»، بالنسبة إلى من عملوا في البرنامج، تدريبا على الاختبار في المقام الأول. بدأ البرنامج حرفيا عند مستوى الصواميل والمسامير. أخبر تشارلي فيلتز - أحد الأفراد البارزين في قوات ستورم - ذات مرة لجنة الفضاء في مجلس النواب، أن خام الحديد المصنوعة منه أدوات التثبيت والربط هذه جاء من قطاع معين في منجم مفتوح في سلسلة جبال مسابي، قرب دولوث، بولاية مينيسوتا. ثم مرت المسامير في تصنيعها بإحدى عشرة خطوة، وكان يجب التصديق على المنتج واعتماده في كل خطوة، من خلال اختبارات دقيقة. جرى هذا التصديق على السبيكة المصهورة من الخام، والقضيب الحديدي المشكل من السبيكة، وقضيب الفولاذ المستخلص من القضيب الحديدي، فضلا عن المسامير نفسها المفرزة من قضيب الفولاذ. كانت تكلفة أدوات التثبيت والربط الناتجة أعلى خمسين مرة من المسامير التي ربما كان فيلتز يشتريها من محل لبيع الأدوات المعدنية، بيد أن الأمر كان يتطلب ذلك لإرسال رواد فضاء إلى القمر.
لم يتعامل الروس مع الأمر على هذا النحو. على وجه التحديد، لم يكن للبرنامج السوفييتي للهبوط على سطح القمر منصة إطلاق كبيرة يمكنها أن تستوعب صاروخ المرحلة الأولى من «إن-1»، بمحركاته الثلاثين، على الرغم من أن كوزنيتسوف قد أجرى اختبارات على محركات صواريخه. على النقيض من ذلك، كانت تجري عمليات تشغيل استاتيكية في منشأة اختبارات المسيسيبي حتى لأكبر الصواريخ المرحلية الكاملة في الصاروخ «ساتورن 5». على حد تعبير ميشن «كنا نجري اختبارات على الأجزاء المنفصلة، ولم نجرؤ حتى على التفكير في تشغيل المحركات الثلاثين جميعا في صاروخ المرحلة الأولى كنموذج مجمع كامل. ثم جرى تجميع الأجزاء، دون ضمانات، بالطبع، على سلامة عملها كمجموعة.»
استطرد ميشن قائلا: «استثمر الأمريكيون 25 مليار دولار أمريكي في البرنامج، وصعدوا إلى القمر، لكن ما استثمرناه كان أقل عشر مرات تقريبا.»
8
أضاف اختصاصي آخر: «أنفق الأمريكيون 15 مليار دولار أمريكي على إنشاء قاعدة تجريبية، بينما لم ننفق نحن سوى مليار دولار أمريكي تقريبا.» فشل الروس في بلوغ القمر لأنهم حاولوا الصعود إلى هناك بتكلفة زهيدة؛ وهذا، بدوره، عكس بدقة ميزات المجتمعين المتنافسين، اللذين أخضعهما التنافس في مجال الفضاء بينهما إلى اختباره الخاص.
كان الرئيس كينيدي قد أدرك الأمر جيدا في عام 1961: ما بقيت هذه المنافسة عند مستوى الصواريخ والأجهزة الأخرى التي كانت متوافرة في ذلك الوقت، ففي مقدور موسكو الفوز. استطاع الصاروخ «تايتان 2» مضاهاة الصاروخ «آر-7» لكوروليف، وكان من المتوقع أن يتفوق «جيميني» في أدائه على «فوسخود»، لكن ليس بفارق كبير. بالمثل، ربما صارت المنافسة بين «بروتون» و«ساتورن 1-بي»، التي كانت عملية الدوران حول القمر هي الجائزة فيها، منافسة احترافية حامية الوطيس حقا. لكن، عند مستوى «ساتورن 5» و«أبولو» و«إن-1»، اختبرت المنافسة حقا قدرات القوتين العظميين في جمع المبالغ المالية الطائلة اللازمة لتنفيذ مشروع مهم. قارنت مجلة «نيوزويك»، في وقت مبكر من عام 1961، سباق الفضاء باحتفال بوتلاتش لقبيلة كاواكيوتل في شمال غرب المحيط الهادئ، الذين يتنافسون على الإلقاء بأعلى الأشياء قيمة في النيران. كان احتفال بوتلاتش القمري هذا ما تريده البلاد، وما حصلت عليه.
بالإضافة إلى ذلك، بينما كان الاتحاد السوفييتي يركز على رحلات محطات «ساليوت» الفضائية التابعة له، كانت الولايات المتحدة متأهبة للريادة في هذا المجال أيضا. كانت «سكايلاب»، التي كانت أثقل من «ساليوت» بمقدار أربع مرات، تتضمن كل وسائل الراحة فعلا، من خلال حيزها الرحب الذي كان يبلغ في اتساعه اتساع منزل مكون من ثلاث غرف، كما أن طولها البالغ 118 قدما، فضلا عن مركبة «أبولو» المتصلة بها، قد جعلها أكثر طولا من «تايتان 2»، وهو ما جعلها نموذجا مبكرا لمركبة مدارية أكبر كثيرا من مركبة إطلاق متوسطة الحجم. كان أفراد طواقمها يستمتعون بالنوم في أكياس نوم في مقصورات خاصة، فضلا عن غرفة طعام بها مائدة، ودش للاستخدام مرة واحدة أسبوعيا، ومرحاض معدوم الجاذبية يعتمد على الشفط الهوائي. كان في مقدور رواد الفضاء الحلاقة، وكان طعامهم يشمل الكركند وشرائح اللحم المخلية، وبودينج محلى بحلوى الزبد والسكر الأسمر. فكرت ناسا في إضافة نبيذ إلى قائمة الطعام، لكنها قررت ألا تفعل خشية اعتراض الاتحاد المسيحي النسائي للاعتدال في معاقرة الخمر أو الامتناع التام عنها.
حلقت المحطة الفضائية في مدار فضائي في مايو 1973، وسط متاعب جمة. في طريقها إلى أعلى، تمزق درع حراري منفصلا عن المركبة؛ مما أدى إلى سحب لوح شمسي رئيسي معه وعرقلة لوح شمسي آخر بما يحول دون فتحه. عرض الدرع الحراري المفقود «سكايلاب» لخطر الحرارة المفرطة؛ ومن ثم إفساد الطعام المخزن والإمدادات الطبية، وإتلاف الأفلام الفوتوغرافية، وتحلل مادة البولي يوريثان العازلة، وإطلاق غازات مميتة. بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من أن حامل منظار أبولو كان يحمل مجموعة منفصلة من الألواح الشمسية، كان فقدان ألواح «سكايلاب» من شأنه أن يتسبب في خفض مصدر الطاقة بمقدار النصف.
كان الأمر تكرارا لرحلة «أبولو 13» مجددا؛ حيث حاول المهندسون في القاعدة الأرضية جاهدين التوصل إلى إصلاحات سريعة يمكن من خلالها إنقاذ هذا البرنامج الذي بلغت تكلفته 2,5 مليار دولار أمريكي. كان توفير مظلة شمسية يمثل ضرورة قصوى وملحة. اتخذت المظلة شكل مستطيل كبير من البلاستيك الرقيق قابل للنشر، وهو ما يشبه مظلة يدوية. عند طيها، كان رائد الفضاء يستطيع إخراجها عبر فتحة الخروج على جانب «سكايلاب» وفتحها وإلصاقها بالحائط الخارجي. وعندما بدأت بطاريات التخزين على متن المركبة في النفاد، ازدادت مشكلة توفير مصدر طاقة حدة. سار رائدا الفضاء بيت كونراد وجوزيف كروين أربع ساعات في الفضاء، وكانت هذه هي أطول فترة حتى ذلك الحين، وحرروا اللوح الشمسي المعلق.
استقر الطاقم بعد ذلك على البقاء لمدة 28 يوما، وهي الفترة التي أجروا خلالها فحوصات طبية. كان كروين طبيبا، بينما كان رائد الفضاء الثالث بين أفراد الطاقم، وهو بول وايتز، يستطيع إجراء جراحة صغيرة أو اقتلاع سن. كانت الأنشطة الأخرى تتمحور حول علم الفلك الشمسي، والأرصاد الأرضية، والتجارب التي كانت تدرس سلوك المعادن السائلة في حالة انعدام الجاذبية. لاحقا في عام 1973، مكثت مجموعة ثانية من الزائرين تسعة وخمسين يوما، وسارت هذه البعثة على نحو جيد تماما، حتى إنه على الرغم من ترشيح طاقم ثالث للبقاء لفترة مماثلة، مد مديرو ناسا فترة البقاء إلى أربعة وثمانين يوما. كانت الرحلتان الأخيرتان تقلان اختصاصيين في علم الفلك الشمسي، وهما أوين جاريوت ثم إد جيبسون، وقدم كلاهما أرصادا مفصلة بالانبعاثات الفجائية للطاقة المعروفة باسم الانفجارات الشمسية، التي تابع جيبسون أحدها منذ لحظة تولده.
كان للحياة في حالة انعدام الوزن غرائبها؛ كان مذاق الطعام غير حريف، ودأب أفراد الطاقم على غمس الطعام المقدم إليهم في تتبيلات البصل والملح. شكلت فقاعات الهواء في الطعام والماء مشكلة أخرى، أشار إليها بيل بوج - رائد فضاء في البعثة الثالثة قائلا: «كنا نعاني من كثرة خروج غازات من البطن. أعتقد أن خروج غازات من البطن بمعدل خمسمائة مرة يوميا ليس بالأمر الجيد الذي يمكن التكيف معه؛ كان الشيء الوحيد الذي يعوض ذلك أن الجميع كانوا يطلقون الكمية نفسها.» لكن الجميع صاروا يتمتعون بقوام جيد؛ وهو ما كان يشير إلى عدم وجود أي قيود على طول الفترة التي يمكن أن يحياها المرء في حالة انعدام الوزن. من خلال ممارسة التمرينات بدأب، ظل جميع رواد الفضاء يتمتعون بصحة طيبة.
ثم كانت هناك الأرصاد الأرضية، التي تضمنت صورا للأرض التقطت عند عدد من الأطوال الموجية، بما في ذلك الأشعة تحت الحمراء الحساسة للحرارة. أظهرت الصور المأخوذة بالأشعة تحت الحمراء المصادر المحتملة للطاقة الحرارية الأرضية في غرب الولايات المتحدة، فضلا عن الينابيع المتفجرة للماء البارد في منطقة الكاريبي التي قد تؤثر على تكون العواصف وتطورها. استعان أحد العلماء في منطقة متأثرة بالجفاف في أفريقيا بصور «سكايلاب» للبحث عن مياه، بينما عثر جيولوجيون على أماكن محتملة لاحتياطي النفط والنحاس.
مع ذلك، على الرغم من أن هذا العمل كان ينطوي على قيمة أكيدة، لم تخرج مركبة في بعثة متابعة لمركبة «سكايلاب». تضاءلت فائدة الدراسات الطبية الطويلة الأمد في ظل غياب الاحتمال في إرسال أي بعثة إلى المريخ. كان من المنتظر إطلاق مراصد مدارية أخرى في المستقبل لإجراء عمليات رصد للأرض ومحيطاتها فضلا عن الشمس، لكن كان من المقرر أن تكون غير مأهولة وأقل تكلفة بكثير ويستمر عملها لسنوات. ساهمت «سكايلاب» في سد الفجوة التي واجهتها ناسا في الفترة ما بين برنامج «أبولو» وبرنامج المكوك الفضائي؛ حيث استفادت من اختصاصيين كانوا سيسرحون، ومن معدات كانت ستوارى بين جنبات المتاحف. لكن تكلفتها كانت ستوفر ميزانية أربع سنوات لمؤسسة العلوم الوطنية، التي كانت تمول معظم البحوث الأساسية للبلاد في مجال الفضاء. على الرغم من أن «سكايلاب» حققت ثمارا علمية كبيرة، كانت تكلفتها المرتفعة تتناقض بشدة مع التكلفة المتواضعة لمشروعات قائمة وقتها مثل دراسة القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا)، واستكشاف أعماق البحار. كانت تكلفة المحطة تفوق ميزاتها، أو أكثر من أن تبرر إرسال رحلات أخرى إلى هذا المختبر الفضائي.
حظيت «أبولو» بلحظة انتصار أخيرة في منتصف عام 1975، عندما أقلت عملية الإطلاق الأخيرة للصاروخ «ساتورن 1-بي» مركبتها للالتحام بهدف غير معتاد على الإطلاق، وهو نظيرتها السوفييتية «سويوز 19». انبثقت هذه البعثة المشتركة من اتفاقية في عام 1972 بين نيكسون ورئيس الوزراء أليكسي كوسيجين، وكانت ترمز إلى فكرة مخادعة يجري تصويرها عبر الفضاء؛ فها هي المؤسسات والمعدات الصاروخية التي طالما تنافست قبل سنوات قليلة في الصعود إلى القمر، وسعت إلى إظهار التفوق القومي، تلتقي حاليا في الفضاء وتلتحم معا لتظهر كيف يمكن لهاتين القوتين العظميين أن تتعاونا.
من الصائب أن موسكو وواشنطن لم تعد كل منهما في وضع تناحر وصراع مع الأخرى، لكن كانت صداقتهما غريبة، إذا كانت تستحق فعلا أن تنعت بهذا الاسم. في عام 1972، نجح الروس في الصفقة المعروفة باسم «سرقة الحبوب الكبرى»؛ حيث استغلوا معرفتهم بأسواق السلع في إجراء عمليات شراء بكميات ضخمة زادت كثيرا من سعر القمح، ومن ثم ساهمت على نحو ملحوظ في التضخم. بعدها بسنوات، غزا الروس أفغانستان لإقامة نظام شيوعي، وهو ما جدد أزمة الحرب الباردة؛ لكنهم، مع ذلك، لم يضعوا صواريخ في كوبا أو يهددوا بالحرب للاستيلاء على برلين، وهو ما كان يعد قطعا تقدما إلى الأمام. لكن، على الرغم من أن المركبتين التحمتا في مدار ومكثتا معا قرابة يومين، لم يحدث أي التقاء بين برامج كلتا الدولتين. على غرار مركبة «فوستوك» في أوائل الستينيات من القرن العشرين، تقاربت روسيا وأمريكا لفترة مؤقتة في الفضاء قبل أن تنفصلا لتواصل كل منهما مسارها وبرامجها.
في موسكو، كان السوفييت يضعون اتجاها جديدا وسط حالة من التغيير الجذري الشامل في قيادة البلاد. كان الرجل المسئول عن وضع ذلك الاتجاه هو ديمتري أوستينوف، الذي اكتشف موهبة كوروليف قبل ثلاثين عاما. ظل أوستينوف صاحب نفوذ في موسكو؛ كان سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وكان في طريقه إلى شغل منصب وزير الدفاع لفترة جديدة. فتر اهتمام أوستينوف بالقمر في أعقاب نجاحات «أبولو»؛ كان ينظر حينئذ نظرة إيجابية إلى فالنتين جلشكو، مصمم المحركات المخضرم الذي كان قد انفصل عن برنامج كوروليف للهبوط على سطح القمر.
في الوقت نفسه، كان أوستينوف قد ضاق ذرعا بفاسيلي ميشن، الذي تسببت محاولته الطويلة لبناء صاروخ كوروليف القمري «إن-1» في تكون فوهات على الكوكب الخطأ. استمر البرنامج حتى بعد فشل محاولات الإطلاق الأربع من عام 1969 إلى عام 1972، لكن في مايو 1974، قرر أوستينوف ضرورة إقصاء ميشن، مدير البرنامج. حصل أوستينوف على موافقة رئيس ميشن وعلى موافقة رئيس الدولة ليونيد برجنيف، ثم أتى بجلشكو، غريم ميشن القديم، ليحل محله رئيسا للبرنامج.
في تلك اللحظة، كانت مركبتا إطلاق كاملتين طراز «إن-1» قد بلغتا تيوراتام، وهو ما كان يمثل عرضا مبهرا لإمكانية الصعود إلى القمر التي طالما تمتع بها السوفييت. كانت المركبتان جاهزتين للانطلاق في غضون الأشهر القليلة القادمة. استطاع جلشكو، بدعم من الكرملين، إلغاء عمليات الإطلاق التي كان مخططا لها، وإيقاف البرنامج إيقافا مؤقتا؛ وفي عام 1976، أنهى البرنامج تماما. كما أنه لم يسمح بعرض مركبتي «إن-1»، بل أمر بتدميرهما.
كانت هذه القرارات بمنزلة صدمة شديدة لطاقم المشروع؛ كتب أحد كبار المديرين لاحقا يقول: إن «أحدا لم يفكر على الإطلاق في الجهد المخلص الذي بذله آلاف الأشخاص الذين كرسوا أفضل سنوات عمرهم لمركبة «إن-1»؛ لم يقتصر الأمر على أنهم لم يعيروا الآخرين أي اعتبار فحسب، بل لم يقدموا أي تفسيرات. وإلى جانب استغنائهم عن «إن-1»، استغنوا أيضا عن مصمميه الذين كانت لا تزال لديهم القدرة على العطاء. عانى الكثير من هؤلاء المصممين من صدمة نفسية جعلتهم عاجزين عن الإتيان مجددا بأي شيء ذي قيمة مماثلة. كان هؤلاء أفضل العناصر في مكتب التصميم التابع لكوروليف».
9
لكن، لم تكن موسكو لتقيم نصبا تذكارية للفشل؛ ففضلت إلقاء «إن-1» في غياهب الذاكرة.
استغل بعض مكونات «إن-1» في استخدامات جديدة؛ صارت الصواريخ المرحلية، التي قطعت أطوالها إلى النصف، مرائب أو مباني تخزين، وأعيد استخدام خزانات الوقود على نحو جديد كمركز ترفيهي، وكظلة صيفية للاسترخاء، وكجزء من شبكة توزيع المياه للوحدات السكنية القريبة. كذلك، تحولت قبة على هيئة طبق هوائي إلى غرفة شمسية للحصول على بشرة داكنة. بالتخلص إذن من «إن-1»، استطاع جلشكو تركيز جل اهتمامه في موضوعه المفضل بخصوص الوقود المتطور. كان جلشكو هو من قاد تشلومي إلى عالم الوقود القابل للتخزين، إزاء اعتراضات كوروليف الحادة. انتقل جلشكو إلى الهيدروجين السائل، حيث صمم فئة جديدة من مركبات الإطلاق ذات الحمولات الثقيلة التي استخدمت هذا الوقود ونافست المكوك الفضائي لأمريكا. بعد فترة من العمل دامت عشر سنوات، كانت المحصلة هي الصاروخ «إنرجيا» التعزيزي ومركبة «بوران» الفضائية.
في تلك الأثناء، كانت محطات «ساليوت» المدارية تبرز كعناصر أساسية ومهمة في برنامج الفضاء. كانت ثمة نماذج عسكرية تجري استطلاعات وكانت نماذج مناظرة للمختبر المداري المأهول، حيث كانت ذات سعة داخلية مشابهة. كانت تلك النماذج التي كانت موسكو ستتحدث عنها، بالطبع، مخصصة للأغراض المدنية، كما أنها كانت تشبه «سكايلاب» عموما وكانت ستستضيف على متنها أنشطة مشابهة، مثل الدراسات الطبية للرحلات الطويلة، والأرصاد الأرضية، والدراسات الشمسية. (على النقيض من الدراسات الفلكية ذات الطابع الأكثر تعميما ، قدم علم الفلك الشمسي ميزة التقاط صور فوتوغرافية خلال فترات قصيرة للغاية. كان هذا مهما لأن تحركات أفراد الطاقم - على متن مختبراتهم المدارية - كانت ستحول دون توجيه المناظير بدقة نحو النجوم والمجرات البعيدة في حال استخدام التصوير الفوتوغرافي الطويل الأمد.)
مع ذلك، كانت المركبة الفضائية السوفييتية المأهولة أبسط بكثير من نظيراتها الأمريكية؛ على سبيل المثال: كانت «سويوز» تفتقر إلى وجود أجهزة كمبيوتر على متنها، ونظم توجيه متطورة باستخدام القصور الذاتي، ونظم احتياطية للتدفئة والتبريد. كان رواد الفضاء الروس يتخذون قرارات قليلة على متن المركبة؛ إذ كانت كل الأنشطة تقريبا يجري التحكم فيها من القاعدة الأرضية، بما في ذلك إطفاء الأنوار عند النوم. بالإضافة إلى ذلك، حلق عدد من مركبات «ساليوت» الأولى في مدارات منخفضة؛ مما أدى إلى تلفها سريعا إلى حد ما، وتطلب الأمر إطلاق مركبات جديدة بوتيرة أسرع نوعا ما.
أسفرت بعثة «ساليوت 1»، في عام 1971، عن الحادث المأساوي الذي فقد على إثره طاقم «سويوز 11». لكن، كان موت أفراد الطاقم يرجع إلى مشكلة في «سويوز»، لا في «ساليوت»، وكانت «ساليوت» جاهزة لأنشطة أخرى. حلقت المركبة التالية، «ساليوت 2»، في مدار في أبريل 1973. على الرغم من اشتراكها في اسم «ساليوت» مع مركبة ميشن، كانت مركبة فضائية مختلفة تماما تسمى «ألمظ» (أي الماس)، بناها تشلومي غريم ميشن. كانت عبارة عن مركبة فضائية عسكرية، ذات منظار كبير كان يشغل الحيز من الأرضية إلى السقف. كانت المركبة ترصد أهدافها من خلال منظار بصري كان يتحرك لتعويض حركة سطح الأرض، معطيا صورا غاية في الوضوح.
كان على الطاقم التقاط الصور باستخدام هذه الآلة وتحميضها على متن المركبة، ونقل بعض منها عبر التليفزيون. استطاع أيضا رواد الفضاء الروسيون هؤلاء إرجاع الفيلم نفسه عن طريق استخدام كبسولات قابلة للاسترجاع، كل منها يتضمن صاروخا ارتكاسيا كابحا، ودرعا حراريا، ومظلة، وجهاز بيكون لاسلكيا. كانت مهاجع الطاقم تشمل نوافذ فضلا عن مكان للنوم، ومائدة طعام، ومقعد وثير. وخوفا من طائرات فضائية اعتراضية تابعة لأمريكا، خطط المصممون أيضا لتجهيز المركبة بمدفع سريع الطلقات مضاد للطائرات.
لم يحدث أن حظي أحد من قبل بهذه الميزات. كانت المركبة تتضمن صاروخ مناورات انفجر قبل وصول الطاقم؛ مما أدى إلى إغراق الفضاء القريب بقطع من الحطام والشظايا المتناثرة، فضلا عن إحداث ثقب في هيكل المحطة الرئيسي. بعدها بشهر، أرسلت بعثة إطلاق متابعة مركبة «ساليوت» مدنية إلى مدار فضائي، بيد أنها سرعان ما عجزت عن بلوغه. أصر السوفييت بشدة، وفي يونيو 1974 بلغت مركبة «ساليوت 3» - وهي مركبة عسكرية أخرى - الفضاء وأبلت بلاء حسنا. كان رائدا الفضاء الروسيان اللذان مكثا لمدة أسبوعين في يوليو، وهما بافل بوبوفيتش ويوري أرتيوخين، أول من عاش على متن مركبة «ساليوت» وعادا لقص ما جرى. ساعد في ذلك أن بوبوفيتش كان أحد أكثر رواد الفضاء خبرة في بلاده؛ فقد قاد «فوستوك 4» خلال البعثة الثنائية في عام 1962.
ثم حان دور المركبة المدنية «ساليوت 4» التي انطلقت إلى الفضاء بعد أعياد الكريسماس مباشرة. أطلقت هذه البعثة برنامجا من الرحلات الطويلة التي كانت تهدف إلى مواصلة ما كانت «سكايلاب» قد انتهت إليه. اطلع الأطباء السوفييت على النتائج الطبية التي توصلت إليها «سكايلاب»، كجزء من عمليات التبادل التي سبقت التحام «أبولو» و«سويوز» بعدها بستة أشهر، بيد أنهم كانوا يريدون إجراء فحوصاتهم الخاصة. كرر أول طاقم وصل إلى هذه المحطة، ممثلا في ألكسي جوباريف وجورجي جريشكو، بعثة «سكايلاب» الأولى المكوث لمدة تسعة وعشرين يوما، مع تنفيذ جدول زمني مكثف من الدراسات الطبية والشمسية؛ كما أنهما حظيا بتلك الميزة التي في مركبة «ساليوت» هذه التي قدرها رواد الفضاء أيما تقدير، وهي حديقة صغيرة على متن المركبة، باسم «الواحة»، حيث حاولا زراعة نبات البازلاء. لم يتجاوز حجم الحديقة حجم حقيبة سفر، وذبلت البازلاء في غضون أسابيع، لكنها بدت في الرحلات الطويلة طريقة واعدة لإبقاء معنوياتهم مرتفعة.
أكدت هذه البعثة نتائج «سكايلاب» بإثبات أن رحلة تستغرق ثلاثين يوما لم تكن بالفكرة الصائبة؛ فكل ما تفعله هذه الرحلة أنها تجعل رواد الفضاء يتكيفون جزئيا مع حالة انعدام الجاذبية، بينما تعرضهم إلى جميع المتاعب عند ولوجهم مجددا إلى مجال الجاذبية الأرضية. كان من الواضح أن ثمة رحلات أطول جاهزة للإطلاق، وفي أبريل 1975، صعد رائدا الفضاء فاسيلي لازاريف وأولج ماراكروف إلى متن مركبة «سويوز» لإجراء المحاولة. أصيب صاروخ المرحلة الثالثة بخلل وظيفي؛ فاعتقد المراقبون الأرضيون أن المشكلة كانت في معداتهم، وثارت ثائرة لازاريف حتى إنه لعنهم لعنا قبل أن يدركا أن البعثة في مأزق. أخضعت المركبة لعملية هبوط اضطراري، وصار رائدا الفضاء هذان أول رائدي فضاء يهبطان اضطراريا بينما كانا في طريقهما إلى الفضاء. وبالفعل، هبطا على مسافة ألف ميل من منطقة الإطلاق.
كان مصدر قلقهما الأول أنهما قد يهبطان في الصين، وهو ما قد يضعهما رهن الاعتقال. أثناء تتبعهما لمسارهما، سأل أحدهما بحزن: «لدينا معاهدة مع الصين، أليس كذلك؟» ثم حانت لحظة معاودة الولوج إلى الغلاف الجوي؛ حيث حدث اختراق حاد للغلاف الجوي على نحو لا يشبه بأية حال الهبوط الخفيف والسلس الذي كان موضوعا ضمن خطة الرحلة. تخطت قوى التسارع 18 عندما تجاوز عداد على متن المركبة المقياس، وعلى الرغم من إصابة رائدي الفضاء، فقد نجيا. فتحت المظلات، وهبطت المركبة الفضائية في جبال ألتاي، على منحدر ثلجي، ثم تدحرجت الكبسولة المستديرة على المنحدر الجبلي، متجهة صوب جرف. في الوقت المناسب، علقت حبال المظلات ببعض الأشجار القصيرة وأنقذتهما. وصل رجال الإنقاذ، وأدرك رائدا الفضاء حينها أنهما أصبحا في مأمن حقا؛ حيث كان رجال الإنقاذ روسيين.
بعدها بستة أسابيع حاول الطاقم الاحتياطي، ممثلا في بايوتر كليموك وفيتالي سيفاستينوف، مجددا. كان كلاهما مخضرما؛ فقد شارك سيفاستينوف على وجه التحديد في بعثة «سويوز 9» التي استغرقت ثمانية عشر يوما في عام 1970. بلغا «ساليوت 4» التي كانت النظم على متنها في سبيلها إلى التدهور. كانت الحياة في محطة فضائية تستوجب التحكم في الرطوبة؛ حيث كانت الرطوبة في نفس المرء تصل إجمالا إلى عدة أرطال يوميا، وهو ما كان يجب إزالته من الهواء. لم يكن يتطلب ذلك أكثر من ألواح باردة لتكثيف الرطوبة، بيد أن هذا الأمر لم يفلح على متن «ساليوت 4».
يشير المحلل جيم أوبرج إلى أنه بعد مضي شهر في الفضاء، كان لدى رائدي الفضاء كثير مما يشكوان منه؛ أشار أحدهما قائلا: «كانت النوافذ لا تزال مضببة. بلغ الفطر الأخضر الآن منتصف الجدار. ألن نتمكن من العودة إلى الديار؟» كانت الإجابة: «ليس بعد.» إذ كان عليهما - شأنهما شأن جنود في الحرب الوطنية الكبرى - البقاء في مواقعهما وأداء مهامهما من أجل الوطن. واصل الفطر الأخضر الانتشار وواصل رائدا الفضاء السؤال عما إذا كان في مقدورهما الهبوط. أخيرا، في نهاية يوليو، تلقيا الأمر الذي كانا ينتظرانه. تداخلت رحلتهما مع رحلة أبولو؛ «سويوز»؛ مما استوجب من محطة التحكم الأرضي التعامل مع كلتا المهمتين المنفصلتين في آن واحد. أكدت الأيام الثلاثة والستون التي قضياها في الفضاء التزام موسكو بالرحلات الطويلة في مركبة «ساليوت» المدنية.
بعد عام 1975، كانت كلتا الدولتين تسيران بثبات على مساريهما الجديدين. تخلت كلتاهما عن فكرة الهبوط على سطح القمر؛ حيث غضتا الطرف عن الصاروخين «ساتورن 5» و«إن-1» الهائلين اللذين كانت برامجهما القمرية قد أسفرت عنهما. لكن، كانت لديهما مركبات إطلاق قوية، مثل «تايتان 3» و«بروتون»، اللتين كان في مقدورهما إطلاق مركبة فضائية ثقيلة، متخطيتين بمراحل الصواريخ الباليستية العابرة للقارات المعدلة التي كانت تشمل «آر-7» و«تايتان 2». كانت ناسا ملتزمة تماما ببرنامج المكوك الفضائي باعتباره مسعاها الرئيسي الجديد، على الرغم من أن مسئوليها كانت لا تزال لديهم خطط لإطلاق مركبة فضائية، وكانوا ينتظرون الوقت الملائم. أما نظراؤهم السوفييت، فكانت لهم مبادرتهم الخاصة، حيث قدموا محطات «ساليوت» الفضائية، على الرغم من أن فالنتين جلشكو كان بصدد الإعداد لبناء مكوكه الفضائي. وبينما ظلت الرحلات المأهولة تحظى بالاهتمام الأكبر، كانت المركبة الفضائية غير المأهولة تؤدي البعثات الفعلية في الفضاء، وتسهم بنصيب جيد في هذا الحدث المثير.
الفصل العاشر
إلكترونات في الفراغ
برامج الفضاء غير المأهولة
تقع بلدة أندوفر، بولاية مين، في منطقة شديدة التحدر قرب حدود نيوهامبشير، في منطقة من أراضي الغابات التي كانت تلقى استحسانا كبيرا لدى الشاعر روبرت فروست. في أوائل الستينيات من القرن العشرين كانت خدمة الهواتف المحلية تتضمن خطوطا جماعية وهواتف يدوية، ومع ذلك، كان هذا المكان النائي بما فيه من تكنولوجيا بسيطة للغاية يلائم شركة «بيل لابس»؛ لأنه كان يعني عدم حدوث تداخل لاسلكي كبير في المنطقة. وقع اختيار الإدارة بشركة «بيل لابس» على هذه المنطقة لتكون موقع مركزها الرئيسي لاتصالات الأقمار الصناعية. بنت الشركة هنا هوائيا بوقي الشكل قابلا للتوجيه بالكامل، بطول 177 قدما، داخل غطاء واق.
بلغ «تلستار»، أول قمر صناعي يتقدم إلى ما وراء قمر «إكو»، مدارا فضائيا في يوليو 1962. كان القمر مشروعا تجاريا في مجمله؛ حيث دفعت «إيه تي آند تي»، التي كانت تمتلك «بيل لابس»، إلى ناسا 3 ملايين دولار أمريكي لشراء مركبة الإطلاق «ثور- دلتا». بعد خمسة عشر ساعة من الإطلاق، أثناء تحليق «تلستار» من جزر الكاريبي إلى إسبانيا في مسار قوسي من جهة الشمال الشرقي، حاول مراقبوه نقل أول بث تليفزيوني عبر الأطلنطي في العالم. تنتقل إشارات التليفزيون في خطوط مستقيمة ولا تتبع السطح المنحني للأرض؛ حتى عندما يكون البث من أعلى مبنى «إمباير ستيت»، تبلغ الإشارات نطاقا لا يزيد عن خمسين ميلا. لكن، مع جاهزية هذا القمر لالتقاط الإشارات وتكبيرها وإعادة إرسالها، ربما تعبر هذه الإشارات الأطلنطي بسهولة.
تضمن العرض عمليات إرسال بين أندوفر ومحطتين أرضيتين أوربيتين، في «جونهيلي داون» في كورنوول و«بلومير-بودو» في بريتاني. كان المقطع الأمريكي يعرض شريط فيديو لقبة أندوفر، بينما كان العلم الأمريكي يرفرف في المقدمة. تضمن المقطع تسجيلات أغنية «أمريكا الجميلة» ونشيد «الراية المرصعة بالنجوم»، فضلا عن مشهد لرئيس مجلس إدارة «إيه تي آند تي» - فردريك كابل - أثناء إلقائه بيانا. التقط الفرنسيون هذا البث بدقة وردوا بالمثل، من خلال شريط للممثل إيف مونتو ومطربة وعازف جيتار. ظهرت عبارة «أول بث تليفزيوني من فرنسا» على الشاشات الأمريكية، بينما كان عازف الجيتار غير المعروف والمرتبك إلى حد ما يعزف على آلته الموسيقية هذه.
مع ذلك، أسفرت مشكلات فنية في جونهيلي عن تأخير على الجانب البريطاني. كان ريتشارد ديمبلبي - مذيع الأخبار البارز في «بي بي سي» - موجودا، بيد أن الليل كان يمضي بتثاقل ولم يكن يجد ما يقدمه. مع اقتراب منتصف الليل، أشار ديمبلبي قائلا: «قلت هذا ست مرات الليلة، لكنني سأقوله مجددا. سنتلقى بثا مصورا في المرة القادمة حتى لو أودى هذا بنا.» أخيرا، بعد الساعة الواحدة صباحا، ظهر وجه كابل للحظات، دون صوت.
لكن، بعدها بأيام قليلة، سار كل شيء على ما يرام. كانت شبكة «سي بي إس» تعرض فيلما في وقت متأخر من الليل عندما ظهر تشارلز كولينجوود على الشاشة وقال: «نقطع هذا البرنامج. البريطانيون جاهزون لبث برنامج عبر تلستار.» ثم مضوا يقدمون مشهدا لغرفة التحكم في جونهيلي، بمديريها الفنيين. على هذا النحو الارتجالي العفوي، اتخذ العالم أولى خطواته الكبرى نحو البث التليفزيوني العالمي.
حظيت عمليات البث باهتمام خاص لدى واشنطن؛ إذ كان الكونجرس على وشك تمرير قانون الأقمار الصناعية للاتصالات. قبل عام مضى، قاد الرئيس كينيدي بنفسه الجهود بإصدار بيان سياسي. أعلن كينيدي في هذا البيان قائلا: «أدعو جميع الشعوب إلى المشاركة في نظام الأقمار الصناعية للاتصالات.» مهيئا الأجواء للمشاركة الفيدرالية في لحظة كان الالتزام فيها واضحا، بينما لم تكن القاعدة المؤسسية قد تحددت بعد. أسس قانون عام 1962 شركة «كومينيكيشن ستالايت»، المعروفة اختصارا بشركة «كومسات»، التي وصفها المؤرخ والتر ماكدوجال بأنها «شركة مرخصة على غرار النوع الذي أسسه الأمراء الأوروبيون في عصر الدولة التجارية». كتبت مجلة «فورتشن» أن شركة «كومسات» لم يكن لديها في البداية «أي إدارة، أو أي منشآت مادية، أو أي اتفاق حول ما يقترح أن تقدمه، أو أي وكلاء، أو أي سجل أرباح أو احتمال وشيك بتحقيق أرباح». مع ذلك، كانت نية الكونجرس واضحة؛ إذ كان من المقرر أن تراقب «كومسات» اتصالات الأقمار الصناعية الأمريكية وتسعى إلى تطويرها.
بالإضافة إلى ذلك، كان القانون يستهدف شركة «إيه تي آند تي» مباشرة، وهي شركة كبرى كانت مسئولة عن تشغيل الجانب الأعظم من نظام الهواتف على سبيل الاحتكار المنظم. في عام 1953، خططت الشركة لمد كابل تحت البحر ينقل ستا وثلاثين محادثة تليفونية متزامنة، وتعاملت مع الحكومة البريطانية مباشرة بدلا من الاعتماد على وسيط مثل وزارة الخارجية. كانت الشركة في أهبة استعدادها لبناء نظام الأقمار الصناعية للاتصالات الخاص بها وتشغيله، وكان لديها عرض محدد يتضمن خمسين قمرا من أقمار تلستار لضمان أن يظل قمر واحد على الأقل في مجال الرؤية دائما. لكن، لم تكن إدارة كينيدي تعتزم ترك هذا الكيان الضخم يقصي منافسيه المحتملين عن مضمار المنافسة. قال السيناتور الأمريكي إستس كفاوفر، الذي كان مهتما بالمسألة عن كثب، إن ترك «إيه تي آند تي» تمضي في طريقها «لم يكن بالأمر اللائق مثلما لم يكن من اللائق تعريف الاقتصاد الحر مثل فيل يرقص بين الفراخ، وهو يصيح قائلا: «كل يبحث عن مصلحته».»
كان من بين أبرز هذه الشركات الصغيرة، أو «الفراخ»، شركة «هيوز إيركرافت»، التي كان مديرها الهندسي هارولد روزن يغذي آمال وضع نظام يتخطى «تلستار». كان نموذج «تلستار» يتطلب أقمارا صناعية تدور في مدار فضائي على ارتفاعات تصل إلى بضعة آلاف من الأميال، حيث تكمل دورة كاملة حول الأرض كل بضع ساعات. كان هذا الأسلوب يسير على خطى الأسلوب التدريجي الحذر لنظام بيل؛ إذ كانت هذه المدارات تقع في نطاق قدرة صواريخ الإطلاق فئة «ثور»، التي كان يتوقع مديرو النظام استخدامها. لكن، نظرا لأن أقمارهم الصناعية كانت ستتحرك عبر السماء، فإن النظام كان يتطلب تليسكوبات لاسلكية قابلة للتوجيه بالكامل في المحطات الأرضية، وهو ما كان يعد أمرا معقدا ومكلفا. كان هوائي أندوفر، على سبيل المثال، يزن 370 طنا، وكان يجب أن يدور حول محور ليتمكن من تتبع أية مركبة فضائية عند عبورها السماء في أي اتجاه.
كان روزن يرغب في الإقدام على مخاطرة كبيرة بإطلاق مركبته الفضائية في مدار جيوتزامني، على ارتفاع 22300 ميلا فوق خط الاستواء. كانت الأقمار ستستغرق أربعا وعشرين ساعة عند ذلك الارتفاع للدوران حول الأرض، وستبدو كما لو كانت تحوم بلا حركة فوق مناطق معينة. قد تشير الهوائيات في المحطات الأرضية بصفة مستمرة في اتجاه ثابت لأحد الأقمار، وهو ما يجعل هذه التجهيزات أبسط وأقل تكلفة بكثير. لم يكن روزن أيضا في حاجة إلى عشرات المركبات المدارية التي كانت «إيه تي آند تي» تملكها؛ كانت كل مركبة مدارية جيوتزامنية تستطيع أن ترى في مجال رؤيتها نصف سطح الأرض تقريبا، وكان في مقدورها الاتصال بمحطات أرضية يفصلها عنها ما يزيد على 11 ألف ميل؛ كانت ثلاثة أقمار صناعية فقط من هذا النوع تكفي لتوفير شبكة عالمية كاملة.
كان الكاتب العلمي آرثر سي كلارك قد اقترح هذا النظام في وقت سابق يرجع إلى عام 1945. في قفزة بارعة نحو المستقبل، رأى كلارك أن قدرة مقدارها 1200 وات في أجهزة الإرسال المحمولة عبر الفضاء كانت ستسمح «لقطوع مكافئة يبلغ قطرها قدما تقريبا» بتلقي الإشارات على الأرض. كانت الطاقة الشمسية ستوفر مصدرا للطاقة، على الرغم من أن الخلية الشمسية (التي هي، للمفارقة، أحد منتجات «بيل لابس») ظهرت بعدها بعقد، رأى أملا في «التطورات الكهروضوئية». كان يرى الأقمار الصناعية للاتصالات في صورة محطات فضائية مأهولة، كل منها تضم طاقما على متنها لاستبدال الصمامات المفرغة عند تآكلها.
على الرغم من أن كلارك استلهم فكرته من الصاروخ «في-2» الألماني، ومن خلفيته أيام الحرب كضابط رادار، كانت ورقته البحثية نوعا من الاستشراف المستقبلي التأملي على غرار هيرمان أوبيرت وقسطنطين تسيولكوفسكي. لكن، على عكس طبيعة تكهناتهما التي تقوم على التجربة والخطأ، أصاب كلارك تماما عند توقع الاستخدام التجاري الأكثر أهمية للفضاء، مع توفير تفاصيل فنية مبدئية. كان في مقدوره حتى الحصول على براءة اختراع لفكرته. على وجه التحديد، بينما كانت الرؤى الأخرى تكتب عن رحلات إلى الكواكب البعيدة، رأى كلارك أن مستقبل رواد الفضاء كان يتضمن مركبة تحوم فوق موضع واحد، ومن ثم لا تذهب فعليا إلى أي مكان.
مع ذلك، نشر مقال كلارك في مجلة «وايرلس وورلد»، وهي مجلة بريطانية غير مقروءة على نطاق واسع. لم يعلم جون بيرس، الذي كان يعمل في «بيل لابس»، عنها شيئا إلا عندما كان قد قطع شوطا طويلا في دراساته . أعاد كلارك عرض أفكاره في كتابه الأكثر مبيعا في عام 1952، «استكشاف الفضاء»، بيد أن بيرس فاته هذا الكتاب، أيضا. كان مزاجه في القراءة يميل أكثر إلى وقائع معهد مهندسي الإذاعة. لكن، لم يمض سوى أربعة عشر عاما فقط حتى حدثت تطورات في مجالي الإلكترونيات وعلم الصواريخ؛ مما أتاح لرؤية كلارك أن تدخل حيز التنفيذ.
في صباح غائم في أغسطس 1959، انطلق الصاروخ «ثور-إيبل» عاليا من كيب كانافيرال، حاملا مركبة فضائية زنة 142 رطلا، وهي إكسبلورار 6، إلى مدار مستطيل يتراوح ارتفاعه ما بين 157 و26400 ميل. لم تكن المركبة قمرا صناعيا للاتصالات، بل كانت مهمتها تتضمن إجراء دراسات مفصلة حول الفضاء قرب الأرض، بما في ذلك بيئة الفضاء الإشعاعية. لكن، كانت المركبة تتضمن خلايا شمسية ودوائر إلكترونية صلبة تتسم بالكفاءة، وكان كلا المكونين ضروريا في عمليات الاتصال. كان أقصى ارتفاع لها، وهو 26400 ميل، أعلى من المدار الجيوتزامني. وكان في مقدور صاروخ صغير يعمل بالوقود الصلب، يطلق في اللحظة الملائمة، الدوران في المدار وتحويل «إكسبلورار 6» إلى قمر صناعي حقيقي يعمل على مدى أربع وعشرين ساعة.
كان نجاح المركبة مصدر تشجيع بالغ لروزن، الذي كان يرسخ نموذجه بالفعل. قدم روزن المركبة إلى البنتاجون؛ فرفضوها. ثم خاطب ناسا، فأبرمت معه عقدا في أغسطس 1961، وأطلقت على المركبة اسم «سينكوم». على غرار إكو، كان من المقرر أن تثبت المركبة مبدأ لا أن تصبح رابط اتصالات فعليا. كان وزنها لا يزيد عن واحد وسبعين رطلا، وكانت تشتمل على قناة هاتفية ثنائية الاتجاه. لكن، مرة أخرى على غرار «إكو»، عزز المشروع من مشاركة ناسا في مجال اتصالات الأقمار الصناعية، مانحا «هيوز إيركرافت» الوسائل للتنافس مع «إيه تي آند تي» على أرضها.
انطلق قمر «سينكوم 1» أعلى الصاروخ «ثور-دلتا» في فبراير 1963، وحلق على الارتفاع المخطط له. أدار مؤقت على متن القمر محرك ذروة الارتفاع، وبعدها بعشرين ثانية انفجر خزان نيتروجين متسببا في تدمير القمر. انطلق «سينكوم 2» في يوليو، ونجح في مهمته؛ إذ بلغ مداره المخطط له وجرى تشغيل معداته الإلكترونية بنجاح . ثم بعد ذلك بعام، أطلقت ناسا «سينكوم 3» أعلى خط التاريخ الدولي، ليكون جاهزا لتقديم خدمة مبدئية عبر المحيط الهادئ. وفي إطار هذا العالم التجاري المزدهر، وجد مصممو «سينكوم» أنفسهم في خلاف مع شبكة «إن بي سي» التليفزيونية.
كان هذا القمر هو أول قمر جيوتزامني له القدرة على نقل بث تليفزيوني، وبلغ مدارا فضائيا في الوقت المناسب لتغطية دورة الألعاب الأولمبية لعام 1964، في بث مباشر من طوكيو. على الرغم من ذلك، كانت «إن بي سي» قد حصلت على حقوق حصرية لهذه التغطية، وكانت تخطط لعرض شرائط فيديو منقولة عبر طائرة نفاثة، بينما تتولى جهات راعية مثل شركة «شيلتز بير» سداد النفقات. مارس المسئولون الفيدراليون ضغوطا على «إن بي سي»، وفي أعقاب مكالمة هاتفية من وكيل وزارة الخارجية أفيريل هاريمان، وافق رئيس مجلس الإدارة ديفيد سارنوف على إذاعة خمس عشرة دقيقة يوميا من تغطية القمر الصناعي، في الساعة السابعة صباحا.
لكن، لم يمض سوى بضعة أشهر فقط حتى ظهر التليفزيون الروتيني للبث عبر المحيط. كانت البنية التحتية المؤسسية تتخذ شكلا محددا، بينما كانت شركة «كومسات» تستحوذ على حصة مسيطرة في اتحاد شركات عالمي، ألا وهو المنظمة الدولية للاتصالات اللاسلكية عبر الأقمار الصناعية (إنتلسات). عندما استعدت إنتلسات لإطلاق أول أقمارها الصناعية التجارية، كنظير لقمر «تلستار» الخاص بشركة «إن تي آند تي»، كانت «هيوز إيركرافت» قد حصلت على ما كان مطلوبا، وهو قمر سينكوم معدل يشتمل على 240 قناة هاتفية. في البداية، كانت هذه المركبة الفضائية وحدها توفر مكملا قيما للكابلات الخمسة للبث عبر المحيط الأطلنطي التي كانت مستخدمة وقتها، والتي لم تكن تتضمن جميعا أكثر من 412 قناة. بلغ هذا القمر الصناعي، المسمى «إيرلي بيرد»، محطته فوق الأطلنطي في أبريل 1965.
بدأت تغطيته التليفزيونية على نحو درامي هائل في 3 مايو؛ حيث كان الجراح مايكل ديباكي يجري عملية جراحية في القلب، بينما كان الزملاء المبهورون في جنيف يراقبون ما يفعله بعناية. انضم تشيت هنتلي من «إن بي سي» إلى ديمبلي من «بي بي سي». ضمت ندوة نقاش ، بعنوان «اجتماع مجلس مدينة العالم»، رجال الدولة في نيويورك ولندن وباريس لإجراء مناقشة حول فيتنام. لاحقا في مايو، أعلنت «إيه بي سي» أنها ستبث عدة أحداث رياضية بثا مباشرا من أوروبا، بما في ذلك مسابقة الجائزة الكبرى في مدينة لومان.
أثبت قمر «إيرلي بيرد» نفسه في الخدمات اليومية ؛ مما أفسح المجال أمام شركة «هيوز» لترسيخ نفسها باعتبارها الشركة الأولى على مستوى العالم في بناء الأقمار الصناعية للاتصالات. بالتعاون مع ناسا، بنت الشركة سلسلة من الأقمار الصناعية للتكنولوجيا التطبيقية التي تولت اختبار أساليب تصميم جديدة وعرضها. نالت الهوائيات اهتماما خاصا. كان إيرلي بيرد والأقمار الأولى التي تلته ثابتة في دورانها، وعلى الرغم من أن هوائيات الأقمار الصناعية كانت تدور في اتجاهات محددة، فإنها كانت تهدر كثيرا من الطاقة المحدودة على متن القمر من خلال نقلها بلا جدوى في جميع الاتجاهات. اتضح أن الحل يكمن في هوائي «إلغاء الدوران»، الذي كان يشير في اتجاه ثابت إلى قارة محددة، بينما كان جسم المركبة الفضائية يواصل الدوران لتحقيق التوازن. استخدمت ناسا هذه الهوائيات على متن القمرين «إيه تي إس-1» و«إيه تي إس-3»، اللذين أطلقا في عامي 1966 و1967. دخلت هوائيات إلغاء الدوران الخدمة في عام 1968، عندما بنت شركة «تي آر دبليو» أقمار «إنتلسات 3» الصناعية خلفا للقمر «إيرلي بيرد».
بلغت «إنتلسات» هدفها في التغطية العالمية خلال عام 1969. بحلول ذلك الوقت، كان لدى «إنتلسات» ثلاث مركبات فضائية تحلق فوق المحيط الأطلنطي وثلاث فوق المحيط الهادئ. كانت ثمة مركبة سابعة، فوق المحيط الهندي، تربط بين لندن وطوكيو في منتصف العام، وبها اكتمل النظام الأساسي. كانت مركبتها الفضائية عبارة عن نماذج محدثة من «سينكوم» و«إيرلي بيرد»، لكن مع تزايد الطلب وانخفاض الأسعار، صار معلوما للجميع أن الأقمار الصناعية الأكبر حجما باتت ضرورة، واستجابت «هيوز» بسلسلة «إنتلسات 4». كان كل من هذه الأقمار الصناعية يتضمن أربعة آلاف دائرة هاتفية، بينما ارتفع هذا العدد في النسخة الأحدث من هذه الأقمار إلى ستة آلاف دائرة هاتفية. لم تكن صواريخ التعزيز فئة «ثور» فعالة بما يكفي لإطلاق هذه الأقمار، التي كانت تتطلب الصاروخ «أطلس-سينتاور»، أحد أكبر صواريخ ناسا على الإطلاق. بعدها بعقد، اتضح أن أقمار «إنتلسات 4» هي الأخرى لم تكن ملائمة؛ مما أفسح المجال أمام أقمار «إنتلسات 5»، التي كانت تتضمن اثني عشر ألف دائرة، وهو ما يزيد خمسين مرة عما في القمر «إيرلي بيرد».
مضى اتحاد شركات «إنتلسات» من قوة إلى قوة. في البداية، في عام 1965، كان الاتحاد يضم خمسا وأربعين دولة، ثم تضاعف الرقم خلال عقد. شملت قائمة الأعضاء أعداء ألداء، مثل إسرائيل ومصر، والهند وباكستان. كما كان يضم بؤساء الأرض: بنجلاديش، وهايتي، وكثيرا من الدول الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى. كانت «إنتلسات» تخدم جنوب أفريقيا أيضا، على الرغم من أن هذه الدولة كانت في طريقها إلى أن تصبح منبوذة دوليا. داخل هذا الاتحاد، كانت ثمة مائة دولة تتعاون في مجال الفضاء، عاما بعد عام، وتحقق أموالا من وراء ذلك. كان هذا الأداء يتناقض بشدة مع مجال الرحلات المأهولة، الذي تباهى ببعثة «أبولو-سويوز» في عام 1975، التي روج لها كثيرا. كان قد تمخض عن هذا أيضا تعاون في مجال الفضاء بين القوتين العظميين، وإن كان ذلك لفترة وجيزة وبتكلفة هائلة.
كان السوفييت، من جانبهم، يسيرون الأمور على طريقتهم؛ كانت مواردهم تشمل قطاعا كبيرا من الدائرة القطبية، ونظرا لوقوع معظم أراضي الدولة في منطقة شمالية مرتفعة، كانت فكرة إطلاق أي قمر صناعي جيوتزامني تنطوي على عوار كبير؛ فعند إطلاق القمر فوق خط الاستواء، كان يتعين على أي هوائي روسي التوجه نحو القمر بزاوية منخفضة تكاد تلامس سطح الأرض؛ وهو ما كان يؤدي إلى حدوث تداخل لاسلكي مع الإشارات التي يلتقطها القمر. رأت موسكو أن الحل هو استخدام مدار مستطيل مثل مدار «إكسبلورار 6»، الذي كانت زاويته تنحرف بشدة نحو الشمال. حتى في المناطق القطبية، كان في إمكان أي هوائي التوجه نحو المركبة الفضائية من خلال الإشارة في وضع مستقيم تقريبا إلى أعلى.
انطلق أول قمر صناعي للاتصالات من هذا النوع، وهو قمر «مولنيا » (أي البرق)، إلى مدار فضائي بعد أسبوعين من «إيرلي بيرد»، مستغرقا فترة اثنتي عشرة ساعة. قضى القمر معظم هذه الفترة في الفضاء قرب حد الارتفاع الأقصى، لم يكن ثابتا في مكانه في السماء، بل كان يتحرك ببطء لمدة ساعات في المرة الواحدة، وكان يرسل إشارات دون انقطاع لفترة طويلة بمعدل مرتين يوميا. صار قمر «مولنيا» القمر القياسي المستخدم في الاتحاد السوفييتي، مكملا بذلك استخدامات أقمار «إنتلسات». كانت هذه الأقمار تمثل أيضا أول نظام للأقمار الصناعية للاتصالات المحلية في العالم.
في حقيقة الأمر، بينما كانت «إنتلسات» توفر روابط اتصال دولية، كانت هذه الأقمار الصناعية تقدم وعدا هائلا في عدد من الدول التي كانت تجمع بين المساحات الكبيرة وضعف وسائل الاتصال عن بعد. في تلك الدول، كان في مقدور مركبة فضائية أن تتجاوز العملية المكلفة والطويلة لبناء روابط الموجات المتناهية الصغر وشبكات الكابلات المتحدة المحور، كما في الولايات المتحدة وأوروبا. وجدت دول العالم الثالث في هذه الإمكانية جاذبية لا تقاوم، وأخذت إندونيسيا بزمام المبادرة. كانت إندونيسيا إحدى الدول الأكثر كثافة سكانية في العالم، لكنها كانت تضم جزرا كبيرة، ومناطق جبلية ومناطق مغطاة بالغابات الكثيفة، وكانت تضم أدغال بورنيو. أطلقت ناسا قمر «بالابا» الإندونيسي في عام 1976، ثم وسعت إندونيسيا نطاق التغطية لاحقا ليشمل الفلبين وماليزيا وتايلاند وسنغافورة.
اتخذت دول أخرى تدابير مشابهة، مثل قمر «برازيلسات»، وقمر «إنسات» الهندي، وقمر «موريلوس» المكسيكي. كان لدى كندا نظامها المحلي الخاص بها بالفعل، وهو «آنيك»، ثم تبعتها أستراليا بقمر «أوسات». بالإضافة إلى ذلك، شكلت اثنتان وعشرون دولة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط مجموعة إقليمية، هي منظمة الاتصالات الفضائية العربية (عربسات). ضمت المنظمة ضمن أعضائها منظمة التحرير الفلسطينية، وأصرت إدارتها على مقاطعة شركات مثل «هيوز» التي كانت تمارس أعمالا مع إسرائيل. لكن، لم تمانع شركة «آيروسباسيال» الفرنسية، وبنت مركبة عربسات الفضائية التي دخلت الخدمة كما كان مقررا.
في الولايات المتحدة، بدأ التشغيل المحلي من خلال التليفزيون الكبلي. كان التليفزيون الكبلي يعود إلى عام 1949، حيث قدم خدمات إلى المناطق الريفية التي كانت الإشارات التليفزيونية فيها ضعيفة، أو كانت التلال المرتفعة فيها تعوق تلقي الإشارات في الوديان بالأسفل. كان هوائي كبير موضوع أعلى جبل يلتقط إشارات واضحة من المدن البعيدة، بينما كان الكابل ينقلها إلى المشتركين؛ ومن ثم، لم يكن الكابل يمثل أكثر من قطاع صغير في السوق الإجمالية لمشاهدي التليفزيون، التي كانت تعمل من خلال شبكات محلية لم تكن تنتج برامجها.
ثم في عام 1972، أعلنت هيئة الاتصالات الفيدرالية عن سياسة جديدة فتحت الباب أمام خدمة أقمار صناعية محلية. استجابت «آر سي إيه» من خلال قمر «ساتكوم 1»، الذي بلغ مدارا فضائيا في عام 1975، وشرع مجموعة من المستثمرين في استخدامه على الفور في نقل أفلام هوليوود إلى خدمات الكابلات في البلاد، كنوع جديد من شبكات التليفزيون المدفوعة الخدمة. أثبتت هذه القناة، المسماة «هوم بوكس أوفيس»، شعبيتها الهائلة وهيأت الأجواء لتطوير التليفزيون الكبلي كصناعة جديدة مهمة. سرعان ما تبعتها قنوات أخرى، مثل «سينماكس»، «شوتايم»، «موفي تشانيل». كان الأطفال يشاهدون قناة «ديزني» و«ديسكفري» و«نيكلوديون». أطلق تيد تيرنر شبكة «سي إن إن»، وبالنسبة إلى المهتمين بمتابعة الأنباء الصحيحة، كانت «سي- سبان» تقدم تغطية كاملة للكونجرس. أخذت «إسبن» بزمام المبادرة بين قنوات الخدمات الرياضية. وكان المشاهدون يتابعون «ويذر تشانيل» و«فايننشيال نيوز نتوورك»، أو يشاهدون مادونا على «إم تي في».
ظل هذا القدر الهائل من البرامج الجديدة متاحا مجانا لفترة من الوقت، لأي شخص لديه جهاز استقبال ملائم. اشترطت «كومسات» لفترة وجود تليسكوبات لاسلكية بارتفاع مائة قدم في محطاتها الأرضية، بيد أن زيادة القدرة الكهربائية في الأقمار الصناعية الجديدة كانت تعني أن المشاهدين في المنازل يستطيعون التقاط إشارات تلك الأقمار من خلال هوائيات شبيهة بالأطباق، كان عرضها لا يزيد عن عشر أقدام أو اثنتي عشرة قدما. لم تكن هذه هي «القطوع المكافئة الصغيرة التي يبلغ قطرها قدما تقريبا» بحسب تصور كلارك في عام 1945، بيد أنها أثبتت أنها من حيث التكلفة المادية كانت في متناول ما يصل إلى مليوني شخص من قاطني المنازل. مع انتشار أطباق الأقمار الصناعية في باحات المنازل، خاصة في المناطق الريفية، اتجهت شركات الكابلات إلى تشفير إشاراتها، أملا في أن ينفق مشاهدوها حوالي 400 دولار أمريكي مقابل شراء جهاز فك تشفير ثم دفع رسم شهري. أدى هذا إلى ظهور صناعة جديدة، تشتمل على شرائح كمبيوتر مقرصنة تستطيع فك شفرة الرموز على نحو غير قانوني؛ ومن ثم، استطاع الناس مواصلة توجيه أجهزة الهوائي لديهم ومشاهدة البرامج دون أي تكلفة.
برز البنتاجون أيضا كمستخدم رئيسي في مجال الاتصالات عبر الأقمار الصناعية؛ إذ دخل المجال وسط صخب هائل في منتصف عام 1966، مع إطلاق «تايتان 3» سبع مركبات فضائية أولية في عملية إطلاق واحدة، لتليها ثماني مركبات أخرى بعدها بأشهر قليلة. كانت المركبات توفر قنوات آمنة لإرسال الإشارات على نحو ثبتت فعاليته أكثر كثيرا من النظم السابقة، التي كانت تستخدم موجات لاسلكية قصيرة غير فعالة. من خلال السماح للقادة بالإلمام بما يحتاجون إلى معرفته، أضحت هذه المركبات الفضائية مكملا لأقمار الاستطلاع الصناعية على غرار «ديسكفرر».
كانت مركبة «ديسكفرر» الفضائية بمنزلة «أدوات إنزال في وحدات تخزين»؛ كانت تحمل الفيلم المحمض في كبسولات قابلة للاسترجاع تشبه وحدات التخزين وتسقطها عبر الجو ليجري استرجاعها عن طريق طائرة. جرى الكشف إعلاميا عن البعثات الثماني والثلاثين الأولى، لكن في وقت مبكر من عام 1962 توارى البرنامج وغاب عن الظهور الإعلامي. مع ذلك، لم يختف البرنامج كلية؛ ظلت شركة «لوكهيد» تبني المراحل العليا لصاروخ «أجينا» بحمولاتها، وواصلت طواقمها الأرضية إطلاق تلك المراحل على متن صواريخ «ثور» التي جرى إطلاقها من قاعدة فاندنبرج التابعة للقوات الجوية، وواصلت وكالة الاستخبارات المركزية إدارة البرنامج تحت اسم «كورونا».
كانت الصور الفوتوغرافية، التي كانت على درجة عالية من السرية، تحمل اسم «كيهول». كانت أقمار «ديسكفرر» السبعة والثلاثون الأولى قد استخدمت ثلاثة أنواع متتابعة من الكاميرات، التي صار يطلق عليها الآن أسماء «كيه إتش-1» وصولا إلى «كيه إتش-3». كانت جميع الكاميرات تلتقط صورا فوتوغرافية للأرض في الأسفل بمساحات واسعة وطويلة؛ مما أحدث تتابعا من المشاهد البانورامية باستخدام حامل عدسة يجري مسحا من جانب إلى جانب بدلا من النظر إلى أسفل مباشرة. بالإضافة إلى ذلك، كانت جميع الكاميرات تجري عملية تعويض للحركة الكبيرة، للحيلولة دون أن تؤدي حركة الأرض - التي كانت تتحرك بسرعة خمسة أميال في الثانية - إلى تشوش الصور الملتقطة.
كانت كاميرتا «كيه إتش-1» و«كيه إتش-2» متشابهتين للغاية؛ إذ كانت تقتضيان تحليق المركبة الفضائية على ارتفاع محدد سلفا، وإن لم يحدث ذلك، كانت الصور تبدأ في التشوش. تبين أنه من الصعب تحقيق هذه الدقة في الارتفاعات، وعلى الرغم من أن الكاميرا كانت مصممة بدقة عشرين إلى خمس وعشرين قدما، كانت في أفضل حالاتها لا تحقق سوى دقة خمس وثلاثين إلى أربعين قدما؛ من الواضح أن النظام كانت تعوزه القدرة على توفير تعويض لحركة الصورة في نطاق عدد من الارتفاعات المدارية. أجري هذا التحسين في كاميرا «كيه إتش-3»، التي انطلقت للمرة الأولى على متن «ديسكفرر 29» في أغسطس 1961؛ كانت الكاميرا تشمل أيضا عدسة ذات فتحة أكبر؛ مما كان يسمح باستخدام الأفلام الشديدة الدقة. وبذلك، حسنت «كيه إتش-3» الدقة حتى عشر أقدام.
اشتملت «ديسكفرر 38» على كاميرا «كيه إتش-4»، باسم «ميورال». كانت الكاميرا تعادل كاميرتي «كيه إتش-3»، إحداهما تشير إلى الأمام، والأخرى تشير إلى الخلف. عندما كانت المركبة الفضائية تحلق نحو هدف ما، كانت الكاميرات تصوره من زاويتين مختلفتين، وعند النظر إلى الهدف من خلال منظار مجسم، كانت الصور تظهر ثلاثية الأبعاد. ثم خلال عام 1963، اشتمل نظام «كيه إتش-4 إيه» على وحدات التخزين المزدوجة. كانت كل مركبة إذن تحلق في مدار فضائي لمدة تصل إلى أسبوعين، مرسلة الفيلم على دفعتين. حملت «كيه إتش-4 إيه» على متن البعثة رقم 69 للمرة الأولى، في أواخر أغسطس، وسرعان ما صارت هي الكاميرا القياسية. بدءا من منتصف عام 1964، استخدمت وكالة الاستخبارات المركزية هذه الكاميرا بانتظام في رحلة واحدة على الأقل شهريا.
بالإضافة إلى ذلك، وسع برنامج «كورونا» نطاقه من خلال سلسلة من الرحلات التي وضعت خرائط تخطيط جيوديسية، حددت فيها أهدافا بدقة بالنسبة إلى علامات قياسية معروفة . كان هذا الأسلوب يسعى إلى تناول موضوعات مثل معرفة موقع موسكو، بطريقة تسمح بتوجيه رحلة صاروخ باليستي بعيد المدى بناء على هذه المعلومات. أسفر البرنامج المعروف باسم «أرجون» عن نتائج متوسطة القيمة، على الرغم من أن برنامج «كورونا» إجمالا قدم بيانات جيوديسية بالغة القيمة. مع ذلك، كان لأرجون استخداماته الخاصة. بنى الجيش كاميرته الخاصة لرسم الخرائط، وهي كاميرا «كيه إتش-5»، واستخدمت ناسا هذه الكاميرا عريضة الزاوية لرسم خريطة للقمر.
كان برنامج «كورونا» يرعى أيضا برنامجا فرعيا آخر يسمى «لانيارد»؛ كانت أقماره الصناعية تحمل كاميرا عالية الدقة، هي «كيه إتش-6»، كانت تهدف إلى التقاط صور قريبة لمواقع صواريخ مضادة للصواريخ الباليستية قرب تالين في إستونيا. تبين أن الصواريخ محل الاهتمام كانت من النوع المضاد للطائرات، على الرغم من أن «لانيارد» لم يفصح عن هذا. في حقيقة الأمر، لم يرسل هذا البرنامج صورا ذات قيمة كبيرة، لكنه قدم صورا واضحة للغاية، وأمل مسئولو وكالة الاستخبارات المركزية أن يصير «لانيارد» نظاما لالتقاط الصور القريبة لإكمال برنامج «كورونا» الرئيسي، الذي كان يلتقط صورا بانورامية.
لكن، كانت القوات الجوية لديها برنامجها الخاص في الاستطلاع الفضائي، وابتكرت كاميرتها ومركبتها الفضائية الخاصة؛ «كيه إتش-7» و«جامبت». حلقت مركبة «جامبت» الفضائية، وهي عبارة عن قمر صناعي ذي وحدتي تخزين، للمرة الأولى في يوليو 1963، وسرعان ما التقط صورا قريبة حقا، حيث حلق على ارتفاع منخفض إلى ما دون مائة ميل. سجلت رحلتان من رحلاته رقمين قياسيين في الارتفاع المنخفض، عند خمسة وسبعين ميلا وستة وسبعين ميلا، وبدقة بلغت ثماني عشرة بوصة. بالنسبة إلى القوات الجوية، أثبتت مناورة «جامبت» نجاحا باهرا؛ تفوق على «لانيارد» في الأداء، وبعد ثلاث رحلات فقط لقمر وكالة الاستخبارات المركزية المنافس هذا، كانت جميعها خلال عام 1963، ألغت وكالة الاستخبارات المركزية ذلك البرنامج.
أدخلت «جامبت» أيضا اتجاها جديدا نحو المركبات الفضائية الأكبر حجما وصواريخ التعزيز الأكثر قوة. كانت برامج «كورونا» و«أرجون» و«لانيارد» جميعها تستخدم نماذج متنوعة من صواريخ «ثور-أجينا»، بيد أن «جامبت» استخدمت في البداية نموذج «أطلس- أجينا»؛ ثم في منتصف عام 1966، دخل الصاروخ «تايتان 2» الخدمة، وبدأ في إطلاق نموذج جديد من «جامبت» كان يحمل كاميرا محسنة، «كيه إتش-8». في الوقت نفسه، كانت مركبة «كورونا» القياسية تتلقى اللمسات النهائية لكن مع نظام كاميرات آخر، وهو «كيه إتش-4 بي»؛ استخدم هذا النظام نماذج جديدة من الكاميرات يزيد فيها مستوى الدقة من عشرة إلى خمس أقدام، وذلك بدلا من الكاميرات السابقة طراز «كيه إتش-3». حملت كاميرا «كيه إتش-4 بي» على متن البعثة رقم 120 للمرة الأولى في سبتمبر 1967، ومن خلال عملها إلى جانب مركبات «جامبت» الجديدة، واصلت مركبات «كورونا» هذه الطيران حتى عام 1972.
ما الذي كانت تعرضه الكاميرات؟ كانت الكاميرات تصور جميع مجمعات إطلاق الصواريخ الباليستية السوفييتية، متتبعة الصواريخ الموجودة بالفعل فضلا عن الصواريخ الجديدة خلال عمليات التطوير والنشر. على وجه التحديد، اكتشفت الكاميرات ورصدت مرارا وتكرارا مركزا كبيرا في بليستسك، قرب مدينة أرخانجيلسك الشمالية. كان مركز بليستسك متخصصا في أقمار الاستطلاع الصناعية وغيرها من المركبات الفضائية العسكرية الأخرى. كان المركز يمثل في ذروة نشاطه أكثر من نصف جميع عمليات الإطلاق الفضائي في العالم بأسره، بينما كان موقع تيوراتام يحل في المرتبة الثانية بفارق كبير، ثم يليهما موقعا كيب كانافيرال وفاندنبرج بفارق كبير.
كان «كورونا» أيضا أول من يرصد سفرودفنسك، وهو موقع الإنشاء الرئيسي لغواصات الصواريخ الباليستية، وهو ما أتاح رصد إطلاق أنواع جديدة من الغواصات، وتتبعها حتى تجهيزها للاستخدام. تمكنت وكالة الاستخبارات المركزية أيضا من رصد التوسع السريع في المركبات البحرية السطحية. ساعدت التغطية الخاصة بمصانع الطائرات والقواعد الجوية في إطلاع المحللين أولا بأول على آخر المستجدات في القاذفات والمقاتلات، بينما سمحت التغطيات الأخرى لخبراء الجيش بالتعرف على طبيعة قوات الدبابات التي كان النيتو سيواجهها في حال غزا السوفييت أوروبا.
كشفت الصور الفوتوغرافية التي التقطها برنامج «كورونا» عن بناء مواقع صواريخ حقيقية مضادة للصواريخ الباليستية قرب موسكو وليننجراد، فضلا عن محطات رادار كانت تدعمها. رصدت صور أخرى بطاريات مضادة للطائرات ومكنت القيادة الجوية الاستراتيجية من العثور على مسارات لقاذفاتها تتفادى هذه الصواريخ. في مجال رسم الخرائط الجيوديسية، كان برنامج «كورونا» مكملا لبرنامج «أرجون» وصار المصدر الرئيسي للبيانات في الخرائط العسكرية لوكالة رسم الخرائط الدفاعية التابعة لوزارة الدفاع.
في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، كان السوفييت قد تمكنوا من خداع الأمريكيين فيما يتعلق بقوتهم الجوية، واستطاعوا أن يثيروا الفزع في واشنطن حول «فجوة قاذفات» مزعومة، فقط بإطلاق الطائرة نفسها مرتين في عرض جوي. على النقيض من ذلك، اشتمل تقرير استخباراتي في عام 1968 على العبارة الصريحة: «لم تقم مجمعات جديدة للصواريخ الباليستية البعيدة المدى في الاتحاد السوفييتي خلال العام المنصرم.» في وقت مبكر يرجع إلى عام 1964، كانت «كورونا» قد التقطت صورا لجميع المجمعات الخمسة والعشرين التي كانت موجودة آنذاك، وإذا كان ثمة أي مجمعات جديدة، كانت «كورونا» سترصدها.
خاطب ليندون جونسون أحد الحشود في عام 1967 قائلا: «لم أكن لأرغب في أن يستشهد بكلامي حول هذا الموضوع. لقد أنفقنا ما يتراوح بين 35 مليار و40 مليار دولار أمريكي على برنامج الفضاء. وإذا لم يكن قد تمخض عنه شيء سوى المعرفة التي اكتسبناها من التصوير الفوتوغرافي في الفضاء، فإن هذا سيساوي عشر مرات تكلفة البرنامج بالكامل. ولأننا نعرف الليلة عدد الصواريخ التي يمتلكها العدو، ومثلما اتضح، كانت تخميناتنا مجاوزة كثيرا لما عليه الحال في حقيقة الأمر. كنا نتخذ تدابير ما كان يجب أن نتخذها من الأساس. كنا نبني أشياء ما كان يجب أن نبنيها. كنا نضمر مخاوف ما كان يجب أن نضمرها.» يشير المحلل جيفري ريتشلسون إلى الاستطلاع الفضائي بوصفه «أحد أكثر التطورات التكنولوجية العسكرية أهمية في القرن العشرين وربما في التاريخ كله؛ في الواقع، ربما لا يفوق تأثيره على الشئون الدولية في فترة ما بعد الحرب سوى القنبلة الذرية. لعب القمر الصناعي للاستطلاع الفوتوغرافي دورا هائلا في تحقيق التوازن في العلاقة بين القوتين العظميين، وذلك من خلال تهدئة المخاوف حيال الأسلحة التي كانت القوة العظمى الأخرى تمتلكها والفصل في مدى كون العمل العسكري وشيكا.»
1
بالإضافة إلى ذلك، بنت وكالة الاستخبارات المركزية مركبة متطورة على غرار وحدات التخزين المزودة بأدوات إنزال، عرفت بأسماء مختلفة مثل «هكسجون» و«بيج بيرد» و«كيه إتش-9». انطلقت المركبة الأولى في يونيو 1971، وسرعان ما أحالت برنامج «كورونا» إلى التقاعد، حالة محل مركبته الفضائية بالكامل في عام 1972. مع ذلك، كانت المركبات ذات وحدات التخزين المزودة بأدوات إنزال محدودة. بالإضافة إلى ضرورة الاسترجاع الفعلي لأفلامها، كان الأمر يستغرق شهرا حتى تصل الصور من القمر الصناعي إلى مكتب أحد محللي الصور. أظهرت حرب الأيام الستة في عام 1967، التي تفوقت فيها إسرائيل على أعدائها، أن صراعا كبيرا كان من الممكن أن يبدأ وينتهي بينما كان أحد الأفلام من مركبة فضائية في طريقه إلى واشنطن.
كانت الاستخبارات الفوتوغرافية في الوقت الفعلي هي الحل، بيد أن الأسلوب البديهي، وهو التليفزيون، كانت تعوزه الدقة العالية التي كانت وكالة الاستخبارات المركزية في حاجة إليها. ثم في عام 1970، ابتكر عالما الفيزياء ويليام بويل وجورج سميث، من «بيل لابس»، جهاز إقران الشحنات؛ استطاع الجهاز أن يحل محل الفيلم الفوتوغرافي مع التقاط الضوء بكفاءة أكبر عشرين مرة. وبوصفه جهازا إلكترونيا، كان يرسل الصور على هيئة تدفقات من وحدات البت، على نحو متوافق تماما مع عملية الإرسال في الوقت الفعلي، ومع معالجة باستخدام الكمبيوتر التي كان في مقدورها عرض التفاصيل الدقيقة. الأهم من ذلك أن قمرا يشتمل على جهاز لإقران الشحنات يستطيع البقاء في الفضاء إلى أجل غير محدد تقريبا، حيث لم يكن يستخدم أي أفلام، ومن ثم لم يكن لينفد أبدا.
سمي القمر الصناعي الاستطلاعي الذي انبثق عن ذلك «كينان»؛ كان نظامه البصري، «كيه إتش-11»، يتضمن تليسكوبا قطره تسعون بوصة. انطلق القمر الأول في ديسمبر 1976 وظل مستخدما لمدة عامين، بينما ظلت الأقمار التالية مستخدمة لمدة عشر سنوات. بلغت الدقة ست بوصات، وأظهرت مجموعة من الصور المسربة لإحدى ترسانات السفن في البحر الأسود ما كان يعنيه ذلك. كانت المركبة الفضائية على مسافة خمسمائة ميل، ومع ذلك كادت الصور أن تقترب لتظهر الكابلات على الرافعات في رصيف الإرساء. بالإضافة إلى ذلك، كان الجمع بين الأجهزة البصرية الكبيرة العالية الدقة وأجهزة إقران الشحنات مفيدا للغاية لرواد الفضاء؛ إذ كان يوفر أساسا فنيا لمرصد هابل الفضائي.
مثلت أقمار الأرصاد الجوية نوعا مختلفا من الاستطلاع؛ فلم تكن تحتاج إلى كاميرات فوتوغرافية متطورة أو استرجاع للأفلام؛ إذ كان في مقدور كاميرا تليفزيونية بسيطة عرض الكثير. أثارت أول كاميرا تليفزيونية من هذا النوع، وهي «تيروس 1» في عام 1960، جلبة هائلة بين علماء الأرصاد، حتى على الرغم من أنها لم تبق حتى موسم الأعاصير. على حد تعبير أحد المديرين، أوضحت صورها أن «غطاء الأرض من السحب كان منظما للغاية على نطاق واسع، كما وجد أن تكوينات السحب المتماسكة تمتد إلى ما يزيد عن آلاف الأميال، وكانت ترتبط بتكوينات أخرى ذات أبعاد مماثلة». فضلا عن ذلك، كانت تكوينات السحب هذه تتماثل مع نظم الطقس الرئيسية، بما في ذلك الجبهات ومناطق الضغط المنخفض التي كانت تتسبب في هبوب العواصف وهطول الأمطار. بدا الأمر كما لو أن الغلاف الجوي كان يستخدم السحب لرسم خرائطه المناخية.
انطلق «تيروس 3» في منتصف عام 1961 وتتبع خمسة أعاصير في خريف ذلك العام. قدم دعما قيما إلى أرصاد الطائرات في تتبع إعصار كارلا المدمر، الذي أودى بحياة ستة وأربعين شخصا على طول ساحل الخليج. صارت «تيروس 3» أيضا أول مركبة فضائية تكتشف إعصارا؛ حيث حددت موقع إعصار إستر قبل يومين من اكتشاف التحقيقات الصحفية التقليدية لوجوده. بالإضافة إلى ذلك، ساعدت الصور المأخوذة بواسطة الأقمار الصناعية في تحديد قوة الرياح من خلال الإشارة إلى درجة تنظيم سحب الإعصار، في تشكيلات حلزونية.
ساعدت هذه المركبات الفضائية أيضا الغواصات في تتبع مسار الثلوج في الممرات المائية الصالحة للملاحة. في أوائل ربيع عام 1962، رصدت «تيروس 4» أكثر من مرة كتلة الثلوج في خليج سانت لورانس، التي كانت تحيط بجزيرة الأمير إدوارد لكنها تراجعت تدريجيا، وهو ما حقق آمال هيرمان أوبيرت، الذي كان قد كتب في عام 1923 أن الأرصاد الفضائية «سترصد كل جبل جليدي وتحذر السفن».
مع ذلك، كان استخدام مركبات «تيروس » الأولى محدودا لا يرقى ليكون نظاما جاهزا للعمل. كانت المركبات على شكل طبلة، تدور بسرعة عشرة دورات في الدقيقة تقريبا لتحقيق التوازن. لسوء الحظ، لم تكن متوازنة بدرجة كبيرة؛ إذ كانت تميل إلى توجيه الكاميرا نحو اتجاه وحيد، ثابت بالنسبة إلى النجوم. وفي معظم الوقت، كانت تتجه بعيدا عن الأرض ، نحو ظلمة الفضاء؛ ونتيجة لذلك، كانت كل مركبة من مركبات «تيروس» ترصد ما لا يزيد تقريبا عن خمس سطح الأرض يوميا. لكن، لم تقف ناسا مكتوفة الأيدي حيال ذلك؛ كانت تمتلك برنامج «نيمبس»، وهو برنامج جيل ثان، كانت مركبته الفضائية تتجه باستمرار إلى أسفل. كان من المقرر أن يدخل «نيمبس» الخدمة كنظام جاهز للعمل، يتكفل بشرائه ودفع تكلفته مكتب الأرصاد الجوية.
كان مكتب الأرصاد الجوية ضعيفا (كان يتلقى قدرا قليلا من الدعم من الكيان الأم التابع له، وهو وزارة التجارة)، وكانت ناسا تقترب من ذروة القوة. لكن، استاء مسئولو مكتب الأرصاد الجوية عندما تخلف «نيمبس» عن الجدول الزمني الموضوع له. كان من المخطط أساسا أن يجري إطلاقه في عام 1961، بيد أن الشركة المتعاقدة، «جنرال إلكتريك»، واجهت مشكلات خطيرة فيما يتعلق بنظام التحكم في الوضع، وهو ما أثار احتمال أن تتوقف ناسا عن إطلاق أقمار «تيروس»، بينما يظل «نيمبس» على الأرض ثم تضيف تكاليفه إلى الميزانية الهزيلة لمكتب الأرصاد الجوية.
لم يكن مكتب الأرصاد الجوية في حد ذاته يمتلك النفوذ الذي يخول له فعل أي شيء حيال ذلك الأمر، لكن وزارة الدفاع اتفقت مع مكتب الأرصاد الجوية في توجسه من أن ناسا ربما تتخلى عن أقمار «تيروس» المفيدة سعيا وراء «نيمبس» الأكفأ فنيا، وعرضت تدخلها من خلال نظام منافس لأقمار الأرصاد الجوية. استطاع المكتب، مسلحا بهذا الدعم، الوقوف في وجه ناسا القوية، معلنا في سبتمبر 1963 تخليه عن «نيمبس». كان المكتب في حاجة إلى المزيد من المركبات الفضائية فئة «تيروس»، وكذلك إلى صوت مكافئ لصوت ناسا.
اكتسبت اعتراضات المكتب مزيدا من القوة في عام 1964، وعلى الرغم من بلوغ «نيمبس 1» مدارا فضائيا في أغسطس، توقف البرنامج بعد أقل من شهر من إطلاقه. لكن، في تلك الأثناء، كانت شركة «آر سي إيه» المصممة لمركبات «تيروس» جاهزة بتعديلاتها. أدخلت الشركة تعديلا عبارة عن كاميرا تليفزيونية سريعة يمكنها التقاط صور واضحة بينما تشير إلى جانب المركبة الفضائية عند دورانها؛ ومن ثم، كان أي قمر من أقمار «تيروس» ينطلق في مساره المداري كما لو كان عجلة، ملتقطا صوره في اللحظات التي تكون الكاميرا متجهة إلى أسفل مباشرة. بالإضافة إلى ذلك، كان في إمكان المركبة الفضائية التحليق في مدار قطبي؛ ومن ثم تجمع بين الصور الموجهة صوب الأرض والتغطية العالمية الكاملة. التقط أول قمر يؤدي هذه المهمة، وهو «تيروس 9»، 480 صورة للأرض المضاءة بضوء الشمس خلال أربع وعشرين ساعة في فبراير 1965. عند تجميع هذه الأجزاء معا فيما يشبه الفسيفساء، كانت الصور تغطي العالم كله باستثناء القارة القطبية الجنوبية.
بعد ذلك بعام، دخل نظام جاهز للعمل - يستخدم قمرين صناعيين مماثلين - الخدمة بعد ذلك بعام لحساب مكتب الأرصاد الجوية. كان أحد هذين القمرين يستخدم نظام الإرسال التلقائي للصور، وهو ما كان يسمح للمحطات الأرضية الصغيرة باستقبال الصور عند الطلب، باستخدام هوائي بسيط ومسجل فاكس تجاري. كان نظام الإرسال التلقائي للصور قد أثبت قيمته في رحلات طيران تجريبية على متن «تيروس 8» و«نيمبس 1». ساهم النظام في جعل الأرصاد الجوية عبر الأقمار الصناعية في متناول معظم دول العالم. في غضون سنوات قليلة، كان ثمة أكثر من أربعمائة محطة عاملة من هذا النوع، في أكثر من أربعين دولة.
أدخلت المركبات الفضائية التالية لذلك أسلوب التصوير بالأشعة تحت الحمراء، وهو ما سمح بتصوير الأرض ليلا؛ ففي حين كانت الصور القياسية تعتمد على ضوء الشمس المنعكس، كانت نظم الأشعة تحت الحمراء ترصد الأطوال الموجية الطويلة المنبعثة من الأرض والبحر والسحب بسبب حرارتها. أظهرت هذه الصور تشكيلات السحب بوضوح؛ ومن ثم قدمت تغطية حقيقية على مدار الساعة. كان في مقدور قمرين من ذلك الطراز، في مدارين قطبيين، إرسال مشاهد مجمعة للعالم بأسره، كل ست ساعات.
جدد هذا الإنجاز الأمل في وضع توقعات طويلة المدى. قبل عام 1940، كتب عالم الأرصاد كارل جوستاف روسبي، في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، معادلات لتوقع حركة الموجات الجوية، التي يغطي نطاقها نصف الكرة الأرضية، والتي تؤثر على طقس العالم. اعتمد زميله جيروم نامياس على أبحاثه في وضع أول توقعات الأرصاد لخمسة أيام قادمة. أدى نقص بيانات الطقس عالميا إلى اتسام هذه التوقعات بأنها جزافية في أفضل الأحوال، بيد أن خدمات الأقمار الصناعية العاملة حسنت من دقتها.
مع اختراق مجال الأرصاد الجوية من ارتفاع بضعة مئات من الأميال، بدا واضحا أن الخطوة التالية ستتمثل في تقديم أرصاد من مدارات جيوتزامنية. مع ذلك، كانت متطلبات علم الأرصاد الجوية تختلف عن متطلبات الاتصال. لم يكن في مقدور مركبة فضائية متزامنة مع الأرض، تحوم فوق خط الاستواء، رصد المناطق القطبية؛ وتسبب هذا في بعض المشكلات في الخدمة التليفزيونية والهاتفية؛ نظرا لأن الطلب كله كان متركزا فعليا في خطوط العرض المعتدلة المناخ، بعيدا جدا عن القطبين، حيث كانت تعيش شعوب العالم. لكن، كان لمنطقتي القطب الشمالي والقطب الجنوبي تأثير مهم في حالة الجو المناخية، ومن ثم كان من المهم رصد هاتين المنطقتين عن قرب. بالإضافة إلى ذلك، في ظل استخدام نظام الإرسال التلقائي للصور، حظي خبراء توقعات حالة الطقس في جميع أنحاء العالم بميزة المحطات الأرضية البسيطة وغير المكلفة. لم تكن المدارات الجيوتزامنية لتضيف مزيدا من التحسين إلى هذه العملية.
بناء على ذلك، وعلى عكس التحول القوي نحو المدارات الجيوتزامنية من قبل خبراء الاتصالات، استغرقت هذه الخطوة فترة أطول بكثير بالنسبة إلى علماء الأرصاد الجوية. دعما لهذا الاتجاه، لجأت ناسا في عام 1966 إلى تركيب كاميرا أبيض وأسود في القمر «إيه تي إس-1» الجيوتزامني، ووضعت كاميرا ألوان في القمر «إيه تي إس-3» بعدها بعام. في البداية، كان علماء الأرصاد الجوية يرغبون في معرفة ما قد يرونه جديدا، وبالفعل شاهدوا الكثير. رصد القمر «إيه تي إس-1» أحد نصفي الكرة الأرضية كاملا؛ حيث عرضت مجموعة من الصور ستة أعاصير متزامنة وعواصف مماثلة ، خمس عواصف منها في المحيط الهادئ وعاصفة في منطقة الكاريبي. قال فرنر سيومي من جامعة ويسكونسن، الذي صمم هذه الكاميرا، في تعقيب على هذا الأمر: «هنا، يتحرك الطقس وليس القمر الصناعي.» يسرت الصور المرسلة بانتظام من هذه الأقمار، التي ظلت ثابتة في مكانها على ارتفاعات شاهقة، من متابعة تطور العواصف الكبرى وتبددها. باستخدام صور الفواصل الزمنية، أعد علماء مثل سيومي أفلاما - بعضها ملون - تعرض الدورة الكاملة للأعاصير وغيرها من أنماط الطقس الأخرى.
استغرق الأمر سنوات عديدة لتطوير نظام جاهز للتشغيل؛ نظرا لما واجهه من تأجيلات وسط قرارات خفض ميزانية ناسا في أوائل السبعينيات من القرن العشرين. على الرغم من ذلك، أبرمت ناسا عقدا مع شركة «فورد إيروسبيس» لبناء نموذجين أولين، فيما عرف ببرنامج أقمار الأرصاد الجوية المتزامنة. بلغ هذان القمران مدارا فضائيا في عامي 1974 و1975.
في تلك الأثناء، في عام 1970، أدمج مكتب الأرصاد الجوية في مؤسسة كبيرة، وهي الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي، ضمن وزارة التجارة. كانت الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي قد أطلقت اسمها على نوع جديد من المركبات الفضائية المدارية القطبية التي حلت محل أقمار «تيروس» الأولى، حيث كانت تدور حول الأرض على ارتفاعات تصل إلى ألف ميل. تولت الوكالة أيضا مسئولية المركبات الفضائية المدارية الجيوتزامنية، حيث قسمت العقدين بين شركتي «فورد إيروسبيس» و«هيوز». كانت هذه السلسلة المستمرة من الأقمار الصناعية - فيما عرف ببرنامج القمر الصناعي البيئي التشغيلي الثابت بالنسبة إلى الأرض - ترصد أنصافا كاملة للكرة الأرضية في ضوء الشمس وفي الأشعة تحت الحمراء، وتلتقط صورا كل ثلاثين دقيقة. ساهم الدمج بين الأقمار الصناعية البيئية التشغيلية الثابتة بالنسبة إلى الأرض وأقمار الإدارة الوطنية لدراسة المحيطات والغلاف الجوي في بلورة الأرصاد الجوية في صورتها النهائية. ثم، بدأت صور الأرصاد الجوية المأخوذة في الفضاء تظهر في الصحف اليومية، حيث كانت الخطوط الساحلية وحدود الدول تحدد بواسطة الكمبيوتر.
أظهرت هذه الصور ما هو أكثر من مجرد تكوينات السحب؛ فقد عرضت كتلا جليدية في الجبال، وتيارات محيطية مثل تيار الخليج، وسلوك الجليد في المناطق القطبية، ومن ثم كانت توفر بيانات ذات أهمية كبرى في مجال دراسة الموارد المائية، وعلم دراسة المحيطات، وعلم دراسة الجليد. ظهرت تطورات أخرى من خلال التصوير الفوتوغرافي الجوي في مجال الأشعة تحت الحمراء، وباستخدام أجهزة المسح والأفلام الملونة الحساسة للأطوال الموجية المناسبة، اكتشف الباحثون أنهم يستطيعون وضع خرائط لمناطق الغابات والمساحات الخضراء والأراضي الزراعية، وكذلك تحديد حالة الأشجار والمحاصيل وإذا كانت مصابة بأمراض أم لا. كانت الصور الملتقطة بالأشعة تحت الحمراء تقدم أيضا تفاصيل جديدة حول الخرائط الجيولوجية، تتضح فيها خطوط الصدوع والتشكيلات الصخرية الكبرى.
كان ويليام بيكورا، مدير وكالة المسح الجيولوجي الأمريكية، من أوائل المؤيدين لاستخدام الأقمار الصناعية في إجراء تلك الأرصاد الجوية. حصل على دعم قوي من وزارة الداخلية، الكيان الأم للوكالة؛ مما دفع ناسا إلى اتخاذ خطوات فعلية. كان برنامج «نيمبس» بمنزلة نقطة انطلاق، حيث كانت أقماره الصناعية تعمل كمنصات اختبار للمعدات الجديدة. في عام 1969، حولت ناسا تركيز هذا البرنامج من الأحوال الجوية إلى مجال الأرصاد الأرضية الجديد.
انطلق نموذج جديد مجهز جيدا من قمر «نيمبس»، أطلق عليه لاحقا «لاندسات 1»، إلى مدار قطبي في منتصف عام 1972. شهدت السنوات الاثنتي عشرة التي أعقبت ذلك إطلاق أربع مركبات فضائية من هذا الطراز، وخلال منتصف الثمانينات من القرن العشرين، اقترب برنامج «لاندسات» من وضع التشغيل الفعلي، وعهدت إدارة ريجان بالبرنامج إلى «إيوسات»، وهي شركة تجارية كانت تمثل مشروعا مشتركا بين شركتي «هيوز» و«آر سي إيه». بالإضافة إلى ذلك، انضمت فرنسا إلى السباق من خلال نظامها التجاري الخاص المسمى القمر الصناعي الفرنسي لرصد الأرض («سبوت»)، مطلقة أول أقمارها الصناعية في عام 1986.
التقط رواد الفضاء في محطة «سكايلاب» صورا مماثلة في غضون أشهر قليلة، في حين كانت أقمار «لاندسات» و«سبوت» ترسل صورا عاما بعد عام. استطاعت هذه الأقمار أن ترصد علامات تشير إلى ظاهرة الاحتباس الحراري، منها: ارتفاع مناسيب الأنهار الجليدية في ألاسكا، وتصدع الجروف الجليدية مكونة جبالا جليدية هائلة. كذلك، قدمت الصور الملتقطة عبر هذه الأقمار بيانات حول عدد من الموضوعات البيئية، مثل زحف الصحراء الكبرى جنوبا، وتجرف الغابات المطيرة في حوض الأمازون. استخدمت أيضا صور «لاندسات» في الولايات المتحدة الجيدة التخطيط، حيث دعمت عمليات المسح الخاصة باستعمال الأراضي وحجم الأراضي الرطبة.
اتسمت التحولات التي تعقبتها تلك الصور بالبطء في كثير من الأحيان؛ إذ كان يمكن أن تحتفظ أحيانا مجموعة واحدة من الصور الجيدة بقيمتها لسنوات عديدة. بالإضافة إلى ذلك، كانت الطائرات تستطيع إجراء عمليات مسح محدثة؛ لذلك، كانت مركبات «لاندسات» قليلة العدد وتطلق على فترات متباعدة؛ إذ لم تكن ثمة حاجة إلى عمليات إطلاق سريعة. لكن، كان الطلب كبيرا على الصور. في البداية، أتاحت وكالة المسح الجيولوجي الأمريكية الصور من خلال مكتبها في مدينة سيو فولز بولاية داكوتا الجنوبية، ثم أضفت «إيوسات» مزيدا من الراحة والسهولة في توفير الخدمة من خلال عرضها في مركز قرب واشنطن العاصمة، مع توفير جميع الخبراء اللازمين.
في ظل هذه الاستخدامات، شكلت الأقمار غير المأهولة لناسا وغيرها من الوكالات الأخرى تعارضا حادا مع «أبولو». نشأ برنامج أبولو وسط مخاوف من التفوق السوفييتي، لكن الولايات المتحدة استطاعت من خلال ريادته في مجالات الاتصالات والطقس والأرصاد الأرضية أن تبرهن على حقيقة التفوق الأمريكي. بالإضافة إلى ذلك، كان «أبولو» يختلف عن هذه الاستخدامات إلى حد ما تماما كما يختلف موكب ملكي عن طريق سريع منشأ حديثا. كانت عمليات الهبوط على سطح القمر أحداثا يعجب المرء بها عن بعد دون أن يلمس لها أثرا مباشرا في حياته؛ أما الخدمات الجديدة من تليفزيون وشبكات هاتف وتوقعات للأرصاد، فقد استفاد منها الجميع. وفي حين أبهر «أبولو» دول العالم الثالث، ساعدت الأقمار الصناعية الجديدة في منح شعوب هذه الدول ميزات العالم الأول؛ فالتليفزيون والهاتف صارا مطلبا جماعيا، بينما دخلت خدمات الأرصاد الجوية مجتمعات كانت تؤمن بالمأثورات الشعبية.
دفعت هذه الفرص أيضا أوروبا إلى الاتجاه بقوة نحو الفضاء. لم تكن الدول الأوروبية، التي تحتمي تحت المظلة النووية الأمريكية، بحاجة كبيرة إلى الاستطلاع الاستراتيجي، ولم تكن تستهويها أيضا البعثات المأهولة؛ لكن علوم الفضاء والطقس والاتصالات والأرصاد الأرضية كانت أمورا مختلفة تماما. تضمنت برامج الفضاء الأوروبية الأولى حمولات أوروبية على متن صواريخ تعزيز أمريكية، كان أولها قمر «آريال 1» البريطاني الذي انطلق في أبريل 1962 على متن صاروخ طراز «ثور-دلتا» مزينا بالعلمين الأمريكي والبريطاني؛ بيد أنه لم يمض وقت طويل حتى شرع الأوروبيون في بناء مركبات إطلاق خاصة بهم.
لاحت نقطة انطلاق أولية من أمل بريطانيا، خلال فترة ما بعد الحرب، في الاحتفاظ بدورها الذي دام قرونا كقوة عظمى؛ فطورت هذه الدولة أسلحتها النووية وقاذفاتها النفاثة، ومضت تبني غواصات «بولاريس». بالإضافة إلى ذلك، في عام 1954، شرع أعضاء حزب المحافظين بقيادة السير ونستون تشرشل في العمل على صاروخ باليستي متوسط المدى باسم «بلو ستريك». لكن بحلول عام 1960، صار البرنامج مكلفا للغاية، وتراجع كثيرا عدد الأصوات المؤيدة له. وسط صيحات حزب العمال المعارضة، قرر رئيس الوزراء هارولد ماكميلان إلغاء البرنامج.
لكن، عاد «بلو ستريك» إلى الحياة في يناير 1961 عقب اجتماع بين ماكميلان والرئيس الفرنسي شارل ديجول. كان ديجول مغرما بالشراكات العابرة للقنال الإنجليزي؛ إذ كان سرعان ما سيصدق على التعاون البريطاني الفرنسي الذي كان سيتمخض عن بناء طائرة الكونكورد التي تفوق سرعتها سرعة الصوت. عقب ذلك الاجتماع، أدرك ديجول أن أوروبا تستطيع أن تصبح قوة ثالثة في مجال الفضاء. اتخذ السير بيتر ثورنيكروفت، وزير الطيران البريطاني، مبادرة إنشاء منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية (الإلدو)؛ بعدها بعام، انضمت جميع الدول الكبرى في أوروبا الغربية بهدف بناء صاروخ أوروبا ذي المراحل الثلاث، وتقرر أن يكون الصاروخ «بلو ستريك» البريطاني هو صاروخ المرحلة الأولى، بينما ساهمت فرنسا وألمانيا الغربية بصاروخي المرحلتين الثانية والثالثة على التوالي. كذلك، تولت إيطاليا بناء الأقمار الصناعية الأولى.
مركبة فضائية غير مأهولة: (أ) قمر «تيروس» للأرصاد الجوية، (ب) «لاندسات» للدراسات البيئي، (ج) منظر مقطعي لقمر الاتصالات «إنتلسات 4-بي»، (د) «إنتلسات 5» (دون ديكسون).
في تلك الأثناء، كان عالما الفيزياء، الإيطالي إدواردو أمالدي والفرنسي بيير أوجيه، بصدد اتخاذ مبادرة مشابهة في مجال علوم الفضاء. لعب كلاهما دورا فاعلا في تأسيس المركز الأوروبي للأبحاث النووية (سيرن) في عام 1954، وكانا يسعيان نحو تعاون مماثل في مجال الفضاء. حصلا على دعم كبير من نظير بريطاني لهما، وهو السير هاري ماسي، ثم في فبراير 1960، التقى ممثلون من ثماني دول بصفة غير رسمية في مسكن أوجيه في باريس ، واتفقوا على المضي قدما؛ تمخض ذلك في يونيو عام 1962 عن تأسيس المنظمة الأوروبية لأبحاث الفضاء (إسرو).
بنت المنظمة الأوروبية لأبحاث الفضاء مركزا لتطوير المركبات الفضائية بالقرب من أمستردام ومركز تحكم في دارمشتادت، فضلا عن منطقة صواريخ تجريبية في شمال السويد. لكن، تحملت هذه المنظمة أعباء أكثر من طاقتها الفعلية في مشروعيها الكبيرين الأولين، وهما قمر صناعي فلكي وبعثة إلى أحد المذنبات. تراجع إيقاع العمل في المشروعين خلال فترة الستينيات من القرن العشرين وسط حالة كبيرة من التذمر؛ لأن فرنسا حصلت على حصة غير متكافئة من العقود. انتهى المطاف بأن صار التليسكوب المداري في حاجة ماسة إلى مساعدة ناسا قبل انطلاقه أخيرا في عام 1978 باسم قمر «إكسبلورار» الدولي لدراسة الأشعة فوق البنفسجية. حقق مسبار المذنب نجاحا أقل في البداية. لم يتبلور فعليا حتى عام 1980، عندما ظهر في شكل بعثة جوتو إلى مذنب هالي.
تباطأت أيضا وتيرة العمل في منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية. كان برنامج «أوروبا» التابع لها يهدف إلى بناء صاروخ يمكنه إطلاق حمولة طن إلى مدار طوله 300 ميل، وهو ما كان سيمنحه قوة الصاروخ «ثور-أجينا». استغرق الصاروخ «ثور» عاما فقط للانتقال من مرحلة توقيع العقد إلى مرحلة أن صار صاروخا حقيقيا على منصة الإطلاق، ومنح مشروع «بلو ستريك» برنامج «أوروبا» ميزة مبكرة على منافسيه؛ لكن، لم يكن لبرنامج «أوروبا» شركة متعاقدة مناظرة لشركة «دوجلاس إيركرافت»، لها سلطة الإدارة الكاملة، بل كانت كل دولة مساهمة مسئولة عن جزئها الخاص. على الرغم من ذلك، انطلق «بلو ستريك» بنجاح في الاختبارات، وهو ما منح الناس أملا.
بناء على ذلك، في عام 1966 قررت هيئة تنسيق ممثلة في مؤتمر الفضاء الأوروبي تطوير «أوروبا» ليصير مركبة في وسعها نقل حمولة مائتي كيلوجرام إلى مدار جيوتزامني (أي، متزامن مع الأرض). كانت هذه الإمكانية لا تزال مقتصرة على صواريخ «ثور»، لكن الشيء الوحيد الذي انطلق إلى مدار فضائي كان الميزانية؛ إذ تخطت الميزانية القيمة التقديرية الأولية، وهي 70 مليون جنيه إسترليني، بنسبة 350 في المائة. بداية من عام 1968، أجرت منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية سبع محاولات إطلاق ناجحة، بيد أنها فشلت في إطلاق النماذج المبكرة والحديثة من «أوروبا». فرض صاروخ المرحلة الثالثة صعوبة من نوع خاص؛ حيث إنه تعرض لحوادث خلال محاولات الإطلاق الثلاث، وهي على التوالي: توقفه عن العمل قبل الوقت المحدد، وفشله في التشغيل، وتعرضه لانقطاع كهربائي. على غرار ما حدث مع الصاروخ «إن-1» لموسكو، صبت هذه الحوادث في مصلحة القادة السياسيين الذين كانوا يرغبون في بدء العمل من جديد. في مايو 1973، قرر مديرو منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية إلغاء المشروع.
كان ضعف منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية وعجزها يأتي على النقيض تماما من نجاح فرنسا، التي نفذت برنامجا وطنيا مستقلا؛ انطوى هذا البرنامج على ما هو أكثر مما كان ينشده ديجول من مجد؛ إذ قدم ميزات حقيقية، خاصة في مجال الاتصالات عن بعد. يتحدث المؤرخ والتر ماكدوجال عن صديق شاهد «أبولو 11» أثناء هبوطها على سطح القمر في عام 1969 مع أسرة من المزارعين في جنوب فرنسا. أعلن المذيع التليفزيوني أن الرئيس نيكسون كان على وشك التحدث إلى رواد الفضاء، ونادت سيدة بحماس على الأسرة لمشاهدة الحدث قائلة: «انظروا! سيجري اتصالا هاتفيا بالقمر، ولا نستطيع نحن أن نحصل حتى على خط تليفون للاتصال بباريس!»
كان ديجول، مثل نظرائه البريطانيين، لديه اهتمام قوي بامتلاك قوة ضاربة استراتيجية، وفي عام 1965 بنى أيضا أسلحة نووية وطائرات نفاثة متطورة وغواصات نووية. كذلك، في عام 1965 حمل الصاروخ «ديامو» (أي «الماس») ذو المراحل الثلاث قمرا صناعيا صغيرا إلى مدار فضائي، لتصبح فرنسا بذلك ثالث دولة تدخل عصر الفضاء بمساعدة صاروخ تعزيز من تطويرها. بلغت قوة دفع هذا الصاروخ 62 ألف رطل، وهي قوة متواضعة للغاية في حقيقة الأمر، وهو ما وضع «ديامو» في فئة واحدة مع «جوبيتر-سي»، بل إن الصاروخ «في-2» كان أيضا بنفس القدرة تقريبا. مع ذلك، أوضح «ديامو» أن فرنسا استطاعت أن تنجز ما كان بالنسبة إلى منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية مجرد أمل ترجو تحقيقه.
انطلق هذا الصاروخ من موقع في الصحراء الجزائرية، صدرت الأوامر إلى باريس بإخلائه بنهاية عام 1966. نقلت الحكومة اهتمامها إلى جويانا الفرنسية على الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية، التي لم تكن مستعمرة بل كانت «إدارة» تابعة قانونا إلى فرنسا نفسها؛ كانت معروفة أكثر بأنها موقع جزيرة الشيطان. هنا قضى ألفريد دريفوس، الذي أدين بتهمة الحنث باليمين، أربع سنوات قبل أن يتمكن مؤيدوه من إطلاق سراحه. كان السجناء الآخرون يعرجون عراة في أصفاد تقيد أرجلهم، أو يعيشون في زنزانات قديمة يبلغ اتساعها قدمين؛ كانوا يتعرضون أيضا إلى الحمى الصفراء، والملاريا، والحراس الساديين. كان أسوءهم على الإطلاق يعدم على المقصلة ويلقى إلى أسماك القرش.
أغلقت فرنسا السجون في عام 1946، وظلت الدولة بدائية على الرغم من ذلك في ظل الأدغال الكثيفة والرطوبة الخانقة، فضلا عن نمور الجاجوار والتماسيح وأسماك البيرانا. كان أحفاد العبيد يعيشون في الأحراش، يتحدثون لغة تتألف من 340 كلمة فقط، لكن الموقع كان مثاليا لعمليات الإطلاق الفضائي؛ لم تكن المنطقة تضم مساحات شاسعة من المياه المفتوحة إلى الشمال والشرق، لكن وقوعها على خط الاستواء وفر للصواريخ الميزة الكاملة لدوران الأرض، وهو ما كان يوفر سرعة دوران شرقا تصل إلى ما يربو على 1000 ميل في الساعة، بينما لا يزال صاروخ التعزيز منصوبا على منصة إطلاقه. جذب هذا «المركز الفضائي الجوياني»، بموقعه المتمركز في كورو، شمال العاصمة كاين، مجموعة متنوعة من العمال من البرازيل وجزيرة مارتينيك وجزر كاريبية أخرى وما يزيد على عشرات الدول الأخرى. بدأ المركز العمل بالصواريخ التجريبية في عام 1969، وبدأ في إطلاق ديامانت إلى مدار فضائي خلال عام 1970.
سرعان ما أوضح مشروع فرنسي ألماني مشترك لتطوير قمر صناعي للاتصالات، باسم «سيمفوني»، أن على أوروبا مضاعفة جهودها في هذا المجال. يرجع المشروع إلى عام 1967، كمبادرة مستقلة عن منظمة أبحاث الفضاء الأوروبية. كان مصممو الصاروخ يأملون في إطلاق القمر باستخدام صاروخ «أوروبا»، وعندما تأكدت استحالة ذلك، لجئوا إلى ناسا. لم تبد ناسا اعتراضا على ذلك، شريطة ألا يتنافس «سيمفوني» مع مركبة إنتلسات الفضائية. لم يكن مقررا أن يعمل الصاروخ على نطاق تجاري.
لم تكن أوروبا تملك خيارا آخر سوى القبول، على الرغم من أن هذا الأمر كان يثير الازدراء حقا من وجهة نظر الفرنسيين الأبيين. يتذكر فردريك دي ألست، أحد مسئولي الفضاء الرواد في فرنسا قائلا: «لم يكن من المفترض أن نظل نعتمد على أحد في خدمات الإطلاق؛ كانت المسألة مسألة سيادة بوضوح.»
مع وجود فرنسا في الصدارة، عقد القادة الأوربيون سلسلة من المؤتمرات العالية المستوى أفضت إلى إعادة هيكلة كاملة لبرنامج الفضاء بحلول عام 1975. اختفت منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية ومنظمة أبحاث الفضاء الأوروبية من الوجود، مفسحتين الطريق لوكالة الفضاء الأوروبية الجديدة ذات النفوذ الأكبر. بدأت منظمة أبحاث الفضاء الأوروبية بداية متواضعة - لكنها مهمة - في علم الفضاء؛ حيث طورت سبعة أقمار صناعية انطلقت إلى مدار فضائي على متن صواريخ تعزيز ناسا في الفترة بين عامي 1968 و1972، لكن وكالة الفضاء الأوروبية اتخذت قرارا حاسما بالاتجاه إلى التطبيقات.
كان لدى فرنسا مشروعها الخاص باسم «متيوسات»، وهو قمر صناعي للأحوال الجوية. تولت وكالة الفضاء الأوروبية المشروع وأضفت عليه طابعا أوروبيا. كذلك، ورثت الوكالة الجديدة مشروع اتصالات جديدا مهما؛ القمر الصناعي التجريبي المداري، في ظل وجود مهمتي متابعة في الأفق القريب، ألا وهما القمر الصناعي الأوروبي للاتصالات الجاهز للعمل، فضلا عن نموذج معدل للخدمة البحرية باسم «ماريكس». في عام 1978، بلغ القمر الصناعي التجريبي المداري مدارا فضائيا، مرة أخرى من خلال ناسا، وحمل قناة «سكاي»، وهي أول وصلة إرسال تليفزيوني أوروبي مدفوع الأجر.
بالإضافة إلى ذلك، قدمت وكالة الفضاء الأوروبية دعما قويا لجهود تطوير صاروخ تعزيز جديد ينهي اعتمادها على صواريخ الإطلاق الأمريكية ويجعل الأمريكيين يتنافسون معهم في الصفقة. لكن، ما كان المشاركون في المشروع هذه المرة لينأوا عن مبدأ التعددية الثقافية المقبول سياسيا في منظمة تطوير إطلاق الصواريخ الأوروبية. بدلا من ذلك، اتخذ الصاروخ الجديد صورة مشروع فرنسي باسم «آريان»، الذي كان يرفع العلم الفرنسي بألوانه الثلاثة حرفيا. كان صاروخا المرحلتين الأولى والثانية يعملان بوقود قابل للتخزين، وكان صاروخ المرحلة الثالثة مزودا بالهيدروجين والأكسجين؛ ومن ثم سعى «آريان» إلى تخطي صواريخ تعزيز «ثور» لمضاهاة قوة الرفع الخاصة بالصاروخ «أطلس-سينتاور»، حاملا طنا كاملا إلى مدار جيوتزامني.
اتضح أيضا من قرارات أوروبا أن وكالة الفضاء الأوروبية كانت تسعى إلى التعاون مع برنامج ناسا للمكوك الفضائي، وأنها ستنتظر حتى ينحسر نشاطه. في متابعة لتعهد في عام 1973 من قبل منظمة أبحاث الفضاء الأوروبية، صدقت وكالة الفضاء الأوروبية على مبادرة ألمانية باسم «سبيسلاب»، سيجري من خلالها إنشاء مركز بحوث مداري لوضعه في مخزن البضائع بالمكوك الفضائي. لم تكن مبادرة سبيسلاب مثل «سكايلاب»؛ فلم تكن محطة فضائية حرة التحليق؛ إذ كانت ستعتمد على المكوك الفضائي لتوفير الطاقة الكهربية ومعدات الطواقم. عكست المبادرة قدرا معينا من المقايضة الصعبة؛ فمن خلال التصديق على مشروع غرب ألمانيا «سبيسلاب» فضلا عن مشروع «ماريكس» البريطاني إلى حد كبير، ظفرت وكالة الفضاء الأوروبية بموافقة هاتين الدولتين (ألمانيا وبريطانيا) على مشروع «آريان» الفرنسي. بالإضافة إلى ذلك، كان مشروع «سبيسلاب» يمثل خدعة ماكرة ربما تستطيع أوروبا من خلالها استقلال المكوك الفضائي والاستفادة من فرصه، إذا كانت ثمة أي فرص، بينما تنأى بنفسها عن المشاركة في تكلفة تطويره الباهظة.
لكن وكالة الفضاء الأوروبية كانت مستعدة أيضا لتحدي المكوك الفضائي. كان مسئولو ناسا يتوقعون بطلاقة أن مركبة الإطلاق القابلة لإعادة الاستخدام هذه ستخدم جميع العملاء وستخفض تكلفة السفر إلى الفضاء؛ مما يجعل صواريخ التعزيز القابلة للاستخدام مرة واحدة مثل «ثور» و«أطلس» و«تايتان» صواريخ عفا عليها الزمن. لم تكن هذه الوكالة لتترك الأمر للمصادفة، عن طريق توفير سوق حرة تسمح لمستخدميها بالانتقاء بين مجموعة متنوعة من الصواريخ؛ بدلا من ذلك، بمجرد أن يصبح الصاروخ جاهزا للعمل ويسير الجدول الزمني للرحلات وفق السرعة المطلوبة، كان من المقرر أن تتوقف ناسا عن إنتاج الصواريخ القابلة للاستخدام مرة واحدة، وتنتقل كلية إلى المكوك الفضائي، واضعة بذلك كل البيض لديها في سلة واحدة. كان الالتزام نحو «آريان» بمنزلة توقع فشل هذه الاستراتيجية، وأن العالم سيظل بحاجة إلى الصواريخ القابلة للاستخدام مرة واحدة، وأن أوروبا عزمت على استخدامها حتى إن لم تكن ناسا ستستخدمها. عندما انطلق «آريان» للمرة الأولى بنجاح باهر، قبل أعياد الكريسماس مباشرة في عام 1979، أعلن رسميا أن أوروبا تمارس دورها في الفضاء على نحو جدي، وأنها على استعداد لمنافسة الأمريكيين على الأرض التي يختارونها.
صواريخ التعزيز القابلة للاستخدام مرة واحدة في عام 1980: الصواريخ «دلتا»، و«أطلس-سينتاور»، و«تايتان 3» الأمريكية؛ الصاروخ «آريان» الأوروبي؛ الصاروخ «مولنيا» السوفييتي (دان جوتييه).
على الرغم من ذلك، ظلت الولايات المتحدة الأمريكية بلا منافس في مجال مهم آخر، وهو استكشاف الكواكب. برز مختبر الدفع النفاث باعتباره المركز الرئيسي على مستوى العالم، بينما كان مديره ويليام بكرينج يؤدي دوره في قيادة المركز وإدارته. ولد بكرينج في قرية صيد صغيرة في نيوزلندا، حيث صار من الشخصيات المشهورة محليا من خلال صنع راديو بلوري يلتقط الموسيقى من أستراليا. التحق بالمدرسة الثانوية في العاصمة ولينجتون، ثم في عام 1929 دعاه عم ثري في لوس أنجلوس للقدوم إليها، حيث التحق بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. حصل على دكتوراه في الفيزياء في عام 1936، وكان ضمن دفعته جون بيرس ودين وولدريدج، وظل بها حتى صار أستاذا في الهندسة الكهربية. سرعان ما صار يقضي وقتا متزايدا في مختبر الدفع النفاث الناشئ، حيث أصبح رائدا في مجال القياس عن بعد. كان آخر صف درس له في الجامعة هو صف عام 1950، حيث تولى قيادة مختبر الدفع النفاث بعد ذلك بأربع سنوات.
كان المختبر الذي كان يرأسه آنذاك ينتمي رسميا إلى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، لكنه كان يشبه ترسانات الجيش مثل «ردستون» أو «بيكاتني»، وكان سبب وجوده يتمحور حول الصواريخ الحربية، متمثلة في الصاروخ «كوربورال» وصاروخ الوقود الصلب «سيرجنت» لاحقا، وهو ما كان جزءا من نمط كانت الجامعات الكبرى تفتخر بموجبه بأداء دورها في الحرب الباردة، كالحال عندما برهن كل من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة كاليفورنيا في بيركلي وجامعة شيكاجو على ريادتها في الحرب العالمية الثانية. لكن، عندما تولى بكرينج زمام الأمور في عام 1954، أقنع لي دوبريدج، رئيس معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، بالموافقة على أن يصبح الصاروخ «سيرجنت» آخر صاروخ عسكري كبير لمختبر الدفع النفاث. بدلا من ذلك، وجه بكرينج اهتمامه إلى نظم التوجيه، ثم إلى الفضاء.
اتضحت أولى فرصه المبكرة من خلال فيرنر فون براون، عندما طور مختبر الدفع النفاث نظام توجيه قصوري راديوي لصاروخه «جوبيتر» الباليستي المتوسط المدى. كان فون براون يبني أيضا الصاروخ «جوبيتر-سي» لإجراء اختبارات على المقدمات المخروطية. روج مختبر الدفع النفاث لصواريخ وقود صلب صغيرة في المراحل العليا، فضلا عن نظام تتبع وقياس عن بعد. ثم انطلقت «سبوتنيك» وحصل فون براون على تصريح لاستخدام «جوبيتر-سي» في إطلاق أقمار صناعية. بنى مختبر الدفع النفاث أول هذه الأقمار، «إكسبلورار 1»، فضلا عما تلاها من نماذج مبكرة، مع التوسع في شبكة التتبع. بعد ذلك، أصبح لمختبر الدفع النفاث دور كبير في الفضاء.
كان المختبر لا يزال غير معروف على نطاق كبير. عندما نشرت صحيفة «إجزامينر» في لوس أنجلوس خبرا بعنوان «القمر الصناعي لمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا يدور حول الأرض»، أشارت «نيوزويك» إلى أن «كاليفورنيا وجدت ملاكا محليا». كان من المقرر أن يقدم مختبر الدفع النفاث مزيدا من الإسهامات في ظل دعم فون براون. خصصت وكالة المشروعات البحثية المتقدمة التابعة للبنتاجون القمر لتليسكوب لاسلكي يبلغ ارتفاعه 85 قدما قرب جولدستون دراي ليك في صحراء موهافي، كنواة لشبكة الفضاء السحيق التي كان مقررا أن تتولى تتبع البعثات القمرية والكوكبية في البلاد. عندما حصل فون براون على تصريح لإطلاق مركبتي سبر صغيرتين إلى الفضاء بين الكواكب، تقدم مختبر الدفع النفاث مرة أخرى بصواريخ المراحل العليا، ونظم التتبع، والمركبات الفضائية نفسها. انطلقت ثانيتهم، «بايونير 4»، في مارس 1959، وصارت المركبة الأمريكية الأولى التي تخرج عن نطاق جاذبية الأرض وتدخل في مدار شمسي.
بحلول ذلك الوقت، كان مختبر الدفع النفاث قد خرج من عباءة الجيش ليصبح جزءا من ناسا. قاد بكرينج الجهود في سبيل وضع برنامج طموح للرحلات غير المأهولة إلى القمر، وعطارد، والمريخ؛ وهو ما كان يتفق مع رؤية كبار مديري ناسا أمثال كيث جلينان وآيب سلفرستاين، اللذين كانا قد بدآ في التخطيط بجدية لإرسال بعثات قمرية مأهولة خلال ذلك العام. في أواخر عام 1959، حصل مختبر الدفع النفاث على الموافقة على بناء «رينجر»، وهي سلسلة من المركبات الفضائية القمرية التي كانت ستنطلق على متن الصاروخ «أطلس-أجينا». كان من المقرر أن تحتوي هذه المركبات على ألواح شمسية وهوائي ذي طول موجي قصير متجه باستمرار صوب الأرض، على الرغم من إمكانية اعتماد مركبات السبر القمرية على البطاريات وهوائيات ذات طول موجي كبير؛ والسبب في ذلك أن هذه الخواص كانت أساسية بالنسبة إلى البعثات الكوكبية. ومن اللافت للنظر أن بكرينج كانت له نظرة استشرافية، ودائما ما كان يتطلع إلى الأمام.
لكن، كانت ثقافة المختبر لا تزال منصبة على كونه مركزا للصواريخ الحربية، وكان الفشل في الرحلات التجريبية أمرا مقبولا لأن جولات أخرى ستتوافر لإجراء عمليات إطلاق مستقبلية؛ ونتيجة لذلك، صارت مركبات «رينجر» بمنزلة التدريب الذي تعلم من خلاله مختبر الدفع النفاث كيفية بناء مركبات فضائية ناجحة. انطلقت المهمتان الأوليان خلال عام 1961 لكنهما لم تبرحا المدارات الأرضية المنخفضة؛ إذ لم تتمكن صواريخ المرحلة الثانية في «أجينا» من تشغيل محركاتها الرئيسية. كانت المسئولية تقع على عاتق «لوكهيد» والقوات الجوية، مصممي «أجينا»، بيد أن المشكلات التالية ألقيت بأكملها على أعتاب بكرينج.
انطلقت مركبة «رينجر 3» في يناير 1962. أجبر عطل في نظام التوجيه الرئيسي في «أطلس» طاقم المركبة على الانتقال إلى نظام بديل ذي مستوى دقة أقل، وهو ما كان يعني أن المركبة الفضائية ستصبح على مسافة 20 ألف ميل من القمر. مع ذلك، كانت لا تزال هناك فرصة لتجربة هذه المركبة في الفضاء السحيق، وحقق المراقبون الأرضيون نجاحا فعليا أثناء إجراء تصحيح في منتصف المسار. كانت هذه هي المرة الأولى التي كان أحدهم قد صحح مسارا قمريا بإطلاق صاروخ على متن المركبة. عندما حاول هؤلاء المراقبون ضبط مركبة السبر بحيث تشير إلى القمر وتنقل صورا تليفزيونية، تعطل الكمبيوتر الموجود على متنها؛ مما جعلها معدومة الفائدة.
كانت «رينجر 4»، في أبريل، مدعاة لمزيد من خيبة الأمل. في هذه المرة، انطلق الصاروخ «أطلس-أجينا» على نحو دقيق؛ وهو ما كان سيجعل «رينجر 4» تصل القمر دون إجراء تصحيح في منتصف المسار؛ بيد أن ساعة الكمبيوتر الرئيسية تعطلت؛ مما جعلها غير قادرة على تنفيذ سلسلة عمليات مؤقتة تضمنت نشر الألواح الشمسية والهوائي ذي الطول الموجي القصير الموجودين بالمركبة. لم تستطع المركبة أيضا قبول الأوامر الواردة من الأرض وتنفيذها؛ قال أحد مسئولي ناسا تأسفا: «كل ما نملك مركبة بلهاء ترسل إشارة لاسلكية.» بعدها بثلاثة أيام، بلغت المركبة الجانب المظلم من القمر بثبات تام. كانت أول مركبة أمريكية تبلغ فعليا القمر، بيد أنه في عام 1962 لم يكن هذا وحده كافيا.
أسفرت «رينجر 5»، في أكتوبر، عن النتيجة نفسها تقريبا؛ فبعد مرور ساعة على رحلتها، أدى عطل في الدائرة الكهربية إلى فصل المركبة عن مصدر الطاقة المتمثل في الألواح الشمسية، مخلفا بطارية صغيرة فقط على متنها. مع ذلك، حاول مديرو المشروع إجراء تصحيح في منتصف المسار، كاختبار هندسي. قبل أن تتمكن المركبة الفضائية من تنفيذ المناورات اللازمة، أدى عطل آخر في الدائرة الكهربية إلى القضاء على المركبة برمتها. كان من المقرر أن تلتقط المركبة بعض الصور الجيدة لسطح القمر؛ إذ مرت عبر القمر على مسافة لا تزيد عن 450 ميلا؛ بيد أنها في ذلك الوقت كانت قد توقفت تماما.
كان وقع هذه المحاولات الفاشلة شديدا على المختبر. كان طاقم بكرينج يتألف من مجموعة أشخاص مفرطي الحماس؛ على حد تعبير جيمس فان ألن: «لديهم «روح» رائعة؛ ومن ثم، كان الأمر شبه مهين بالنسبة إليهم. كان الأمر مثل جنود البحرية.» على وجه التحديد، أجروا تغييرات هائلة في مختبر الدفع النفاث، محولين إياه من مركز للصواريخ إلى مختبر مهمته تتمركز حول الإلكترونيات. شملت محاولات «رينجر» الفاشلة مجموعة الدوائر الكهربائية الكاملة على متن المركبة، وهو ما كان أمرا مقلقا للغاية. أصدرت لجنة فحص تقريرا لاذعا، مشيرة إلى أسلوب المختبر باعتباره أسلوب «أطلق ثم تمن».
استبدل بكرينج كبار مديري البرنامج وأصدر الأوامر بإيقاف نشاطه لمدة تجاوزت العام، وفي الوقت نفسه، منح صلاحيات إضافية إلى مدير المشروع الجديد، هاريس «باد» شورميير، والتزم التزاما هائلا بالاختبارات ومراقبة الجودة والاهتمام بالتفاصيل. أجريت على متن المركبة عملية إعادة تصميم كبرى، ركزت على البساطة والكفاءة. أخيرا، في يناير 1964، كان الجميع مستعدا مرة أخرى للمحاولة مجددا مع «رينجر 6».
مركبة «رينجر» الفضائية القمرية (دون ديكسون).
ساعد الصاروخ «أطلس-أجينا» الموجود على متن المركبة في إطلاقها في مسار جيد، ثم أجريت مناورة منتصف مسار جيدة وانطلقت المركبة نحو هدفها. قبل دقائق من ملامسة السطح، ازدادت حرارة الكاميرات التليفزيونية على متن المركبة، ثم جاءت الكلمات الصادمة لأحد المعلقين: «لا يوجد أي إشارة على صورة فيديو كامل.» أرسل المراقبون الأرضيون أوامر، لكن دون جدوى. تسبب تقوس كهربي كبير خلال عملية الإطلاق في إتلاف مصدر الطاقة العالي الفولتية؛ وعلى إثر ذلك، تحطمت المركبة قرب بحر السكون، وهي المرة السادسة التي تفشل فيها عملية الإطلاق ضمن محاولات كثيرة.
واجه المختبر صعوبات جمة من جراء ذلك؛ أمر روبرت سيمانز من ناسا بإجراء تحقيق عالي المستوى، انتقد مختبر الدفع النفاث و«رينجر» نقدا لاذعا. في كابيتول هيل، عقد عضو الكونجرس جوزيف كارث جلسة استماع. مرة أخرى، دفع البعض ثمن ذلك في بسادينا بخسارة وظائفهم، عندما استجاب بكرينج إلى الضغوط التي مورست عليه بتعيين نائب مدير جديد، ومنحه مسئولية الإشراف على الأنشطة الفنية والإدارية اليومية، مع منحه حرية التصرف. في نيو جيرسي، حيث كانت «آر سي إيه» تبني كاميرات تليفزيونية، وضع المديرون إجراءات مشددة للتعامل مع المشكلات، مع تخصيص عدد إضافي من الأشخاص لإتمام المهمة. كان ثمة فهم واضح بأن فشل الرحلة التالية قد يعني إلغاء البرنامج برمته، وهو ما كان ينطوي على عواقب وخيمة لمختبر الدفع النفاث.
لكن، أبلت «رينجر 7» بلاء حسنا لا تشوبه شائبة، ناقلة صورا على مدار رحلتها أثناء إجرائها هبوطا فجائيا على شكل بجعة في بحر السحب. قال المعلق: «ممتاز ... ممتاز ... إشارات حتى النهاية.» «هبوط!» مع الانتهاء المفاجئ لحالة التوتر التي كان عليها الجميع، تعالت الصيحات من جانب الصحفيين والموظفين على حد سواء، وبعضهم انخرط في البكاء. قال أحد كبار المديرين: «تملكني شعور قوي أعجزني عن الكلام، وذلك شعور لا يعتريني كثيرا. ولكن، بالنسبة إلى من عايشوا رينجر لفترة طويلة للغاية، كان للحدث بعد روحي.»
كانت هذه نقطة تحول لمختبر الدفع النفاث وبرنامج استكشاف القمر والكواكب على حد سواء. أشار المؤرخ كلايتون كوبس إلى أن «مشكلات المختبر لم تكن تكمن في التصميم بقدر ما كانت تكمن في إجراءات ضبط الدقة وضمان الجودة اللازمة للمركبة الفضائية، التي كان يجب أن تعمل على نحو مثالي تقريبا في كل مرة. كان الأساس يتعلق بالتفاصيل، والنظافة الكاملة، والاختبار الشامل، والمتابعة الصارمة لضمان تصحيح كل خطأ بدلا من قبوله والتسليم به جدلا. بعد «رينجر»، صار مختبر الدفع النفاث مؤسسة مختلفة».
2
تحقق هذا النجاح في يوليو 1964. انطلقت مركبتا «رينجر» أخريان في مستهل عام 1965، أرسلت أولاهما صورا إلى تليفزيون الشبكة مباشرة. رأى مشاهدو البلاد الصور التي أرسلتها المركبة للفوهة «ألفونسوس» في الصباح الباكر عبر التليفزيون، أعلى كلمات «مباشر من القمر». كان مختبر الدفع النفاث منهمكا بالفعل في مهمة أكثر صعوبة، وهي إجراء هبوط سلس على سطح القمر عن طريق التحكم الآلي بالكامل. كان المختبر قد تعاقد مع شركة «هيوز إيركرافت» لبناء «سرفيور»، المركبة المنوط بها تنفيذ تلك المهمة، بيد أن «هيوز» كانت قد واجهت مشكلات في عملية التطوير، التي كان المختبر على دراية كاملة بها. منح بكرينج شركته المتعاقدة كثيرا من الدعم، وأظهر أن الدروس المستفادة في مختبر الدفع النفاث يمكن نقلها إلى أعمال صناعية.
لم تستطع «سرفيور» أن تكون أول مركبة تهبط على سطح القمر بالتحكم الآلي الكامل. وصل السوفييت إلى هناك في فبراير 1966 من خلال مركبة «لونا 9»، التي أرسلت لقطات متلفزة للمناطق المحيطة بها على سطح القمر. جاءت على إثرها «سرفيور 1» في يونيو، وخلال العام ونصف العام التالي، حقق هذا البرنامج نجاحات في ست محاولات إضافية، منحت لقطاتها البانورامية للقمر رواد «أبولو» رؤية مسبقة لما يمكن أن يتوقعوا رؤيته.
بالإضافة إلى ذلك، بنى مختبر الدفع النفاث سلسلة من المركبات الفضائية باسم «مارينر»، كنماذج معدلة على غرار «رينجر»، انطلقت إلى الكواكب القريبة. لاقى كوكب عطارد، وهو هدف روسي منذ وقت مبكر يعود إلى عام 1961، اهتماما مشابها لدى بكرينج. على الرغم من عمليات الرصد الفلكي التي استمرت لقرون، لم يعرف العلماء شيئا تقريبا عن الكوكب؛ إذ كان ثمة غطاء من السحب الكثيفة التي لا تنقشع أبدا، تخفي سطحه وطبقة الجو السفلى فيه دوما. نظرا لأن هذا الكوكب يقع في مواجهة الشمس تماما، كان من المنطقي اعتباره عالما من درجات الحرارة الشديدة الارتفاع للغاية؛ لكن، حتى ذلك لم يكن مؤكدا. رأى بعض المتخصصين أن السحب الساطعة كانت تعكس كثيرا من ضوء الشمس حتى إن سطح الكوكب كان باردا في حقيقة الأمر. ذهبت توقعات أخرى إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ اقترح عالم الفلك فريد هويل أن الكوكب مغطى «بمحيطات من النفط. من المحتمل أن عطارد ينعم بما يتجاوز أحلام أثرى أثرياء أباطرة النفط في تكساس.»
خلال صيف عام 1962، أطلقت ناسا مركبتي سبر إلى ذلك الكوكب، أملا في أن إحداهما على الأقل قد تنجح في الهبوط على سطحه. مرت المركبة التي بلغت عطارد، وهي «مارينر 2»، على الكوكب في منتصف ديسمبر، لتكون بذلك أول رحلة ناجحة إلى كوكب آخر. لم تحمل المركبة أي كاميرات، بيد أن أجهزة قياس مستوى الإشعاع للأشعة تحت الحمراء والموجات المتناهية الصغر أتاحت لها وسيلة قياس درجات الحرارة في عطارد. تبين أن درجات الحرارة مرتفعة حقا، حيث بلغت درجة حرارة السطح 800 درجة فهرنهايت، وهي درجة حرارة مرتفعة للغاية بما يكفي لصهر الرصاص. بالإضافة إلى ذلك، كانت درجات الحرارة على سطح الكوكب بنفس هذا الارتفاع تقريبا أثناء الليل؛ مما يشير إلى أن الكوكب به غلاف جوي كثيف وسميك للغاية يمكنه الاحتفاظ بالحرارة ونقل قدر هائل منها.
باختراق «مارينر 2» لسحب عطارد، انتهت فترة التوقعات غير الأكيدة وغير الواضحة، حيث بدأ علماء الكواكب ينظرون إلى هذا الكوكب باعتباره عالما مر بأحوال سيئة في وقت مبكر جدا. كان في مثل حجم الأرض تقريبا، لكن كوكبنا كان به محيط من المياه، بينما كان عطارد يختنق تحت غلاف جوي من ثاني أكسيد الكربون في ظل ضغط جوي سطحي يزيد مئات المرات عن ضغط السطحي لكوكب الأرض. حض هذا الأمر العلماء على اعتقاد أن العالمين قد تشكلا في البداية كتوأم حقيقي، وهو ما كان يعني أن الأرض كانت تحتوي حتما على مكون مكمل من ثاني أكسيد الكربون مثلما في عطارد، بينما كان عطارد يمتلك مصدرا رئيسيا من المياه. مع ذلك، لم يكن من الصعب فهم كيف اتخذ كل من الكوكبين هذا المسار المختلف في تطوره.
توافر دليل مهم من الجيولوجيا الأرضية مباشرة. كان علماء الجيولوجيا يعلمون أن الأرض تحتوي على كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون، لا كغاز في الغلاف الجوي، بل في صورة صخور جيرية وكربونية. كانت التفاعلات الكيميائية، التي تحدث في المحيطات، قد استخلصت الغاز من الغلاف الجوي وأدت إلى تكون الصخور. مع ذلك، يمكن فهم عطارد من خلال افتراض أن الكوكب لم يصل قط إلى مستوى البرودة الذي من شأنه أن يؤدي إلى تكثف المياه الموجودة على سطحه. نظرا لغياب المحيطات، كان ثاني أكسيد الكربون يخترق الغلاف الجوي لكوكب عطارد دون قيود، وهو ما كان ينجم عنه ظاهرة الاحتباس الحراري، حيث يسمح لأشعة الشمس باختراق سطح عطارد مع احتجاز الحرارة عن السطح على النحو الذي تنتج عنه تلك المعدلات المفزعة في درجات الحرارة.
لكن ماذا حدث للماء؟ البخار الساخن نشط جدا كيميائيا؛ ومن ثم فمن الممكن أن يتفاعل مع أول أكسيد الكربون الموجود في الغلاف الجوي، ومع الصخور ذات الأسطح الساخنة، مؤكسدا كليهما. بالإضافة إلى ذلك ، من الممكن أن تقسم الأشعة فوق البنفسجية الصادرة عن الشمس جزيئات الماء، فتؤدي إلى إطلاق الأكسجين لمزيد من التفاعلات من هذا النوع، في حين يكون جزيء الهيدروجين جزيئات خفيفة الوزن تهرب إلى الفضاء، مخلفة عالما جافا من القحل والحرارة الخانقة.
ربما كانت الأرض ستفقد محيطاتها على نحو مشابه نوعا ما، بيد أن غلافها الجوي كان يحظى بخواص وقائية يفتقر إليها عطارد؛ إذ كانت الأرض تحتوي على طبقة ستراتوسفير باردة كانت بمنزلة حاجز يبقي بخار الماء في ارتفاعات منخفضة. بالإضافة إلى ذلك، ترجع نشأة الحياة إلى فترة مبكرة في تاريخ الأرض؛ مما أدى إلى غلاف جوي غني بالأكسجين، ومن هذا الأكسجين تشكلت طبقة الأوزون، الذي حال دون وصول معظم الأشعة فوق البنفسجية عن طريق امتصاصها. اعتمد مصير العالمين، عالم الأرض وعالم عطارد، على هذه الفروق الدقيقة.
كان المريخ عالما آخر؛ إذ كان النظر إليه عند أقرب موضع مثل النظر إلى كرة محيطها قدم واحدة على مسافة ميلين، ومع ذلك ربما كانت أفضل المناظير لترسم ملامح الكوكب على نحو مفصل، عارضة تضاريس صغيرة يبلغ محيطها نحو عشرين ميلا. تسببت حركات الغلاف الجوي للأرض، المسئولة عن تلألؤ النجوم، في فشل كل محاولات التصوير الفوتوغرافي؛ حيث أعطت صورا ضبابية. مع ذلك، كانت ثمة أوقات يلتقط علماء الفلك، بالنظر مليا عبر المكبرات، لحظات سكون نادرة للغلاف الجوي؛ مما كان يسمح لهم برؤية بعض هذه التفاصيل. بعد ذلك، كانوا يرسمون رسوما تخطيطية بسرعة، مدركين أن ظروف المشاهدة سرعان ما ستئول إلى الأسوأ؛ وبهذه الطريقة نجح العلماء في رسم خرائط كوكب المريخ.
أظهرت الخرائط مناطق خفيفة الألوان وأخرى داكنة الألوان تحمل أسماء غريبة وعجيبة كما لو أننا بصدد حلم: «تريفيوم تشارونتس»، «فاثونتس»، «إريدانيا». فماذا كانت تلك الأسماء؟ تضمنت الخرائط أيضا علامات خطية تظهر القنوات المشهورة، التي تحمل أسماء مثل «ديوترونيلس» (النيل المزدوج). هل كانت تمثل أي تضاريس جغرافية أم لم تكن سوى أشياء تراها العين والعقل اللذان يعملان في حدود الرؤية؟ ماذا كان «سوليس لاكوس» (بحيرة الشمس )؟ لماذا صار «سيرتس ميدجور» أكثر عتما على نحو لافت للنظر في عام 1954؟ هل كانت ثمة رمال في الجزيرة العربية أو ماء في نهر الفرات؟
في محاولة مبدئية للعثور على إجابات، أجرت مركبة «مارينر 4» التابعة لمختبر الدفع النفاث رحلة في يوليو 1965، مرت خلالها بالكوكب. كانت الرحلة تتطلب كامل العناية مثلما في «رينجر»، ولهذا السبب كان على متن المركبة نموذج مقياس ضوئي للأشعة فوق البنفسجية. كان المقياس الحقيقي عرضة للتقوس الكهربي من جراء فرق الجهد المرتفع؛ ومن ثم تعين تركه على الأرض، ومع ذلك لم يستطع مصممو «مارينر» فصل الجهاز ببساطة، وبدلا من ذلك ركبوا نموذجا مماثلا بنفس الوزن، وصقلوه لمنح درجة الانعكاس نفسها، وأعدوه بحيث يستخدم التيار الكهربي نفسه.
جاءت الصور التي التقطت خلال تلك البعثة كمفاجأة غير سارة بالنسبة إلى أولئك الذين كانوا يأملون في وجود حياة على سطح المريخ. أظهرت الصور وجود فوهات وسط مسطحات تشبه تماما المسطحات الموجودة على سطح القمر، وتبين أن الغلاف الجوي في المريخ رقيق، وأن الضغط أقل من واحد في المائة من الضغط السطحي للأرض. ترسخت هذه النظرة عن المريخ في عام 1969، مع إطلاق الصاروخ «أطلس-سينتاور» المركبتين «مارينر 6» و«مارينر 7»، وهما مركبتا متابعة. صورت المركبتان الكوكب عن بعد، وأرسلتا صورا غاية في الوضوح لم تستطع حتى التليسكوبات الأرضية الحصول عليها، ثم اقتربتا للحصول على لقطات أقرب، وأظهرت هذه اللقطات مزيدا من الفوهات.
لكن، ما رصدته هذه المركبات الفضائية الثلاث معا لم يكن سوى جزء صغير من السطح. أرسل مختبر الدفع النفاث، في خضم سعيه لإجراء مسح كامل، المركبة «مارينر 9» إلى المريخ في عام 1971 وزودها بصاروخ ارتكاسي كابح بحيث يمكنها الانطلاق في مدار. أمل مخططو البعثة في تتبع تغير موسمي؛ إذ عندما كان يحل الربيع على خطوط العرض الجنوبية، يبدأ الغطاء القطبي الجنوبي في الانكماش وتزحف موجة من الظلام شمالا، بسرعة عشرين ميلا في اليوم الواحد؛ إلا أن المريخ كان يتعرض أيضا لعواصف ترابية موسمية شديدة، وعندما وصلت «مارينر 9» في شهر نوفمبر ذاك، كان الكوكب محجوبا في الغمام من أقصى قطبيه إلى أدناهما. كانت هذه العاصفة التي اجتاحت المريخ هي أسوأ ما شهده رواد الفضاء على مدى قرن من رصد الكوكب؛ كانت العاصفة شديدة وعاتية عند مستوى سطح الأرض، وتلقت مركبة سبر سوفييتية أسوأ آثارها. أملا في التفوق على الأمريكيين، أرسلت موسكو مركبة فضائية للهبوط على سطح المريخ، غير أن المركبة أرسلت إشارات لمدة عشرين ثانية فقط قبل أن توقفها الرياح العاتية والغبار العاصف.
لكن، مع انقشاع الغبار تراءى عالم جديد ورائع. على الرغم من أن قطر المريخ يعادل نصف قطر الأرض أو عطارد، ظهرت براكين وأودية على سطح المريخ أكبر بكثير من البراكين والأودية الموجودة على الأرض، وظهر أيضا صدع «وادي مارينر» السحيق، الذي كان يزيد عمقه عن عمق جراند كانيون (أي الأخدود العظيم) بمقدار أربع أو خمس مرات، ويزيد عرضه بمقدار ثماني مرات، وكان الصدع طويلا بما يكفي لتغطية مساحة الولايات المتحدة بالكامل. كما كشفت الصور عن وجود قمة أوليمبوس البركانية، التي كانت ضخمة بما يكفي لأن يرصدها رواد الفضاء من الأرض؛ هذه القمة كانت محاطة بمنحدرات صخرية طويلة، وبلغ عرضها 375 ميلا، وهو عرض يكفي لأن تمتد لتشمل المساحة من لوس أنجلوس إلى سان فرانسيسكو. بلغ ارتفاع القمة 86500 قدم، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف ارتفاع مونا كيا، أعلى جبل على الأرض. كان ثمة بركان منخفض، وهو بركان ألبا باتيرا، يمتد لمسافة ألف ميل، في حين كانت الحمم البراكنية (اللافا) في بعض المواضع تتدفق لمسافة 400 ميل، وهي المسافة من نيويورك إلى كليفلاند.
ما هي القوى الهائلة التي أفضت إلى هذه الأبعاد الضخمة؟ أثارت سهولة حركة الحمم البركانية (اللافا) في المريخ قليلا من الدهشة بين الجيولوجيين؛ إذ كانوا على علم بتدفقات أظهرت سيولة مماثلة. أما الأودية والبراكين، فكانتا مسألة أخرى، وقدمت الصور الفوتوغرافية دليلا على ذلك؛ لم يتعرض المريخ لتكون صفائح تكتونية. كانت قشرة الأرض عبارة عن مجموعة من الصفائح الكبرى، التي كانت تعلو كتلا صخرية متحركة في الغشاء الداخلي، بيد أن قشرة المريخ كانت في صورة كتلة متصلة وحيدة. ربما حاولت الحركات التكتونية كسرها، ربما كان «وادي مارينر» يمثل محاولة غير ناجحة لشق القشرة إلى صفيحتين؛ لكن، مع تماسك القشرة جيدا وثباتها، تمكنت براكين مثل أوليمبوس أن تتدفق إلى ارتفاعات شاهقة فعلا.
كانت هذه البراكين تستمد الحمم البركانية المنصهرة (الماجما) من مصادر عميقة لم تكن تتغير في مواضعها. سمحت القشرة غير المتحركة بتراكم الحمم البركانية المنصهرة (الماجما)، ولم يؤد ذلك إلى تكون أوليمبوس فحسب، وإنما أيضا أرسيا مونس المساوي له في الارتفاع؛ ومن قمة أيهما، كان يمكن للمرء أن يرى بوضوح انحناء الكوكب. كانت براكين هاواي مماثلة لذلك؛ فقد تحرك قاع المحيط الهادئ، نظرا للصفائح التكتونية، مارا بمصدر الماجما؛ ومن ثم أدى هذا المصدر إلى تكوين سلسلة من الجبال البحرية خلال مائة مليون سنة بدلا من جبل عظيم واحد.
بحلول عام 1971، كان برنامج استكشاف الكواكب قد تجاوز ما استطاع مختبر الدفع النفاث التعامل معه بمفرده. في ذلك الوقت، كان مركز لانجلي للبحوث التابع لناسا منهمكا في البرنامج، وكانت الشركة المتعاقدة، «مارتن ماريتا»، تبني مركبة «فايكنج» الفضائية، التي كانت ستهبط على سطح المريخ. تضمن البرنامج مركبات مدارية أيضا، مجهزة بكاميرات أفضل من تلك الموجودة في «مارينر 9». عندما وصلت مركبتا «فايكنج» المداريتين إلى المريخ في منتصف عام 1976، اكتشفتا دليلا على وجود مياه.
ظهر في إحدى صور «مارينر 9» قاع نهر جاف طوله 350 ميلا، وهو نهر ملتو وله روافد؛ وهكذا، أثبتت «فايكنج» أن الماء كان يتدفق على نطاق واسع في فترة من الفترات، مكونا فياضات سريعة الجريان. في بعض المواضع، كانت هذه المجاري الواسعة والضحلة تصادف فوهة كبيرة وتتدفق حولها، مشكلة جزرا صغيرة أكبر من مانهاتن. جف معظم الماء منذ فترة طويلة، مخلفا عالما جافا يحتوي على ثاني أكسيد كربون مجمد في الأطراف القطبية. مع ذلك، كان المريخ في فترة ازدهاره يشبه الأرض على نحو فاق ما توقعه الآخرون.
لم يكن ثمة مشاهدون أمام شاشات التليفزيون يشاهدون اللحظة التي حطت فيها مركبة «فايكنج» على السطح، في الصباح الباكر يوم 20 يوليو؛ كان على المرء أن يكون موجودا في أحد مراكز ناسا، ربما في مختبر الدفع النفاث نفسه، كما أن المركبة لم تبث صورها بسرعة وبأكملها. بدلا من ذلك، كان المرء يرصد ما يحدث بينما يتولى ماسح ضوئي إضافة كل صورة على هيئة مجموعة من الخطوط الرأسية، من اليسار إلى اليمين . في غضون دقائق من حدوث الهبوط وملامسة المركبة للسطح، كانت «فايكنج» جاهزة لعرض أول صورة لها، ومع تبلور الصورة ووضوحها، كشفت عن مشهد رملي تنتشر الصخور على سطحه في أنحاء متفرقة، أرض صحراوية متسعة ومنبسطة ذات كثبان. كان الأفق يظهر على مسافة ميلين فقط. وردت الصور الملونة بعد ذلك، حيث أظهرت مشهدا مريخيا ذا لون بني داكن مائل إلى الصفرة، وكانت السماء ذات لون أحمر وردي، من جراء الغبار العالق. أظهرت صور لاحقة غروب الشمس في المريخ، حيث كانت الصخور تصطبغ بلون قرمزي في ضوء الوهج الآفل.
بحثت مركبتا الهبوط أيضا عن أي أثر على وجود حياة باستخدام مختبرات كيميائية آلية؛ حيث عرضت عينات من التربة إلى الرطوبة وأضافت أسمدة. أسفرت تجربتان عن نتائج أشارت إلى وجود مواد كيميائية نشطة في التربة، بيد أنها كانت نتائج يصعب ربطها بوجود حياة. سعى اختبار ثالث، وهو اختبار التحلل الحراري، إلى معرفة ما إذا كانت ثمة ميكروبات ستنمو استجابة إلى الأسمدة، فأسفر الاختبار عن علامة مثيرة على وجود حياة؛ إذ أشارت النتائج إلى احتمال تطور ما يصل إلى بضع مئات من الخلايا الحية. بحثت تجربة رابعة، وهي تجربة استخدم فيها جهاز كروموتوغرافيا الغاز (أو الاستشراب الغازي) المتصلة بمطياف الكتلة، عن مركبات عضوية موجودة سلفا من خلال الأسلوب البسيط المتمثل في تسخين التربة بشدة والبحث عن الآثار الكيميائية لتلك المركبات. كان الجهاز حساسا بما يكفي للكشف عن مركبات عضوية عند مستوى جزء في المليار، وهو تركيز أقل بمقدار ألف مرة عن تركيز تلك المركبات في التربة الصحراوية في الأرض؛ لكن لم يسفر هذا الجهاز عن شيء.
هل كانت ثمة حياة على المريخ ؟ أشار نورمان هورويتز، رئيس قسم الأحياء في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، إلى أن «جهاز التحلل الحراري قد صمم بدقة بالغة بحيث يتخلص من المصادر غير البيولوجية للمركبات العضوية». وجدير بالذكر أن نتائج الجهاز، التي جاءت متوافقة مع فكرة وجود حياة على سطح المريخ، تتعلق بمستويات أقل من تلك التي استطاع جهاز كروموتوغرافيا الغاز المتصلة بمطياف الكتلة اكتشافها. مع ذلك، كان ثمة رأي سائد بين العلماء القائمين على المشروع، وهو أن جهاز كروموتوغرافيا الغاز المتصلة بمطياف الكتلة هو الجهاز الجدير بالثقة. عندما علم جيرالد سوفن - كبير العلماء - بنتائج الجهاز، قال: «تلك نهاية القصة. لا وجود للمركبات العضوية على سطح المريخ، لا وجود للحياة على سطح المريخ.» (كان من المعروف أن عددا صغيرا من الصخور قد سقط من المريخ إلى الأرض في صورة نيازك، وأشارت دراسات أجريت على إحدى هذه الصخور، ونشرت في مجلة «ساينس» في أغسطس 1996، إلى وجود حفريات مجهرية ربما كانت قد نشأت عن ميكروبات، عندما كان المريخ لا يزال كوكبا ناشئا. مع ذلك، لا تزال النتائج المنشورة ملتبسة وغامضة. تشير مجلة «ساينس» إلى تلك النتائج باعتبارها «دليلا - لا برهانا - على وجود حياة قديمة على سطح المريخ. استمال هذا الرأي العلماء وأثار شكوكهم، بيد أن أحدا لم يقتنع به تمام الاقتناع».)
لم يكن هناك بالتأكيد ما يدعم الآمال المبكرة، التي كانت قد أثارت قدرا كبيرا من الجدل السريع المتزايد لتفسير الآثار الداكنة في المريخ، بما فيها الآثار الداكنة في «سيرتس» في عام 1954. بدلا من ذلك، اتضح أن تلك الآثار لم تكن فيما يبدو تعزى إلى ما هو أكثر من الغبار المثار بفعل الرياح. في حقيقة الأمر، نظرا لأن الرياح تنشر المركبات العضوية على نطاق واسع، ونظرا لأن هذه المركبات العضوية توجد في النيازك وتتحمل آثار اصطدامها بالسطح، بدا أن الأشعة فوق البنفسجية للشمس أتلفت هذه المركبات العضوية عند وصولها؛ إذن فالأمر لم يكن يقتصر على عدم وجود مركبات عضوية على المريخ فحسب، وإنما أيضا على عدم سماح الكوكب بوجودها على الإطلاق .
بينما كان مركز لانجلي التابع لناسا يمضي قدما في «فايكنج»، كان مختبر الدفع النفاث يبحث عن عوالم جديدة يستكشفها، وكان قد اكتشف وسيلة جديدة لبلوغ تلك العوالم. في تلك الأثناء، كانت ناسا تستخدم أقوى صاروخ في البلاد، وهو الصاروخ «تايتان 3-سينتاور». استخدم هذا الصاروخ في إطلاق «فايكنج»، وكان يتسم بقوة دفع تتيح له بلوغ كوكب المشتري فضلا عن الكواكب الخارجية الأبعد من ذلك، لكن كان من المتوقع أن تستغرق هذه البعثات وقتا طويلا: ستة عشر عاما إلى أورانوس، وثلاثين عاما إلى نبتون. على حد تعبير هومر ستيوارت، رئيس مكتب التخطيط المتطور في مختبر الدفع النفاث: «يبدو أن إدارة المشكلات المتعلقة بتنظيم وتنفيذ مهمة مباشرة تستغرق ثلاثين عاما إلى نبتون (التي كانت مصدرا لكثير من الملل من جانب المشاركين) جسيمة بما يكفي لردع أكثر المستكشفين إصرارا وعزما عن مواصلة الطريق.»
استند الأسلوب الجديد إلى حقيقة أنه عندما تنطلق مركبة فضائية مارة بأحد الكواكب، فقد تؤدي جاذبية الكوكب - بالإضافة إلى حركته حول الشمس - إلى انحراف المركبة عن مسارها ومنحها مزيدا من الطاقة. عندما انطلقت «مارينر 4» مارة بالمريخ، على سبيل المثال، فاقت سرعتها ثلاثة آلاف قدم في الثانية، كان من الممكن أن تزيد السرعة لأكثر من ذلك في حالة كوكب المشتري؛ لأنه أكبر الكواكب، وكان من شأن ذلك أن يؤدي إلى التعزيز بصاروخ مرحلة إضافي، مجانا تماما، وتقليل زمن الرحلة إلى نبتون إلى ثمانية أعوام.
كان ثمة المزيد من النتائج؛ عندما أجرى المحلل جاري فلاندرو بمختبر الدفع النفاث دراسات على هذه البعثات باستخدام الصاروخ «جوبيتر»، وجد أن الكواكب الأبعد كانت على وشك الانتظام في اصطفاف نادر؛ ومن ثم، كان يمكن لمركبة فضائية واحدة أن تمر بجميع الكواكب الكبرى - المشتري وزحل وأورانوس ونبتون - خلال تسعة أعوام فقط! كان كل التقاء كوكبي يضيف طاقة؛ مما يؤدي إلى زيادة سرعة المركبة الفضائية وصولا إلى الكوكب التالي. بالإضافة إلى ذلك، كانت تواريخ الإطلاق - التي تقع في غضون بضع سنوات مستقبلا - ملائمة تماما. كانت بعيدة بما يكفي للسماح بالتخطيط والإعداد المتأنيين، وقريبة بما يكفي لجعلها جديرة بالتنفيذ. كان المنجمون قد أشاروا قبل زمن طويل إلى أن الاصطفافات الكوكبية تتحكم في أحوال الأفراد، وهذا الاصطفاف من شأنه أن يؤثر بالتأكيد على مستقبل مختبر الدفع النفاث. كانت الفرصة جيدة جدا بما يحول دون تفويتها.
بدأت بحوث فلاندرو في عام 1965، ثم تبعتها دراسات أخرى، وفي ظل رغبة بكرينج المعهودة في التوسع، اقترح بكرينج مشروع بناء أسطول مركبات، مركبتان منهما تأخذان مسار المشتري - زحل - بلوتو، وتأخذ مركبتان أخريان مسار المشتري - أورانوس - نبتون. لكن، بينما كانت التقديرات المتعلقة بحركة الكواكب ملائمة، لم تكن التوقعات المتعلقة بالميزانية كذلك؛ فقد اقترحت هذه الخطة التي كانت تتكلف 750 مليون دولار أمريكي في الوقت الذي كانت ناسا تواجه أزمة الاستقطاعات في الاعتمادات في حقبة ما بعد «أبولو». كان على بكرينج الاستقرار على مركبتين بدلا من أربع، وألا يمضي لأبعد من زحل. اتخذ البرنامج الجديد اسم «فوياجر».
على الرغم من ذلك، تقدمت ناسا بمشروعين داعمين؛ كان أحدهما قد انبثق عن شراكة محدودة بين مركز إيمز للأبحاث التابع لناسا، وشركة «تي آر دبليو» التي كانت قد واصلت بعثات «بايونير» في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين. استكشفت المركبات من «بايونير 6» إلى «بايونير 9» فضاء ما بين الكواكب، بينما بلغت مركبتا «بايونير 10» و«بايونير 11» المشتري، وبالإضافة إلى ذلك، تولت «بايونير 11» مهمة توظيف أسلوب الجاذبية المساعدة للانطلاق إلى زحل. كانت البعثات، التي انطلقت في عامي 1972 و1973، بمنزلة رحلات استكشافية. كان المشتري على وجه الخصوص يتميز بمجال مغناطيسي قوي، يحتجز طبقة من الإشعاع القوي تستطيع تدمير معدات المركبة، وكانت حلقات كوكب زحل تحتوي على أعداد هائلة من الأجسام الصلبة الصغيرة التي كان من الممكن أن تتسبب في تدمير أي مركبة سبر تقترب أكثر مما ينبغي.
بالنسبة إلى كل من «بايونير 11» ومركبات «فوياجر» الفضائية، كان من المفترض أن يستتبع الاستخدام الناجح للجاذبية المساعدة بدوره توجيها دقيقا عند الالتقاء بكوكب المشتري؛ حيث كان من المنتظر أن يصبح هذا الكوكب بمنزلة مقلاع، يطلق المركبة الفضائية قدما في اتجاه كوكب زحل بدقة عالية. لاختبار هذه الفرضية، أجرى مختبر الدفع النفاث تجربة عملية باستخدام مركبة منفصلة، وهي «مارينر 10»؛ استعانت المركبة بكوكب فينوس للاندفاع باتجاه كوكب عطارد. في حقيقة الأمر، كان مدارها بعد فينوس يسمح لها بالانطلاق مرورا بعطارد ثلاث مرات، بينما كانت الكاميرات والمعدات الأخرى تعمل.
كانت التفاصيل التي ظهرت في تليسكوبات علماء الفلك بشأن عطارد، وهو الكوكب الأقرب إلى الشمس، أقل مما ظهرت بشأن المريخ. التقطت «مارينر 10» صورا لمعظم أجزاء عطارد بمستوى عال من الدقة، كاشفة عن عالم مليء بالفوهات على نحو أشبه كثيرا بالقمر، وقدمت الصور أيضا دليلا على آثار الاصطدام العنيفة للغاية التي شكلت تضاريسه؛ أسفر أحد تلك الاصطدامات عن تشكيل حوض عظيم باسم «كالوريس». على الجانب الآخر من عطارد، على الجهة المقابلة لكالوريس، كانت ثمة قطعة لافتة للنظر من الأراضي المنبعجة؛ أشار دونالد جولت، أحد علماء ناسا، إلى أن الاصطدام قد أسفر عن موجات زلزالية شديدة التقت عند هذه الوجهة المقابلة، محدثة هذا الانبعاج في صورة زلزال هز الكوكب بأسره.
مع اقتراب موعد إطلاق «فوياجر»، أرجئت العملية مؤقتا. كان من المقرر في حقيقة الأمر أن تنطلق المركبة الفضائية الأولى إلى المشتري وزحل فقط، لكن مسئولي ناسا قرروا أن المركبة الثانية ربما تنطلق إلى أورانوس ونبتون مرورا بزحل؛ وعليه، فقد اعتلت هاتان المركبتان صاروخيهما طراز «تايتان 3-سينتاور»، في شهري أغسطس وسبتمبر من عام 1977؛ حيث انطلقتا في مهمتين طموحتين وربما مثمرتين كما لم يشهد أحدنا في حياته. ساعدتهما سرعة انطلاقهما العالية في المرور بمدار القمر في أقل من اثنتي عشرة ساعة، حيث قطعتا مسافة كانت تستغرق أياما من منظور رواد «أبولو». وبينما عبرت المركبتان المسافة الأكبر بكثير، التي تبلغ نصف مليار ميل بما يساوي المسافة إلى كوكب المشتري، مضى ثلاثة علماء من كاليفورنيا - هم: ستان بيل، وبات كاسن، وراي رينولدز - قدما في استعداداتهم.
المركبة «فوياجر»: ذراع طويل إلى اليسار يحمل مقياس مغناطيسية. يوجد مصدر الطاقة في الركن الأيسر السفلي، في حين توجد المعدات في الركن الأيمن العلوي (دون ديكسون).
تضمن عملهم دراسات رياضية لنظام المشتري وأقماره الرئيسية، التي كانت تمثل صورة مصغرة من النظام الشمسي في حد ذاته. كان القمر «كاليستو» - وهو الأبعد من كوكب المشتري - في مثل حجم عطارد، بينما كان القمر «جانيميد» أكبر حجما، وكلاهما كان يؤثر على حركة الآخر. كان زمن الدورة المدارية للقمر «أوروبا» يقترب من ضعف زمن الدورة المدارية للقمر الأقرب، بينما كان زمن الدورة المدارية للقمر «جانيميد» يعادل ضعف زمن الدورة المدارية للقمر «أوروبا». بالإضافة إلى ذلك، عمل القمر «أيو» - وهو القمر الأقرب - بمنزلة مولد كهربائي عند دورانه ضمن المجال المغناطيسي للمشتري، ولد تيارا كهربيا مر عبر الفضاء وصولا إلى هذا الكوكب، بلغت شدة التيار ثلاثة ملايين أمبير وبلغت قدرته ملياري كيلو وات. كان هؤلاء العلماء يتوقعون أكثر من ذلك.
يدور القمر «أيو» بالقرب من المشتري مثلما يدور قمرنا حول الأرض، وتزيد كتلة المشتري عن كتلة الأرض بمقدار ثلاثمائة مرة؛ ومن ثم، فإن آثار الجاذبية الشديدة للمشتري هائلة بالفعل. تؤدي جاذبية القمر إلى حدوث ظاهرة المد والجزر في محيطاتنا، بينما تؤدي جاذبية المشتري إلى موجات من المد والجزر في جسم «أيو» نفسه؛ مما يؤدي إلى انبعاجه بما هو أقرب إلى شكل كرة القدم. رأى بيل وكاسن ورينولدز أن تأثير أوروبا مجتمعا مع موجات المد والجزر الخاصة بالمشتري سيؤدي إلى انبعاج «أيو» وانثنائه مثل كرة مطاطية يعتصرها المرء في يديه.
كان «أيو» أكبر قليلا من القمر، وإذا ترك لحاله دون ممارسة أي تأثيرات خارجية عليه، فمن المفترض أن يكون ميتا جيولوجيا، بسطح مليء بالفوهات. لكن، هذا الانبعاج ولد حرارة، واقترح الباحثون أن «أيو» ربما انصهر بالكامل، فيما عدا طبقة صلبة رفيعة. كتب الباحثون: «ربما كان «أيو» أشد الأجسام الأرضية حرارة في النظام الشمسي.» وأضافوا أنه «ربما تحدث به أنشطة بركانية سطحية ومتكررة ومنتشرة». نشرت ورقتهم البحثية في مجلة «ساينس» تحت عنوان «انصهار القمر الأقرب بفعل انحسار موجات المد والجزر»، في يناير 1979. نشر رئيس تحرير المجلة، فيليب آبلسن، الورقة البحثية في عدد 2 مارس، بينما كانت «فوياجر 1» على وشك الانطلاق مرورا بالمشتري بعدها بثلاثة أيام فقط.
كانت هذه المركبة الفضائية تلتقط الصور الفوتوغرافية على مسافات بعيدة لمدة أسابيع، ومع اقتراب لحظة الالتقاء، زيدت عملية التقاط الصور على نحو هائل. أشار برادفورد سميث، الذي كان يرأس مجموعة من علماء التصوير، إلى هذه الفترات قائلا: «الأمر قد يبدو غير مهني ، بيد أن كثيرا من الأشخاص كانوا يقفون في منطقة فريق التصوير بأفواه فاغرة يشاهدون الصور وهي تتوالى.»
كان العاملون مهتمين على نحو خاص بالبقعة الحمراء الكبرى، وهي عاصفة في الغلاف الجوي للمشتري تهب منذ ما يزيد على ثلاثمائة عام، ويمكنها ابتلاع الأرض بسهولة. تضمنت الصور الملونة القريبة أشكالا بيضاوية لعواصف أصغر، إحداها بيضاء مرقطة، والأخرى بلون أزرق فاتح. كان يدور حولها مجال هائل من الدوامات والحلقات بالألوان الأحمر والأبيض والقرمزي والبرتقالي والبني الفاتح والرمادي. كانت المشاهد الملتقطة تشبه الفن التجريدي، وقال أحدهم: «هل أنتم متأكدون أن فان جوخ لم يرسم ذلك؟»
أظهر «أيو»، الذي لم يكن يظهر في أفضل التليسكوبات كأكثر من بقعة ضوء، ألوانا زاهية عن قرب، ومع تزايد وضوح الصور، قال أحدهم: «كنت أعلم أنها ستكون مختلفة عما رأيناه عن قرب. لكن، كي يتوقع المرء شيئا كهذا، فالأمر كان يتطلب منظورا سماويا. هذا غير معقول!» ظهر «أيو» زاهيا باللونين الأحمر والبرتقالي؛ بالنسبة إلى براد سميث، بدا مثل البيتزا. في واقع الأمر، كان لونه الحقيقي زيتونيا شاحبا. كانت درجات الألوان الزاهية تعزى إلى قلة التوازن اللوني في الصور المعالجة الأولى، مثلما يبدو وجه باللون الأخضر على شاشة التليفزيون. مع ذلك، بدا الباباروني في هذه البيتزا حقيقيا بما يكفي، وكان هذا عبارة عن براكين.
بعد ثلاثة أيام من الالتقاء، رصدت ليندا مورابيتو، مهندسة في مختبر الدفع النفاث، أول انفجار بركاني. كانت تفحص لقطة لقمر «أيو» في طور الهلال، يظهر فيها جانبه الليلي، ولاحظت عمودا هائلا من الدخان يظهر ظله على صفحة السماء السوداء، وقرب المنحنى الداخلي للهلال، توهج بشدة عمود دخان آخر أثناء ارتفاعه من الشفق والتحامه مع الشمس الساطعة. اتضح أن «أيو» يحتوي على ثمانية براكين نشطة على الأقل، معظمها استمرت ثورته بقوة لمدة أربعة أشهر لاحقة عندما حلقت «فوياجر 2» مارة بالكوكب لإلقاء نظرة أخرى. في الواقع، كان «أيو» هو أكثر الأجرام الموجودة في النظام الشمسي من حيث نشاطه الجيولوجي، بل إنه يفوق الأرض في نشاطه الجيولوجي، وتوجد لدى مختبر الدفع النفاث الصور التي تثبت ذلك. عند أقرب نقطة التقاء، لم يعد «أيو» يبدو مثل قرص؛ حيث ملأت أجزاء من سطحه مجال الرؤية بالكامل. بلغت دقة أفضل الصور بضع مئات من الياردات. أظهرت بعض الصور تدفقات حديثة للكبريت الأصفر، في حين أظهرت صور أخرى البراكين نفسها، بما في ذلك بيليه، وهو أكبرها على الإطلاق. ظهر البركان على هيئة حدوة حصان على سطح «أيو»، وبلغ طوله ستمائة ميل، وبلغ ارتفاع عمود الحمم البركانية التي أطلقها 175 ميلا تقريبا؛ لم يكن ثمة أي كوكب آخر يضاهيه في هذا الشأن.
خلال عام 1979 نفسه عندما اقتربت مركبتا «فوياجر» الفضائيتان من المشتري، بلغ «بايونير 11» كوكب زحل وانطلق بأمان مارا بالكوكب. اتبعت مركبتا «فوياجر» نفس المسار الذي حلقت فيه مركبة «بايونير 11»، حيث بلغتا هذا الكوكب في نوفمبر 1980 وفي أغسطس 1981. هنا ظهرت حلقات الكوكب، التي وصفها عالم الفيزياء فيليب موريسون بأنها «كل ما اكتشف عن طريق التليسكوب، وهي أكثر الأمور دلالة بالنسبة إلى معظم الأشخاص». التقطت مركبتا «فوياجر» صورا دقيقة التفاصيل، فضلا عن الظل الهائل الساقط عليها من قبل الهيكل الرئيسي لكوكب زحل، وبلغ عرض هذا الظل سبعين ألف ميل.
كان الأمل كله منصبا حينئذ على «فوياجر 2»، التي كان من المنتظر أن تواصل الرحلة إلى الكواكب الأبعد؛ فقد تفادت المركبة بالكاد العطل الذي كان على وشك أن يلحق بها، حيث كان الجهاز الرئيسي لتلقي الإشارات اللاسلكية قد تعطل في عام 1978. كانت تحتوي على جهاز بديل، بيد أن أحد المكثفات قد تعطل أيضا في الجهاز البديل. لم تتمكن هذه المركبة إذن من تلقي أوامر إلا عند تردد واحد بعينه. لم تستطع التعامل مع تأثيرات دوبلر الطفيفة التي كان يحدثها دوران الأرض في الطول الموجي لأجهزة الإرسال الأرضية. تتبع اختصاصيو مختبر الدفع النفاث بعناية التباينات التي تحدث في جهاز الإرسال، والتي من شأنها أن تسمح بتمرير الأوامر ووصولها إلى الوجهة المقصودة، وظلت وصلة الاتصالات الأساسية مفتوحة.
فيما وراء زحل، مضت كل مركبة من المركبتين في مسارها المستقل. حلقت «فوياجر 1» مارة بهذا الكوكب في مسار ساعد في تقديم أفضل الأرصاد، غير أنه أهدر فرصة الذهاب إلى عوالم أبعد. أما «فوياجر 2»، فاقتربت من زحل في مسار مختلف، ثم واصلت طريقها إلى أورانوس. لم يكن هذان هما الطريقين اللذين افترقا في غابة صفراء مثلما أشار الشاعر روبرت فروست في قصيدته، لكن هنا أيضا كان اختيار الطريق يصنع الفرق الكبير. التزمت «فوياجر 2» بجدولها الزمني تمام الالتزام، حيث وصلت أورانوس في يناير 1986. مرت بنبتون، أبعد كواكب النظام الشمسي، في أغسطس 1989 وواصلت عملها ببراعة.
من هذا المنظور الأبعد، فقدت الشمس نفسها ضخامتها، فلم تكن تزيد في السماء عن كونها أكثر النجوم توهجا. كان الحزام الشمسي يقع إلى الأمام، حيث كان التأثير المادي للشمس يفسح المجال للتأثير المادي لفضاء ما بين النجوم. هنا تصطدم الرياح الشمسية، وهي عبارة عن تدفق سريع للجزيئات من الشمس إلى الخارج، مع تيار من غاز قليل الكثافة يتدفق بين النجوم. مع ذلك، واصلت مركبتا «فوياجر» نشاطهما، وخلال عام 1992 تلقتا إشارات لاسلكية من الحزام الشمسي، وهو ما يبعد كثيرا عن النظام الشمسي. انطلقت المركبتان نحوه، كما لو أن الإشارات تلوح لهما بالاقتراب؛ اقتربت هاتان المركبتان من فضاء ما بين النجوم، مثل ملاحين سافرا بعيدا عن أراضيهما، حيث خرجتا عن مجال الشمس لتلجا إلى الآفاق غير المحدودة للمجرة. مضت المركبتان في اتجاه هذا الأفق اللامتناهي مثل قاربين صغيرين للغاية، يحملان بضائع الأمل والشجاعة والإبداع والرغبة في الاستكشاف التي تحدو الإنسان في سعيه نحو الفضاء.
الفصل الحادي عشر
الفضاء في الثمانينيات
تعثر الجهود
لم تفقد ناسا قط بعثة مأهولة؛ فخلال خمسة عشر عاما، في برامج «ميركوري» و«جيميني» و«أبولو» و «سكايلاب»، سجلت ناسا رقما مثاليا في إرسال رواد فضاء إلى الفضاء وإعادتهم سالمين؛ وهو ما نمى لديها شعورا بالقناعة والرضا، حيث استعدت الوكالة لتكريس مستقبلها لبرنامج المكوك الفضائي. لم يتوقع أحد أن يرى مكوكا فضائيا ينفجر في السماء فوق كيب كانافيرال، لم يتوقع أحد أن تقع كارثة كهذه بما يقضي على برنامج الفضاء ؛ مع ذلك، كان المختبر المداري المأهول قد قدم تحذيرا بالفعل خلال فترة الستينيات من القرن العشرين.
نشأ المختبر المداري المأهول كمشروع تابع للقوات الجوية، وكان يتألف من محطة فضائية صغيرة تعلوها مركبة «جيميني» الفضائية. أعجبت وكالة الاستخبارات المركزية بإمكانات المختبر في مجال الاستطلاع، وساهمت في تصميمه ليكون بمنزلة نموذج مماثل لمحطات «ساليوت» العسكرية في موسكو خلال السنوات اللاحقة. وشأن محطات «ساليوت»، كان من المقرر أن ينطلق المختبر مزودا بكاميرا وتليسكوب كبير، «كيه إتش-10»، بقطر ست أقدام، حاملا رواد فضاء على متنه للتعامل معه واستخدامه.
وافق الرئيس جونسون على المشروع في عام 1965، بيد أن المختبر المداري المأهول واجه بديلا. انبثق المشروع البديل من بحوث ألبرت ويلون في وكالة الاستخبارات المركزية، الذي كان قد خلف ريتشارد بسل في رئاسة برنامج الأقمار الصناعية في الوكالة. برز ويلون في عالم النابغين؛ حيث كان قد حصل على درجة الدكتوراه من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في سن الواحدة والعشرين، ثم مضى قدما للعمل مع رامو وولدريدج. وفي وكالة الاستخبارات المركزية، حظي بسل بدعم قوي من جون ماكون - مدير الوكالة - وأراد أن يبني قمرا صناعيا استطلاعيا غير مأهول جديدا. عرف مشروعه هذا في الصناعة باسم «هكسجون»، بينما أطلق آخرون عليه اسم «بيج بيرد» (أي الطائر الكبير). بعد عام 1965، جرى تمويل المشروع بوصفه مشروعا بديلا للمختبر المداري المأهول.
تطلب كلا البرنامجين تصميم مركبة فضائية بحجم هائل، 10 أقدام عرضا × 40 قدما طولا. كان وزناهما متماثلين أيضا، حيث بلغ وزن كل منهما 30 ألف رطل. ونظرا لأن تلك الأبعاد كانت تفوق قدرات «تايتان 3» القياسي بكثير، فقد أمرت القوات الجوية بتصميم نموذج مقنن بمواصفات أعلى، مزود بصواريخ تعزيز أكبر تعمل بالوقود الصلب.
بنيت كاميرا المختبر المداري المأهول، «كيه إتش-10»، لإعطاء دقة وضوح عالية تصل إلى تسع بوصات. لم يكن نظام «هكسجون»، «كيه إتش-9»، على هذه الدرجة من دقة الوضوح، بيد أنه كان يتضمن ميزات خاصة؛ كان يوسع عرض المساحة المصورة إلى 360 ميلا، وهو ما يعادل ضعف عرض المساحة المصورة بأقمار «كورونا» الصناعية الاستطلاعية في ستينيات القرن العشرين. كان يضع كاميرات مزدوجة قطرها ستون بوصة، تبلغ دقة وضوحها قدمين، وهو ما يقترب من دقة وضوح «جامبت» البالغة ثماني عشرة بوصة. ونظرا لأن «هكسجون» كان بمنزلة وحدة تخزين مزودة بأدوات إنزال، كان من المقرر أن يحمل أربع كبسولات قابلة للاسترجاع لإعادة الأفلام.
دعم البنتاجون مشروع المختبر المداري المأهول بقوة، بيد أن القوات الجوية لم تكن قد أنجزت تطوير أي مركبة فضائية مأهولة على الإطلاق، ولم تكن تعرف كيف تضبط تكاليفها. بحلول عام 1969 ارتفعت التكلفة المتوقعة من 1,5 مليار دولار أمريكي مبدئيا إلى 3 مليارات دولار أمريكي، ووجد المختبر المداري المأهول نفسه واقعا تحت ضغط ميزانية حرب فيتنام؛ وألغي المشروع في مايو.
كانت وكالة الاستخبارات المركزية والقوات الجوية قد تعاونتا عن قرب في مشروع تطوير المختبر المداري المأهول، إلا أن المشروع قد فشل - تحت ضغوط الميزانية - في الظفر بدعم ريتشارد هلمز رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية في إدارة نيكسون. كشف السبب عن معلومات مهمة؛ فقد كان في إمكان المجتمع الاستخباراتي في البلاد التعامل ببساطة مع فكرة عدم إتمام مشروع قمر صناعي استطلاعي غير مأهول، لكن كان من المقرر أن يحمل المختبر المداري المأهول أفراد طاقم، ورأى هلمز أن هذا سيزيد حجم المخاطر كثيرا. على حد تعبير المحلل جيفري ريشلسون، «خشي» مستشارو هلمز «من أن تؤدي حادثة يروح ضحيتها ولو رائد فضاء واحدا، إلى إيقاف البرنامج لفترة زمنية ممتدة وتعرقل برنامج الاستطلاع».
لكن بعد ثلاث سنوات، بعدما تمت الموافقة على برنامج المكوك الفضائي ودخل طور التنفيذ، تلاشت هذه الأفكار تماما من عقول كبار المسئولين في ناسا؛ فقد حصل هؤلاء المسئولون التنفيذيون، وهم جيمس فليتشر (المسئول الإداري)، وجورج لو (نائبه)، وديل مايرز (مدير برنامج المكوك الفضائي)، على الدعم الذي كانوا يحتاجونه، من نيكسون والكونجرس على حد سواء. كان المحرك الرئيسي للمكوك الفضائي المطروح من قبل شركة «روكيت داين» محط تركيز رئيسي، وقد تولى بول كاستنهولتس، الذي كان قد أنقذ «جيه-2» قبل بضع سنوات، تصميمه بعناية شديدة.
يتذكر سام هوفمان، رئيس شركة «روكيت داين» خلال مشروع «أبولو»، ذلك قائلا: «تبدأ خطة هذا المشروع بإعداد قائمة بالأجزاء والمكونات الرئيسية المطلوبة. يجب أن يتضمن ذلك مجموعة غرف الدفع. وهذا بدوره سيتطلب مجموعة مضخات توربينية، وحاقنا، وحلقا وفوهة. إنني أدون هذه الكلمات، وأترك مساحة خالية كبيرة تحت كل منها، ومن خلال معرفتي بالصواريخ أستطيع إعداد قائمة بمجموعات فرعية أخرى يتألف منها كل مكون رئيسي؛ ثم يمكنني إجراء مزيد من التقسيم، وصولا إلى مستوى الأجزاء الفردية.
لكل جزء ولكل مجموعة فرعية تصميم خاص، رسم هندسي خاص. في نهاية المطاف، سيتوافر لدي في خطتي خمسمائة أو ألف رسم، وبمعرفة عدد المهندسين المتوافرين لدي، وسرعة تنفيذهم للمهام الموكلة إليهم، أستطيع أن أقدر الوقت المستغرق في إعداد التصميم. إذا كنت في حاجة إلى فولاذ سبيكي، يمكنني أن أسارع في طلبه كعنصر إنتاج طويل الأمد حتى لا يشكل عائقا فيما بعد. إذا أردت الانتهاء من التصميم على نحو أسرع، يمكنني أن أستعين بمزيد من الأفراد؛ هكذا تمضي خطتي.»
1
طرح المقترح الكامل للمحرك الرئيسي للمكوك الفضائي، الذي ظفر بالعقد، في مجموعة من الوثائق بلغ طولها عدة أقدام. بالإضافة إلى ذلك، كان كاستنهولتس قد استخدم 3 ملايين دولار أمريكي من أموال الشركة لبناء نموذج تجريبي لغرفة الدفع، يخضع لنظام تبريد استرجاعي ومزود بحاقن يشبه الحاقن الذي سيستخدم في عملية الإطلاق في نهاية المطاف. في فبراير 1971، جرى تشغيل هذا المحرك على منصة اختبار لمدة نصف ثانية، وهو ما كان كافيا لقياس أدائه، ولكن ليس بالقدر الذي يؤدي إلى حدوث ثقب في الجانب بفعل الاحتراق.
كان من المفترض أن يصدر المحرك الرئيسي للمكوك الفضائي قوة دفع مقدارها 470 ألف رطل، من خلال حرق الهيدروجين والأكسجين. كان محرك «جيه-2»، الذي كان يستخدم الوقود نفسه، قد أنتج قوة دفع مقدارها 230 ألف رطل. بالإضافة إلى ذلك، كان من المفترض أن يعمل المحرك الرئيسي للمكوك الفضائي عند ضغط 3260 رطلا لكل بوصة مربعة، أكثر من مائتي مرة قدر الضغط الجوي، في مقابل 780 رطلا لسابقه. هذا الضغط الهائل من شأنه أن يعزز أداء المحرك، بينما يسمح له بإنتاج قوة الدفع الخاصة به في نطاق عبوة مضغوطة. لكن تشغيله كان في منتهى الصعوبة. وضع أول محرك كامل على منصة اختبار في مايو 1974، حيث جرى تشغيله مجددا لمدة نصف ثانية، وخلال السنوات الخمس التالية، توالت مشكلات كبرى على برنامج المحرك الرئيسي للمكوك الفضائي، واحدة تلو الأخرى.
بدأت المشكلات مع المضخات التوربينية. كانت مضخة الوقود التوربينية متواضعة الحجم؛ حيث كان طولها أربع أقدام وقطرها ثماني عشرة بوصة تقريبا؛ كانت في حجم محرك خارجي كبير، لكن لكي يضخ الهيدروجين السائل عند معدل التدفق والضغط اللازمين، كان لا بد من أن توفر قدرة 76 ألف حصان. كانت هذه القدرة تفوق القدرة التي استخدمت في قيادة سفن بحرية عملاقة مثل «موريتانيا» في أوائل القرن، في عصر كانت غرف المحركات والغلايات تغطي معظم المسافة من مقدمة السفينة إلى مؤخرتها.
كانت الصعوبة الأولى تتمثل في أن عمود إدارة التوربين لم يكن مثبتا بإحكام في محامله؛ إذ كان يهتز في حركة دائرية. عند سرعة 37 ألف دورة في الدقيقة، أدى الاهتزاز إلى إتلاف المحامل سريعا. كان الحل هو تقوية المحامل وتعزيزها، بيد أن الأمر استغرق ثمانية أشهر لمعرفة الطريقة المثلى لإنجاز ذلك.
ثم ظهرت مسألة تبريد هذه المحامل وتشحيمها. لم يكن من الممكن استخدام أي نوع من الزيوت؛ إذ كان من الضروري استخدام الهيدروجين السائل. بما أن ذلك كان يشبه تشحيم محرك نفاث بالماء، فقد تطلب الأمر بعض الجهد. اتضح أن إحدى مجموعات المحامل لم تكن تحصل على كمية كافية من الهيدروجين، فقد تسخن أكثر من اللازم؛ ومن ثم تتوقف عن العمل. اقتضى الحل إعادة تصميم القنوات المسئولة عن إمداد هذه المحامل بالهيدروجين، واستغرق ذلك ستة أشهر أخرى.
ظهرت مشكلة ثالثة، وهي أرياش التوربين. كان أحد أجزاء التوربين يحتوي على ثلاث وستين ريشة، كل منها في حجم طابع بريد. كان كل منها يولد قدرة مقدارها ستمائة حصان، وهو ما يماثل قدرة سيارة في سباق إنديانابوليس. كانت الأرياش واقعة تحت إجهاد شديد، وكان من المحتمل أن تتعرض للكسر. كانت المشكلة تعود إلى الاهتزاز، وهو من أكثر المشكلات المعروفة لدى المهندسين، وجرى إصلاحها في نهاية المطاف، واستغرق هذا الأمر ستة أشهر أخرى.
بينما كان العمل يتقدم (ببطء) في مضخة الوقود التوربينية، كانت مضخة الأكسجين التوربينية أيضا قيد التطوير. صادفت المضخة مشكلات كبرى أيضا، كانت صعوبة إيجاد حلول لها وإصلاحها أصعب. عندما تعرضت مضخة توربينية لمشكلة ما، فإنها تعطلت وتوقفت عن العمل. تسبب تعطل مضخة الوقود التوربينية ببساطة في فقدان المحرك قدرته. استطاع المهندسون فك المضخة والبحث عن سبب العطل، إلا أن مشكلة مضخة الأكسجين التوربينية تسببت في إلحاق ضرر بالغ بالمحرك.
في مشروعات تطوير الصواريخ المبكرة، كانت أعطال مضخة الأكسجين غالبا ما تتسبب في انفجار الموتور. كان المحرك الرئيسي للمكوك الفضائي أكثر قوة. لاحتواء ضغطه العالي، بني بسمك قوي مما يجعل انفجاره نادرا، ولكن احتمال اشتعال النيران فيه كان أمرا واردا، وقد حدث بالفعل. كان مصنوعا من النحاس والنيكل والصلب؛ المواد التي لا نعتبرها من المواد المسببة لمخاطر الحريق. لكن، عند درجات الحرارة ومستويات الضغط الخاصة بالمحرك الرئيسي للمكوك الفضائي - في وجود الأكسجين السائل - يمكن لأي شيء أن يحترق فعليا. تؤدي هذه الحرائق عادة إلى تدمير جانب كبير من المحرك، حتى إنه يصعب اكتشاف الجزء الذي تعرض للتلف على وجه التحديد، أو التسلسل الذي انتشرت به النيران.
كانت مضخة الأكسجين التوربينية تعاني من مشكلتين رئيسيتين؛ استغرقت المشكلة السهلة ستة أشهر لاكتشافها والتوصل إلى حل لها. كانت هذه المشكلة عبارة عن مانع تسرب سريع الدوران يؤدي إلى فصل الأكسجين السائل عن الغازات الساخنة في التوربين. كان من المفترض أن يدور مانع التسرب دون احتكاك ، لكنه كان يتلامس مع جزء آخر في المحرك؛ أدى هذا التلامس إلى توليد حرارة بفعل الاحتكاك، وهذه الحرارة كانت كافية لإشعال المعدن، مثلما يحدث عندما يشرع فريق كشافة في إشعال نار عن طريق حك اثنتين من العصي معا. في النهاية، عالجت «روكيت داين» هذه المشكلة بنجاح عن طريق اختيار نوع مختلف من موانع التسرب.
تمثلت المشكلة الأصعب في أن محامل مضخة الأكسجين التوربينية كانت تعطل على نحو متكرر وتحترق عن آخرها. في النهاية، أثمرت مجموعة من الحيل المتنوعة في علاج المشكلة. أعيد تصميم عمود إدارة التوربين لتحقيق مستوى أفضل من التوازن. مثلما يتلف إطار سيارة غير متوازن سريعا، تلف عمود إدارة التوربين غير المتوازن بالقدر الكافي، الذي يدور بسرعة 31 ألف دورة في الدقيقة، على نحو أسرع مما ينبغي، متسببا في تعطل الوحدة وتوقفها عن العمل. لم يكتف المصممون بإعادة توازن عمود الإدارة فحسب، بل عملوا على تقوية دعائم المحامل وتعزيزها. أخيرا، عمدوا إلى تكبير حجم المحامل وحلقاتها الداخلية، أو حواملها، وأعادوا بناءها بحيث تحمل أحمالا أثقل. بعد عام ونصف عام، نجحت محامل المضخات التوربينية هذه في اجتياز الاختبارات.
حدث آخر عطل في محامل المضخة في مارس 1977، وبحلول ذلك الوقت كان برنامج المكوك الفضائي بأكمله يواجه صعوبات جمة. منذ البداية، كان تمويل البرنامج يعتمد على قدر كبير من التفاؤل، حيث كان يفتقر إلى الاحتياطات المالية التي يمكن من خلالها التعامل مع المشكلات الرئيسية، ولم يتحسن الوضع كثيرا عندما فرض مكتب الإدارة والموازنة استقطاعات تجاوزت 300 مليون دولار أمريكي. وكرد فعل على ذلك، وضعت ناسا استراتيجية عنوانها «الإدارة الموجهة نحو النجاح»، كانت توحي في ظاهرها بالأمل لكنها تضمر في باطنها اليأس. على عكس قانون ميرفي القائل بأن أي شيء سيئ تتوافر الإمكانية لحدوثه سوف يحدث، افترض هذا الأسلوب أن كل شيء سيسير على ما يرام. على حد تعبير أحد المسئولين، «يعني الأمر أن تصمم كل شيء في إطار التكلفة المرصودة له، ثم تدعو أن يتم بنجاح.»
ترجع جذور هذا الأسلوب إلى أسلوب الاختبار الشامل في مشروع «أبولو»، الذي استخدم في إطلاق الصاروخين «ساتورن آي-بي» الكامل و«ساتورن 5» المتعددي المراحل، في محاولات إطلاقهما الأولى. مع ذلك، انبثق أسلوب الاختبار الشامل عن الثقة الناشئة عن الاختبارات التمهيدية الموسعة، في إطار برنامج ممول بسخاء استطاع التغلب على مشكلاته. على النقيض من ذلك، انتهى المطاف بأسلوب الإدارة الموجهة نحو النجاح بما يشبه تطوير روسيا لصاروخها القمري «إن-1». بالنسبة إلى المحرك الرئيسي للمكوك الفضائي، كان الأمر يعني اختبار محركات كاملة قبل ثبوت فعالية مكوناتها الرئيسية، مع تقليل قطع الغيار المستخدمة. مثلما أشارت مجلة «ساينس» إلى الأمر، فإن «روكيت داين» «قد أنشأت كل شيء وفق تصميم جديد، وجمعت كل الأجزاء معا، وأدارت الزر وهي تأمل أن يكتب لها النجاح والتوفيق. ومع ذلك، وقعت خمس حرائق كبرى على الأقل».
كانت خطة التطوير الأصلية في عام 1972 تقتضي إطلاق المكوك الفضائي في أولى رحلاته المدارية في مارس 1978. لكن بحلول ذلك الشهر، كانت المحركات في مرفق اختبار المسيسيبي ولم تكن حالتها تسمح بإجراء أي شيء. ربما كان من الممكن الكشف عن مزيد من العيوب الفردية التي أدت إلى خلل وظيفي في حال إجراء مزيد من الاختبارات، لكن نظرا لأن المحرك بالكامل كان قيد الاختبار، كانت هذه المحركات الصاروخية الباهظة عرضة لأن يعطل أحد أجزائها في كل مرة. أدى أحد تلك الأعطال إلى إلحاق ضرر بالغ بمنصة الاختبار نفسها، ونظرا لأنه ما من أحد كان لديه المال اللازم للاستعداد لهذه المشكلة، تأجل برنامج اختبار المحرك بالكامل لأشهر حتى أعيد بناء المنصة.
حلت كارثة أخرى مجددا بعد أعياد الكريسماس مباشرة في عام 1978، عندما انفجر أحد المحركات؛ لم يرجع السبب هذه المرة إلى المضخات التوربينية، بل كانت أسباب المشكلة الجديدة تتمثل في صمام الأكسجين الرئيسي وأحد المبادلات الحرارية. عولجت مشكلة الصمام بسرعة من خلال إعادة تصميمه. كانت مشكلة المبادل الحراري أقل بساطة؛ فعلى حد تعبير أحد كبار المديرين: «يظل عطل المبادل الحراري غير مفسر؛ مما يشعرك بالإحباط والاستياء؛ فهذه الحوادث التي تقع في مرحلة متأخرة من برنامج الاختبار لا تمنحك أي قدر من الثقة.»
حدثت أعطال أخرى خلال الاختبارات التي أجريت في شهري مايو ويوليو من عام 1979. لكن، بحلول ذلك الوقت، كان المحرك قد بدأ يكتسب بعض الموثوقية، وانتقل المهندسون إلى جولة جديدة من الاختبارات. كان من المقرر إطلاق المكوك الفضائي بمجموعة تتألف من ثلاثة محركات رئيسية، وحاول المهندسون تشغيل هذه المجموعة من المحركات لمدة ثماني دقائق، وهي المدة الكاملة المستغرقة في إطلاق مكوك فضائي إلى مدار ما. في نوفمبر، بعد تسع ثوان من الاختبار، كشفت الأجهزة عن وجود مشكلة وبدأت عملية إيقاف التشغيل؛ وهو ما أسفر عن كسر فوهة كانت تحمل هيدروجينا للتبريد؛ مما أدى إلى احتراق الأجزاء الداخلية من المحرك. لم تنجح عملية إطلاق بالمدة الكاملة للمحركات الثلاثة جميعها حتى شهر ديسمبر.
على الرغم من ذلك، لم يكن الأمر كله كئيبا؛ فقد لاقى البرنامج الآن دعما فعالا من جانب الرئيس كارتر، نظرا لاهتمامه الشديد بالحد من الأسلحة. ترجع الجهود الدبلوماسية في هذا الصدد إلى عام 1969، عندما أطلق نيكسون محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية (المعروفة باسم معاهدة سولت) مع موسكو. أدت معاهدة سولت الأولى، في عام 1972، إلى الحد من جهود القوتين العظميين في بناء نظم صواريخ باليستية مضادة. كان كارتر يسعى في تلك الأثناء إلى عقد معاهدة سولت الثانية، التي كانت تهدف إلى وضع قيود فورية على القوى الإجمالية لهاتين الدولتين من الصواريخ والقاذفات. كان من المقرر أن هذه الاتفاقية تتطلب أقمار استطلاع صناعية للتحقق، وكان المكوك الفضائي سيتولى مهمة إطلاقها.
في تاريخ يرجع إلى عام 1970، لجأ فليتشر - مدير ناسا - إلى القوات الجوية للحصول على الدعم السياسي الذي سمح له بإطلاق هذا البرنامج. قدمت القوات الجوية الدعم الذي عزز من هذه الاحتمالات في أوقاتها العصيبة. كان الرجل الذي أحدث فرقا هو هانز مارك، الذي كان يرأس مركز إيمز للأبحاث التابع لناسا، والذي كان ملتزما التزاما قويا تجاه برنامج المكوك الفضائي. اختاره كارتر وكيلا للقوات الجوية. رشح مارك أيضا رئيسا لمكتب الاستطلاع الوطني، وهو مركز تابع للبنتاجون كان يدير أعمال مراقبة الفضاء للمجتمع الاستخباراتي الأمريكي بالكامل. بقبول هذه التوصيات، أصدر كارتر توجيها رئاسيا، وهو التوجيه رقم «بي دي/إن إس سي-37» لشهر مايو 1978، صدق بشدة على المكوك الفضائي. واصل كارتر متابعة هذا التوجيه بالسعي إلى توفير مزيد من التمويل لناسا في عام 1979، مؤكدا على رغبته في تخصيص قدر كاف من التمويل للمكوك الفضائي بما يضمن نجاحه.
عندئذ فقط، بينما كان تطوير المحرك لا يزال أمامه وقت طويل ليكتمل، واجه البرنامج مشكلة أيضا فيما يتعلق بالحماية الحرارية. في المركبات الفضائية السابقة، بما فيها «أبولو»، استخدمت دروع حرارية قابلة للإزالة للوقاية من درجات الحرارة الشديدة عند ولوج الغلاف الجوي، لكن هذه الدروع كانت ثقيلة ولا يسمح باستخدامها إلا لمرة واحدة فقط. ونظرا لأنه كان من المقرر أن يكون المكوك الفضائي قابلا لإعادة الاستخدام، فإنه كان يتطلب حماية حرارية تستطيع تحمل معاودة الولوج إلى الغلاف الجوي مرات عديدة، وكان لا بد أن يكون وزن هذه الحماية الحرارية خفيفا. اقتضى الأمر استخدام قرميدات من ألياف السليكا الملبدة، ملصقة أو مغراة بالسطح الخارجي للمكوك الفضائي؛ تمثلت وظيفة هذه الدروع في أن تكون بمنزلة عوازل، تفرق الحرارة بعيدا مع الحيلولة دون نفاذها إلى داخل المركبة. كانت هذه مسألة حيوية؛ إذ كان من الممكن أن تؤدي الحرارة - في حال نفاذها - إلى حرق المركبة عن آخرها وموت روادها حرقا.
خشي الجميع أن يتآكل القرميد مثلما تتآكل ألواح الأسقف، وكان تركيبه يتطلب حرصا بالغا. تمثلت عملية التركيب في وضع قرميدتين، بحجم ست بوصات أو أقل غالبا في أحد الجوانب، ثم تصميم قرميدة ثالثة لملء الفراغ بينهما. كان العاملون يقيسون الفراغ المتوافر للقرميدة الثالثة بعناية، ثم يرسلون المعلومات إلى الشركة المتعاقدة لتركيب القرميدات، وهي شركة «لوكهيد» بمدينة سانيفال في كاليفورنيا، ثم تصنع القرميدة الثالثة هناك وفق الطلب. كان الأمر يستغرق من الشخص الواحد ثلاثة أسابيع لتركيب أربع قرميدات، وكان الأمر يتطلب 31 ألف قرميدة لتغطية مكوك فضائي مداري واحد.
انتقل المكوك «كولومبيا»، وهو أول مكوك فضائي يتضمن هذه الحماية الحرارية، من مصنع التجميع في كاليفورنيا إلى كيب كانافيرال في مارس 1979، وانتقل مع المكوك ألفا موظف من شركة «روكويل» الدولية المصنعة له؛ كان عليهم تركيب ما يقرب من عشرة آلاف قرميدة لم يكن قد جرى تركيبها بعد، كما كان عليهم استبدال 7500 قرميدة أخرى تلفت أثناء النقل. ثم أطل أسلوب الإدارة الموجهة نحو النجاح برأسه مجددا، عندما أظهرت اختبارات أنفاق الرياح المتأخرة أن كثيرا من القرميدات ربما ينفصل أثناء رحلة الطيران. تطلب هذا الأمر إجراء استكشافيا حيث واصل بعض موظفي «روكويل» تثبيت القرميدات، بينما حاول آخرون اقتلاعها باستخدام مضخات تفريغ، وقد تطلب الأمر إزالة الكثير من القرميدات و«رفع كثافتها» - أي معالجتها بمزيد من السليكا لضمان التئامها بإحكام مع المادة اللاصقة - قبل التصديق على ملاءمتها وصلاحيتها للطيران.
مع تزايد التكاليف وطول فترات التأخير، وجدت ناسا نفسها تهمل جوانب أخرى مهمة في المشروع، لا سيما برنامج استكشاف الكواكب. قبل عقد مضى، كانت هذه الوكالة تأمل في إرسال رواد فضاء إلى المريخ، وبنت المركبة «فايكنج» الفضائية التي أجرت عمليات إنزال آلي؛ لكن، لم تكن الميزانية تتضمن تمويلا يكفي لأكثر من مركبتي «فايكنج» اثنتين فقط في عام 1976، على الرغم من أن البعثات الإضافية كانت ستصبح ذات أهمية كبرى بالنسبة إلى العلماء. في مختبر الدفع النفاث، كان ثمة اهتمام بالغ بمركبة «فينوس» المدارية التي كانت ستخترق سحب الكوكب بالرادار لرسم خرائط لسطحه غير المرئي. لم يحظ هذا المقترح بالدعم، ونظرا لنقص التمويل، لم ينطلق جهاز رسم الخرائط «فينوس» حتى عام 1989. كما أن ناسا لم ترسل مسبارا إلى المذنب هالي، على الرغم من أن ظهوره في عام 1986 كان يمثل فرصة لا تتأتى إلا مرة واحدة في العمر.
ثم كانت ثمة مركبة «جاليليو»، التي كان من المقرر لها متابعة «فوياجر» بالدوران حول المشتري بدلا من التحليق فقط مرورا بهذا الكوكب. حصل مختبر الدفع النفاث على الموافقة على هذا المشروع في عام 1977، وكان من الممكن إطلاق «جاليليو» على متن صاروخ طراز «تايتان 3»؛ لكن في العام نفسه، قررت ناسا عدم شراء مزيد من هذه الصواريخ. كان هذا جزءا من سياسة تخصيص كل جهودها ومواردها لبرنامج المكوك الفضائي، بيد أن الأمر بدا في البداية كما لو أن المكوك الفضائي سيصبح جاهزا خلال فترة طويلة. بعد عامين، أشار جون كاساني، مدير المشروع، آسفا إلى هذا الموضوع قائلا: «كان من المقرر في الأساس وفق الجدول الزمني الموضوع، أن ننطلق في محاولة الإطلاق السادسة والعشرين، ثم أجبرتنا التأجيلات المتواصلة في الجدول الزمني على الانطلاق في المحاولة السابعة. كنا نعتقد بالتأكيد أن لدينا متسعا كافيا من الوقت.» أثرت تأجيلات برنامج المكوك الفضائي على «جاليليو»، التي لم يكن يمكنها الانطلاق دونه، وارتفعت تكلفة «جاليليو» من 450 مليون دولار أمريكي إلى 850 مليون دولار أمريكي. في عام 1981 أمر مكتب الإدارة والموازنة بإلغاء البرنامج، وهو ما كان من شأنه أن يؤدي إلى وقف برنامج استكشاف الكواكب، بحيث لا تتبقى سوى مهمتين متمثلتين في التقاء «فوياجر 2» بالكوكبين أوروانس ونبتون. نجح مؤيدو رحلة «جاليليو» في إنقاذها، بيد أن الرحلة كانت وشيكة.
انطلقت الرحلة الأولى للمكوك الفضائي في أبريل 1981، بعد عشرين عاما من اليوم الذي صار فيه يوري جاجارين أول إنسان يصعد إلى الفضاء. حقق طيارا المكوك، جون يونج وروبرت كريبن، درجة مرتفعة جدا في الإدارة الموجهة نحو النجاح. كانت هذه هي عملية الإطلاق الفعلية الأولى التي يدار فيها المحرك الرئيسي للمكوك الفضائي، حيث لم يعمل قبل ذلك سوى على منصات الاختبار. لم تثبت أي رحلة مبدئية أن القرميدات ستظل في مواضعها، وإنما أثبتت أنها ستسقط. لم يكن أي رائد فضاء قد اعتلى من قبل متن صواريخ تعزيزية تعمل بالوقود الصلب؛ ومن ثم، كانت هذه البعثة مثالا للاختبار الشامل عند مستوى أعلى مما كان في «أبولو» نفسها، وهو ما أفضى إلى مهمتي «ساتورن 5» غير المأهولتين قبل إرسال طاقم رحلة. كان الشاعر الروماني هوراس قد كتب عن رجال من أمثال هؤلاء قائلا:
كان البلوط والنحاس القويان ثلاثيا الطيات
يحيطان لا محالة بقلب هذا الرجل الأول الذي كان جسورا بما يكفي
للإبحار في البحر الهائج على متن قارب هش.
استمرت الرحلة ليومين وسارت على نحو جيد عموما. كانت أبواب غرفة البضائع مفتوحة، ثم لم تغلق كما يجب، لكن لم يتسبب ذلك في أي مشكلات. انهار المرحاض المعدوم الجاذبية. انفصلت بعض القرميدات خلال عملية معاودة الولوج إلى الغلاف الجوي، بيد أن التصميم سمح بحدوث ذلك ولم يؤد انفصالها إلى إحداث ثقب في المركبة الفضائية. إجمالا، كانت البعثة ناجحة.
بينما كانت ناسا تتكيف مع تقنياتها التكنولوجية الجديدة، كان السوفييت يتتبعون نجمهم الخاص، من خلال رحلات مأهولة طويلة المدى في «ساليوت». مع ذلك، تجاوزت بعثة «ساليوت 4» التي استغرقت 63 يوما في عام 1975 الحدود المعروفة للبقاء في الفضاء، حيث كان على رائديها بيوتر كليموك وفيتالي سيفاستيانوف جلب كل المؤن التي كانا يحتاجانها. للبقاء مدة أطول، كان لا بد أن يتمكن طاقم الرحلة من الحصول على كميات إضافية من الغذاء والماء والأكسجين أثناء وجودهم في المدار.
من ثم، أدخلت موسكو تعديلات على «سويوز» و«ساليوت» لإفساح المجال أمام بعثات طويلة المدة للغاية. حول المهندسون «سويوز» إلى مركبة فضائية غير مأهولة، باسم «بروجرس»، يمكنها حمل المؤن. زودت المركبة بكاميرتين تليفزيونيتين، بهما عدستان تسمحان للمراقبين الأرضيين بتوجيه الكاميرتين لرصد عملية التحام آلي مع «ساليوت». ونظرا لأن المركبة «ساليوت» المدارية كان ملتحما بها عند أحد أطرافها مركبة «سويوز»، التي وصل على متنها رواد «ساليوت»، والتي سيغادرون على متنها أيضا، كان من الضروري إضافة موضع التحام ثان على الطرف الآخر. وكان مقررا عندئذ أن تضم «ساليوت» كلا من «سويوز» و«بروجرس» في آن واحد، مثل قاطرة تجر عربة قطار عند كل طرف.
كان الهدف المبدئي هو إطلاق رحلة مدتها ثلاثة أشهر، حيث انطلقت «ساليوت 6» إلى السماء أعلى الصاروخ «بروتون» في سبتمبر 1977. انطلق رائدا فضاء لكنهما فشلا في محاولة الالتحام؛ تبعهما رائدان آخران: يوري رومانينكو قائد المركبة، وجورجي جرتشكو مهندس كان على دراية وثيقة بآلية الالتحام؛ والتحما في الموضع المخصص لمركبة «بروجرس». أجرى جرتشكو عملية سير في الفضاء وتحقق من أن موضع الالتحام الآخر على ما يرام، بينما كان رومانينكو يشاهده من فتحة خروج. من الواضح، أن المشكلة كانت تكمن في نموذج «سويوز» الأول الذي فشل في الالتحام، وليس في «ساليوت».
مع وجود الكثير من الأمور التي انشغلا بها، مكثا فترة بقائهما الطويلة. استغرقت الفحوص الطبية وقتا طويلا، مثلما استغرقت عمليات التنظيم والترتيب. على أي حال، كان من بين أهداف إرسال رواد إلى الفضاء هو الاعتناء بمعدات دعم الحياة، وللحفاظ على صحتهما ولياقتهما البدنية، تضمنت المعدات الموجودة على متن المركبة مشاية ودراجة رياضية (إكسرسايكل) ومجموعة من حبال بانجي. لم ترق لهما تلك الأدوات؛ إذ كانت التمرينات الرياضية تجعلهما يتصببان عرقا وتفوح منهما الروائح الكريهة، وكانا يتجنبانها متى استطاعا. في بعض الأوقات، كانا يشغلان المعدات على متن المركبة؛ كانت هذه المعدات تشمل كاميرا متعددة الأطياف للأرصاد الأرضية، وكاميرا لرسم الخرائط، وتليسكوبا يعمل عند الأطوال الموجية للأشعة تحت الحمراء البعيدة.
وصل صديقان لهما في زيارة، حيث أرسلا مركبة «سويوز» جديدة، ثم عادا إلى الأرض في المركبة القديمة بعد أن مكثا في الفضاء خمسة أيام. جلبا معهما البريد والصحف، ثم جاءت مركبة المؤن «بروجرس»، محملة بكميات وفيرة من الطعام تضمنت الفاكهة الطازجة، ومسجل كاسيت يحتوي على أشرطة، وملابس نظيفة وملاءات، فضلا عن الأدوية والبهارات. وضع جرتشكو ورومانينكو نفاياتهما على متن هذه المركبة، ثم أنزلاها من المدار لتحترق في الجو، ومعها النفايات وكل شيء. ثم جاءت زيارة ثانية من «سويوز»، على متنها رجل من تشيكوسلوفاكيا يدعى فلاديمير ريمك، وهو أول إنسان في الفضاء لم يكن سوفييتيا ولا أمريكيا، وهو ما دشن برنامجا جديدا، كان يتضمن رواد فضاء من دول أخرى يحلقون ضيوفا ضمن الأطقم السوفييتية.
المحطات الفضائية الأولى: «سكايلاب» بأعلى، المركبة «أبولو» الفضائية في وضع التحام إلى اليسار، ملحقا بها حامل منظار «أبولو» الذي يشبه الطاحونة الهوائية، والذي استخدم في الأرصاد الشمسية. «ساليوت 6» بأسفل. مركبة «سويوز» في وضع التحام إلى اليسار، بينما تقترب مركبة المؤن «بروجرس» من اليمين (دان جوتيه).
هبط جرتشكو ورومانينكو في مارس 1978، بعد أن سجلا رقما قياسيا ببقائهما لمدة 96 يوما في مدار فضائي. تلت ذلك بعثات أطول استمرت لمدة 140 يوما، ثم 175 يوما، ثم 185 يوما، وقورن ذلك مع فترة 84 يوما التي استغرقتها أطول بعثة لمحطة «سكايلاب» ووفرت رؤية مفيدة حول الآثار الطبية لانعدام الوزن. تمثلت أكثر الآثار خطورة في فقدان الكالسيوم من العظام، وهو ما زاد من مخاوف أن تتسبب رحلة فضائية في تحويل العمود الفقري لرائد فضاء قوي البنية إلى هلام. لم تكن لدى الأطباء السوفييت أي وسائل مفيدة لقياس الكمية الفعلية المفقودة من الكالسيوم؛ ومع ذلك، تراجعت هذه المخاوف بالنظر إلى الصحة الجيدة التي كان عليها رائدا الفضاء عند عودتهما.
كانت «ساليوت 6» محطة فضائية. بعد النجاح المبدئي للمكوك الفضائي، في أبريل 1981، كانت ناسا مستعدة للإعلان بوضوح عن رغبتها هي أيضا في محطة فضائية. على أي حال، كانت المحطة الفضائية تحتل مكانا بارزا في أجندة الوكالة لما يزيد عن عقد من الزمن، وقد اشتريت بالفعل المعدات اللازمة ودفع ثمنها، فصار هناك مختبر «سكايلاب» ثان جاهز للعمل، فضلا عن مركبتي إطلاق «ساتورن 5». لسوء الحظ، كانت «سكايلاب» في متحف الطيران والفضاء الوطني، بينما كانت مركبتا «ساتورن» معروضتين في مركزي ناسا في هيوستن وكيب كانافيرال؛ حيث كانتا عرضة للرياح والأمطار. ربما كان يمكن للوكالة أن تضعها جميعا في مخزن آمن، مثلما فعلت مع «ساتورن 1-بي» ومركبة «أبولو» اللذين كانا قد انطلقا للالتحام بالمركبات الروسية في عام 1975؛ لكن كما بدت الأمور آنذاك، كان برنامج المحطة الفضائية يسعى إلى تحقيق ما كانت ناسا قد امتنعت عن فعله من خلال صواريخ ومختبر مداري جرى بناؤهما وصارا جاهزين للاستخدام.
في هيوستن، كانت مجموعة صغيرة من المصممين قد أعادت إشعال هذا الحماس باقتراح إنشاء مركز عمليات للفضاء. كان هذا النموذج يستدعي نقل مجموعة من الوحدات في المكوك الفضائي وتجميعها في مدار فضائي، في ظل حيز يتسع لعدد من الأشخاص يتراوح بين تسعة أشخاص واثني عشر شخصا. كان من المقرر أن يتولى هؤلاء الأشخاص تجميع مركبة فضائية ضخمة مثل الهوائيات، للاستخدام في علم الفلك اللاسلكي والمنصات المدارية لتكون بمنزلة الأقمار الصناعية للاتصالات. كان من المقرر أن يوفر مركز عمليات الفضاء أيضا قاعدة لإصلاح المركبات الفضائية الموجودة وصيانتها. لنقل الأقمار الصناعية ذهابا وإيابا إلى مداراتها المناسبة، كان من المقرر أن تكون لمركز عمليات الفضاء مركبته الصاروخية الخاصة، التي توضع في حظيرة وتزود بوقود دفعي مستمد من خزانات في مركز عمليات الفضاء نفسه.
كان نموذج مركز عمليات الفضاء يتماشى كثيرا مع خلفية المكوك الفضائي؛ فقد صمم المكوك الفضائي لإطلاق المركبات الفضائية للبلاد، مع الاحتفاظ بقوة رفع تكفي لبناء محطة فضائية في الخطوة التالية. كشف مركز عمليات الفضاء عن الهدف من إنشائه، وهو تجميع الأقمار الصناعية وصيانتها، ومع ذلك، لم يكن الأمر يتطلب أن يكون المرء عالم صواريخ حتى يدرك أن مداه الفضائي، الذي كان يبلغ مدارا جيوتزامنيا، يمكن أن يفسح المجال أمام نموذج أكبر يحمل رواد الفضاء مجددا إلى القمر، كبداية لإرسال بعثة إلى المريخ.
تولى الرئيس ريجان مهام منصبه في مستهل عام 1981، ورشح أشخاصا جدد لقيادة ناسا. ترأس الوكالة فيما بعد جيمس بيجز، الذي كان قد تولى مؤخرا إدارة برنامج الطائرة المقاتلة «إف-16» في شركة «جنرال داينمكس». انتدب ريجان هانز مارك من القوات الجوية وألحقه بناسا ليكون نائبا لجيمس بيجز. كان لدى بيجز ومارك اهتمام كبير بإنشاء المحطة الفضائية، بيد أن مركز عمليات الفضاء لم يكن ليفي بالغرض. كان نموذج التصميم الخاص بالمركز محدودا للغاية، وكان من المتوقع أن يلقى انتقادات كثيرة. تذكر المديران أن تصميمات المكوك الفضائي المفصلة في عام 1971 قد أثارت معارضة شديدة من جانب مكتب الإدارة والموازنة، وهو ما اضطر ناسا إلى الحد من خططها وتضييق نطاقها. لتجنب هذا المصير هذه المرة، كان عليهما ألا يلفتا الأنظار إليهما حتى يحصلا على موافقة ريجان.
بناء على ذلك، أنشأ بيجز مجموعة عمل في مايو 1982 تكون معنية بمشروع المحطة الفضائية. لم يكن من المقرر أن تقدم هذه المجموعة نموذج تصميم كأمر واقعي، بل أن تجري دراسات وتستطلع آراء المستخدمين المحتملين. استند هذا الأسلوب إلى وجهة النظر التي تفيد بإنشاء المحطة المثلى التي تلبي احتياجات هؤلاء المستخدمين. تجنب هذا الأسلوب أيضا الالتزام المبكر بتصميم ثابت قد يصير محل انتقاد من جانب المعارضين. قال روبرت فرايتاج، أحد الأشخاص الرائدين في مجموعة العمل: «نرفض نهائيا رسم صورة لمحطة فضاء.»
على الرغم من ذلك، كان الأمر يتطلب ما هو أكثر من الدراسات الداخلية للحصول على تصديق رئاسي على المشروع. كان من المتوقع أن يمثل مشروع إنشاء محطة فضائية خطوة كبرى، وكان فيه مساس بمخاوف عدد من الإدارات الأخرى: البنتاجون، ووكالة الاستخبارات المركزية، ووزارة التجارة التي تمتلك أقمارا صناعية للأرصاد الجوية، ووزارة الخارجية المهتمة بالتعاون الدولي في مجال الفضاء. ربما حاول بيجز تقديم خطة إنشاء المحطة الفضائية في لقاء شخصي بالرئيس ريجان، بيد أن ريجان لم يكن ليقتنع بالأمر؛ إذ كان سيصر على ضرورة أن تمنح كل تلك الأطراف المعنية فرصة عادلة للاستماع إلى آرائها. كانت لدى بيجز مشكلة محددة، حيث لم يكن ثمة أي اهتمام حقيقي بالمحطات الفضائية خارج ناسا نفسها. كان «المستخدمون»، الذين كان بيجز مهتما جدا بآرائهم، في معظمهم من عملاء ناسا، وكانوا على استعداد للتوصية بما يريد أيا كان.
في تلك الأثناء، دخل جلبرت راي - وهو كولونيل شاب ومفعم بالحماس من القوات الجوية - حياة بيجز. كان راي شخصا نحيفا وطويل القامة، وكان له شعر أسود كثيف ومجعد، وكان من الأشخاص الذين يلائمهم الزي الرسمي للقوات الجوية. عمل راي مع الجنرال ألكسندر هيج في مقر الناتو في أوروبا، وتذكره هيج عندما صار وزيرا للخارجية. كان راي قد قضى أيضا ثلاث سنوات في البنتاجون، حيث ساهم في إنشاء إدارة الفضاء في القوات الجوية، وقد لعبت تلك الإدارة دورا رئيسا في الفضاء على مدى فترة طويلة، وكان هذا الدور يتزايد. في ظل إدارة ريجان، كان من المقرر أن تصير برامج الفضاء العسكرية أكبر من برامج ناسا. كان راي يشغل آنذاك منصب مدير برامج الفضاء، وهو منصب عضو عامل في مجلس الأمن القومي. حظي بدعم رئيس مجلس الأمن القومي، ويليام كلارك، الذي كان صديقا قديما لريجان. وكان راي مؤيدا قويا لفكرة إنشاء محطة فضائية.
كان من المقرر أن يلقي ريجان خاطبا مهما حول برنامج الفضاء في يوليو، وأمل بيجز في تجاوز عملية المراجعة المشتركة بين الوكالات بإقناع الرئيس بإعطاء تعهد مباشر على غرار جون كينيدي، معلنا هذا البرنامج الجديد على غرار جون كينيدي عندما استهل مشروع «أبولو». أثار أتباعه تخرصات بأن الرئيس سيفعل ذلك، مع ممارسة ضغوط قوية وتنظيم حملة كتابة خطابات تطالب بمحطة فضائية. أحصى موظفو البيت الأبيض سبعة عشر مقالا في الصحف والمجلات، تتوقع أن يعلن ريجان موافقته. التقى بيجز براي، الذي كان يساعد في كتابة خطاب الرئيس، واتفقا معا على الكلمات التي من شأنها أن تجعل الأمر رسميا: «يجب أن نتطلع بقوة إلى المستقبل بالبرهنة عمليا على إمكانية المكوك الفضائي وترسيخ كيان مأهول دائم في الفضاء.»
كان مقررا أن يلقي ريجان هذا الخطاب في قاعدة إدواردز الجوية في 4 يوليو، كجزء من احتفالية صاخبة بالفضاء. كان من المقرر أن يهبط المكوك «كولومبيا» هناك بعد الانطلاق في رحلة مدارية أخرى، وكان مقررا أيضا أن ينطلق مكوك فضائي مداري آخر، وهو «تشالنجر»، صوب كيب كانافيرال على متن طائرة «بوينج 747»، وكان ريجان من سيعطي بنفسه أمر الانطلاق إلى قائد الطائرة. عندما حان يوم العودة، كانت ثمة فرقة موسيقية تعزف في موقع الهبوط، وكانت الأعلام ترفرف، وبلغ عدد الحاضرين خمسين ألف شخص. بالإضافة إلى ذلك، كان مراقبو رحلة ناسا قد أجلوا على نحو مدروس هبوط «كولومبيا» لإجراء دورة إضافية في مدار، حتى يتسنى لريجان الحصول على قسط أكبر من النوم.
وقف الرئيس مع الوفد المرافق له تحت شمس الصحراء الحارة، بينما قدم إليه بيجز مجموعة من رواد الفضاء في بذلات طيران زرقاء. بعد ذلك، حسبما تذكر ريجان لاحقا، «طلبوا منا الإسراع إلى المنصة، إذ قالوا لنا إن الوقت قد حان للصعود إلى المنصة، بينما كان المكوك الفضائي في طريقه إلى الهبوط. قالوا إنه يقترب». سأل الرئيس: «أين هو الآن؟» فأجاب أحدهم: «فوق هونولولو تماما.» كانت هاواي على مسافة بعيدة مثلها مثل واشنطن، وعلى حد تعبير ريجان: «أدركت المعجزة برمتها حينئذ.»
ثم واصل خطابه قائلا: «يجب أن نتطلع بقوة إلى المستقبل بالبرهنة عمليا على إمكانية المكوك الفضائي وترسيخ كيان مأهول دائم في الفضاء.» لم يكن هذا يعني شيئا على الإطلاق، بل من المحتمل أنه كان يشير إلى مزيد من المركبات الفضائية غير المأهولة. كانت مسودة راي للخطاب قد وزعت في البيت الأبيض، وارتاب ديفيد ستوكمان - مدير الميزانية - في الأمر. لم يكن ستوكمان يرغب في أي مبادرات مكلفة جديدة في مجال الفضاء، ورتب لحذف الكلمة المعارضة لرغبته.
لم يكن ثمة مجال لتفادي المراجعة المشتركة بين الوكالات. كان من المقرر أن تتولى لجنة من البيت الأبيض إجراء عملية المراجعة، وكما جرت العادة، فإن من سيتولون تعيين أعضاء اللجنة هم المنوط بهم تقرير توصياتها والفصل فيها. كان جورج كيوورث، المستشار العلمي لريجان، في مقدمة هؤلاء، وكانت لديه شكوك كثيرة للغاية تجاه ناسا؛ قال: «السبب الرئيسي للرغبة في بناء محطة فضائية هو إرسال بشر إلى الفضاء. لماذا نريد أن نفعل ذلك في الوقت الذي ندخل فيه توا عصر الإنسان الآلي والأتمتة؟» أشار كيوورث إلى أن السوفييت كانوا يعتمدون على المركبتي «ساليوت» و«سويوز» المأهولتين، نظرا لأن موسكو لم تكن لديها إلكترونيات متطورة. حذر لجنة فرعية في مجلس النواب قائلا: «لا تقلدوا تكنولوجيا أقل.» إن التركيز على إرسال بشر إلى الفضاء «سيتراجع إلى الوراء»، سيصبح «خطوة غير موفقة على الإطلاق».
2
كان كيوورث قد اقترح وضع موضوع المحطة الفضائية بين يدي مجموعة عليا مشتركة جديدة تكون معنية بشئون الفضاء، وهي لجنة على مستوى وزاري يرأسها بنفسه. اعترض جيل راي مسار الخطة قبل وصولها إلى ريجان وتحدث إلى رئيسه ويليام كلارك الذي كان يدعم ناسا؛ قال راي لاحقا: «كنت أريد أن أضمن سيطرتنا على أجندة الفضاء وليس على المستشار العلمي.» قرر كلارك أن يكون راي رئيس اللجنة بدلا منه، وحرم كيوورث من حق الانضمام إلى اللجنة كأحد الأعضاء الذين لهم حق التصويت. استبعد أيضا صوت ستوكمان، الذي كان يرأس مكتب الإدارة والموازنة. جاء تشكيل اللجنة العليا المشتركة الناتج موافقا لرأي بيجز ولاقى استحسانه.
في تلك الأثناء، كانت مجموعة عمل المحطة الفضائية التابعة لناسا توسع من دائرة تبرير البرنامج. ربما كان إصلاح الأقمار الصناعية، وهو هدف مركز عمليات الفضاء، عملا أحمق؛ حيث كانت الإلكترونيات الحديثة تمنح المركبات الفضائية عمرا افتراضيا أطول. عندما كانت إحداها تعطب، لم يكن يصعب إطلاق بديل لها. إذا كان من المقرر أن تكون المحطة مركز صيانة، فلا بد أن تبرهن على توفيرها النفقات، وهو ما سيقود الوكالة مرة أخرى إلى مستنقع تحليل التكلفة والفائدة. لكن، استطاعت ناسا استبدال هذا الغرض بغرض آخر، وهو إجراء بحوث في حالة انعدام الجاذبية، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى تطورات ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى الطب، وربما الإلكترونيات أيضا. جدير بالذكر أن شركات صناعية عديدة كانت قد بدأ يكون لها نشاط فعلي في هذا المجال.
كان النمو البلوري محل اهتمام خاص، لا كعلاج عصري بل كتمرين أساسي في علم الأحياء الجزيئي. كان العلماء يعرفون أن الوظيفة في هذا المجال يجب أن تتبع الشكل؛ حيث تحدد التفاصيل المحددة لشكل جزيء كيفية عمله داخل إحدى الخلايا. لمعرفة شكل الجزيء، كان الأمر يتطلب تشكيل بلورة جيدة من المادة قيد الدراسة، ثم فحصها باستخدام شعاع قوي من أشعة إكس؛ وهذا من شأنه توفير بيانات يستطيع الكمبيوتر تحليلها، موضحا الشكل الجزيئي. تضمنت الجزيئات محل الاهتمام الأحماض النووية والإنزيمات والبروتينات الأخرى، التي لم يكن أي منها يكون بلورات على الفور. كانت عملية النمو البلوري دقيقة، تختلط نتائجها بسهولة بسبب آثار ناجمة عن الجاذبية، ولم يكن ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن انعدام الجاذبية سيساعد في تفادي هذه الآثار.
كانت أجهزة الكمبيوتر وعمليات الأتمتة قد انتزعت كثيرا من المهام من نماذج المحطات الفضائية مثل النموذج المنشور في مجلة «كوليرز»، بيد أن النمو البلوري وفر عملا للمحطة الفضائية التي كان من المتوقع أن تقدم أجهزة الكمبيوتر المثلى أفضل ميزة فيها. كان من المقرر أن تتولى أجهزة الكمبيوتر المهمة الأكثر إلحاحا المتمثلة في تحديد بنية جزيئية مفصلة. استعان عالم البلورات ماكس بيروتس بأجهزة الكمبيوتر الأولى، لكنه ظل يجاهد من عام 1937 إلى عام 1967 لحل بنية الهيموجلوبين، محددا موضع كل ذرة من ذراته البالغ عددها عشرة آلاف ذرة. قضى بيروتس خمسة عشر عاما ليحدد فقط كيف يتناول هذه المسألة، وهو اكتشاف أدى في حد ذاته إلى فوزه بجائزة نوبل؛ حيث قضى بعد ذلك خمسة عشر عاما أخرى في تنفيذ طريقة الحل. مع ذلك، أظهرت هذه البنية بوضوح - عند تحديدها - كيف يمتص الهيموجلوبين الموجود في كرات الدم الحمراء الأكسجين ويطلقه، وتمكنت أجهزة الكمبيوتر الحديثة من حل هذه المشكلات في غضون أسابيع، في حال كانت البلورات جيدة بالقدر الكافي.
بالنسبة إلى ناسا، كان ثمة مشروع آخر بشر بميزة تجارية. تضمن هذا المشروع شراكة بين شركتي «ماكدونل دوجلاس» و«أورثو فارماسوتيكالز»، يعود تاريخها إلى عام 1980، وكان الهدف من هذه الشراكة هو إنتاج بروتين يحمل اسم «إريثروبويتين». يحاكي الإريثروبويتين نمو خلايا الدم الحمراء؛ كان تصنيعه يتم في الكلى، وكان نقصه يسبب الأنيميا. كان أفضل أسلوب إنتاج متوافر بالفعل حساسا للغاية تجاه الجاذبية، وكان لهذه الشراكة السبق في إثبات أن انعدام الجاذبية يؤدي إلى تحسن هائل. أسفر اختبار مبدئي على متن البعثة الرابعة للمكوك الفضائي، الذي استقبله ريجان عند عودته، عن ناتج يزيد بمقدار أربعمائة مرة، ودرجة نقاء تزيد بمقدار خمس مرات. أكدت ثلاث رحلات تالية خلال العام التالي لذلك العام هذه الفوائد، بينما أظهر أفضل اختبار عن زيادة بمقدار 700 ضعف في الناتج. حتى ذلك الحين، كانت التجارب الإكلينيكية لا تزال حدثا مستقبليا، كذلك الاحتمال المدهش حقا الذي أشار إلى أن الفضاء ربما لا يخدم مجال الأبحاث فحسب، بل قد يخدم أيضا الإنتاج الروتيني للمنتجات ذات القيمة التجارية.
كانت ثمة شركات أخرى مهتمة أيضا بهذا الموضوع، كان من بينها شركتان ناشئتان؛ «مايكروجرافيتي ريسرش آسوشيتس» و«مايكروجرافيتي تكنولوجيز»، تعملان في تنفيذ خطط معالجة أشباه الموصلات في الفضاء مثل جاليوم آرسنايد، المستخدم في الإلكترونيات الدقيقة. كانت شركة ثري إم بصدد وضع برنامج مدته عشر سنوات لإعداد البلورات العضوية والأفلام الدقيقة من خلال سلسلة من الرحلات المكوكية. كان ثمة نشاط أيضا في شركتي «جون دير» و«بيت لحم للصلب» المنخفضتي التقنية؛ حيث كان الباحثون يأملون في دراسة عملية تصلب الحديد في حالة انعدام الجاذبية.
رفع كريج فولر، وهو أحد معاوني البيت الأبيض، هذه الأمور إلى عناية ريجان خلال عام 1983. كان الرئيس لديه آمال كبيرة بشأن ناسا؛ فقد كان ينظر إلى برنامج الفضاء باعتباره تعبيرا عن نظرته المتفائلة بشأن بزوغ الصباح في أمريكا. تعهد الرئيس تعهدا قويا على الجانب العسكري في شهر مارس آنذاك، بالإعلان عن مبادرة الدفاع الاستراتيجي التي كانت تهدف إلى حماية البلاد من الصواريخ السوفييتية. في مستهل شهر أغسطس، رتب فولر للرئيس استضافة اجتماع غداء لمجموعة من المسئولين التنفيذيين الذين كان يطمحون إلى تنفيذ أنشطة تجارية في الفضاء. أخبروه أن المحطة الفضائية من شأنها أن تشجع على هذه الأنشطة، وعقب ريجان قائلا: «أنا أيضا أريد محطة فضائية. كنت أريد محطة فضائية منذ وقت طويل.» لم يتعهد بأي تعهدات، لكنه خرج من الاجتماع منبهرا ومفتونا بما جاء على لسان ضيوفه وأخبروه به.
مع ذلك، كانت المحطة تمثل مشكلة حقيقية في إطار المجموعة العليا المشتركة المعنية بشئون الفضاء، وهي مجموعة المراجعة المشتركة بين الوكالات؛ فقد بذل جيل راي كل ما في وسعه لترتيب الأمور سرا لصالح ناسا، بيد أن الكيانين العسكري والاستخباراتي كانا ممثلين بكثافة في اللجنة. وكان ويليام كيسي، الذي كان يرأس وكالة الاستخبارات المركزية، معارضا للمحطة؛ إذ لم يكن يرى حاجة إليها. كانت ثمة معارضة أيضا من هيئة الأركان المشتركة ومن كاسبار واينبرجر، وزير الدفاع، للسبب نفسه. كان هذا الأمر مثار قلق من ناحيتين. كان واينبرجر أكثر أعضاء الحكومة نفوذا؛ كانت علاقته بريجان تعود إلى الفترة التي ترأس فيها ريجان ولاية كاليفورنيا، وعلى الرغم من أن دعم القوات الجوية قد سمح لناسا بمعاودة العمل في برنامج المكوك الفضائي في عام 1972، كان على بيجز الآن محاولة المضي قدما في المحطة في مواجهة المعارضة الصريحة من جانب البنتاجون.
صار بيجز مهددا بأن يجد نفسه دون دعم أو مساندة من أحد، وكان منتقدوه مترقبين حدوث ذلك الأمر. كان على رأسهم السيناتور ويليام بروكسماير، أحد المنتقدين اللاذعين لناسا، الذي كان قد رد بفظاظة على مؤيدي المحطة الفضائية قائلا: «أخشى أن يمضي البرنامج قدما بغض النظر عن وجود حاجة فعلية إليه؛ لأن وكالتكم تحتاج إليه أكثر من احتياج البلاد. كنت أعتقد منذ وقت طويل أن وكالتكم لديها تحيز قوي تجاه المشروعات الكبيرة والباهظة لأنها تبقي مراكزكم مفتوحة وتستبقي موظفيكم.»
3
كان من الواضح أن المجموعة العليا المشتركة المعنية بشئون الفضاء لم تكن لتتوصل إلى إجماع يصب في مصلحة المحطة الفضائية. مع ذلك، لم يقف بيجز مكتوف اليدين ولم تعيه الحيلة. قرر بيجز أن يروج للمحطة كبرنامج مدني صرف، دون أي علاقات بالجانب العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، شكلت لجنة مشتركة أخرى منتدى للمراجعة وإعادة النظر، وهو المجلس الوزاري للتجارة والتبادل التجاري، وكان رئيسها هو مالكولم بولدريدج، وزير التجارة في ذلك الوقت. كان بولدريدج لا يمانع في دعم خطط ناسا، التي ربما تعزز الاستخدامات التجارية للفضاء.
اتخذ قرار في هذا الشأن في مستهل شهر ديسمبر، خلال اجتماعين مع ريجان. قدم الكولونيل راي خيارات سياسية؛ حيث تحدث قائلا: «كان من السهل التحدث مع ريجان عن شيء هو شخصيا متحمس حياله، وهو متحمس حيال الفضاء. طرح أسئلة كثيرة وأراد معرفة المزيد عن المجالات المختلفة.» قدم بيجز نموذج المحطة الفضائية، وصرح ديفيد سكوتمان أن العجز في الميزانية لن ينخفض أبدا ما دامت هذه المشروعات مستمرة. رد ويليام فرنش سميث، وهو النائب العام وأحد أصدقاء ريجان المقربين، قائلا: «أعتقد أن المراقب المالي قد روج للفكرة لدى الملك فرديناند والملكة إيزابيلا على نفس النحو الذي روج به كريستوفر كولومبس لفكرته عندما قدم إلى البلاط الملكي.»
لم يتخذ ريجان أي قرار في ذلك الوقت، بيد أنه التقى مجددا بالمديرين بعدها ببضعة أيام. كانت المسألة تتضمن آنذاك طلبا محددا لناسا بتوفير 150 مليون دولار أمريكي لإطلاق مشروع المحطة الفضائية. أقر ستوكمان هذه المرة بأن ناسا ربما لا تحصل إلا على زيادات محدودة حقا في الميزانية خلال السنوات المقبلة، وقال ريجان: «تم!» ثم أضاف قائلا: «لا أرغب في تذكيري فقط بالسلفادور.»
أعلن الرئيس عن مشروع المحطة الفضائية بوضوح في خطابه حول حالة الاتحاد في يناير 1984. هذا الخطاب جدير بالذكر بوصفه من اللحظات التي كان من الممكن أن تغني فيها الدعاية والترويج الإعلامي عن الإنجاز الفعلي:
ثمة طاقة متجددة وحالة تفاؤل تعم أرجاء البلاد. عادت أمريكا شامخة.
يحفز الاقتصاد المزدهر الإبداع ويشجع على إطلاق المبادرات، وهذا الأمر ينطبق بدرجة أكبر على حدودنا القادمة، على الفضاء. ليس ثمة مكان آخر نبرهن فيه على ريادتنا التكنولوجية وقدرتنا على تحسين الحياة على الأرض أكثر من ذلك.
يمكننا بلوغ الرفعة والريادة مرة أخرى، يمكننا أن نتعقب أحلامنا حتى النجوم البعيدة، حيث نعيش ونعمل في الفضاء من أجل إرساء السلام وتحسين الاقتصاد وإعلاء العلم. الليلة، أصدر توجيهاتي إلى ناسا لإنشاء محطة فضائية مأهولة على نحو دائم، على أن يتم ذلك خلال عشر سنوات.
إن وجود محطة فضائية من شأنه أن يحقق قفزات كمية في أبحاثنا العلمية، وفي مجال الاتصالات والتعدين وعقاقير إنقاذ الحياة التي لا يمكن تصنيعها إلا في الفضاء.
4
استطاعت ناسا المشاركة في سطوع هذا الأمل؛ حيث كان المكوك الفضائي على وشك التشغيل وفق جدول زمني، فقد بدأ في تنفيذ بعثات دللت بوضوح على أهمية المحطة والوعود المعقودة بها. خلال عامي 1984 و1985، ركزت ثلاث بعثات على إصلاح الأقمار الصناعية المعطوبة واسترجاعها. كان القمر الصناعي الأول، وهو «سولار ماكسيمم»، قد بلغ مدارا فضائيا في عام 1980 لدراسة الشمس بينما كانت نشطة للغاية، حيث أصدرت كثيرا من البقع والتوهجات الشمسية. التحمت المركبة «تشالنجر» بالقمر الصناعي؛ حيث استبدل طاقم المركبة نظام التحكم في الاتجاه، وأصلحوا جهازا معطوبا عن طريق تركيب معدات إلكترونية جديدة. أعادت هذه الأعمال «سولار ماكس» إلى وضعه التشغيلي الكامل .
تلت ذلك رحلات قادمة تضمنت تمارين مشابهة. في وقت مبكر من عام 1984، انطلقت «تشالنجر» حاملة قمرين صناعيين للاتصالات، وبسبب خلل وظيفي أصاب أحد الصواريخ المرحلية، ظل القمران عالقين بلا أي فائدة في مدار منخفض. في نوفمبر انطلقت مركبة تابعة للجهة نفسها، «ديسكفري»، واستعادت هاتين المركبتين الفضائيتين القيمتين، مسترجعة إياهما إلى الأرض لإعادة إطلاقهما في النهاية. حدث الشيء نفسه تقريبا في العام التالي لذلك؛ حيث أدى عطب في الصاروخ إلى أن علق قمر صناعي للاتصالات العسكرية على نحو مماثل، ومرة أخرى انطلقت مركبة «ديسكفري» للنجدة، مصلحة العطب. دار الصاروخ المرحلي لاحقا على نحو عادي، وساعد القمر الصناعي في بلوغ مدار جيوتزامني.
انطلقت بعثات أخرى حاملة «سبيسلاب»، وحدة البحوث الأوروبية التي وضعت في غرفة حمولات المكوك الفضائي. أجرت البعثة الأولى، في نوفمبر 1983، سبعا وسبعين تجربة شكلت مزيجا من التليسكوبات الفلكية والتليسكوبات الشمسية ومعدات لدراسة الأرض وطبقة الأيونوسفير. أشارت مجلة «ساينس» أن «هذه الطريقة كان من شأنها أن تصبح أسوأ طريقة يمكن تصورها على الإطلاق لإدارة بعثة. كثير من التجارب متعارضة تماما: ستنحرف «كولومبيا» لأسفل باستمرار للإشارة تجاه الأرض، ثم لأعلى باتجاه النجوم، ثم للخارج باتجاه الشمس. لن تستطيع تجربة واحدة أن تستفيد من الوقت الاستفادة الكاملة، لكن «سبيسلاب 1» ليست ببعثة عادية؛ إنها تدريب في الأنشطة الهندسية الوفيرة».
5
ساعد هذا البرنامج أيضا في إدخال أوروبا بقوة في برنامج الفضاء المأهول لناسا، الذي انضم إليه اختصاصي الحمولات الألماني أولف مربولد ليكون ضمن أعضاء الطاقم. انطلقت «سبيسلاب» ثلاث مرات أخرى خلال عام 1985. أطلقت شركة «ماكدونل دوجلاس» معداتها الطبية البيولوجية، التي رافقها تشارلز ووكر - أحد علماء الشركة - في ثلاث رحلات إلى الفضاء خلال عامي 1984 و1985.
أحرز النمو البلوري أيضا تقدما ملحوظا. كان كل من في المجال يدركون أن هذا المجال فن أكثر منه علما، وأن ثمة القليل فقط ممن يجيدون هذا المجال؛ لذلك أثار الباحثون الألمان كثيرا من الاهتمام عندما وصفوا الأبحاث التي أجروها على البروتينات على متن «سبيسلاب 1». كانت بلوراتهم من البيتا جالاكتوزيداز أكبر من البلورات التي تنمو على الأرض حتى سبع وعشرين مرة، وكانت بلورات اللايسوزيم أكبر حجما بمقدار ألف مرة.
في جامعة ألاباما، قرر زميل الباحثين تشارلز باج أن يجرب حظه من خلال تجربة صغيرة يضعها وراء كابينة القيادة، ويحاول من خلالها بلورة أربع وثلاثين عينة. فقدت جميع العينات فيما عدا خمس عينات مع اهتزاز مكوك باج، «ديسكفري »، بقوة أثناء دوران محركات المركبة ثم تسارعها بينما كانت تجري مناورات في مدارها الفضائي، وفقدت بقية العينات عند الهبوط، عندما انفجر أحد إطارات هذه المركبة المدارية. مع ذلك، صادف باج مفاجأة سارة؛ فقد عثر على بلورة عرضها 1,6 مليمتر، قال: «لم تصادفني أية حالة بلغت فيها بلورة لايسوزيم هذا الحجم الهائل خلال خمسة أيام فقط. يؤكد هذا الأمر على أن ما اعتقدنا ممكن.»
بالإضافة إلى ذلك، كانت ناسا تقترب من اليوم الذي كان المكوك الفضائي سيحتكر فيه عمليات الإطلاق الأمريكية. كانت الوكالة بصدد الابتعاد سريعا عن صواريخ التعزيز القابلة للاستخدام لمرة واحدة فقط، على الرغم من أن هذه الصواريخ كانت ملائمة لعصرها. زادت القوات الجوية من قدرة صاروخها «تايتان 3» عن طريق وضع صواريخ وقود صلب أكبر حجما على جانبيه. كان الصاروخ «أطلس-سينتاور» قد صار صاروخا قياسيا، حيث حل محل الصاروخ «أطلس-أجينا» الأقل قدرة، الذي انطلق في مهمته الأخيرة في عام 1978. بالإضافة إلى ذلك، كانت شركة «ماكدونل دوجلاس» قد استفادت من برامج عصر «أبولو» التي كانت قد زادت قوة دفع محركات «ساتورن 1-بي» إلى 206 آلاف رطل. استخدمت محركات مشابهة في دفع الصاروخ «ثور»، الذي انطلق في الأساس بقوة دفع 150 ألف رطل. زاد مصمموه الطول بمقدار خمس عشرة قدما بما يسمح لحمل المزيد من الوقود، وأضافوا صواريخ محسنة للمراحل العليا. كانت مركبة الإطلاق التي تمخضت عن ذلك هي النموذج الأحدث المسمى «أطلس» ضمن سلسلة لا تزال قيد التطوير من صواريخ التعزيز فئة «ثور»؛ كانت هذه الصواريخ هي صواريخ إطلاق الأقمار الصناعية الأوسع استخداما لدى ناسا.
في وقت مبكر يرجع إلى عام 1977، قررت ناسا عدم شراء المزيد من صواريخ «تايتان 3»؛ وبناء على ذلك، طرحت ناسا صواريخ «أطلس-سينتاور» و«دلتا» جانبا؛ فأصدر ريجان توجيها إلى هذه الوكالة في مايو 1983 بنقل الصواريخ إلى شركات تشغيل في القطاع الخاص. بدا الأمر في ظاهره كما لو أن ناسا تنقل مركبات الإطلاق الحكومية إلى القطاع الخاص، لكن وجد مصممو الصواريخ أنفسهم بين شقي الرحى مكوكا فضائيا مدعما ومركبة «آريان» الفرنسية المدعمة، وهما ما كانا يتفوقان عليها في السعر من خلال تكاليف الإطلاق الأقل.
في عام 1972، توقعت ناسا أن تبلغ التكلفة لكل رحلة من رحلات المكوك الفضائي 10,4 ملايين دولار أمريكي، أو 24 مليون دولار أمريكي طبقا لأسعار الدولار المتضخمة في عام 1982. لاسترداد التكلفة الكاملة، كان على الوكالة أن تفرض 155 مليون دولار أمريكي؛ لأنه كان من المنتظر أن تكون رحلاتها متباعدة، ومع ذلك كان عليها أن تغطي تكلفة المنشآت الداعمة الكبيرة. بالنسبة إلى الأقمار الصناعية الخاصة بالاتصالات والاستخدامات التجارية الأخرى، كانت التكلفة الحقيقية 71 مليون دولار أمريكي لغرفة حمولة كاملة، موزعة على أقل من ذلك بكثير عند شغل الحمولة لمجرد جزء فقط من الغرفة. كذلك، لم تستطع ناسا زيادة هذه التكلفة، وإلا كانت ستخسر أعمالها لصالح «دلتا» و«أطلس-سينتاور»، فضلا عن «آريان».
في عام 1980 كان مؤيدو هذا الصاروخ الفرنسي قد كونوا شركة تجارية باسم «آريان سبيس» لتسويق خدمات إطلاقه. قدمت الشركة عروضا مغرية؛ إذ بينما كان على عملاء ناسا سداد كامل المستحقات قبل ثلاث سنوات من انطلاق رحلة بالمكوك الفضائي، كان عملاء «آريان» في مقدورهم إيداع مبلغ وسداد المبلغ المتبقي خلال بضع سنوات؛ بالإضافة إلى ذلك، كان في مقدور هؤلاء الأوربيين أيضا خفض الأسعار. قال ويليام ركتور من شركة «جنرال داينمكس»، الذي كان مسئولا عن «أطلس-سينتاور»: «كانت «آريان سبيس» تمتلك شبكة معلومات جيدة. كانوا يعرفون العطاء الذي نقدمه، وفجأة يقدمون سعرا أقل ليتفوقوا علينا في كل مرة!» بينما كان «أطلس» و«دلتا» محصورين على هذا النحو بين ناسا وأوروبا، كان واضحا أن كليهما سيختفي قريبا من الخدمة. لم يكن مسئولو ناسا ليتباهوا بالتصرف مثل بارونات فاسدين، بل كانوا يبتسمون ويقولون إن صواريخ التعزيز القابلة للاستخدام مرة واحدة كانت تخسر المنافسة أمام المكوك الفضائي، مثلما توقعوا في عام 1972.
مع ذلك، كان المكوك الفضائي يثبت أنه من أوهن المشروعات التي توضع فيها كل خيارات البلاد؛ فقد صمم على أمل إجراء خمس وخمسين رحلة قبل أن يستدعي الأمر إجراء عملية إحلال وتجديد شاملة. بدلا من ذلك، استدعى الأمر حلها جميعا كل ثلاث رحلات، لإحلال أرياش التوربين في المضخات التوربينية. كان كل محرك يكلف 36 مليون دولار أمريكي، وكان مزيج الميزانيات المحدودة وأسلوب الإدارة الموجهة نحو النجاح يعني عدم توافر كثير من قطع الغيار؛ وكنتيجة لذلك، يمكن أن تتسبب مشكلات صغيرة في محركات بعينها في تعطيل الجدول الزمني للرحلة بأسرها.
في ديسمبر 1981، أفضت حادثة صغيرة في «روكيت داين» إلى تمزق أنبوب قطره ثماني بوصات ما أدى إلى فكه من غرفة الاحتراق. ثبته العاملون في موضعه عن طريق اللحام، واختبروا اللحام لضمان تماسكه، لكنه لم يتماسك. بعدها بعام، بينما كان هذا المحرك موضوعا في المركبة «تشالنجر» في كيب كانافيرال، تشقق اللحام وتسرب الهيدروجين خلال عملية تشغيل تجريبية؛ هذا التسرب كان من شأنه أن يدمر المكوك الفضائي بتفجيره، لكن استغرق الأمر أسابيع لتحديد موضع التسرب لأنه كان في موضع يصعب الوصول إليه. شحنت ناسا محركا إضافيا من منشأة اختبارات المسيسيبي، لكن كان به أيضا تشقق في اللحام، فشحنت ناسا محركا إضافيا ثانيا، وأفلح الأمر؛ مما سمح بإجراء رحلة ناجحة.
على الرغم من ذلك، لم يكن ثمة أي محركات أخرى في المخزن خلاف هذين المحركين الإضافيين. كان المحرك الإضافي الثاني مخصصا للمركبة كولومبيا، التي أجرت خمس رحلات باستخدام المحركات الثلاثة نفسها. انطلقت كولومبيا مرة أخرى، على متن المركبة «سبيسلاب 1» في أواخر عام 1983، ولكنها كانت المرة الأخيرة، فلم تنطلق هذه المركبة المدارية مجددا حتى يناير 1986. وعندما احتاجت المركبة «تشالنجر» مرة أخرى إلى محرك، في فبراير 1984، لم يجدوا مفرا من الاستيلاء على محرك من المركبة «ديسكفري».
استعادت «ديسكفري» لاحقا مجموعة كاملة من المحركات ، لكن في يونيو أجهضت محاولة إطلاق بسبب عطل في جهاز الكمبيوتر وصمام تالف. لم تفلح الفحوصات المكثفة التي أجريت على مدى ثلاثة أسابيع كاملة في تحديد مشكلة الصمام، وألغى مدير البرنامج الرحلة تماما. نقلت حمولة الرحلة إلى الرحلة التالية التي أعقبت ذلك في أواخر شهر أغسطس، ونقلت حمولة أغسطس الأصلية على متن مركبتين تاليتين خلال الخريف؛ وهكذا سار الأمر.
بالإضافة إلى ذلك، كانت المركبة «تشالنجر» على شفا كارثة في أغسطس 1983، نظرا لوجود مشكلة في أحد صواريخ التعزيز ذي الوقود الصلب الخاصة بها؛ إذ تآكلت بطانة فوهة العادم بشدة خلال فترة تشغيل الصاروخ التي استغرقت دقيقتين، وكان من الممكن أن تحترق البطانة عن آخرها لو استمر تشغيل الصاروخ لمدة ثماني ثوان أخرى. ولو استمر الأمر لمدة ست ثوان بعدها، كانت ألسنة اللهب الساخنة المنبعثة من صاروخ التعزيز ستخترق الفوهة نفسها، وهو ما كان ينذر بوقوع انفجار هائل.
كان البنتاجون يخطط لأن يصبح المستخدم الرئيسي للمكوك الفضائي، متوقعا الاعتماد عليه حصريا متى صار جاهزا للعمل تماما؛ لكن في فبراير 1984، صدق وزير الدفاع وينبرجر على وثيقة سياسة تنص على أن الاعتماد الكامل على المكوك الفضائي «يمثل خطرا غير مقبول على الأمن القومي». في يونيو، سحبت القوات الجوية الثقة من ناسا على نحو فج. أعلنت القوات الجوية أنها ستزيل عشر حمولات من المكوك الفضائي بداية من عام 1988، وأنها ستنقلها على متن صواريخ قابلة للاستخدام لمرة واحدة.
كان جيمس بيجز يدرك تماما أن القوات الجوية ربما تفعل الشيء نفسه مع حمولات أخرى كثيرة خلال السنوات القادمة، وثارت ثائرته لذلك حيث صاح مزمجرا: «المكوك الفضائي هو أفضل نظام نقل فضائي يمكن التعويل عليه على الإطلاق.» لم توافقه القوات الجوية الرأي. كان من المنتظر أن تستخدم المكوك الفضائي من حين إلى آخر، بيد أن مركبة إطلاقه الرئيسية كانت ستصبح نموذجا محدثا آخر من الصاروخ «تايتان 3» المطور من قبل شركة «مارتن ماريتا». أعادت هذه الشركة بناء الصاروخ باستخدام محركات جديدة تعمل بالوقود السائل، زادت من قوة الدفع بنسبة 30 في المائة. أدت المحركات إلى تحسن هائل في الأداء، حتى إن هذا الصاروخ الجديد قد سمي «تايتان 4». تمكن هذا الصاروخ من رفع ما يصل إلى 39 ألف رطل إلى مدار فضائي، وهو ما أكسبه قوة تنافسية كبيرة أمام المكوك الفضائي، الذي كان وزنه زائدا زيادة مفرطة، وكان لا يتخطى في تعزيزه أكثر من 47 ألف رطل. زاد الطين بلة أن الصاروخ «تايتان 4» كان يستوعب حمولات أكبر بكثير من تلك التي كان المكوك الفضائي يستطيع حملها.
جاء تصويت آخر بسحب الثقة في سبتمبر 1985، مع انسحاب «أورثو فارماسوتيكالز» للصناعات الدوائية من شراكتها مع «ماكدونل دوجلاس». ظلت كلتا الشركتين مهتمتين للغاية بإنتاج الإريثروبويتين للحد من الأنيميا، وكانت وحدة المعالجة في انعدام الجاذبية لدى «ماكدونل» تحلق بانتظام على متن بعثات المكوك الفضائي. لكن، طورت شركة ناشئة في كاليفورنيا تسمى شركة «آمجين»، آلية جديدة تعتمد على الهندسة الوراثية؛ من خلال هذه الآلية الجديدة، استطاع علماء الشركة الربط بين جينات ملائمة في صورة بكتريا سريعة النمو. قال أحد مديري الشركة: «إن الفرق بين ما تفعله «ماكدونل» وما نفعله نحن، يشبه الفرق بين نسخ كتاب يدويا في العصور الوسطى واستخدام ماكينة نسخ.» صار بروتين «آمجين»، المسمى «إبوجين»، أكثر المنتجات نجاحا في صناعة التكنولوجيا الحيوية.
تخلت «أورثو» عن شراكتها مع «ماكدونل» لتشكل فريقا مع «آمجين»، وهو ما كان يوضح بجلاء كيف أن الشركات الناشئة تستطيع انتهاز الفرص. حاولت «ماكدونل» مواصلة أنشطتها، لكن بمرور الوقت كان عليها أن تقر بتفوق آلية «آمجين»، لا سيما أنها كانت تعمل على نحو جيد في وجود الجاذبية. كان هذا بمنزلة ضربة مدوية لناسا، التي كانت قد بالغت في شراكة «ماكدونل-أورثو» وجهودهما معا باعتبارها دليلا على إمكانية المعالجة في الفضاء. كانت ناسا قد واصلت جهودها بكثافة خلال عامي 1984 و1985؛ حيث سعت إلى اجتذاب شركات كعملاء من أجل البحوث التجارية على متن المكوك الفضائي، بل عرضت أيضا توفير حيز خال على متن الرحلات، لكن لم تسفر الجهود التي استغرقت عامين عن اجتذاب أي عملاء. في أعقاب ذلك، كانت شركة «ثري إم» هي الشركة الكبرى الوحيدة التي لا تزال تؤدي بعثات في مدارات فضائية. أضعف هذا التطور بدوره من منطق إنشاء محطة فضائية، وهو المشروع الذي كان مؤيدوه قد روجوا له باعتباره ميزة إضافية للصناعة.
ثم جاء يوم 28 يناير 1986، يوم «تشالنجر».
لا تزال الصورة محفورة في ذاكرة البلاد: يرتفع المكوك على عمود العادم المنبعث من صاروخ إطلاقه، ثم تتكون كرة نار برتقالية اللون، ثم ينطلق صاروخا تعزيز يعملان بالوقود الصلب انطلاقا مدويا، ويندفع وابل من الشظايا التي خلفت دخانا على صفحة السماء الزرقاء؛ كانت إحدى هذه الشظايا هي القمرة الحاملة طاقم الرحلة، الذين ظلوا فيما يبدو محتفظين بوعيهم في أعقاب الانفجار. استغرق منهم الأمر أكثر من دقيقتين للسقوط في المحيط من ارتفاعهم الأصلي البالغ تسعة أميال. لم تكن ثمة مظلات على متن المركبة، وسرعان ما لقوا حتفهم بمجرد اصطدامهم بالماء.
كان الطاقم يتضمن مدرسة تدعى كريستا ماكوليف، التي كانت ناسا قد انتقتها من بين 11400 متقدم؛ كان هذا جزءا من حملة علاقات عامة لجذب الاهتمام من خلال إثبات أن المكوك الفضائي آمن بما يكفي لاصطحاب الأشخاص العاديين. كان السيناتور جيك جارن - أحد المؤيدين المتحمسين لناسا - قد انطلق إلى الفضاء على هذا النحو في أبريل 1985، وكان عضو الكونجرس بيل نيلسون قد انطلق إلى مدار فضائي على نحو مماثل في وقت سابق في يناير.
كان المكوك الفضائي يقترب حقا من طور التشغيل الروتيني، بعد أن كان قد أجرى خمس رحلات في عام 1984 وتسعا في عام 1985. كان العام الأخير قد تميز بعلامة فارقة؛ فللمرة الأولى، تطلق البلاد المكاكيك الفضائية بأعداد فاقت أعداد الصواريخ القابلة للاستخدام لمرة واحدة. كان ثمة خمس عشرة رحلة مدرجة على الجدول الزمني لعام 1986، وكانت ناسا تسعى إلى بلوغ أربع وعشرين رحلة بنهاية العقد.
لكن الطلب على زيادة معدل الرحلات وضع الجميع تحت ضغوط هائلة. كان ثمة رحلتان مهمتان على وشك الانطلاق قريبا. في 15 مايو، كان من المقرر أن تطلق المركبة «تشالنجر» المسبار الأوروبي «عوليس»، وهو عبارة عن مركبة سبر أوروبية كان مقررا لها أن تطوف حول المشتري، وتعتمد على جاذبيته للتحليق فوق قطبي الشمس. بعد ذلك بخمسة أيام، كان من المقرر أن تنطلق مركبة «جاليليو» الفضائية صوب المشتري، وكان من المقرر أن توضع كلتا المركبتين أعلى صاروخ المرحلة العليا «سينتاور»، الذي كان سيجري أولى رحلاته داخل المكوك الفضائي. إذا تجاوزت أي من المركبة «عوليس» أو المركبة «جاليليو» تاريخي إطلاقهما، كان سيتعين عليهما الانتظار ثلاثة عشر شهرا حتى تصبح الأرض والمشتري في وضع اصطفاف ملائم مرة أخرى.
كان السبب في الكارثة يرجع إلى صاروخي التعزيز ذوي الوقود الصلب الموضوعين على جانبي خزان الوقود الرئيسي. كان صاروخا التعزيز أكبر من أن يملآ بالوقود أو ينقلا كقطعة واحدة؛ لذا، اضطر مصممهما مورتون ثيوكول إلى تصميمهما في شكل أجزاء يجري تجميعها في كيب. كان بين كل جزأين من هذه الأجزاء فجوة؛ مما كان يقتضي إحكام غلقها للحيلولة دون تسرب الغازات الساخنة بفعل الضغط المرتفع. كان مانع التسرب يحتوي على حلقتين مطاطيتين سميكتين تحوطان قطر صاروخ التعزيز البالغ اثنتي عشرة قدما. عند إشعال الوقود الصلب لصاروخ التعزيز، أدى ارتفاع مفاجئ في الضغط إلى ارتخاء مانع التسرب الخارجي للصاروخ؛ ومن ثم، كانت الحلقات الدائرية في حاجة إلى مرونة كافية للاستجابة عن طريق الارتخاء بالتناغم مع مانع التسرب الخارجي للحفاظ على سلامة الغطاء وتماسكه. كان لكل صاروخ من صاروخي التعزيز وصلات محكمة الغلق من هذا النوع.
قبل الكارثة، لم تصمد الحلقات الدائرية في عدة رحلات سابقة بسبب التآكل الحادث بفعل الغازات الساخنة. وقعت حادثة خطيرة خلال إحدى مرات الإطلاق في أبريل 1985؛ حيث انطلق عادم الصاروخ في اتجاه الحلقة الدائرية الأولى، وأدى إلى تآكل ما يصل إلى 80 في المائة من الحلقة الثانية، في مساحة محدودة. صمد مانع التسرب على الرغم من ذلك، وواصل صاروخ التعزيز عمله على نحو طبيعي، لكن في «ثيوكول»، أصيب المهندسون المسئولون عن موانع التسرب بقلق شديد.
في يوليو، كتب روجر بواجولي - كبير مختصي موانع التسرب في الشركة - مذكرة إلى نائب رئيس الشركة «لضمان أن الإدارة على دراية تامة بخطورة مشكلة الحلقات الدائرية الحالية. أخشى ما أخشاه - وعن صدق - أننا إذا لم نتخذ إجراء فوريا بتعيين فريق يكون مختصا بحل المشكلة، فسنواجه خطر إضاعة رحلة، فضلا عن جميع منشآت منصة الإطلاق.»
6
شكلت «ثيوكول» هذا الفريق، الذي كتب رئيسه مذكرة في أكتوبر استهلها بكلمة: «النجدة!» واختتمها بعبارة: «هذه صافرة إنذار». مع ذلك، لم تكن ثمة ضرورة فعلية لذلك. لم يكن أفضل موانع التسرب سوى أحد أوجه التحسين الذي كان سيحدث في الوقت المناسب، مع مواصلة جهود تطوير المكوك الفضائي وصولا إلى التصميم الأمثل.
لم يكن ثمة أي معيار واضح يحدد الوقت الفعلي لتعطل الحلقات، بيد أن التجربة أثبتت أن الحلقات تعمل على أفضل نحو في الطقس الحار، وهو ما يجعل المطاط المصنوعة منه مرنا وطيعا. على النقيض من ذلك، كان الطقس البارد يجعلها قاسية، غير قادرة على الانثناء بسرعة، وهو ما كان يحدث عندما تتعرض للتآكل والتفحم من جراء ألسنة اللهب المنبعثة من صاروخ التعزيز. مع اقتراب تاريخ انطلاق رحلة «تشالنجر»، كانت تجتاح فلوريدا موجة باردة غير معتادة. في «ثيوكول»، عقد بواجولي وثلاثة عشر مهندسا آخرين اجتماعا وأوصوا بالإجماع بتأجيل الإطلاق.
لم يرق هذا الرأي كثيرا لكبار المديرين، الذين كانوا على دراية بمشكلة الحلقات الدائرية، لكن دفعتهم خبرة عشرات الرحلات الناجحة للمكاكيك الفضائية إلى التغاضي عن المشكلة؛ فقد أبلت موانع التسرب بلاء جيدا من قبل، مهما كان وجه القصور الذي تبدى أثناء ذلك؛ فلماذا لا تفلح مجددا؟ كانت ناسا قد دعت مؤخرا شركات أخرى لمحاولة الحصول على عقد صاروخ التعزيز ذي الوقود الصلب لشركة ثيوكول، وهو ما كان يضع الشركة تحت ضغوط هائلة للبرهنة على أن لديها القدرة المناسبة لخوض المهمة والنجاح فيها. ساد رأي نائب رئيس الشركة لصواريخ التعزيز الفضائية، جوزيف كيلمنستر، على مجموعة بواجولي وأوصى بإطلاق «تشالنجر»، واصفا الأدلة المتوافرة بأنها «غير قاطعة».
كان لورانس مولوي، الذي تولى إدارة عقد «ثيوكل» في مركز مارشال لرحلات الفضاء التابع لناسا، يريد أيضا أن يمضي قدما. سأل مولوي خلال إحدى المناقشات قائلا: «يا إلهي! ثيوكل، متى تريدونني أن أجري عملية الإطلاق، في أبريل القادم؟» أضاف جورج هاردي، نائب مدير في مركز مارشال، قائلا: «أشعر بالصدمة حيال توصياتكم.» لم يكن هاردي أو مولوي ليتخذ القرار النهائي، لكنهما أحجما عن مشاركة مخاوف مهندسي «ثيوكل» مع مسئولي كيب كانافيرال الذين كانوا يملكون سلطة تأجيل الإطلاق. مع ذلك، على الرغم من معارضة ناسا ومارشال، تشبث مختصو الإدارة الهندسية في «ثيوكل» بآرائهم. بعد تقديم بيان رسمي بالموافقة على الإطلاق، امتنع ألان ماكدونالد - كبير ممثلي الشركة في كيب - عن التوقيع.
كانت رقاقات ثلج بارتفاع ثلاث أقدام قد بدأت تتكون فوق برج الإطلاق خلال تجهيزات الإطلاق، حيث كانت تتدلى إلى أسفل كالخناجر؛ لكن في وقت متأخر من صباح ذلك اليوم، أشرقت الشمس وأذابت الثلج، فخففت بذلك من مخاوف الدقائق الأخيرة. مع دوران المحركات وشروع المكوك الفضائي في الارتفاع، ظهرت كتلة من الدخان الأسود قرب الوصلة السفلية في أحد صاروخي التعزيز ذوي الوقود الصلب. عجز مانع التسرب للحظة عن الانثناء، ثم سرعان ما انثنى، ولم يظهر مزيد من الدخان. لكن كان قد سبق السيف العذل؛ فقد أصبح مانع التسرب مجرد حشية تالفة سرعان ما كانت ستنفجر.
تحلل مانع التسرب تماما في مساحة صغيرة بعد تسع وخمسين ثانية تقريبا من زمن الرحلة، حيث ظهر لهب صغير على طول جانب هذا الصاروخ، ثم سرعان ما انتشر اللهب واحترق مثل موقد لحام، عند خزان الوقود وعند إحدى الدعامات التي كانت تؤمن صاروخ التعزيز هذا في مكانه. في غضون ثوان، بدأ الهيدروجين السائل في الاشتعال؛ انفجر الخزان؛ مما أدى إلى انفصال صاروخ التعزيز ذي الوقود الصلب عن دعامته والاصطدام بها، فاتحا إياها مثل بيضة مليئة بالمتفجرات. انفصل الخزان والمكوك الفضائي المداري. كتب أحد الصحفيين من صحيفة «تايمز» الصادرة في لوس أنجلوس قائلا: «لم أدر كم ثانية مرت حتى وصلنا صوت الانفجار بأسفل. عندما وصل صوت الانفجار، جاء مثل صوت الرعد، مصدرا صوت صلصلة في القوائم المعدنية الهائلة. ثم توقف الصوت فجأة، وحل محله سكون غريب ورهيب.»
أدى هذا السكون في كانافيرال إلى تعيين لجنة رئاسية بسرعة، كشفت عن أوجه قصور ليس في الحلقات الدائرية فقط، بل في ناسا نفسها. كان رئيس اللجنة هو ويليام رودجرز، وزير خارجية أسبق. في إشارة إلى أن «ثيوكل» كانت قد واجهت احتمال فقدان عقدها، أخبر رودجرز مولوي أن مسئوليها كانوا «تحت ضغوط كثيرة لتقديم الإجابة التي كنت تريدها. وفسروا ما قلت أنت والسيد هاردي بأنك كنت تريد منهم أن يغيروا وجهة نظرهم».
كتب جون يونج - كبير رواد الفضاء بوكالة ناسا - بمرارة عن موانع التسرب، قائلا: «ثمة سبب قوي واحد فقط للسماح بانطلاق رحلة تنطوي على مخاطر كهذه، ألا وهو ضيق الجدول الزمني.» نص تقرير اللجنة على أنه مع «تزايد» مشكلات موانع التسرب «في عددها وشدتها، حدت ناسا من الحديث عنها في بياناتها وتقاريرها. مع تأكيد الاختبارات ثم الرحلات للضرر الذي يلحق بحلقات منع التسرب، كان رد فعل كل من ناسا و«ثيوكل» هو زيادة حجم التلف الذي يعتبر «مقبولا».» حذر ريتشارد فينمان - وهو عالم فيزياء من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا حاصل على جائزة نوبل وكان معروفا بصراحته - من أن «ناسا تبالغ في موثوقية منتجها إلى حد الخيال». ثم أعلن مرثية «تشالنجر»: «فيما يخص التكنولوجيا الناجحة، يجب أن تكون للواقع الأولوية على العلاقات العامة؛ لأنه لا سبيل إلى خداع الطبيعة.»
7
بقي ثلاث مركبات مدارية: «ديسكفري»، و«كولومبيا»، و«أطلنطس»، كانت قد انضمت إلى الأسطول في عام 1985. بالإضافة إلى ذلك، كان جيل راي قد رتب لشركة «روكويل إنترناشونال» بناء أجزاء رئيسية في مركبة مدارية. تبلورت المركبة لاحقا كمركبة مدارية بديلة باسم «إنديفور». لكن من جوانب أخرى، اتخذت ناسا والقوات الجوية العديد من الخطوات الكبيرة بعيدا عن المكوك الفضائي. كانت ستظل تلعب دورها، بيد أن الهدف الآن كان أسطولا مختلطا؛ حيث كانت مركبات الإطلاق القابلة للاستخدام مرة واحدة ستتلقى فيه الاهتمام المستحق.
في وقت أزمة ناسا، حول ريجان بصره إلى جيمس فليتشر، مقنعا إياه بالعودة إلى هذه الوكالة رئيسا لها. في يونيو، ألغت ناسا خططا لاستخدام «سينتاور» كصاروخ مرحلة عليا في المكوك الفضائي، واضعة «جاليليو» و«عوليس» في مأزق. عكس هذا القرار قلقا جديدا من الخطر. كان «سينتاور» يعمل باستخدام الهيدروجين والأكسجين السائلين، ولم تكن ثمة طريقة لإيقاف رحلة المكوك الفضائي وتصريف الوقود الدفعي لإجراء هبوط آمن. في أواخر ذلك الصيف ، ألغت ناسا أيضا معظم رحلات «سبيسلاب» المقررة؛ كانت قد أطلقت أربع رحلات حتى ذلك الحين، لم تكن الرحلة التالية لتنطلق حتى ديسمبر 1990.
اتخذت القوات الجوية إجراءات أكثر، وكان لديها النفوذ الذي يخول لها القيام بذلك. قبل إدارة ريجان، كانت ميزانية الفضاء لدى البنتاجون هي نصف ميزانية ناسا فقط. في عام 1986، بينما كانت مبادرة الدفاع الاستراتيجي مثالا يحتذى وسط مجموعة من البرامج الجديدة العالية السرية، بلغت هذه الميزانية 17 مليار دولار أمريكي، وهو ما يفوق ضعف ميزانية ناسا.
كانت القوات الجوية قد بنت مجمع إطلاق للمكوك الفضائي في فاندنبرج بتكلفة 3 مليارات دولار أمريكي، لكن طرح المشروع جانبا. توسع قائد القوات الجوية إدوارد ألدريدج في عملية الشراء السابقة لعشر مركبات إطلاق ثقيلة طراز «تايتان 4»، طالبا شراء ثلاث عشرة مركبة أخرى. كان لديه أيضا حوالي سبعين صاروخا باليستيا عابرا للقارات طراز «تايتان 2»، نشرت معظمها في منصات إطلاقها على نحو يسمح بتشغيلها. ضاعف ألدريدج الجهود لتجديد ثلاثة عشر صاروخا منها، لاستخدامها كمركبات إطلاق. كان يدرك تماما أن كلا النموذجين يمكن إطلاقهما باستخدام سينتاور، بينما لم يكن هذا ممكنا في حالة المكوك الفضائي.
مع ذلك، كان برنامج الفضاء الوطني يعتمد حتى هذه اللحظة على مخزونه المحدود من صواريخ «تايتان» و«أطلس» و«دلتا» التي تخلفت عن عمليات شراء سابقة. كان لدى القوات الجوية سبعة صواريخ طراز «تايتان 3»، وفي 18 أبريل، انطلق أحدها من فاندنبرج حاملا قمرا صناعيا استطلاعيا طراز «هكسجون». كانت هذه البعثة على جانب من الأهمية؛ إذ كان صاروخ آخر طراز «تايتان 3» قد غاص في مياه المحيط الهادئ في أغسطس الماضي. لم يصل الصاروخ الحالي حتى إلى هذا المدى. بعد ثماني ثوان من لحظة الانطلاق، انفجر أحد صاروخي التعزيز ذي الوقود الصلب على جانبيه؛ مما أدى إلى انفجار الصاروخ بأكمله. تسبب وابل من النيران المتوهجة في إتلاف منصة الإطلاق، واستغرق الأمر سبعة أشهر لإصلاح التلف، بينما خضع «تايتان 3» لعملية الفحص نفسها التي خضع لها المكوك الفضائي. لم ينطلق الصاروخ مرة أخرى لمدة عام ونصف عام.
في 3 مايو جاء دور ناسا، التي أطلقت قمرا صناعيا بيئيا تشغيليا ثابتا بالنسبة إلى الأرض يختص بالأرصاد الجوية على متن الصاروخ «دلتا». هذا الصاروخ كان معروفا بكفاءته، حيث كان قد انطلق بنجاح في مرات إطلاقه السابقة التي بلغت ثلاثا وأربعين مرة، لكن حان دوره هذه المرة ليلقى نفس المصير. توقف محركه بعد سبعين ثانية تقريبا من الرحلة؛ كان الأمر خطيرا، وإن كان أقل خطورة مما في حالة «تشالنجر»؛ حيث كان من المقرر أن ينطلق صاروخ «دلتا» عسكري مرة أخرى، بنجاح، في شهر سبتمبر. لكن، لم يتبق لدى ناسا في مخازنها سوى صاروخين فقط طراز «دلتا».
عندئذ فقط، في ربيع عام 1986، لم يكن لدى ناسا صواريخ تعزيز مصدق على طيرانها سوى ثلاثة صواريخ طراز «أطلس-سينتاور»، جميعها ملتزم مقدما بحمولات معينة. كان لدى القوات الجوية مخزونها الخاص من صواريخ «أطلس»، بيد أنها لم تكن تحتوي على صواريخ مرحلة عليا قوية، ولم يكن في مقدورها أن ترفع سوى مركبات فضائية ذات حجم متواضع. خلال عام 1986، أجرت ناسا والقوات الجوية معا أربع عمليات إطلاق ناجحة فقط عن طريق «تايتان» و«أطلس» و«دلتا»، على الرغم من إمكانية إجراء عشرين عملية إطلاق ناجحة إذا كانتا قد استخدمتا المكوك الفضائي. كان هذا هو أقل عدد منذ عام 1959، وارتفع هذا العدد إلى سبع عمليات إطلاق في عام 1987، ثم انخفض إلى ست عمليات إطلاق في عام 1988؛ حيث لم يتعاف برنامج الفضاء الوطني حتى عام 1989. قال ألبرت ويلون، العقل المدبر لبرنامج «هسكجون»، بعيد انفجار «تايتان 3» في أبريل 1986: «أصبحنا بصدد كارثة لا سبيل إلى تقدير حجمها. لقد خرجنا فعليا من قطاع الأعمال.»
تعرضت «آريان سبيس»، التي كانت تروج لخدماتها بكثافة، لموقف كان يلائمها تماما. لكن في أواخر شهر مايو من العام نفسه، فشلت عملية إطلاق الصاروخ «آريان» من كورو عندما لم يعمل صاروخ المرحلة الثالثة الموجود به. لم يكن هذا أيضا بالأمر السيئ؛ إذ كانت هذه هي المرة الرابعة التي تفشل فيها عملية إطلاق الصاروخ ضمن ثماني عمليات إطلاق كاملة . بالإضافة إلى ذلك، كانت ثلاث من محاولات الإطلاق الفاشلة الأربع تنطوي على خلل في تشغيل صاروخ المرحلة الثالثة. تلقى فردريك دي ألست، رئيس مجلس إدارة «آريان سبيس»، تقريرا من لجنة تحقيق وتوصل إلى أن هذه المرحلة كانت بها «مشكلة جوهرية وعامة»؛ أدى ذلك إلى إيقاف برنامج الإطلاق الخاص بأوروبا أيضا، حيث لم ينطلق «آريان» مجددا حتى سبتمبر 1987.
في العالم بأسره، كان البرنامج السوفييتي هو البرنامج الوحيد الذي لا يزال مستمرا بكامل طاقته، وكان يتقدم نحو مزيد من القوة، على مستوى كل من الرحلات المأهولة وتطوير مركبات إطلاق جديدة وقوية؛ على وجه التحديد، بينما كان الأمريكيون يتحدثون عن المحطات الفضائية، كان لدى موسكو محطات فضائية بالفعل.
أفسحت «ساليوت 6» المجال أمام «ساليوت 7» المماثلة، التي انطلقت إلى مدار فضائي في أبريل 1982. بين عامي 1977 و1985، استضافت هاتان المحطتان إجمالي عشر زيارات طويلة المدى، دامت حتى 237 يوما. نظرا لهذه الزيارات، ظلت المحطتان مأهولتين على مدى نصف السنوات الثماني تلك تقريبا. قدمت هذه الزيارات أساسا قويا لتجربة الرحلات الطويلة؛ حيث صارت الحياة في الفضاء مسألة روتينية، مع إمكانية إعادة تزويد المحطة الفضائية بالمؤن عبر مركبة «بروجرس». برزت عمليات الالتقاء والالتحام الآلي باعتبارها ممارسة قياسية، على غرار ما حدث مع عملية إعادة التزود بالوقود في مدار فضائي.
أجرى رواد الفضاء الروس بحوثا أيضا؛ كانوا مقيدين بالقدرة المحدودة لمركبتهم الفضائية، بيد أن بعثة واحدة كانت تشتمل على تليسكوب لاسلكي كان ينبسط بقطر خمس وثلاثين قدما. خلال رحلة مدتها 175 يوما، استخدم رائدا الفضاء فلاديمير لياكوف وفالري ريومين التليسكوب في اختبارات تضمنت عملية منسقة مع تليسكوب لاسلكي آخر في القرم، باستخدام أسلوب يسمح لهذين التليسكوبين بتكوين صور واضحة للغاية؛ وعندما علق هذا الهوائي الشبيه بالطبق ولم يتسن التخلص منه، أجرى ريومين عملية سير في الفضاء وحرره.
انطلقت المحطة الفضائية التالية «مير» في فبراير 1986. تعني كلمة «مير» السلام والعالم معا، وهو ما كان ملائما. كان من المقرر أن تستضيف المحطة زوارا إضافيين من دول أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، وكانت في الوقت نفسه كاملة التجهيزات بما يكفي لكي تعمل كعالم قائم بذاته. مثلت تطويرا كبيرا لإمكانيات «ساليوت»، حيث كانت تتضمن طاقة كهربية أكثر ونظما آلية للعناية بدعم الحياة. كذلك، وفرت أجهزة الكمبيوتر الثمانية على متن المحطة الفضائية قدرة من نوع مختلف؛ مما أتاح الإمكانية لتشغيل معدات معقدة للغاية. الأفضل من ذلك كله أن «مير» صممت على نحو يسمح بتوسعتها؛ كانت بها وصلة التحام ذات خمس فتحات، وهو ما كان يسمح بتزويدها بإضافات رئيسية فعليا في أي وقت.
حملت المركبة الأولى، «كفانت» (أي الكم)، مجموعة كبيرة من الأدوات لاستخدامها في الفيزياء الفلكية. انطلقت في أبريل 1987، عندما كان رواد الفضاء على مستوى العالم مبهورين بنجم متفجر، وهو أقرب نجوم المستعر الأعظم خلال أربعمائة عام. حملت «كفانت» مرصدا أمكنه دراسة الأشعة السينية المنبعثة من هذا الانفجار النجمي، والتي لم تتمكن من اختراق الغلاف الجوي، لكن عند وصول «كفانت»، لم تستطع الالتحام جيدا. أجرى رواد الفضاء الروس على متن «مير» عمليات سير فضائي وعثروا على كيس نفايات يعوق الالتحام، فأزالوه بحيث تستطيع «كفانت» - التي صارت في وضع التحام جيد الآن - الإسهام على نحو فريد في الدراسات العالمية لهذا الحدث السماوي النادر.
بلغت محطات بحثية أخرى مدارا فضائيا، والتحمت أيضا بالمحطة «مير»، وكان من بين هذه المحطات البحثية مركبة «كفانت» ثانية في ديسمبر 1989، ثم المركبة «كريستال» في يونيو 1990، لإجراء دراسات في انعدام الجاذبية على علم المعادن والنمو البلوري. بينما كانت المركبة «سويوز» ملتحمة بوصلة مهايئ الالتحام، والمركبة «بروجرس» جاهزة لإجراء زيارة، شكلت «مير» مجموعة من ستة أقسام رئيسية، كان الكثير منها يشتمل على ألواح شمسية يمكن بسطها على مساحات واسعة. لم يهمل أيضا رواد الفضاء على متن «مير» سجلات رحلتهم الطويلة. في ديسمبر 1988، عاد فلاديمير تيتوف وموسا ماناروف بسلامة بعد قضاء عام كامل في الفضاء، وكانا أول من يفعل ذلك.
بالإضافة إلى ذلك، كان فالنتين جلشكو، الذي ظل رائدا لتصميم محركات الصواريخ في البلاد لفترة طويلة، قد واصل بكامل طاقته اهتمامه بالوقود الدفعي العالي الطاقة. تفوقت وجهة نظره على وجهة نظر غريمه فاسيلي ميشن، خليفة كوروليف. مع إلغاء الصاروخ «إن-1» القمري، صمم جلشكو مركبة تحمل أوزانا ثقيلة جمعت الكثير من أفضل ميزات «ساتورن 5» والمكوك الفضائي. في حقيقة الأمر، استطاعت أن تلعب كلا الدورين.
كانت المركبة تشبه كثيرا المكوك الفضائي في مظهرها العام، لكن كانت بينهما فروق مهمة؛ فالمكوك الفضائي كان يعتمد على صواريخ تعزيز ذات وقود صلب؛ وهو ما أفضى إلى مأساة «تشالنجر»، وبالإضافة إلى ذلك، كان المكوك الفضائي يضع محركاته الرئيسية في مؤخرة المركبة المدارية الشبيهة بالطائرة. لم يستخدم جلشكو أيا من صواريخ التعزيز ذات الوقود الصلب، وبدلا من ذلك، اعتمد على وحدات مزودة بالوقود السائل ذات موثوقية مؤكدة. بالإضافة إلى ذلك، وضع محركاته الرئيسية عند قاعدة خزان الوقود، وليس على المركبة المدارية، وهو ما كان يعني أن الصاروخ يمكنه الطيران دون المركبة المدارية، كمركبة إطلاق قائمة بذاتها.
كان هذا هو الصاروخ إنرجيا. انطلق الصاروخ من تيوراتام في مايو 1987، بينما كانت ناسا لا تزال في حالة ركود؛ وسجلت رقما عالميا بحمولة 220 ألف رطل تقريبا، بما يعادل مائة طن متري. فاقت هذه الحمولة كل الحمولات التي حملها الصاروخ «ساتورن 5» على الإطلاق، وكان الهيدروجين السائل هو الوقود الذي جعل الأمر ممكنا. كانت مركبته الفضائية، المسماة «بوليوس» (أي قطب)، عبارة عن نموذج أولي من محطة حربية مدارية مزودة بليزر قوي. لسوء الحظ، لم يتمكن نظام التحكم الخاص بالمركبة من بلوغ الاتجاه الصحيح، وأشعلت محركها الصاروخي في الاتجاه الخطأ. لم تتمكن «بوليوس» من بلوغ المدار الفضائي، حيث احترقت عن آخرها في الجو فوق المحيط الهادئ؛ لكن كان من المقرر أن ينطلق «إنرجيا » مجددا.
حدث ذلك في نوفمبر 1988، عندما حمل «إنرجيا» المركبة المدارية السوفييتية الشبيهة بالمكوك الفضائي في رحلة تجريبية غير مأهولة؛ كانت هذه هي المركبة المدارية «بوران» (أي عاصفة ثلجية). كانت تشبه كثيرا نظيرتها الأمريكية، من حيث حجمها وشكل أجنحتها وغرفة بضائعها، على الرغم من عدم احتوائها على محركات رئيسية خاصة بها، وبلغت مدارا فضائيا من خلال محركات «إنرجيا ». حلقت «بوران» في مدارين فضائيين، ثم نفذت عملية هبوط آلي على الرغم من الرياح العاتية، باستخدام كمبيوتر متطور على متن المركبة.
على الرغم من ذلك، على غرار الألوان البراقة لغروب الشمس التي تنبئ بحلول الظلام، اتضح أن هذه الموجة العارمة من الإنجازات السوفييتية ما هي إلا مقدمة لتراجع كبير في مجال الفضاء. كان من الواضح أن «بوران» مصممة لخدمة أغراض «مير»، وكان نموذج المركبة «كريستال» يتضمن فتحة التحام مخصصة للاستخدام من قبل ذلك المكوك الفضائي؛ لكن «مير» و«كريستال» و«إنرجيا» و«بوران» وكثير غيرها، وجدت نفسها حبيسة الكارثة الاقتصادية التي أعقبت سقوط الشيوعية في أغسطس 1991.
يجب عدم القول بأن هذه الثورة الروسية الثانية أحلت الشيوعية محل الرأسمالية، بل الأنسب هو وصفها بأنها إسقاط لنظام سلطوي حافظ على النظام العام، في صالح تنظيم فوضوي لم تكن الممارسات الراسخة لتستطيع الصمود أمامه. أدى التضخم المفرط إلى خفض سعر الروبل إلى واحد على الألف من قيمته السابقة. انتشرت جرائم العنف، في مجتمع كان قد حقق مستوى مرتفعا من الأمن العام. حقق مسئولو الحزب السابقين ثروات باستغلال صلاتهم، بينما كان العمال يكافحون من أجل الحصول على ما يساوي بضعة دولارات شهريا. تراجع الإنتاج الصناعي تراجعا هائلا، على نحو لم يشهد إلا نادرا منذ الكساد العظيم.
استمر برنامج الفضاء لفترة بإيقاعه المعهود، غالبا من خلال استخدام احتياطي من مركبات الإطلاق والمركبات الفضائية، لكن سرعان ما بدأت الاستقطاعات الكبرى في الميزانية؛ ففي عام 1992، تلقى برنامج الفضاء العسكري نصف التمويل الذي تلقاه خلال عامي 1990 و1991، بينما بلغت الاستقطاعات في البرنامج المدني ثلثي مستواها السابق. تم تخصيص نموذجين جديدين كمركبتين إضافيتين تلحقان بالمركبة «مير»، ألا وهما «سبكتر» «وبريرودا» (أي «طيف» و«طبيعة»)، اللتان كانتا مخصصتين للاستخدام في دراسات حول سطح الأرض وبيئتها. تأجل موعد إطلاق المركبتين إلى أجل غير معلوم، لم ينطلقا حتى عامي 1995 و1996.
مع ذلك، احتفظ المسئولون الروس ببعض الأموال لمواصلة مشروع «بوران». توقع يوري سيمينوف - رئيس مؤسسة كوروليف - عملية إطلاق جديدة في عام 1993، لكن خلال ذلك العام، في ظل استمرار خفض الميزانيات، ألغي كل من «بوران» و«إنرجيا». انتهى المطاف بنموذج «بوران» الكامل، الذي استخدم في اختبارات إنشائية وهندسية، في متنزه جوركي للعرض أمام الجمهور، على نحو لا يختلف كثيرا عن عجلة ملاه دوارة.
في عام 1995 انخفض تمويل برنامج الفضاء العسكري إلى 10 في المائة من تمويله في عام 1989، وانخفض البرنامج المدني إلى 20 في المائة؛ أي حوالي 400 مليون دولار أمريكي بسعر الصرف السائد وقتها. على النقيض من ذلك، تلقت ناسا حوالي 14 مليار دولار أمريكي في عام 1995. خلال ذلك العام، أجرت روسيا اثنتين وثلاثين عملية إطلاق فضائي فقط، وهو أقل عدد من عمليات الإطلاق منذ عام 1964، وانخفض الإجمالي مجددا في عام 1996، إلى ثلاث وعشرين عملية إطلاق فقط، وفي عام 1990، بلغ الإجمالي خمسا وسبعين. حذر مديرو البرنامج المدني والبرنامج العسكري في روسيا من أنه في حال عدم زيادة التمويل، ربما ينتهي برنامج الفضاء برمته في غضون عامين أو ثلاثة أعوام.
مركبات إطلاق فئة المكوك الفضائي. إلى اليسار، مكوك فضائي. إلى الوسط، صاروخ «إنرجيا»؛ صواريخ التعزيز تحوط خزان الوقود المركزي، بينما توضع حمولة ثقيلة بطول هذا الخزان. إلى اليمين، «إنرجيا» مع المكوك الفضائي «بوران» (دان جوتييه).
كان التدهور دراميا على نحو خاص في تيوراتام ومدينة لنينسك المجاورة؛ حيث وقعت أعمال شغب كبرى في فبراير 1992. أرسل المجندون العسكريون إلى هناك لأداء أعمال الصيانة، لكنهم كانوا يتناولون طعاما سيئا للغاية، ومضت أشهر دون أن يستحموا. مثلما أشار أحدهم قائلا: «جئت إلى هنا سليما، معافى، غير مضار، وها أنا الآن أعود إلى وطني عليلا، كسيحا، بعدما خدمت هنا عامين.»
بدأت أعمال الشغب عندما ألقي القبض على عامل عسكري وأرسل إلى مكتب القائد؛ حاولت القوات الأخرى إنقاذه بالاستيلاء على مركبة واقتحام البوابات، وهو ما تبعه إطلاق أحد الحراس النار، مصيبا أحد منفذي الاقتحام. انضم عدة مئات من الجنود الآخرين إلى الانقلاب، حيث استولوا على حوالي خمس عشرة مركبة للجيش، وأشعلوا النيران في المباني. احترقت ثلاث ثكنات، وعثر رجال الإنقاذ لاحقا على جثث ثلاثة رجال في الداخل.
أعادت السلطات النظام لا من خلال القبض على القادة فحسب، بل من خلال منح تصاريح إجازات للجنود الذين كانوا يواجهون صعوبات مثل اعتلال الصحة، ومع ذلك كان انتشار التدهور جليا؛ أشار أحد الكتاب في عام 1992 قائلا إن «الأساس هو تجديد مجمع الإطلاق، حيث لم تجر عمليات الفحص والصيانة الروتينية اللازمة على مدى عام ونصف عام. زرت منصة إطلاق «إنرجيا»/«بوران» مؤخرا. كان مشهدا محزنا؛ فقد كان بوسع المرء أن يصور هناك أفلام خيال علمي عن حضارة فضائية آفلة!»
بعدها ببضعة أشهر، أشار أحد الصحفيين إلى أن المرء في لنينسك «كان يمكنه أن يدرك للوهلة الأولى كيف تدهور الوضع في المدينة على نحو كارثي؛ فبينما لم يكن ثمة أي طعام تقريبا خلال السنوات الأخيرة، صارت لا توجد مبان الآن أيضا. كانت المعدات والمواد تنهب، وكانت مجمعات الإطلاق المتوقفة عن الخدمة تزداد تدهورا.»
8
كانت ثمة حرائق وسط المعدات المتوقفة عن الخدمة. في عام 1994، كتب مراسل روسي قائلا: «احترق مركز الضباط في الموقع العسكري عن آخره الشتاء الماضي، بيد أن تعبير «احترق عن آخره» لا يعكس الصورة الدقيقة تماما للمشهد. على وجه الدقة، اشتعلت النيران في مركز الضباط، وتكسرت كل النوافذ في نهاية المطاف، «على سبيل المزاح». بعد ذلك، ظل الدخان ينبعث من المركز على مدى ثلاثة أيام، على غرار فوكوشيما في اليابان.» اندلع حريق آخر في مبنى مجمع «سويوز»، وبعدها بأشهر كان لا يزال في إمكان الزائرين استنشاق رائحة الدخان. بعض منصات الإطلاق لم تعد صالحة للاستعمال، وأشار أحد المراسلين إلى أن «الناس كانوا يسرقون كل شيء، حتى النحاس أو الألواح المعدنية من أسطح المباني». عندما بلغ صاروخ مؤن إلى «مير»، كان جزء من المكملات الغذائية على متنه مفقودا؛ حيث كان قد جرى نهبه فيما يبدو على الأرض من قبل طاقم الإطلاق.
في مارس 1995، جاء المحلل الأمريكي جيم أوبرج لإلقاء نظرة وإبداء رأيه الخاص حيال الوضع في مجلة «آي إي إي إي سبكترام»:
كان ثمة الكثير من التدهور والخراب البادي للعيان. في بداية التسعينيات من القرن العشرين، لم تكن ثمة مصادر تدفئة أو مياه جارية في منازل العاملين، ولم تكن ثمة خدمات اجتماعية بدءا من المدارس وحتى الرعاية الطبية، ولم يكن يوجد في المتاجر سوى أردأ الأنواع من الأطعمة. انهار الأمن وتسلل المغتصبون الذين يستولون على الأراضي والممتلكات بوضع اليد، بينما اندس اللصوص في ضواحي المدينة. تدهورت الصحة العامة سريعا وانتشرت الأمراض، خاصة بين الأطفال. هجر كثير من العاملين المدنيين، الذين لم يتقاضوا أجورهم لأشهر، مواقعهم.
ذكرتني المباني المهجورة، والسياجات المكسورة، وأكوام النفايات المبعثرة بكثافة في كل مكان بأسوأ أوضاع التدهور الحضري في الولايات المتحدة. كانت الشقق المهجورة، التي كانت تشمل في بعض الأحيان وحدات سكنية بأكملها، تقف بلا نوافذ في مواجهة الشمس المتربة. كان الغبار، المنبعث من مسطحات الملح المحملة بالمبيدات الحشرية في بحر آرال، يسمم تدريجيا قاطني المدينة، الأضعف أولا.
واصل عاملو الفضاء الأكثر التزاما كفاحهم بمثابرة، فمضوا يرتجلون ويفككون أجزاء الآلات لاستعمالها كقطع غيار، متدبرين أمرهم بما هو متاح. كان أفراد هذا الكادر المتحمسون، الذين تتجاوز أعمارهم في المتوسط 50 عاما، قد مروا بكثير من الأمور، حتى إن أي تحد مستقبلي لم يكن يخيفهم.
9
كانت الأوضاع مشابهة كثيرا في ميرني، وهي مدينة عسكرية تخدم مركز الإطلاق الرئيسي في بليستسك. أشارت صحيفة «إزفستيا» أن «طابع الفقر المدقع للجنود كان يرى في كل مكان»؛ كان العاملون يأكلون العصيدة ثلاث مرات يوميا. قال أحد الطهاة: «لم أعد أتذكر متى كانت آخر مرة تناولنا فيها لحما طازجا. لم نذق الكرنب الطازج هذا العام.» أضاف أحد الجنرالات قائلا إن «إجمالي 255 عائلة من عائلات الضباط لم يكن لديهم محل إقامة».
اعتمد السوفييت على سفن التتبع «كوماروف» و«كوروليف» وسفينة القيادة «جاجارين». تركت سفن التتبع هذه في ميناء أوديسا حتى صدأت، وعرضت سفينة القيادة للبيع. ظلت «مير» مأهولة، بيد أن أوبرج أشار إلى حادثة مثيرة في مركز التحكم في البعثات قائلا: «عرض رواد الفضاء عدة معدات على شبكة النقل التليفزيونية إلى الأرض، ووصفوا المعدات، وسألوا عن وظيفتها والغرض منها. بعد جهد بحثي مضن، اضطر المراقبون الأرضيون إلى إخبار رواد الفضاء أن لا أحد على الأرض يعرف ماهية المعدات أو الغرض منها. لم تكن ثمة سجلات مكتوبة ولا خبراء على قيد الحياة للاستعانة بهم.»
في الولايات المتحدة استؤنف برنامج المكوك الفضائي؛ حيث أجرت «ديسكفري» أولى رحلاتها في سبتمبر 1988. كان العام التالي هو أول عام جيد حقا منذ عام 1985؛ حيث انطلق المكوك الفضائي في خمس بعثات أخرى. وضعت ثلاث عشرة مركبة مكوكية أخرى على متن أسطول من الصواريخ القابلة للاستخدام مرة واحدة جرى تجديده، فضلا عن سبع مركبات مكوكية أخرى على متن «آريان». كانت آثار «تشالنجر» لا تزال تلقي بظلالها على المشهد، خاصة في برنامج استكشاف الكواكب.
كان فقدان «سينتاور» بوصفه صاروخ مرحلة عليا على شكل مكوك فضائي قد أجبر بعثة «جاليليو» على الرجوع على متن مركبة ذات إمكانيات أقل تعمل بالوقود الصلب، وقد تكيف مديروها مع الأمر من خلال الاعتماد مجددا على حالات الانجذاب بين الكواكب لتوفير مساعدة جاذبية. كانت خطة البعثة تقتضي أن تحلق مركبة السبر مرورا بكوكب الزهرة، وأن تنفذ عمليتي طيران منخفض من الأرض للحصول على مزيد من الطاقة، في الاتجاه المعاكس لوجهة «جاليليو»؛ ومن ثم، كان من المقرر أن تتجه المركبة الفضائية إلى الخارج من خلال التوجه إلى الداخل أولا.
كانت المركبة الفضائية، التي بنيت في مختبر الدفع النفاث، قد نقلت على متن شاحنة إلى كانافيرال قبل فقدان «تشالنجر». عادت المركبة إلى كاليفورنيا بالطريقة نفسها، ثم أعيدت إلى كيب على متن شاحنة أخرى مع اقتراب تاريخ إطلاقها الذي أعيدت جدولته. في أثناء هذه الرحلات الطويلة، كان زيت التشحيم يتسبب في سحج بعض أضلاع الهوائي في المركبة، وبمجرد صعودها إلى الفضاء، كانت الأسطح المعدنية غير المشحمة تلتحم بفعل البرودة؛ مما يؤدي إلى التصاقها بشدة فيما لا يعدو تلامسا في الفراغ. عندما حاول مراقبو البعثة بسط الهوائي، وجدوه عالقا. كان يفترض أن يتم الأمر بسهولة مثلما يحدث عند فتح مظلة، وهي ما كان الهوائي يشبهها كثيرا، لكن بدلا من ذلك، لم يبق لمختبر الدفع النفاث سوى ما أطلق كبير العلماء تورنس جونسون عليه «كيسا منبعجا معدوم النفع من شبكة معدنية». كان من المقرر أن تبث «جاليليو» صورا بسرعة 134 ألف بت في الثانية، لكن لم يكن لديها الآن سوى هوائي قليل الكسب، كان أبطأ بما يزيد عن ثلاثة آلاف مرة.
لحسن الحظ، كان مختبر الدفع النفاث يتمتع بقدر كبير من الخبرة في إصلاح المركبات الفضائية المعطوبة. كان علماء المختبر يستطيعون إعادة برمجة الكمبيوتر على متن المركبة من الأرض، وإصدار الأوامر له لتطبيق أساليب ضغط البيانات، لزيادة المحتوى المعلوماتي بواقع عشر مرات في كل وحدة بت. كان الكمبيوتر يحرر البيانات أيضا، على سبيل المثال، من خلال حذف سلاسل وحدات البت التي كانت تصور سواد الفضاء فحسب؛ بالإضافة إلى ذلك، زاد مختبر الدفع النفاث من حساسية شبكة الفضاء السحيق المستخدمة في التتبع. عززت هذه التغييرات من القدرة الفعلية لوصلة الاتصالات إلى ألف بت في الثانية، وهو ما كان كافيا لضمان بعثة مثمرة، ومع ذلك، على الرغم من كل هذه الأعمال البطولية، كان كثير من البيانات عرضة للفقدان.
بالتصديق على «جاليليو» كمشروع في عام 1977، وتحديد موعد إطلاقها ليكون في عام 1982، ثم في عام 1986، ثم إطلاقها أخيرا في أكتوبر 1989، وصلت «جاليليو» أخيرا إلى المشتري في ديسمبر 1995. على الرغم من ذلك، كانت هذه بعثة ذات أولوية مرتفعة نسبيا. كان ثمة علماء آخرون ينتظرون لفترات مشابهة؛ فعلى الرغم من عودة المكوك الفضائي إلى الخدمة، كان مقررا أن ينطلق بضع مرات فقط سنويا؛ وحتى عندما استؤنفت بعثات «سبيسلاب»، في أواخر عام 1990، فإنها قلما كانت تبشر باحتمال تحقيق إنجاز كبير، وهو ما كان يعزى إلى طبيعة العلم نفسه.
يعتمد علماء العالم على أدواتهم ومعداتهم في كل مجال من مجالات الدراسة، ومن غير المعتاد بدرجة كبيرة إحراز تقدم مفاجئ في أي مجال يؤدي إلى اكتشافات جوهرية. يحدث هذا أحيانا؛ فعندما اكتشف الباحثان جيمس واطسون وفرانسيس كريك بنية الحامض النووي في عام 1953، وأعلنا عن بداية العصر الحديث لعلم الأحياء الجزيئي، اعتمدا على بضع صور جيدة التقطت بأشعة إكس، واعتمدا كذلك على قدر هائل من نفاذ البصيرة. لكن، في الغالب - حتى مع أفضل العلماء - كانوا يعملون عاما بعد عام باستخدام أجهزة مختبرات قياسية ويأملون في حل مسائل محددة، ونادرا ما يطمحون إلى ما هو أكثر من تقدم بسيط في مجالهم، حيث إن الصعوبات أضخم بكثير من أن تدعهم يأملون المزيد.
سارت إنجازات رحلات «سبيسلاب» على هذا المنوال. استقطب النمو البلوري قدرا جيدا من الانتباه، وأدت بعض المواد بالفعل إلى إنماء بلورات جيدة. تضمنت رحلة «ديسكفري» في عام 1988، على سبيل المثال، إحدى عشرة تجربة، كل منها كانت تسعى إلى إنماء بلورات بروتين مختلف؛ أنتجت ثلاث منها بلورات كانت أفضل على نحو لافت للنظر من أفضل البلورات التي جرى إنماؤها على الإطلاق؛ فقد كانت أكبر حجما وقدمت بيانات أفضل عن البنية الجزيئية. زادت البحوث اللاحقة التي أجريت على متن رحلات مكوك الفضاء اللاحقة العدد إلى خمسة وعشرين بروتينا، من أصل مائة جرى فحصها، وكانت بلورات البروتين أفضل من أي بلورات على الأرض. لم تسفر الدراسات عن تقديم علاج للأمراض، ومع ذلك قدمت الدراسات اتجاهين جديدين لكنهما متواضعان للبحوث المستقبلية.
كان الاتجاه الأول يتضمن بحوثا تجريبية منهجية تسعى إلى معرفة الأساليب والجزيئات التي يمكن أن يوفر لها انعدام الجاذبية ميزة فعلية؛ كانت هذه البحوث تسعى إلى تحسين معدل الإنماء إلى أكثر من 25 في المائة، مع العلم أن الرحلة الفضائية لم تأت بفائدة تذكر بالنسبة إلى البروتينات الخمسة والسبعين الأخرى التي جرت دراستها. على وجه الخصوص، تمكنت آثار غير ملحوظة من تعطيل عملية النمو البلوري الدقيقة، حتى في الغياب الكامل للجاذبية.
عكس الاتجاه الثاني حقيقة أن رحلات المكوك الفضائي نادرة وتواجه تأجيلات طويلة، فضلا عن ضيق المنشآت وازدحامها ومحدودية الوقت المستغرق في المدار؛ لذا، بدلا من السعي إلى الحصول على بلورات كاملة كمسألة روتينية، كان التركيز يقتضي إنماءها في عدد محدود من المواد، ثم استخدام هذه البلورات لوضع معيار. استطاع المتخصصون في مختبراتهم الأرضية، بعد أن صاروا الآن على علم بما هو ممكن، العمل على تحسين أساليبهم بما يطابق المعيار دون الحاجة إلى السفر إلى الفضاء.
كان من المفترض أن هذه الاستراتيجيات ستعكس العلم كما هو معمول به حقا، لكنها كانت تنطوي على خطر بالنسبة إلى مؤيدي المحطات الفضائية، الذين لم يروجوا بالتأكيد لمشروعهم من خلال إعلان كونه وسيلة أفضل لصنع بلورات البروتين؛ على العكس، كانوا على وشك الجزم بأن البلورات التي جرى إنماؤها في الفضاء، مثل مياه لورد المباركة كثيرا، ستكتسب قوى سحرية تسمح للقعيد أن يسير وللأعمى أن يبصر.
تحدث ريجان، على غرار هؤلاء المؤيدين، عن «عقاقير لإنقاذ الحياة لا يمكن صناعتها إلا في الفضاء». قال كرافت إيريك، وهو خبير صواريخ على قدر عال من الكفاءة، كان قد طور «سينتاور» لكنه لم تكن لديه أي خلفية أو معرفة متخصصة بالبحوث الطبية: «يمكننا أن نجد علاجا رائعا للسرطان في الفضاء.» كانت مجلة «أسترونوتيكس آند آيرونوتيكس» المرموقة قد نشرت مقدمة مقال بعنوان «التصنيع في الفضاء»، بخط كبير: «لا يقتصر الأمر ببساطة على أن في مقدورنا من خلال العمليات الفضائية تخليق مواد وبنى جديدة، بل إننا بذلك نستهل عصرا جديدا من الحضارة الفنية.» في خضم هذا الترويج، برزت تكلفة المحطة الفضائية بوصفها مسألة مثيرة للقلق على نحو بالغ.
في واشنطن، توجد الإجراءات القياسية بغرض تحويل المقترحات غير المؤكدة إلى برامج دائمة. يبدأ المرء بوضع تكلفة منخفضة على نحو غير واقعي، ثم إنفاق المال بمعدل محسوب لسنوات عديدة، وهو ما يكون مجموعة من الأشخاص الذين يعتمدون على البرنامج، والذين هم على استعداد لتكوين مجموعات ضغط تمارس بحماس ضغوطا ضد الاستقطاعات التي يواجهها البرنامج. يعمل هذا أيضا على دعم الرأي القائل بأن أي استقطاعات، فضلا عن إيقاف البرنامج برمته، من شأنها إهدار الأموال التي جرى تخصيصها حتى ذلك الحين. يستطيع المؤيدون عندئذ الدفع بأن لا سبيل إلى العدول عن هذا الالتزام الوطني في ضوء ما تم قطعه في البرنامج.
سار المكوك الفضائي على هذا المنوال. خلال فترة طويلة من سبعينيات القرن العشرين، واصلت ناسا الترويج لتكاليفها المنخفضة وفوائدها المرتفعة، باستخدام الإدارة الموجهة نحو النجاح لإحراز تقدم على الرغم من ميزانيتها المحدودة؛ ومع تزايد التكاليف وتوالي التأجيلات، أكد حلفاء القوات الجوية بوكالة ناسا أن البلاد ملتزمة تمام الالتزام بما لا يدع مجالا للرجوع في الأمر. مارست ناسا اللعبة نفسها مع موضوع المحطة الفضائية، وبنتائج مشابهة.
في البداية، حوالي عام 1980، كان مؤيدو مركز عمليات الفضاء قد ذكروا تكاليف تطوير بلغت قيمتها 8 مليارات دولار أمريكي. قبل موافقة ريجان في عام 1984، وبعدها ببعض الوقت، واصلت ناسا الحديث عن 8 مليارات دولار أمريكي؛ لكن، لم يعكس هذا المبلغ نوع التحليل الذي تعتمد عليه شركات مقاولات البناء عند عرض سعر ما لمنزل جديد، وبدلا من ذلك، عكس المبلغ اهتماما بالغا بما يمكن أن تتقبله الأوساط السياسية.
كان هذا الأسلوب يعتمد جزئيا على الرأي القائل بإمكانية تصميم محطة تلبي هدف تكلفة محددة. اعتمد هذا الأسلوب أيضا على ما أطلق عليه أحد مسئولي ناسا «مستوى الصراخ»: بدأ أشخاص من خارج برنامج الفضاء يطالبون بمبلغ 9 مليارات دولار أمريكي تقريبا، وتعالت صيحاتهم المطالبة بذلك. يشير المحلل هوارد ماكيردي إلى أن جيمس بيجز «اتخذ قرارا سياسيا بتحديد تكلفة المحطة المأهولة مبدئيا ب 8 مليارات دولار أمريكي. اعتقد مؤيدو المبادرة أن أي سعر تقديري يتجاوز نطاق 8 أو 9 مليارات دولار أمريكي، سيوفر لمعارضي المشروع «المانع القانوني» الذي يريدونه لوأد المقترح».
مع ذلك، أدرك بعض الأشخاص ما كان قادما؛ كان من بين هؤلاء دوجلاس بويت، الذي كان مسئولا آنذاك عن ميزانية ناسا في مكتب الإدارة والموازنة، حيث توقع في ديسمبر 1983 - قبل موافقة ريجان على المشروع - أن «ينفقوا 30 مليار دولار أمريكي قبل الانتهاء من المشروع. مبلغ الثمانية مليارات دولار هو تكلفة عرض البرنامج. ليس هذا ما تريده ناسا فعليا، والذي هو عبارة عن منصة فضائية مأهولة تنقل طاقما كبيرا إلى حد ما.»
10
كان التصميم الذي انبثق عن ذلك هو «العارضة المزدوجة»، الذي كان يتضمن جملونا كبيرا مستطيل الشكل تمر عبره ذراع طويلة. كان من المقرر ربط المعدات وأماكن إقامة الطاقم والمختبرات البحثية والألواح الشمسية جميعا بهذه الهياكل. ثم في يناير 1987، اكتشفت الوكالة - وكانت مفاجأة كبرى - أن الأمر سيتكلف 14,5 مليار دولار أمريكي، وهو ما استدعى مراجعة عالية المستوى شملت المشروع بأسره؛ مما أدى إلى تأجيل النفقات الرئيسية إلى حين وصول الرئيس القادم إلى البيت الأبيض. قسمت الخطة الجديدة التصميم إلى جزأين؛ كان من المقرر تصميم الذراع المستعرضة الطويلة أولا، بتكلفة 12,2 مليار دولار أمريكي، ولاحقا ربما يتم أيضا تصنيع المستطيل الكبير، مقابل 3,8 مليارات دولار أمريكي أخرى.
أطلق ريجان على النموذج الجديد اسم «فريدوم» (أي الحرية)، لكن مثلما غنت جانيس جوبلن في عام 1970، ما الحرية سوى كلمة أخرى لعدم وجود أي شيء لدى المرء ليفقده. بحلول عام 1991 ارتفعت التكلفة إلى 38 مليار دولار أمريكي، وكانت المحطة الفضائية تخسر مؤيديها؛ صرح أحد كبار المديرين لمجلة «ساينس» قائلا: «العمل الذي أنجز حتى الآن لا قيمة له، وما أنجز لا يعد حتى عملا هندسيا جيدا.» كتب توماس بين، وهو رئيس سابق لناسا، قائلا إن العمل «يؤخر أهداف الرئيس، ولا يدفعها قدما». أشار منتقدون آخرون إلى أن المركبة «فريدوم» ستقترب من حجم ملعب كرة قدم، وستتطلب ثمانيا وعشرين رحلة مكوك فضائي على الأقل، وهو ما يضع ضغطا جديدا على ناسا لتنفيذ جدول زمني للإطلاق. لم يكن مقررا أيضا أن تتطور المركبة عبر مراحل، الأمر الذي كان من شأنه أن يقدم فرصا للتعلم أثناء المضي قدما؛ إذ كان من المقرر أن تصمم بالحجم الكامل من البداية، دون سبيل لاختبار تجميعها الكامل على الأرض. عبر قائد أسبق للقوات الجوية عن الأمر بوضوح قائلا: «ما لا يمكن اختباره، لا يمكن الوثوق به.»
كان الخبراء التكنولوجيون قد رفضوا رفضا قاطعا التخلي عن أفكار استخدام المكوك الفضائي لأغراض البحوث الموجهة تجاريا. تخلت شركة «ثري إم» عن هذه المساعي، بينما حذر منسق الشركة لبحوث الفضاء إيرل كوك من أن الإمكانات التجارية «قد روج لها على نحو مبالغ فيه». تدخل المجتمع العلمي؛ إذ عقد روبرت بارك، وهو أحد مديري الجمعية الفيزيائية الأمريكية، مؤتمرا صحفيا وأعلن أن المحطة تعد إهدارا للأموال، ثم كتب مقال رأي في صحيفة «واشنطن بوست» سخر فيه من المحطة باعتبارها «برميل خنازير دوار». انضم رؤساء أربع عشرة جمعية إليه في بيان مكتوب من جمعية الفيزياء الأمريكية ينتقدون فيه المحطة، فضلا عن توقيع عشر مؤسسات مماثلة مع بارك خلال الأشهر التالية لذلك؛ كان هذا أمرا غير مسبوق؛ فقد اعتمد علماء البلاد على مصادر التمويل الفيدرالي في منحهم البحثية، وهو ما كان يعني أنهم كانوا يعضون اليد التي أطعمتهم. وعلى الرغم من كل الحديث حول إنماء بلورات في الفضاء، كان واضحا دعم إحدى الجماعات لبارك، ألا وهي الجمعية الأمريكية لعلم البلورات.
كانت هذه الجمعيات تفتقر إلى النفوذ الذي يتيح لها أن تسود، لكن لم يكن في مقدور أحد أن ينكر أن مبلغ 38 مليار دولار أمريكي كان أكثر مما ينبغي. لم يتحسن الوضع أيضا عندما أشار القائد العام إلى أنه فضلا عن تكاليف بناء «فريدوم»، كان من المقرر أن تتكبد نفقات مستمرة باهظة خلال الفترة المقررة لها، وهي ثلاثون عاما. قال بارك في شهادة أمام الكونجرس: «عند حساب هذه التكاليف مجتمعة، فإننا نحصل في حقيقة الأمر على برنامج بتكلفة 118 مليار دولار أمريكي على الأقل.»
كان هذا يعني أن الوقت قد حان لإجراء إعادة تصميم أخرى، بغرض «خفض» تكاليف الإنشاء إلى 30 مليار دولار أمريكي. حازت الخطة الجديدة على موافقة البيت الأبيض، وكانت لها مميزاتها. تضمنت الخطة نماذج أصغر أمكن تحميل معدات على متنها واختبارها على الأرض؛ وعلى الرغم من ذلك، مع زوال فكرة أن «فريدوم» ليست حرة تدريجيا، انتهى المطاف بالخطة الجديدة إلى اعتبارها بديلا مؤقتا. في منتصف عام 1993، نجا مشروع المحطة الفضائية من محاولة لإلغائه في البيت الأبيض بفارق صوت واحد؛ 216 صوتا مقابل 215 صوتا. زاد هذا الهامش خلال التصويت التالي، ولكن لم يحدث ذلك إلا لأن الرئيس كلينتون ونائبه جور قد مارسا ضغوطا شديدة لإقناع الخصوم الرئيسيين بالابتعاد.
مع ذلك، تبين أن هذا لم يكن سوى الظلام الذي يسبق بزوغ الفجر؛ فقد عاد برنامج الفضاء غير المأهول بقوة، واحتلت صواريخ «دلتا» و«أطلس» و«تايتان» الصدارة مرة أخرى. كانت المحطة الفضائية على وشك أن تعود مرة أخرى، بعد أن حازت غرضا وقوة جديدين. كانت برامج الفضاء الكبرى في العالم تدخل مرحلة تجديد، مسجلة من جديد ارتفاعا في منحنى الإنجاز؛ ووسط هذا الإنجاز، ساد موضوعان مهمان، ألا وهما التعاون الدولي والريادة التجارية.
الفصل الثاني عشر
نظرة على مستقبل الفضاء وآفاق التجديد
التجارة والتعاون في مجال الفضاء
هل ستدمج برامج الفضاء الأمريكية والروسية حاليا في مشروع واحد؟ شهدت السنوات الأخيرة بالتأكيد آفاقا جديدة من التعاون بين هذين البلدين. مع تراجع مشروعات المحطات الفضائية لكلتا الدولتين على نحو متزايد، كان من دواعي المفارقة أن سعت الدولتان إلى تعزيز المشروعات بالربط بينها. وسط حالات العجز في عملة الروبل الروسية، قدمت شركة «لوكهيد مارتن» تمويلا بالدولار الأمريكي، وشرعت في تسويق مركبة «بروتون» الروسية كمركبة إطلاق تجارية، وبدأت جهود لتطوير صاروخ طراز «أطلس-سينتاور» بمحركات روسية. وقد كان مدير ناسا، دانيال جولدن، يسعى بحماس منذ عام 1992 نحو مزيد من هذا التعاون.
جاء جولدن إلى ناسا قادما من عالم أقمار الاستطلاع الصناعية السرية بشركة «تي آر دبليو»، حيث ظل بعيدا عن الأنظار. أقر جيفري ريتشلسون، أحد المراقبين المتابعين للبرامج عن كثب، الذي ألف كتبا كثيرة حولها، قائلا: «لم أسمع عنه قط.» مع ذلك، كان جولدن منذ عام 1987 نائبا لرئيس ناسا ومديرا عاما بها. أتاحت له خلفيته حول المركبات الفضائية غير المأهولة تغيير مجريات الأمور على نحو جذري، حيث كانت خلفيته تأتي على النقيض تماما من تركيز قوي على الرحلات المأهولة تميز به قادة ناسا السابقين.
كان ريتشارد ترولي، المدير الذي حل جولدن محله، قد بدأ حياته المهنية كرائد فضاء في المختبر المداري المأهول، ثم صار رائد فضاء للمكوك الفضائي، وأدار برنامج المكوك الفضائي خلال الفترة التي تلت استعادة «تشالنجر»، ثم تولى أعلى منصب في ناسا. كان نائبه، جيمس آر طومبسون، مديرا لمركز مارشال لرحلات الفضاء، الذي كان مسئولا عن تصميم محركات المكوك الفضائي واختبارها. وكان ويليام لنوار، رئيس مكتب الرحلات الفضائية، رائد فضاء أسبق، مثلما كان روبرت كريبن، رئيس برنامج المكوك الفضائي.
اشتركوا جميعا في التزامهم بتنفيذ برامج كبيرة باهظة التكاليف، مثل المكوك الفضائي والمحطة الفضائية. أشار إليهم الكاتب جريج إيستربروك، الكاتب في «نيوزويك» و«أتلانتك مانثلي»، بأنهم يعتقدون أنه «حتى تشغيل مصباح ضوئي في الفضاء يتطلب نصف دستة رواد فضاء في عربة فضاء تكلفتها مليار دولار أمريكي». على النقيض من ذلك، كان جولدن يفضل الأساليب الآلية التي كانت تتسم بأنها سهلة وغير باهظة التكاليف؛ كان يتوقع على وجه التحديد أن يتم الاعتماد على صواريخ التعزيز القابلة للاستخدام مرة واحدة بدلا من المكوك الفضائي.
كان تحول نحو الصواريخ القابلة للاستخدام مرة واحدة قد بدأ بالفعل في أغسطس 1986، عندما أعطى ريجان إشارة البدء لبناء «إنديفور» كي تحل محل «تشالنجر». في الوقت نفسه، أصدر قرارا بألا تستخدم ناسا المكوك الفضائي لنقل حمولات تجارية يمكن نقلها على متن «دلتا» أو «أطلس» أو «تايتان». في عام 1983، وضع الرئيس سياسة جديدة تفيد بوضع هذه الصواريخ القابلة للاستخدام مرة واحدة في أيدي الشركات التجارية، بيد أن هذه المحاولة لم تسفر عن شيء وسط منافسة المكوك الفضائي المدعوم الحائز على كثير من الدعم. لكن بعد عام 1986، ظهرت الحقيقة وتكشفت الأمور.
استطاعت الصواريخ القابلة للاستخدام مرة واحدة أن تحظى بعملاء بفضل ميزاتها، ولم يتوقف الأمر عند ذلك فحسب، بل صارت تحظى بسوق معدة بحسب الطلب في مجال الحمولات المخصصة للمكوك الفضائي الذي صار الآن في حاجة إلى صواريخ لإطلاقها في مدار . في سبتمبر عام 1986، أرسلت ناسا قائمة بالمركبات المكوكية أعقبت كارثة «تشالنجر»، والتي جعلت خمسة وعشرين قمرا صناعيا خاصا بالاتصالات بصدد البحث عن بدائل. كانت لدى البنتاجون مشكلة مشابهة، حيث كان لديه مخزون يزيد عن عشرين قمرا صناعيا، والمزيد في طريقه إلى خط الإنتاج.
كان تصرف القوات الجوية في عام 1984 قد أتاح لشركة «مارتن ماريتا» تحقيق السبق في استئناف إنتاج «تايتان 3»، والمضي قدما لإنتاج نموذجه الأكثر قوة المتمثل في «تايتان 4». لم تكن شركة «ماكدونل دوجلاس» بالصاروخ «دلتا» المطور لديها وشركة «جنرال داينمكس» التي صممت الصاروخ «أطلس-سينتاور»، تتمتعان بهذه الميزة؛ إذ كان على كلتا الشركتين إعادة تشغيل خطوط الإنتاج التي توقفت تماما. لكن في يناير 1987، أرسى قائد القوات الجوية إدوارد ألدريدج عقدا على شركة «ماكدونل» بقيمة 316 مليون دولار أمريكي لسبعة صواريخ إطلاق طراز «دلتا 2» مطورة حديثا، مع إمكانية تطوير ثلاثة عشر صاروخا إضافيا. بعدها بثلاثة أشهر، أعلنت هذه الشركة أن تسعة من العملاء الذين سددوا ثمن الرحلات قد حجزوا رحلات لأقمار صناعية خاصة بالاتصالات على متن الصاروخ نفسه.
كان الصاروخ «دلتا 2» على جانب من القوة يؤهله لأن يتخطى مجال «أطلس»، بينما منحت هذه الطلبيات «ماكدونل» ميزة على «جنرال داينمكس». لكن، تمكنت «جنرال داينمكس» من رفع مستوى كفاءة صواريخ «أطلس-سينتاور» عن طريق تزويدها بمحركات «روكيت داين» المحسنة التي كانت منافستها تشتريها. في عام 1988، طلبت القوات الجوية إحدى عشرة مركبة إطلاق من هذا النوع، ضامنة بذلك أن «أطلس» سيدخل هذا العصر الجديد أيضا. مضت «جنرال داينمكس» في طرح مجموعة من نماذج «أطلس-سينتاور» من خلال أربعة نماذج أعلن مديروها أنها تستطيع أن تغطي تسعين في المائة من سوق الأقمار الصناعية التجارية. استثمر هؤلاء المسئولون التنفيذيون أيضا 300 مليون دولار أمريكي في بناء اثنين وستين صاروخا حتى عام 1997.
بالإضافة إلى أحد عشر صاروخا طراز «أطلس-سينتاور»، تضمنت طلبات القوات الجوية أيضا عشرين صاروخا طراز «دلتا 2»، وثلاثة عشر صاروخا طراز «تايتان 2»، وثلاثة وعشرين صاروخا طراز «تايتان 4». شملت الطلبيات التجارية تسعة صواريخ أخرى طراز «تايتان». ظهرت «آريان» في المشهد أيضا؛ فبدءا من يناير 1989، كان لديها طلبيات بثمان وثلاثين مركبة إطلاق. لكن، كانت ثمة مشروعات للجميع؛ إذ كان من المنتظر ابتداء من ذلك الشهر أن يجري اختيار مركبات إطلاق لنقل ثمان وخمسين حمولة تجارية.
لا شك أن مصممي الحمولات قد واجهوا حالة من هبوط الأسعار نتيجة لزيادة العرض عن الطلب، حيث إنه بحلول عام 1990 حدثت زيادة كبيرة في سعة الإطلاق. قدرت شركة «يوروكونسلت» البحثية في باريس أن سوق الأقمار الصناعية للاتصالات، وهي الفئة التجارية الرئيسية، كانت ستصل إلى حد التشبع بإجراء ما يربو على خمس عشرة عملية إطلاق سنويا. على النقيض من ذلك، أجرت «أطلس» و«تايتان» و«دلتا» و«آريان» معا أربعين عملية إطلاق سنوية، وأملت الصين أيضا في الانضمام إلى مضمار المنافسة. وبناء على ذلك، واجه الجميع ضغوطا مستمرة لعرض أقل أسعار ممكنة، ونجحت الصين - وهي وافد جديد - لبعض الوقت في الفوز في هذه المنافسة من خلال البيع بأسعار أقل.
كانت هذه الدولة قد طورت عائلة من صواريخ الإطلاق، سميت «لونج مارش»، وانطلقت للمرة الأولى في عام 1970. ربما كانت القيود على الصادرات سببا في منع الصين من إطلاق حمولات أمريكية، من خلال التعامل مع الأجهزة الإلكترونية على متن الأقمار الصناعية للاتصالات بوصفها تكنولوجيا استراتيجية. لكن للترويج لعلاقات أفضل مع بكين، خففت الحكومة الأمريكية من القيود، مع السماح للصين بطرح عروض إطلاق أولية بسعر منخفض للغاية.
أشار جوزيف ألان، وهو رائد فضاء سابق، إلى الأمر على هذا النحو: «إذا كنت رئيس مجلس إدارة شركة أقمار صناعية أمريكية، وكان لديك اختيار بين 80 مليون دولار أمريكي في كيب كانافيرال وبين 15 مليون دولار أمريكي مع «جريت وول» (وهي شركة الإطلاق الوطنية في بكين)، فإنك ستجمع 15 مليون دولار أمريكي وتسافر إلى الصين. هذا أمر واضح لا يستحق التفكير.» أجريت أول عملية إطلاق في أبريل 1990، كانت حمولتها عبارة عن قمر صناعي للاتصالات بنته شركة «هيوز» باسم «إيشاسات 1»، الذي جرى استرجاعه في وقت مبكر من إطلاقه عن طريق المكوك الفضائي «ديسكفري» في نوفمبر 1984. كان القمر يمثل دخول الصين السوق التجارية.
كان السوفييت أيضا يضعون هذا المشروع نصب أعينهم. كانوا مستعدين لاغتنام الفرصة بعد سقوط «تشالنجر»؛ حيث أسسوا مكتبا باسم «جلافكوسموس» في يونيو 1985، كانوا ينوون من خلاله بيع خدماتهم في مجال الإطلاق. كانت خبرتهم لا تضاهى؛ ففي حين أن الولايات المتحدة قد تخصصت في أعداد محدودة من المركبات الفضائية الطويلة الأجل، كان السوفييت تعوزهم الإلكترونيات التي يعول عليها؛ ومن ثم أطلقوا عددا كبيرا من المركبات القصيرة الأجل. منذ ستينيات القرن العشرين، حافظ السوفييت على معدل إطلاق اقترب أحيانا من مائة عملية إطلاق سنويا، كما كان لديهم أسطول متنوع من الصواريخ التي ظلت مشهودا لها بكفاءتها لفترة طويلة؛ شملت تلك الصواريخ الصاروخ «بروتون» القوي والصاروخ «آر-7» القديم، مع خيارات عديدة من صواريخ المرحلة العليا، بالإضافة إلى تصميمات جديدة.
لم يحققوا أي إنجاز في البداية؛ حيث إنهم خالفوا القيود الأمريكية على الصادرات، التي حالت دون عبور معظم التكنولوجيا المتقدمة الحدود السوفييتية. حدثت واقعة في عام 1987 حددت النسق العام لهذا الأمر، حيث لم تتمكن «هيوز إيركرافت» من الحصول على ترخيص بالتصدير؛ ومن ثم لم تستطع السماح لجلافكوسموس بإطلاق أحد أقمارها الصناعية. مع ذلك، واصل المسئولون السوفييت المحاولة، على الرغم من مواصلة السبل القديمة. في عام 1990، أشارت مجلة «ساينتفيك أمريكان» إلى محادثة مع مدير تدريب يدعى يوري جلازكوف، قال فيها مباهيا: «تفوقنا على الأمريكيين والفرنسيين والكنديين، وجميعهم يريدون أن يدربوا رواد فضائهم هنا.»
س:
كم يكلف تدريب رائد فضاء؟
ج:
إنه سر.
س:
كيف يكون سرا إذا كنتم تحاولون بيع خدماتكم؟
ج:
حسنا، أكثر من 10 ملايين دولار أمريكي. أسراري تتسرب!
1
لكن سمح سقوط الشيوعية في أغسطس 1991، بتخفيف القيود على الصادرات وبمنح موسكو الشروط الملائمة التي كانت واشنطن قد وسعت من نطاقها سابقا لتشمل بكين؛ وهو ما أفضى إلى زيادة هائلة في المشروعات المشتركة، التي اقتربت من دمج الأنشطة الأمريكية والروسية الكبرى في برنامج دولي منسق.
بلغت الدولتان مرحلة مهمة في يونيو 1992، عندما التقى الرئيس جورج بوش نظيره الروسي بوريس يلتسن؛ كان على رأس أجندتيهما إبرام اتفاقية للحد من الأسلحة، مع تعهدهما رسميا بتفكيك كثير من القاذفات والصواريخ الباليستية العابرة للقارات والرءوس الحربية النووية التي كانت قد وجهتها كل منهما إلى الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، جددا اتفاقية كانت قد أبرمت في عام 1987 حول التعاون في مجال الفضاء ووسعا من نطاقها. سمحت الاتفاقية الجديدة لرواد الفضاء الروس بالطيران على متن مركبات فضاء أمريكية، والعكس صحيح. استعادت هذه الاتفاقية روح بعثة «أبولو-سويوز» لعام 1975، لكنها برهنت على نية واضحة أن يتضمن هذا التعاون الجديد ما هو أكثر من بعثة أحادية الخطوة.
شجعت الاتفاقية بقوة المسئولين التنفيذيين في «لوكهيد»، الذين كانوا يسعون سعيا محموما وراء مركبة الإطلاق الروسية «بروتون». واجهت «بروتون» ظروفا صعبة؛ حيث لم تكن الشركة المصنعة لمحركها، «موتورسترويتل»، قد تلقت طلبات جديدة، ولم تكن تحصل على مقابل لعملها. وعلى الرغم من ذلك، واصلت الشركة بناء محركاتها؛ إذ مثلما أشار أحد مديري الشركة قائلا: «كانوا يحتاجون هذه المحركات بشدة، والمشكلة أنهم لم تكن لديهم أي أموال لسداد مقابلها.» تكبدت «موتورسترويتل» خسائر جسيمة، وتوقف العمل فيها وأغلقت.
كان مصنع خرونتشيف قرب موسكو، الذي تولى بناء «بروتون»، يمثل الذراع التصنيعي لإمبراطورية صواريخ فلاديمير تشلومي. جاء مسئولو «لوكهيد» في زيارة للمصنع في عام 1992، ومضوا في إقامة مشروع مشترك باسم «خدمات الإطلاق الدولية»، صار مسئولا عن تسويق «بروتون» دوليا كمركبة إطلاق فضائية. أبرمت اتفاقية حكومية دولية في عام 1993 نصت على شروط دخول موسكو إلى هذه السوق التجارية؛ حيث وافقت روسيا على إجراء ما يصل إلى ثماني عمليات إطلاق إلى مدار جيوتزامني قبل عام 2001. في غضون أشهر، تلقى مؤيدو «بروتون» أول طلبية، عندما رتبت «سبيس سيستمز»/«لورال» - وهي شركة مصنعة للأقمار الصناعية في مجالي الاتصالات والأرصاد الجوية - شراء خمس مركبات إطلاق من هذا النوع. في أبريل 1996، أطلق «بروتون» أول أقماره الصناعية الغربية كإحدى الرحلات التابعة لمشروع خدمات الإطلاق الدولية.
كانت شركات المحركات الصاروخية في أمريكا تزاول أعمالها بنشاط أيضا. كان انفجار الصاروخ «إن-1» القمري قبل عشرين عاما قد خلف كنزا من المحركات في المخازن، متضمنا تصميمات لنيكولاي كوزنيتسوف، من تلامذة كوروليف النجباء. كانت الشركة المصنعة لهذه المحركات، وهي شركة تسمى «ترود»، تريد أن تبيعها في الولايات المتحدة. في كاليفورنيا، كانت «إيروجت» مهتمة على وجه خاص بالصاروخ «إن كيه-33»، وهو نموذج إنتاج من محرك المرحلة الأولى «إن-1». بالمثل، بعد التخلي عن الصاروخ «إنرجيا» الكبير، أصبحت محركاته معروضة للبيع. كان «إنرجيا» يحتوي على أربعة صواريخ تعزيز مربوطة به، كل منها يجري تشغيله باستخدام محرك طراز «آر دي-170»، بقوة دفع 1,63 مليون رطل؛ هذا المحرك كان أقوي المحركات الصاروخية على الإطلاق، حيث كان يماثل في قوته الصاروخ «إف-1» في عصر «أبولو». تواصلت شركة «برات آند وتني» مع الشركة المصممة للصاروخ، وهي شركة «إن بي أوه إنرجوماش»، واتفقت على أن تكون ممثلتها في الولايات المتحدة.
قبل نصف قرن، كان سقوط ألمانيا النازية قد فتح كنزا من التكنولوجيا المتطورة في مجال الصواريخ، والقذائف الصاروخية، والطائرات النفاثة. قدم سقوط الشيوعية فرصة مماثلة، حيث جاءت شركتا «لوكهيد» و«مارتن» في مقدمة المستفيدين من الكنز السوفييتي مع مضيهما في تحدي «آريان» الأوروبية. كانت «آريان سبيس» قد تعاملت مع عملائها بعناية؛ فعلى حد تعبير مديرها تشارلز بيجو «تعاملت ناسا مع عملائها كما لو أنها سيد إقطاعي يستقبل فلاحين على أرضه، وكانت «آريان سبيس» تعاملهم كتاجر تجزئة.»
حازت «آريان سبيس» ولاء العملاء بتقديم شروط جذابة؛ مما أدى بذلك إلى التقليل من قيمة صواريخ «دلتا» و«أطلس» و«تايتان». كانت ناسا قد استخدمت المكوك الفضائي للتقليل من قيمة هذه الصواريخ القابلة للاستخدام مرة واحدة فقط، كذلك. حتى بعد عام 1986، عندما حظي مصمموها بحرية المنافسة، واجهوا تأجيلات طويلة في إعادة تشغيل خطوط الإنتاج. ساهمت طلبات القوات الجوية في دعم هذا الأمر بدرجة كبيرة، لكن على الصعيد التجاري، لم يكن أحد يستطيع الاقتراب من الأوروبيين؛ إذ كانت سلسلة صواريخ «آريان 4» تضرب مثلا يحتذى به. كانوا أيضا بصدد تجهيز «آريان 5»، حيث زودوه بزوج من صواريخ التعزيز ذات الوقود الصلب الكبيرة بقوة دفع كاملة لإطلاق قمرين صناعيين زنة ثلاثة أطنان إلى مدار جيوتزامني في عملية إطلاق واحدة. حظيت «آريان سبيس» بنسبة 60 في المائة من السوق التجارية، وهو ما يعادل ضعف حصة الأمريكيين.
لكن، كانت «مارتن ماريتا» بصدد إعداد رد على «آريان 5»، وتجسد الرد في تصميم صاروخ «تايتان 4» متطور. على غرار الصواريخ الأخرى من هذا النوع، كان «تايتان 4» يمثل نسخة مطورة من «تايتان 3»، الذي انطلق المرة الأولى في عام 1965، لكنه لم يكن بالتأكيد صاروخ «تايتان» الأول، وفي مقدور المرء تقدير مميزاته في ضوء تصميم لمركبة فضائية نووية كان مهندس الصواريخ ماكس هانتر قد قدمه في منتصف الستينيات من القرن العشرين؛ كان التصميم يتضمن غرفة بضائع أكبر من خزان الوقود، وكتب هانتر أن هذا هو الشكل الأمثل الذي يجب أن تكون عليه المركبة الفضائية.
كان «تايتان 2» يتجاوز في طوله مائة قدم بقليل. ضاعف «تايتان 4» هذا الارتفاع إلى 204 أقدام، وكان معظم هذا يعزى إلى المقدمة المخروطية التي كان يبلغ طولها ستا وثمانين قدما مضروبا في عرض سبعة عشرة قدما تقريبا. كانت أوسع من غرفة حمولات المكوك الفضائي وأطول بمقدار ست وعشرين قدما. كان صاروخا التعزيز ذوا الوقود الصلب موضوعين على امتداد الجزء الأكبر من طول الصاروخ الأساسي ذي الوقود السائل، بينما أضاف صاروخ المرحلة العليا «سينتاور» الذي لم يستطع المكوك الفضائي نقله، مزيدا من القدرة. في ظل الزيادة التي حدثت في قوة الدفع من جراء صواريخ التعزيز ذات الوقود الصلب، تمكن الصاروخ «تايتان 4» من رفع 49 ألف رطل إلى مدار منخفض، وهو ما يزيد عن ضعف حمولة الصاروخ «تايتان 3» السابق وستة أضعاف الصاروخ «تايتان 2».
صواريخ التعزيز القابلة للاستخدام مرة واحدة لعام 1995: الصواريخ الأمريكية ممثلة في الصاروخ «دلتا 2»، والصاروخ «تايتان 4» الذي يشتمل على غطاء واق للمقدمة المخروطية بطول 86 قدما، والصاروخ «أطلس 2 إيه إس»، بالإضافة إلى الصاروخ «آريان 4» الأوروبي والصاروخ «بروتون» السوفييتي (دان جوتييه).
بالإضافة إلى ذلك، أدت موجة من النشاط على مستوى الشركات إلى وضع «بروتون» و«أطلس» و«تايتان» تحت سقف واحد. في عام 1994، اشترت شركة «مارتن» القسم الذي تولى تصميم «أطلس-سينتاور» في شركة «جنرال داينمكس»؛ ثم في عام 1995، حدث اندماج بين هذه الشركة وشركة «لوكهيد» مكونتين شركة جديدة من الشركات العملاقة في مجال الفضاء، وهي شركة «لوكهيد مارتن»؛ وكان هذا جزءا من عملية دمج تضمنت الشركات الكبرى في صناعة الطيران والفضاء، نشأ عن نقص في العقود العسكرية في أعقاب الحرب الباردة. أعلن المسئولون بشركة «لوكهيد مارتن» ومركز خرونتشيف أنهم سيدمجون الصاروخين «أطلس» و«بروتون» في عائلة واحدة من مركبات الإطلاق ليدعم أحدهما الآخر، وثارت ثائرة تشارلز بيجو الذي كان قد أصبح في تلك الأثناء رئيس مجلس إدارة «إيرو سبيس»، وأضاف محذرا من إغراق ممنهج للسوق بصواريخ «بروتون»، قائلا: «هذا إعلان للحرب.»
إذا كان قد قدر لهذه الحرب أن تندلع في حقيقة الأمر، لشهدت وقوف واشنطن وموسكو معا كحلفاء ضد الفرنسيين. كان من بين الموضوعات المهمة التي أثارها هذا الموضوع على الفور الصاروخ «أطلس 2 إيه إس»، وهو آخر نماذج «أطلس-سينتاور». كحال النماذج التي صممت عام 1957، كان «أطلس» يحتوي على محركي صاروخي تعزيز يعملان بالوقود السائل، فضلا عن محرك مداومة لدفعه إلى مدار فضائي. كان الصاروخ يحتوي أيضا على أربعة صواريخ تعزيز صغيرة مربوطة به، بإجمالي سبع محركات صاروخية. كان هذا أمرا جيدا للغاية، وقرر نورمان أوجستين - رئيس «لوكهيد مارتن» - أن الوقت مناسب للتبسيط؛ كان يريد نموذجا جديدا من «أطلس» يشتمل على محرك أو محركين فقط يحلان محل المحركات السبعة.
وضعت المنافسة الناتجة عن ذلك - وهي شركة «روكيت داين» التي كانت تبني محركات «أطلس» حتى قبل وجود برنامج الصواريخ ذلك - في مواجهة مع غريمين روسيين. عرضت «ترود» محركها «إن كيه-33»، بينما تولت شريكتها «إيروجت» تشغيل هذا المحرك على منصة اختبار والتحقق من أدائه. اقترحت «إنرجوماش» بدورها تقسيم «آر دي-170» إلى نصفين. كان هذا المحرك يشتمل على أربع غرف دفع تغذيها مجموعة واحدة من المضخات التوربينية، وهو تصميم كان فالنتين جلشكو أول من أدخله منذ زمن طويل. كان المقترح الجديد يتطلب نموذجا معدلا، «آر دي -180»، يستخدم غرفتي دفع فقط، فضلا عن مجموعة صغيرة من المضخات التوربينية تتلاءم مع قوة دفعه المخفضة.
في نوفمبر 1995، خرجت «روكيت داين» من السباق الثلاثي الاتجاهات؛ إذ قرر رئيسها بول سميث أن المحرك الصاروخي لا يمكن أن يكون جاهزا في الوقت المحدد بحيث يفي بالجدول الزمني لشركة «لوكهيد مارتن»، وأشار إلى أن مسئوليها التنفيذيين «كانوا ملتزمين بصفة أساسية ببناء محرك صاروخي». وقد قال وهو ينظر بشيء من الحزن على مشروع جديد للبنتاجون، وهو مشروع مركبة الإطلاق المتطورة القابلة للاستخدام مرة واحدة: «نأمل في أن تدرك القوات الجوية فوائد الحفاظ على مركبة فضائية أمريكية خالصة.» لكن كان هذا المشروع لا يزال خطوة مستقبلية، بينما كان مشروع «أطلس» الجديد وشيكا وفي المتناول. في يناير 1996، وقع اختيار مصممي المركبة على محرك «آر دي-180» باعتباره المحرك الفائز. صرح أحد مسئولي «لوكهيد مارتن» أن الصاروخ «أطلس» هذا سيحقق «أفضل مكانة» في السوق التجارية، بإطلاق أقمار صناعية أحادية للاتصالات بأكبر الأحجام.
كان اختيار «آر دي-180» بمنزلة انتصار بعد الممات لفالنتين جلشكو الذي كان قد توفي في عام 1989. كانت الشركة المصممة للمحرك، وهي «إن بي أوه إنرجوماش»، قد نشأت عن مؤسسة محركات صاروخية أسسها جلشكو في ضاحية خيمكي بمدينة موسكو في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ وعلى الرغم من أن هذا المحرك كان قد دخل في منافسة على قدم المساواة مع محرك «إن كيه-33» لكوزنيتسوف، جاءت نتيجة المنافسة انعكاسا لنتيجة المعركة حول الصاروخ «إن-1» القمري لكوروليف. كان «إن كيه-33» عبارة عن نموذج قديم من الصاروخ «إن-1»، الذي كان جلشكو قد أخرجه من الخدمة. أما «آر دي-180»، فقد كان يرتبط ارتباطا وثيقا بالصاروخ «إنرجيا» لجلشكو. تبدت المنافسة القديمة بين كوروليف وجلشكو مرة أخرى على الأراضي الأمريكية، وانتهت مجددا بالطريقة نفسها. بالإضافة إلى ذلك، كان من المنتظر أن تبني شركة «برات آند وتني» محرك «آر دي-180» في وست بالم بيتش بولاية فلوريدا، مع دفع عوائد الملكية إلى موسكو بالعملة الصعبة.
في تلك الأثناء، كان دان جولدن يؤكد وجوده في ناسا؛ إذ كان الرئيس بوش قد أعفى سابقه ريتشارد ترولي من مهام منصبه في وقت مبكر من عام 1992، وعين جولدن مديرا جديدا للوكالة. حظي جولدن بدعم قوي من نائب الرئيس دان كوايل، رئيس مجلس إدارة أحد مجالس الفضاء، الذي كان يرغب في التوقف عن استخدام الممارسات التقليدية، وجاء جولدن بأمر تنفيذي لتغيير الأوضاع. اتفق جولدن وكوايل على أن إحدى المشكلات الرئيسية كانت تكمن في وجود رغبة في تنفيذ عدد من المشروعات الكبيرة الجذابة، التي كانت عرضة لتأجيلات طويلة وتجاوزات كبيرة في التكلفة. حصل برنامج الفضاء المأهول على نصيبه من هذه الجهود بلا شك، بيد أن ذلك أثر أيضا على برنامج الفضاء غير المأهول في ناسا؛ عندئذ فقط، كان مرصد هابل الفضائي مثالا على ذلك.
كان المرصد عبارة عن مرصد فضائي حقيقي في مدار فضائي، مزود بمعدات وألواح شمسية كمصدر للطاقة، ونظام دقيق للغاية يتولى توجيهه إلى نجم محدد أو مجرة بعينها، ونظام بيانات. صمم هذا المرصد بناء على القاعدة التكنولوجية نفسها التي أتاحت الإمكانية لتصميم قمر الاستطلاع الصناعي «كيه إتش-11»، بما في ذلك المرايا الكبيرة ذات الشكل الدقيق للغاية، وأجهزة إقران الشحنات المسئولة عن تكوين صوره. مع ذلك، لم يكن شراء القمر «كيه إتش-11» وتوجيهه ببساطة إلى النجوم بالأمر الممكن. ظل وجود «كيه إتش-11» في حد ذاته سريا لفترة، وكانت تفاصيل تصميمه مسألة غاية في السرية. كان جهاز الاستخبارات هو الجهة الوحيدة التي في مقدورها استخدام هذا القمر، وإن كان ذلك سرا. على النقيض من هذا، كان علماء الفلك على مستوى العالم يباشرون عملهم علانية، دون أي موافقات أمنية، ولم تكن وكالة الاستخبارات المركزية لتتحدث إليهم.
بناء على ذلك، تحول مرصد هابل إلى مشروع قائم بذاته؛ لكن، بينما كانت القوات الجوية ووكالة الاستخبارات المركزية قد اعتمدتا على خبرتيهما الممتدة لبناء أقمار صناعية استطلاعية، واصلت ناسا مشروع هابل بالعودة إلى الإدارة الموجهة نحو النجاح في برنامج المكوك الفضائي. انتهجت الوكالة هذا النهج؛ لأنها كانت تسعى مجددا نحو تنفيذ مشروعات أكثر مما تتيح لها ميزانيتها. لم تكن ناسا قد بنت مركبة فضائية قط مثل «هابل»، ونظرا لافتقارها إلى تلك الخبرة فقد تكبدت تأجيلات وتجاوزات في التكاليف؛ ومن ثم، واجه مديرو المشروع ضغوطا شديدة، حتى إنهم لم يحكموا السيطرة على الموقف مما أدى إلى تفاقمه. فقد استهجنوا مقترحات إجراء اختبارات إضافية؛ لأنه أمر يتطلب مزيدا من الأموال، ولم يكن لدى المشروع ما يمكنه الاستغناء عنه.
أدى هذا إلى خطأ كبير في تشكيل المرآة الرئيسية لهابل. كانت الشركة المتعاقدة، وهي شركة «بركين إلمر»، قد صنعت مرايا كثيرة من هذا النوع لصالح وكالة الاستخبارات المركزية. أثناء العمل على مرآة «هابل»، كان الاختصاصيون لدى الشركة يعتمدون على جهاز بصري شديد الحساسية، وهو عبارة عن «مصحح عاكس»، يستطيع تمييز أدق الانحرافات عن الانكسار المناسب. للأسف، لم يجر التحقق من دقة المصحح العاكس، الذي كان مقدار الخطأ فيه 1,3 مليمتر، وهو ما كان أكثر من كاف لإفساد النتيجة النهائية. استعين بأدوات اختبار أخرى كانت متوافرة، وأشارت تلك الأدوات في حقيقة الأمر إلى أن المرآة لم يتم تشكيلها على النحو الصحيح، بيد أن العاملين تجاهلوا تلك النتائج. على أي حال، تعارضت تلك النتائج مع نتائج المصحح العاكس، الذي كان محل ثقة العاملين، كذلك لم تستفد ناسا من عرض القوات الجوية لاختبار المرصد الكامل في مختبرها البصري.
ظل موضع القصور غير مكتشف حتى أصبحت المرآة جزءا من مرصد هابل الكامل، وهو مركبة قيمتها 1,5 مليار دولار أمريكي هلل لها علماء الفلك بوصفها أول مرصد على مستوى العالم. حمل المكوك الفضائي «ديسكفري» المرصد إلى مدار فضائي في أبريل 1990، وعندئذ فقط أجريت - في الفضاء - اختبارات بصرية على المرصد كنظام متكامل؛ كشفت هذه الاختبارات على الفور عن الشكل المعيب للمرصد، وهو ما جعل «هابل» قريب المنظور قليلا؛ مما أدى إلى قلة وضوح الصور الملتقطة. ساد الحزن ناسا، حيث إنها ارتكبت مجددا خطأ بمليار دولار أمريكي.
لم يكن المرصد معدوم الجدوى، حيث سمحت معالجة الصور باستخدام الكمبيوتر بزيادة وضوح الصور في عدد من الحالات. لكن، كانت ناسا لا تزال تعتمد في استمراريتها على العلاقات العامة، وقد أدى هذا الخطأ الأخير إلى دعاية سلبية مثلما حدث في مشهد افتتاحي في الفيلم الكوميدي «نايكد جن » («البندقية العارية »). صور المشهد ردهة مظلمة وكئيبة معلقة على جدرانها صور كوارث، مثل هيندنبورج وتايتانك ومرصد هابل الفضائي.
قدم برنامج استكشاف الكواكب مثالا آخر لمواضع الخلل والقصور داخل وكالة ناسا. في أعقاب النجاحات التي تحققت في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، ضاعفت ناسا نشاطها بينما أعطت المكوك الفضائي والمحطة الفضائية أولوية أكبر. على مدى أكثر من عشر سنوات، من عام 1978 إلى عام 1989، لم ترسل البلاد ولو بعثة جديدة واحدة إلى أي من الكواكب.
شهد ذلك العقد كثيرا من العمل على الأرض بهدف بناء ثلاث مركبات سبر جرت الموافقة عليها، وهي «جاليليو» للمشتري و«راصد المريخ» و«ماجلان»، لرسم خريطة للزهرة باستخدام الرادار. لكن، أظهرت هذه المركبات الفضائية مجددا ميل الوكالة إلى وضع جهود كثيرة للغاية في عدد قليل للغاية من المشروعات. أبلت «ماجلان» بلاء رائعا؛ حيث أرسلت خرائط تنافس صور القمر والمريخ. لكن جهود «جاليليو» تعرقلت بسبب تعطل الهوائي الرئيسي لها؛ وهو ما أدى إلى انخفاض معدل بياناتها وتراجع مردودها العلمي بشدة. كان أداء مركبة «راصد المريخ» التي بلغت تكلفتها مليار دولار أمريكي أسوأ بكثير؛ فقد وصلت إلى المريخ في أغسطس 1993، وتلقت أوامر بإطلاق صاروخ ارتكاسي كابح وبدخول مدار، ثم اختفت دون أن تخلف لها أثرا. ألقت لجنة فحص باللائمة على وجود تصدع على متن المركبة، ربما أدى إلى دوران المركبة بسرعة جنونية؛ مما جعلها عاجزة عن توجيه الهوائي الموجود بها صوب الأرض.
كان هذا الأسلوب في وضع البيض كله في سلة واحدة يتعارض على نحو لافت مع الأسلوب المتبع من قبل الوكالة في ستينيات القرن العشرين. كان أسلوب الستينيات يركز على الرحلات المتكررة، وهي عادة رحلات مزدوجة للحماية من فشل رحلات الإطلاق الأحادية. كانت مركبة «مارينر» الفضائية في تلك الفترة تزن بين خمسمائة رطل وألف رطل، بينما اقتربت «جاليليو» و«ماجلان» - على النقيض من ذلك - من أربعة أطنان، وكانتا أكثر قدرة بكثير. لكن، في ظل قلة عدد البعثات المحتمل، دفعت اتجاهات قوية كلا منهما نحو تكلفة أكبر وتأجيلات أطول.
مثلما أشار أحد العلماء، فإن أي بعثة معينة «كانت تبدو كما لو أنها الحافلة الوحيدة المغادرة للمدينة؛ لذا كان المرء يريد أن يضع كل شيء فيها». كان الجميع يرغب في زيادة المردود العلمي بإضافة معدات جديدة أو أفضل، على الرغم من أن ناسا لم تستطع دوما التعامل مع تبعات ذلك؛ وهكذا خرجت الأمور عن نطاق السيطرة في مركبة «راصد المريخ»؛ حيث أشار رئيس لجنة الفحص المعنية إلى الإهمال وسوء الإدارة، وقال بصراحة شديدة إن «مركبة راصد المريخ إذا أطلقت ولم يحدث شيء مختلف، فثمة احتمال كبير أن تفقد المركبة مجددا».
عندما جاء جولدن إلى ناسا، وجد مشروعا عملاقا آخر في جدول أعمال الوكالة، وهو مشروع «كاسيني»، الذي كان عبارة عن مركبة مدارية لاستكشاف كوكب زحل على غرار «جاليليو»، كان من المقرر إطلاقها في عام 1997. وصفها جولدن بأنها «سفينة جلاكتيكا حربية» محملة بحمولة زائدة. كان قد قطع شوط كبير في المشروع بما يحول دون إلغائه، لكنه كان يمثل عقلية مؤسسية أراد أن يغيرها، حيث صرح قائلا إن «الوقت قد حان لبدء ثورة ثقافية وتقديم ناسا بصورة جديدة». وفي إطار دعوته إلى بعثات «أصغر، وأرخص، وأسرع، وأفضل»، تعهد ب «تغيير الثقافة» داخل الوكالة، محولا إياها من بيروقراطية عقيمة إلى مجموعة من المبتكرين المغامرين.
منحه برنامج قائم، وهو نظام رصد الأرض، فرصة مبكرة لاتباع هذا الأسلوب. كان هذا الأسلوب قد انبثق عن خطة لناسا للفوز بدعم المحطة الفضائية في المجتمع العلمي، عن طريق بناء أقمار صناعية غير مأهولة وكبيرة، لدراسة بيئة الأرض وغلافها الجوي ودفع مقابلها من ميزانية المحطة الفضائية. عندما حصل نظام رصد الأرض على موافقة، في عام 1989، وضع مديروها تصورا له، وكان عبارة عن مركبتين زنة ثلاثة عشر طنا، وميزانية بمبلغ 17 مليار دولار أمريكي. لم تدم هذه الخطة؛ ففي عام 1991 خفض مجلس النواب التمويل إلى 11 مليار دولار أمريكي.
مضى جولدن أبعد من ذلك؛ ففي منتصف عام 1992، وافق على خطة من شأنها تقليل تكلفة البرنامج أكثر من ذلك، وصولا إلى 8 مليارات دولار أمريكي، بالتركيز على مركبات فضائية أصغر تركز بمعدل أكبر على موضوعات علمية محددة. صرح لمجلة «إيروسبيس أمريكا» قائلا: «ثمة ميل دوما إلى الحصول على 100 في المائة من النتائج المرغوبة، والفرق بين الحصول على 85 في المائة و100 في المائة يمكن أن يعني فرقا كبيرا للغاية في التكاليف. سألني أحدهم، هل ستسعون إلى الحصول على نسبة 2 في المائة المتبقية من البيانات من بعثة «ماجلان»؟ كانت إجابتي لا، حيث إن نسبة 2 في المائة المتبقية تكلف كثيرا من الأموال.»
2
أراد جولدن أن يعود إلى ستينيات القرن العشرين، بإحياء عصر عمليات الإطلاق المتكررة والتكاليف البسيطة؛ أسلوب كهذا كان من شأنه أن يعرض ناسا لبعثات فاشلة، وأن يساعدها في التعامل مع حالات الفشل هذه بنجاح. كانت لديه ذكريات عزيزة لبرنامج «سرفيور»، الذي كان قد أجرى عمليات إنزال آلية على القمر استعدادا لأبولو. «مررنا بمحاولتين فاشلتين من بين سبع محاولات إطلاق. كان برنامجا ناجحا على نحو رائع.»
كان جولدن قد جاء إلى مكتب الوكالة كأحد المعينين من قبل الرئيس بوش، لكنه لم يتأثر بالتغيير الذي حدث في الإدارات، وظل محتفظا بمنصبه بعد أن تقلد الرئيس كلينتون مهام منصبه الرئاسي في البيت الأبيض. بعدها بعام، أثبت برنامج لوزارة الدفاع باسم «كليمنتاين» أن التطورات في المعدات كانت تعني أن البعثات غير المأهولة ربما تصبح صغيرة، وغير مكلفة، ومثمرة للغاية. مثل ابنة عامل المنجم تلك، فحصت «كليمنتاين» أنواعا مختلفة من الصخور على القمر، ثم مضت قدما لفحص كويكب حتى «فقد أثرها واختفت إلى الأبد» في الفضاء السحيق.
انبثق برنامج «كليمنتاين» عن مبادرة الدفاع الاستراتيجي. في مختبر لورانس ليفرمور الوطني قرب سان فرانسيسكو، كان عالم الفيزياء لوويل وود قد قدم نموذجا باسم «بريليانت ببلز»، وفيه تدور مركبات فضائية صغيرة - لكنها عالية القدرة - في مدارات فضائية بأعداد كبيرة لتدمير صواريخ العدو عن طريق الاصطدام بها أثناء الطيران. خفض هذا النموذج وزن الكاميرا المحمولة في الفضاء من خمسين رطلا إلى رطلين أو أقل. كانت المركبة «كليمنتاين» التي انبثقت عن هذا النموذج تزن أقل من ألف رطل، وكان قرابة نصف هذا الوزن عبارة عن الوقود الدفعي على متن المركبة، وكانت تحمل ست كاميرات تستطيع التقاط صور عند أطوال موجية للأشعة فوق البنفسجية والأشعة المرئية والأشعة تحت الحمراء القصيرة والطويلة. كانت هذه الكاميرات تحتوي أيضا على جهاز مسح بالليزر. ربما كانت تهدف سابقا إلى تحديد المسافة إلى رءوس حربية صاروخية، بيد أنها الآن تجري قياسات دقيقة لارتفاع الجبال على سطح القمر وعمق الوديان والفوهات البركانية، مكملة بذلك الصور الملتقطة في دراسات طبوغرافية.
شملت بعثات التصوير الفوتوغرافي السابقة المركبات المدارية القمرية الخمس من عام 1966 إلى عام 1967، فضلا عن مركبتين مداريتين سوفييتيتين في عامي 1971 و1974. جمعت بعثات «أطلس» صورا رائعة للقمر، إلا أنها كان ينقصها خاصية تعدد الأطياف التي اتضحت فيما بعد قيمتها العظيمة في عمليات رصد الأرض. نقلت «كليمنتاين» هذه الخاصية إلى القمر، حيث دارت حوله لمدة شهرين وأرسلت نحو مليون صورة تقريبا، كما رسمت مجددا خريطة للقمر، لا من خلال صور الأبيض والأسود العادية، وإنما من خلال أحد عشر لونا مرئيا ومندرجا ضمن الأشعة تحت الحمراء القصيرة، مع وضع خرائط طوبوغرافيته كذلك. أثارت النتائج اهتماما بالغا بين الجيوفيزيائيين؛ حيث إنها ألقت الضوء على مراحل التطور الأولى للقمر. سمحت هذه الصور أيضا بإعداد خرائط جيولوجية عن طريق عرض أنواع الصخور المختلفة على سطح القمر. أشارت البيانات الأخرى إلى وجود ثلج قرب القطب الجنوبي للقمر، وهو ما قد يكون مصدرا لتوفير الماء ووقود الصواريخ لقاعدة مأهولة في المستقبل. بالإضافة إلى ذلك، تبلغ تكلفة المركبة الفضائية 55 مليون دولار أمريكي فقط.
على الرغم من أن «كليمنتاين» كانت أحد مشروعات البنتاجون، فقد احتضن جولدن المشروع ورحب به. في أبريل 1994، تحدث جولدن في مؤتمر صحفي حول بعثات استكشاف الكواكب المنخفضة التكلفة، معلنا أنه في السنوات السابقة «صرنا جميعا معتادين على طريقة مباشرة الأعمال التي لا يتعين علينا فيها أن نلقي بالا إلى التكلفة. كان تنفيذ البعثة أكثر أهمية من التكلفة. مضى ذلك ونسي، وانتهى.» بدلا من ذلك، صدق على برنامج باسم «ديسكفري»، يتضمن مشروعات بتكلفة 150 مليون دولار أمريكي بحد أقصى. لم تكن هذه المشروعات تستعين بموارد مختبر الدفع النفاث، بل جاءت نتيجة مقترحات أعدها علماء أفراد غير تابعين لهيئات بعينها، معروفين باسم الباحثين الرئيسيين. صرح أحد المديرين المشاركين بوكالة ناسا في المؤتمر قائلا: «نريد من الباحثين الرئيسيين اقتراح بعثة كاملة، وإذا أعجبنا العرض - إذا أعجبنا الاقتراح، إذا أعجبتنا طريقة إدارتكم له، إذا راقت لنا التكلفة - فسنشتري التصميم، وندفع مقابله لكم، ثم تنفذونه.»
3
بينما كان جولدن يقلل من تكلفة نظام رصد الأرض ويعيد إحياء برنامج استكشاف الكواكب، كانت القوات الجوية توسع نطاق جهودها في مجال مركبات الفضاء غير المأهولة للبلاد، من خلال تقديم خدمات جديدة كبرى في مجالي الملاحة والتحكم في مراقبة حركة الطيران. انبثقت هذه الجهود من مشروع عسكري، هو نظام تحديد المواقع العالمي، الذي كان قد تأتى كنظام ملاحة من شأنه تحسين أقمار «ترانزيت» الصناعية التابعة للقوات البحرية. تطلبت «ترانزيت» أجهزة مكلفة تختص بمعالجة الإشارات، وعادة ما كانت تحتاج إلى عمليتي مرور منفصلتين لأحد الأقمار الصناعية، تفصلهما ساعة ونصف ساعة. أفلح هذا الأمر مع غواصات «بولاريس» التي كان قادتها ينتظرون طوال اليوم للحصول على موقع ملاحي سليم، بيد أن القوات الجوية كانت تريد تحديدا آنيا للموقع لتمكين الطائرات من إلقاء قنابل بدقة أكبر. وكان النظام الذي نشأ عن ذلك هو نظام تحديد المواقع العالمي المعروف اختصارا بنظام «جي بي إس».
النظام عبارة عن مجموعة من أربعة وعشرين قمرا صناعيا، في مدارات مدتها اثنتا عشرة ساعة على ارتفاع 12543 ميلا. يحمل كل منها ساعة ذرية لتحديد الوقت بدقة، بينما يسمح التتبع الأرضي لكل قمر صناعي بتحديد موضعه بنفس مستوى الدقة؛ عندئذ، يتلقى جهاز استقبال أرضي الإشارات من المركبات الفضائية في مجال الرؤية، محددا مواقعها فضلا عن الأوقات الفعلية لنقل الإشارات. يتضمن جهاز الاستقبال ساعته الداخلية، التي ليست دقيقة تماما، بينما تسمح البيانات الواردة من الفضاء بمزامنة هذه الساعة مع ساعات الأقمار الصناعية. يحسب جهاز الاستقبال عندئذ المدة الزمنية التي استغرقتها كل إشارة أثناء الانتقال، منتقلة بسرعة الضوء، ويترجم هذا إلى تحديد دقيق للمسافة التي يبعدها كل قمر صناعي؛ ومن خلال طريقة التثليث، يحدد جهاز الاستقبال موقعه.
وصل أول قمر صناعي من هذا النوع إلى مدار فضائي في عام 1977، وبحلول عام 1983 توفر عدد كاف من الأقمار الصناعية لإجراء تجارب مبدئية. في ذلك العام، ضلت طائرة «بوينج 747» من خطوط الطيران الكورية طريقها في المجال الجوي السوفييتي فوق جزيرة سخالين، وهي منطقة عسكرية حساسة، وأسقطت الطائرة. ربما كان نظام ملاحي أفضل ليحول دون ذلك، وأمر الرئيس ريجان القوات الجوية بتوفير إشارات نظام تحديد المواقع العالمي للاستخدام على المستوى الدولي. دخلت مجموعة الأقمار الصناعية، البالغ عددها أربعة وعشرين قمرا، الخدمة في مارس 1994، وبعدها بعامين تقريبا، دخل الخدمة قمر صناعي روسي مناظر، هو «جلوناس».
إن أجهزة الاستقبال الخاصة بنظام تحديد المواقع العالمي بسيطة حقا؛ تبيع شركة «ماجلين سيستمز» هذه الأجهزة مقابل 199 دولارا أمريكيا، وهو ما يجعلها في متناول سائقي القوارب الذين يبحثون عن طريق عودتهم إلى موانئ يغلفها الضباب، وشركات الشحن التي تريد تتبع مواقع مركباتها؛ إذ يسمح نموذج مختلف من أجهزة الاستقبال بإجراء اتصال هاتفي برقم الطوارئ 911 لتحديد الموقع عبر الأقمار الصناعية. ستجد هذه الأجهزة مشترين بين قائدي المركبات على الطرق السريعة ممن يخشون تعطل مركباتهم في منطقة نائية. ثمة نماذج أكثر تعقيدا تتضمن الخرائط المرسومة بواسطة الكمبيوتر أو ما يعرف بالخرائط المحوسبة. عند تركيب هذه الأجهزة في السيارات المعروضة للإيجار، فإنها لا تظهر الموقع فحسب، بل توجه قادة المركبات إلى وجهاتهم داخل المدن غير المألوفة بالنسبة إليهم.
يستفيد أيضا الطيران التجاري من ذلك؛ يعتمد الطيران التجاري على مجموعات واسعة من أجهزة الإرسال والاستقبال اللاسلكية الأرضية المستخدمة في الملاحة، فضلا عن جهاز الهبوط الآلي، الذي يوجه الطائرات لإجراء عمليات هبوط اضطراري بسبب سوء الأحوال الجوية إلى أكثر من ألف مطار . أثبتت الأجهزة قيمتها على مدار عقود من الاستخدام الروتيني، ويستشعر المرء هذه الفترة الطويلة بإعادة قراءة رواية إرنست كيه جان الأكثر مبيعا لعام 1953، «السامي والقوي». كان على متن الطائرة التي ظهرت في الرواية، وهي طائرة طراز «دي سي-4»، عشرون شخصا، يحاولون جاهدين الانتقال من هونولولو إلى سان فرانسيسكو بعد فقدان محرك ذو مكبس. استرشد قائد الطائرة بالنجوم، مثلما كان يحدث في أيام الكابتن كوك. اقترب قائد الطائرة من المطار بمساعدة جهاز لاسلكي قديم كان يستخدم بلا شك خلال عصر الطائرات الثنائية السطح، لكن خلال عملية الاقتراب الأخيرة، أجرى طاقم الطائرة هبوطا آليا بالاعتماد على جهاز الهبوط الآلي.
مع ذلك، تنطوي هذه الأجهزة على مواضع قصور. لا تتبع الطائرات أقصر المسارات على طول رحلاتها، لكنها تنطلق بدلا من ذلك من محطة ملاحية إلى أخرى بطريقة توصيل النقاط. في المسارات الطويلة فوق المحيطات، تتراجع غالبا الدقة الملاحية، وتتفادى الطائرات حدوث تصادمات بالطيران على مسافة مائة ميل بعيدا عن بعضها البعض. وعندما تسوء الأحوال الجوية، تحد معظم المطارات أيضا من أنشطتها، حيث تحصر عمليات الهبوط في ممر طائرات واحد مزود بجهاز هبوط آلي. بالإضافة إلى ذلك، يسمح جهاز الهبوط الآلي بالاقتراب المباشر فقط، ولا يسمح للطائرات بالدوران أو المناورة أثناء الهبوط، وهو ما يقيد كثيرا أنماط حركة الملاحة الجوية المسموح بها، من خلال السماح بتحليق الطائرات في خطوط مستقيمة فقط، كما يقلل الطاقة الاستيعابية للمطارات في المدن الكبرى ذات المطارات المتعددة. توجد في نيويورك، على سبيل المثال، مطارات عالمية، لكن عندما يسوء الطقس، لا يستطيع مطار لاجوارديا التعامل إلا مع أربع وعشرين عملية هبوط أو إقلاع فقط كل ساعة، مقارنة بثمانين عملية هبوط وإقلاع في الأيام الجيدة الطقس.
يتضمن نظام تحديد المواقع العالمي حاليا إمكانية نظام موحد يسمى الطيران الحر، وهو نظام يتجاوز أوجه القصور هذه. بدلا من الاعتماد على أجهزة الإرسال والاستقبال الأرضية، يستخدم قادة الطائرات أجهزة الاستقبال المعتمدة على نظام تحديد المواقع العالمي وكذلك أجهزة الكمبيوتر على متن الطائرة؛ مما يسمح لهم بالتحليق في مسارات مفضلة توفر في استهلاك الوقود. بالإضافة إلى ذلك، تتوقع هيئة الطيران الفيدرالية أن تتخلى عن كثير من أجهزتها اللاسلكية التقليدية خلال الخمس عشرة سنة القادمة. قررت الهيئة أيضا أن الأجهزة المعتمدة على نظام تحديد المواقع العالمي ستحل بمرور الوقت محل جهاز الهبوط الآلي، ووضعت بالفعل قواعد رسمية تستطيع طواقم الرحلات بموجبها استخدام الأقمار الصناعية لنظام تحديد المواقع العالمي في إجراء عمليات هبوط آلي.
في ظل نظام تحديد المواقع العالمي وإصلاحات جولدن التي تشير إلى توجهات جديدة في أنشطة الفضاء غير المأهولة، كان المكوك الفضائي أيضا يحقق نجاحات جديدة، حيث استطاع في نهاية المطاف أن يقدم إسهاما ممتازا في المجال العلمي؛ تحقق هذا من خلال إطلاق بعثة لإصلاح مرصد هابل أثناء تحليقه في مدار فضائي. كان المرصد قد صمم بما يسمح بإجراء أعمال الخدمة والصيانة في الفضاء، وفي ديسمبر 1993، التحمت «إنديفور» به والتقطته عن طريق ذراع موجه طويل. استبدل أفراد طاقم الطيران مجموعة متذبذبة من بوصلات التوجيه الجيروسكوبية، ووضعوا ألواحا شمسية جديدة، ووضعوا معدات داخلية جديدة تضمنت مرايا صغيرة، شكلت حتى بلغت منتهى الدقة. كانت المرايا تستخدم كنظارات، تصحح رؤية هابل المعيبة.
نتيجة لذلك، تمكن مرصد هابل من التقاط مجموعة هائلة من الصور الجديدة التي أثارت أسئلة محيرة. كان من بين البعثات الرئيسية بعثة تتضمن إجراء عمليات رصد قد يتحدد من خلالها عمر الكون. في واقع الأمر، سمي المرصد على اسم إدوين هابل، وهو أول عالم فلك يحاول تحديد عمر الكون. حصل عالم الفلك ويندي فريدمان، الذي يعمل بالقرب من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، على صور جديدة واضحة من هذا المرصد واكتشف مفارقة محيرة، ألا وهي أن الكون يبدو أقل عمرا من النجوم التي يحتويها.
كان هذا تطبيقا للعلم في أحسن صوره؛ حيث أثار الأمر إشكاليات عويصة حول أسس الفيزياء الفلكية. لم يكن الأمر مسألة بسيطة تتعلق بالتجارب الروتينية والنتائج المحسنة على نحو طفيف؛ بدلا من ذلك، وضع مرصد هابل الأساليب الرئيسية في علم الفلك موضع تساؤل، مشككا فيما يعرفه العلماء حقيقة، وفي طريقة زعمهم لتلك المعرفة. مع ذلك، جاء هذا المرصد في صدارة الأعمال الموجهة إلى حل هذه المفارقة، من خلال تحديد العمر التقديري للكون على نحو أكثر دقة.
في ظل ما ظفر به المكوك الفضائي من مؤيدين جدد بإنقاذه مرصد هابل، كانت المحطة الفضائية في طريقها للثبات بسهولة عند مستوى إنفاق يقترب من ملياري دولار أمريكي سنويا . في عام 1984، دعا ريجان إلى إكمالها «في غضون عقد»، وبعدها بتسع سنوات، مع تولي الرئيس كلينتون مهام منصبه، كان البرنامج قد تلقى أكثر من 9,8 مليارات دولار أمريكي على سبيل الاعتمادات المالية. لكن، في خضم عمليات إعادة التصميم المتكررة، لم تكن المحطة الفضائية أكثر من نموذج تصميمي على الورق. كان من المنتظر أن تصبح المحطة الفضائية المشروع الحكومي الأهم؛ حيث أنفقت مليارات الدولارات سنويا دون أي بادرة على اقتراب النهاية، بينما وفرت ما لا يزيد عن كونه وظائف مدعومة.
لم يرق الأمر لجولدن؛ إذ أشار إلى المحطة بوصفها «برنامج استحقاق مدته ثلاثون عاما». لم يلق الأمر قبولا كذلك لدى كلينتون؛ ففي وقت مبكر من عام 1993، أصدر توجيها إلى جولدن بأن ينحي جانبا خطة الثلاثين مليار دولار الحالية، وأن يقدم تصميما جديدا آخر؛ وهو ما أدى إلى خفض التكلفة إلى ما يصل إلى 50 في المائة. كانت المحطة الفضائية الناتجة في التصميمات تشبه منطادا من الرصاص. وفي يونيو، أوصى مجلس النواب خلال عملية تصويت واحدة بإلغاء برنامج المحطة الفضائية، التي لم يكن قد مضى على شهرتها سوى خمس عشرة دقيقة فقط. مع ذلك، أدرك جولدن أنه لا يزال في مقدوره الحصول على المحطة الكبيرة التي كان جميع عملاء ناسا يريدونها، بالتعاون مع روسيا.
تابع جولدن تنفيذ اتفاقية عام 1992 مع موسكو بالمضي قدما في خطط لإرسال رواد فضاء على متن المكوك الفضائي، مع إرسال رواد فضاء لإجراء بحوث على متن المحطة الفضائية «مير». بالإضافة إلى ذلك، كان كلينتون قد صرح لجولدن بالسعي للحصول على دعم من روسيا في بناء محطة ناسا. كانت روسيا قد وضعت خططا لبناء «مير» ثانية، بيد أن الخطط كانت متوقفة، وسط ضغوط خاصة بالميزانية فاقت ضغوط ميزانية ناسا بكثير. لكن في منتصف مارس 1993، كتب جولدن خطابا إلى نظرائه الروس، مقترحا بناء محطة فضائية مشتركة تدمج «مير 2» مع تصميم ناسا. في الوقت نفسه، توجه وفد من ناسا إلى موسكو ودعا شركة «إن بي أوه إنرجيا»، التي تولت تصميم «ساليوت» و«مير »، للمشاركة في آخر عملية إعادة تصميم للمحطة الأمريكية.
بعد هذا، توالت الأحداث بسرعة. في غضون أسابيع، بارك الرئيس بوريس يلتسن الجهد المشترك، وفي آخر شهر يونيو، عقدت ناسا ووكالة الفضاء الروسية اتفاقا رسميا، يفسح المجال أمام تعاون واسع النطاق. توجه رئيس شركة «إن بي أوه إنرجيا»، يوري سيمينوف، لزيارة واشنطن على رأس مجموعة معه لتقديم عرض لناسا والشركات المتعاقدة معها حول إسهامات روسيا المرتقبة. شاركت المجموعة أيضا في مناقشات عقدت في كريستال سيتي، قرب واشنطن؛ حيث كان فريق من ناسا يواصل فحص تصميمات المحطة الفضائية.
في أواخر شهر أغسطس، سافر رئيس الوزراء فيكتور تشيرنوميردين إلى واشنطن والتقى نائب الرئيس ألبرت جور، ووقعا اتفاقية جديدة حولت المحطة الفضائية إلى مشروع مشترك حقيقي، مطالبة بأقوى تعاون بين الدولتين في تاريخ استكشاف الفضاء. وافقت الولايات المتحدة على إنقاذ برنامج الفضاء المأهول الروسي بدفع 400 مليون دولار أمريكي على أربع دفعات سنوية. في واشنطن، كان هذا المبلغ لا يفي بتغطية تكلفة رحلة مكوك فضائي واحدة، لكنه في موسكو يمكن أن يحقق الكثير؛ ففي تلك الدولة قد يستطيع المرء شراء خدمات مركز بحوث مزود بطاقم عمل مدرب جيدا نظير تكلفة لا تزيد عن 100 ألف دولار أمريكي سنويا.
كانت دفعات السداد موجهة في المقام الأول نحو دعم «مير»، بإحياء نموذجي «سبكتر» «وبريرودا» وتمويل إطلاقهما إلى الفضاء. كان التركيز على «مير» بدوره جزءا من البرنامج المشترك للرحلات المأهولة الذي وضع تصوره في اتفاق بوش-يلتسن لعام 1992. أجريت أول رحلة من هذا النوع في فبراير 1994، حيث أطلقت «ديسكفري» بعثة مدتها ثمانية أيام كان من بين أفراد طاقمها رائد الفضاء سيرجي كريكالف، وبعدها بعام حمل المكوك الفضائي نفسه فلاديمير تيتوف، وهو رائد فضاء مخضرم قضى في الفضاء عاما كاملا، في بعثة مشابهة. التقى المكوك الفضائي ب «مير»، لكنه لم يلتحم بها. كانت هذه العملية الدقيقة ستنتظر حتى الرحلة القادمة.
في تلك الأثناء، كانت روسيا بصدد إعداد سبكتر. كانت سبكتر مخصصة في الأساس للدراسات البيئية باستخدام كاميرات متعددة الأطياف، بيد أنها غيرت هذه البعثة بسبب القاعدة القائلة بأن من يملك الذهب يسود. كانت ناسا تمتلك الذهب؛ إذ كانت قد أنفقت جزءا من ميزانيتها البالغة 400 مليون دولار أمريكي لصالح مجموعة جديدة من الأدوات بغرض استخدامها في دراسات طبية بيولوجية. كان من المقرر أن يستخدم رائد الفضاء نورمان ثاجارد تلك الأدوات خلال إقامة مخطط لها على متن «مير»؛ حيث كان من المتوقع أن يتمكن من خلال المساعدة الروسية من تحطيم الرقم القياسي الأمريكي البالغ 84 يوما على متن «سكايلاب».
انطلق ثاجارد إلى «مير» على متن «سويوز»، في مارس 1995. لسوء الحظ، كانت «سبكتر» لا تزال على الأرض. واجه الأمريكيون تأجيلات في شحن معداتهم، ثم واجهوا مزيدا من التأجيلات في موسكو، عندما احتجز مسئولو الجمارك بعض الأدوات نظرا لعدم دفع الرسوم الواجبة. انطلقت «سبكتر» أخيرا من تيوراتام في مايو واتصلت بالمركبة «مير»، وهو ما منح ثاجارد قرابة شهر استطاع استخدامها خلاله. ثم وصل المكوك الفضائي «أطلنطس»، في أواخر شهر يونيو، وكان يحمل رائدي فضاء إلى «مير» وأعاد رائدي فضاء آخرين إلى الأرض، فضلا عن ثاجارد. قضى ثاجارد 115 يوما في مدار فضائي.
أثناء مناورة «أطلنطس» قرب «مير»، راقب رائدا الفضاء العائدان الفضاء من «سويوز» والتقطا صورا. لم يكن هذا فيلم «2001: ملحمة الفضاء»، الذي يصور التحام مركبة فضائية - هي «بان أمريكان» - بمحطة تشبه عجلة دوارة ضخمة. كان الأمر لا يزال مبهرا: مركبة مدارية مكوكية في مثل حجم طائرة خطية طراز «دي سي-9»، قريبة من مجموعة ممتدة من الأسطوانات السميكة والألواح الشمسية العريضة بزنة إجمالية 130 طنا. وفي بعثة مشتركة مشابهة خلال عام 1996، سجلت رائدة الفضاء شانون لوسيد رقمها القياسي بالمكوث في الفضاء لمدة 188 يوما.
بالإضافة إلى ذلك، كان مهندسون من الدولتين لديهم تصميم للمحطة الدولية يمكنه أن يحل محل «مير». كانت شركة خرونتشيف ستبني مركزها، المسمى قاعدة البضائع الوظيفية (يشار إليه بالاختصار «إف جي بي» بالروسية)، وكان من المقرر إطلاق هذه القاعدة أعلى الصاروخ «بروتون»، الذي كانت موسكو ستوفره كمركبة نقل ثقيل، مكملة المكوك الفضائي. وعدت روسيا أيضا ببناء أقسام رئيسية أخرى، وكان من المقرر أيضا أن تبيع إلى ناسا عددا من النظم المستخدمة في عمليات الالتقاء والالتحام الآلية.
كانت الخطة الكلية كافية أن تأسر الألباب. بالإضافة إلى الولايات المتحدة وروسيا، شاركت أيضا كندا واليابان ووكالة الفضاء الأوروبية. تقرر بدء البناء في نوفمبر 1997 بإطلاق «إف جي بي» وسيتواصل حتى يونيو 2002. شهدت تلك السنوات الخمس ثلاثا وسبعين رحلة إلى مدار فضائي، ثلاثة أخماسها روسية. كانت أبعاد المحطة الكاملة 290 قدما طولا، و361 قدما عرضا، وكان وزنها البالغ 443 طنا يضاهي وزن طائرة «بوينج 747». وكان من المقرر أن تحمل طاقما من ستة أفراد، فضلا عن ألواح شمسية ضخمة توفر 110 كيلو وات من الكهرباء، وهو ما يكفي لإضاءة عشرين منزل مكون كل منها من أسرة واحدة. كان متوقعا أن تبلغ تكلفتها 94 مليار دولار أمريكي على مدى ثلاثين عاما.
كانت هذه الخطة تتضمن ما هو أكثر من الطموح؛ إذ كانت تهدف إلى بناء إمبراطورية على نطاق قلما أمكنت رؤيته. وإذا كانت الخطة بعيدة المدى، فقد أتاحت على الأقل مجالا كافيا للتقليص ومد الفترة الزمنية للبرنامج. لم يكن ينقص الخطة أيضا التفاؤل المبهج، مثلما انعكس في الجدول الزمني لعمليات السير في الفضاء خلال مرحلة التجميع. تغير موقف ناسا تماما التي كانت تنظر إلى هذه الأمور عادة باعتبارها خطرة. تطلب النموذج النهائي من تصميم المحطة الفضائية «فريدوم»، قبل عام 1993، تنفيذ عمليات سير في الفضاء أثناء التجميع لمدة 365 ساعة، وهو ما رآه جولدن إفراطا. بدءا من مارس 1994، تطلبت الخطة الجديدة عمليات سير في الفضاء لمدة 434 ساعة. بعدها بعام، مع توافر فهم أفضل لمتطلبات المشروع، ارتفعت مدة هذه العمليات إلى 648 ساعة. أشارت المحللة السياسية مارشيا سميث إلى «تغيير مفاجئ في سياسة ناسا حيال المخاطر المتضمنة في عمليات السير في الفضاء. لم تعد ناسا تنظر إلى عمليات السير في الفضاء على أنها ملجأ أخير، بل إنها صارت الآن «فرصة».» كانت الوكالة تؤكد روح الإصرار والنجاح الموجودة لديها، بيد أنها كانت تبحث أيضا عما قد يكون فرصة حقا للمجازفة.
في الوقت الحالي ، تنشأ مخاطر أخرى من طبيعة الشراكة نفسها، حيث تراهن ناسا بكثير من مستقبلها على التعاون مع حكومة مرتعشة واقتصاد غير مستقر. ربما يتحدى نظام قومي الغرب من خلال سياسات عدائية مجددا، مع استنكار الاتفاق مع ناسا باعتباره خيانة لمصالح البلاد. ربما تتذرع حكومة صديقة وداعمة بفقرها وتنكث التزاماتها المالية. إذا حدث ذلك، فربما ينتهي المطاف بمشروع المحطة الفضائية المشترك إلى ما لا يزيد عن شمعة أمل وسط أعاصير الحماقة الإنسانية.
ثمة موطن ضعف آخر ينشأ عن التركيز على الرحلات الفضائية المأهولة، الذي لا يزال شأنا من اختصاص الحكومات، ولم يصبح بعد اتجاها قائما بذاته. اعتمد علماء الأرصاد ومديرو الاتصالات، على سبيل المثال لا الحصر، طويلا على المركبات الفضائية غير المأهولة. لا يوجد مجتمع يدعم البعثات المأهولة، والسبب بسيط، وهو أن تكلفة البعثات المأهولة تتجاوز كثيرا الفائدة المحدودة التي يمكن أن توفرها للمستخدمين.
يستطيع المرء أن يدرك هذا من خلال المسألة الأساسية المتمثلة في إطلاق رحلات إلى مدارات فضائية. يتطلب المكوك الفضائي 1,2 مليون إجراء منفصل حتى يصبح جاهزا للإطلاق. لتنفيذ عمليات الإطلاق، اعتمدت ناسا على 2800 موظف لديها، فضلا عن 19700 آخرين من الشركات المتعاقدة، بدءا من عام 1995. كان هذا العدد مساويا لعدد الأفراد الذين تطلبتهم عملية إطلاق إحدى مركبات «أبولو» القمرية قبل ربع قرن، والذين كان عددهم 20 ألف شخص. في وقت مبكر في عام 1996، ذكرت مجلة «أفياشن ويك آند سبيس تكنولوجي» أن تكلفة إطلاق مكوك فضائي هي 550 مليون دولار أمريكي؛ وكان هذا يتعارض مع التكلفة المذكورة للصواريخ القابلة للاستخدام مرة واحدة ذات القدرة المماثلة، والتي بلغت 110 ملايين دولار أمريكي للصاروخ «آريان 5»، و60 مليون دولار أمريكي للصاروخ «بروتون».
المحطات الفضائية في تسعينيات القرن العشرين: في الأعلى، محطة «مير» الفضائية في عام 1996. في الوسط، المحطة الفضائية الدولية المقترحة. في الأسفل، محطة «مير» الفضائية بنفس حجم المحطة الفضائية الدولية (دان جوتييه).
هذا التباين بنسبة عشرة إلى واحد سيستمر على الأرجح، والسبب أنه على الرغم من إمكانية إطلاق مركبة فضائية في إحدى بعثات المكوك الفضائي، فإن الهدف الرئيسي لذلك لا يكون نقل حمولة إلى مدار فضائي، بل إعادة الطاقم بسلام. على أي حال، يتضح من تجربة «تشالنجر» أن فقدان رواد الفضاء يمكن أن يؤدي إلى حالة من الحداد الوطني، مع هز الوكالة من أساسها.
على الرغم من هذا كله، تمثل المحطة الفضائية حاليا إنجازا مهما. للمرة الأولى منذ «أبولو»، تقترح ناسا بناء مستقبلها مستندة إلى ما هو أكثر من التحايل على البلاد بمشروع مخادع. بهذا المفهوم أيضا، تعود الوكالة إلى ستينيات القرن العشرين، بينما تواصل رحلاتها المأهولة لقيمتها السياسية في المقام الأول. يعد هذا الجهد المشترك بأن يؤكد على نحو واضح ومثير أن أفضل فرص روسيا ربما تكمن في الشراكات مع الغرب، وأن أوروبا والولايات المتحدة تقدران وتعجبان بالأعمال المنفذة في صناعاتها وعلى أيدي مهندسيها، وأن عصر المواجهة يمكن أن يفسح المجال حقا لعصر من التعاون.
بالنظر إلى هذا القرن المؤسف، يلمس المرء تعارضا صارخا بين الآمال المثالية للثوريين الذين التفوا حول لينين والإنجازات المحدودة التي زعموا هم وأتباعهم اللاحقون تحقيقها. هزموا النازيين، متحملين وطأة المعركة. أسسوا نظاما مثيرا للإعجاب في مجال التعليم العام، وهو نظام لا يزال يتفوق على نظام الولايات المتحدة في جوانب مهمة. كانوا أوائل من سافروا إلى الفضاء. لكن، بالكاد ما كانت هناك إنجازات أخرى خلاف هذه الإنجازات الثلاثة؛ فقد تراوحت حالات فشلهم ما بين إرهاب ستالين من خلال قمع الحرية من جهة والفقر المدقع والمستويات المتدنية لأحوال الصحة العامة من جهة أخرى. وفي النهاية، غدت روسيا أمة في مصاف العالم الثالث، وإن كانت تمتلك أسلحة العالم الأول. مع ذلك ، لا يزال برنامجهم الفضائي يلقى استحسان شعبها ومصدر فخر له. إذا كانت روسيا في النهاية ستمضي في طريقها بصرف النظر عما تفعله أمريكا، فربما لا يزال يحدونا الأمل حاليا في أن تعلن شراكة روسيا مع ناسا عن عصر جديد، يشير إلى قرن جديد سيكون أقل دموية وأكثر سلاما بكثير من القرن المنصرم.
كيف إذن يمكن فهم هذا التناقض الأساسي للرحلات الفضائية المأهولة؟ ماذا يمكن أن نقول عن التعارض بين ارتفاع تكاليفها وانعدام جدواها تقريبا، وعظم قيمتها السياسية فعليا؟ البداية يمكن أن تكون ملاحظة أن الطيران، وهو وثيق الصلة برحلات الفضاء، كان ولا يزال يحمل أهمية سياسية مشابهة. تجني دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية التي تستخدم «بوينج 747» فوائد النقل الجوي الفعال، وتتمتع هذه الدول أيضا برموز حداثية قوية، وبقدرة حكوماتها على شراء الأحدث والأفضل.
تقدم الطائرة «بوينج 747» قيمة وفائدة حقيقيتين فضلا عن دلالتها الرمزية، ومن ثم تتفادى هذا التعارض. لكن، يظهر التعارض في صورته الكاملة في طائرة تجارية مختلفة، وهي الكونكورد. جودتها لا تقبل الجدال؛ تلخص صورة لهذه الطائرة وهي تمر ببرج إيفل قرنا من الريادة الفنية الفرنسية. مع ذلك، لا يوجد سوى عدد محدود من طائرات الكونكورد في الخدمة، وهذا لسبب بسيط، ألا وهو تكلفتها المرتفعة. تبلغ أجرة السفر في رحلة ذهاب فقط على الخطوط الجوية البريطانية من نيويورك إلى لندن 4509 دولارات أمريكية، وتبلغ تكلفة رحلة الذهاب والعودة بأجرة مخفضة 7574 دولارا أمريكيا؛ وبناء عليه، تخدم هذه الطائرة عملاء من الصفوة بعيدين مثل رواد الفضاء.
يستدعي تاريخ الكونكورد أيضا تاريخ الرحلات الفضائية المأهولة؛ حيث إنها تطورت أيضا كمشروع خاص بالحكومات، وعانت بشدة من وطأة القلق على المكانة القومية. مثلما ذكرنا من قبل، كان راعي الطائرة شارل ديجول قد انزعج حيال ما سماه «استعمار أمريكا للسماوات»، وهو هيمنة تجارية جعلت مصممي طائرات أوروبا عاجزين عن المنافسة. لم تواجه الكونكورد الاختبارات الاقتصادية القياسية التي أجرتها شركات مثل «بوينج» عند دراسة مشروعات جديدة. كان ديجول ونظيره البريطاني، رئيس الوزراء هارولد ماكميلان، يستخدمان صناعات الطائرات في دولتيهما كأذرع للدولة، وكانوا يغطون خسائرهم من خلال الدعم.
تميز التكلفة المرتفعة أيضا الرحلات الفضائية المأهولة، وربما كانت خاصيتها الأساسية. لتقليل مستوى الخطورة، لا يمكن تنفيذ جداول الإطلاق الزمنية الروتينية المتكررة التي كان مؤيدو المكوك الفضائي قد بشروا بها في عام 1972. بدلا من ذلك، تتعامل ناسا حاليا مع المكوك الفضائي بوصفه سلعة نادرة وقيمة؛ حيث تفصل عملياته عن عالم التطبيقات الفضائية والفرص التجارية الحالي. يتبدى هذا الأسلوب اليوم في الجدول الزمني لإطلاق المكوك الفضائي، الذي يقتضي تخصيص ما يصل إلى ثلثي رحلات المكوك الفضائي لخدمة المحطة الفضائية.
يضمن هذا على الأقل أنه في حال فشل عملية إطلاق أخرى للمكوك الفضائي، ستظل الآثار محصورة إلى حد كبير في نطاق البعثات المأهولة وحده؛ بيد أن هذا بدوره يؤكد على فكرة أن الرحلات المأهولة صارت مشروعا في حد ذاتها، ينطوي على قيمة سياسية ودلالة رمزية قوية، دون أن تكون له فائدة حقيقية. يشير هذا بدوره إلى أن المشروع ربما يزول تدريجيا بمرور الوقت ليصير جزءا من تاريخ ماض؛ حيث إن الوسائل التكنولوجية الناجحة لا تبقى فقط كأنصاب تذكارية تمولها الحكومات. فهذه المشروعات تخدم قطاعات المستخدمين، بما في ذلك العامة.
تتكون لدى المرء رؤية أعمق من خلال وضع الرحلات المأهولة في سياق ما نراه بصفة عامة تقدما علميا. من الأمثلة النموذجية على ذلك التحول في مجال النقل البحري من الشراع إلى البخار، ومن القاطرات البخارية إلى الديزل، ومن الطائرات ذات المحركات المكبسية إلى الطائرات النفاثة، ومن الإلكترونيات ذات الأنابيب المفرغة إلى الإلكترونيات ذات الدوائر المتكاملة، ومن البواخر العابرة للمحيطات إلى الطائرات التجارية؛ الفرق أن التقنيات التي صارت متقادمة - في كل هذه الأمثلة - كانت ملائمة تماما لعملها.
لم توصف السفن الشراعية التي زخرت بها البحار على مدى قرون بأي عيوب جوهرية. في الواقع، حتى عندما ظهرت السفن البخارية وصارت تمثل تحديا لها، أثبتت فعاليتها لدرجة أن التحول من السفن الشراعية إلى البخارية استغرق مائة عام حتى يأخذ مجراه الطبيعي. ساعدت الطائرات ذات المحركات المكبسية في تحقيق الانتصار في الحرب العالمية الثانية، وساهمت في ظهور الطائرات الكبرى؛ حيث ثبت ببساطة أنها أقل قدرة من الطائرات النفاثة. ظلت القاطرات البخارية تنقل البضائع والمسافرين على مدى قرن من الزمان.
قدمت الأنابيب المفرغة أساسا ملائما تماما لأجهزة الراديو والرادار والتليفزيون وللخدمات الهاتفية للمسافات البعيدة، كما أنها قدمت بداية جيدة في مجال أجهزة الكمبيوتر. في حقيقة الأمر، ظلت هذه الأنابيب ودوائرها تقدم جوانب جديدة من القوة والقدرة حتى بعد ظهور الترانزستور. كانت السفن العابرة للمحيطات مثل «نورماندي» محبوبة كثيرا؛ حيث أسف كثيرون على خروجها من المشهد.
كانت السفن الشراعية، والمركبات البخارية، والطائرات ذات المحركات المكبسية، والأنابيب المفرغة، والسفن العابرة للمحيطات جميعا على درجة كبيرة من الفاعلية، ومستخدمة على نطاق واسع؛ لكن، أدت ضغوط السوق التي لا هوادة فيها، والسعي دائما نحو بدائل أفضل، إلى الإطاحة بها جميعا بعيدا وإحالتها إلى المتاحف. من المفيد النظر إلى المحطات الفضائية من منظور مماثل، مع أخذ جانب مهم في الاعتبار، وهو أنه نظرا لارتفاع تكاليف المحطة الفضائية على نحو أساسي، فإنها لم تحصل قط على فرصة لتقديم خدماتها المرتقبة.
إذا كان تطوير إلكترونيات دقيقة جيدة قد تأخر طويلا، فربما تحقق بذلك سيناريو «كوليرز»؛ ربما كانت المحطة الفضائية ستبرز بوصفها الأسلوب الأولي لتحقيق فوائد مثل الاستطلاع العسكري، والأرصاد الجوية، والخدمات الهاتفية العابرة للمحيطات. صار الانتشار اللاحق للإلكترونيات الدقيقة، الذي جاء بعد ذلك بعقود، بمنزلة المنافس الأكثر تطورا أمام المحطة الفضائية، مثلما كانت المحركات النفاثة بالنسبة إلى المحركات المكبسية، أو مركبات الديزل بالنسبة إلى القاطرات البخارية. في حقيقة الأمر، أدى الدخول السريع للإلكترونيات المتطورة إلى تقادم المحطة الفضائية قبل بنائها، من خلال التشجيع على تطوير المركبات الفضائية غير المأهولة. على حد تعبير الكاتب المسرحي ناجيل نيل، صار نموذج المحطة الفضائية «متقادما تقريبا قبل أن يبرز ما ينافسه أو يتفوق عليه».
من هنا، يستطيع المرء من خلال استعراضه لنظرة مستقبلية على عالم الفضاء أن يرى فرصا شديدة التباين في مجال الملاحة الفضائية بجانبيها المأهول وغير المأهول . سيواصل برنامج الرحلات الفضائية غير المأهولة بلورة مستقبله من خلال أعداد محدودة من المركبات الفضائية ذات القدرات العالية، التي سيظل نطاق استخداماتها في ازدياد. تشمل استخداماتها حاليا شبكة الإنترنت العالمية، التي تعتمد عادة على اتصالات الأقمار الصناعية. وفي المستقبل، ستظهر استخدامات كبرى لنظام تحديد المواقع العالمي، وكذلك للأقمار الصناعية ذات الخدمات الملاحية، في مجال مراقبة الملاحة الجوية.
ستظل عمليات إطلاق هذه المركبات أحداثا قوية الوقع ومثيرة للاهتمام؛ فقد أطلقت ناسا صواريخ «دلتا» بالمئات، بيد أن كل رحلة منها تظل حدثا لا ينسى بالنسبة إلى الأشخاص الذين يشاهدونها للمرة الأولى. لكن، نادرا ما تعرض عمليات الإطلاق هذه على شاشات التليفزيون؛ فقد فتر اهتمام العامة بها ولم يعودوا يولونها اهتماما منذ زمن طويل. يتعامل الناس أيضا مع خدمات المركبات غير المأهولة على أنها أمور بديهية مسلم بها؛ ومن ثم، وعلى الرغم من أهمية هذه الخدمات، فإن البرنامج غير المأهول صار فعليا غير ملحوظ؛ وهذا أمر يشهد بنجاحه؛ حيث إن التقنيات المفيدة تنزوي في حقيقة الأمر وتتراجع إلى خلفية المشهد، ولا تقتحم علينا وعينا أثناء استخدامنا إياها.
على الجانب الآخر، تختلف النظرة المستقبلية المتعلقة بالرحلات المأهولة. عجزت خبرة ثلاثة عقود عن أن تفضي إلى مقترحات جدية تصبح هذه الرحلات بموجبها مفيدة، ومع ذلك، ظلت الرحلات المأهولة مصدر إبهار وإعجاب بالنسبة إلى العامة. ونظرا لكونها معدومة الجدوى ومرئية، فإنها تظهر تباينا مزدوجا مع عدم جدوى البرنامج غير المأهول وكونه غير ملحوظ تقريبا. يقدم هذا الإعجاب أيضا للبرنامج المأهول أفضل فرصه وإنجازاته المرتقبة.
ينصب تركيز البرنامج المأهول حاليا على المحطة الفضائية، وثمة احتمال لأن يستكمل مشروع المحطة الفضائية فعليا؛ وفي حال حدوث ذلك، سيخلف الأمر إرثا كبيرا في صورة صناعات ومؤسسات في عدد من الدول الكبرى التي تتعاون حاليا لبنائها. لن تزول هذه المؤسسات، بل على العكس، سيدفع القادة السياسيون نحو مزيد من الجهود المشابهة. وقد تتضمن تلك الجهود عودة إلى القمر، أو رحلة لرواد فضاء أمريكيين وروسيين إلى المريخ. سيشير هؤلاء القادة مجددا إلى الدلالة الرمزية السامية لرحلات الفضاء، وإلى الأمل في أن المشروعات الدولية المستقبلية قد تصور عصرهم بوصفه عصرا للسلام.
بناء على ذلك، ربما تصير الغاية النهائية من البرنامج الفضائي المأهول أن يكون ضربا من العرض المسرحي؛ لكن، لطالما كان المسرح عنصرا أساسيا لدى أكثر السياسات جدية وأقواها مردودا. فقد كانت المواكب والمسيرات ملمحا أساسيا من ملامح الإمبراطورية البريطانية، بفرسانها الذين يسيرون في مواكب مرتدين حللهم الملونة، وقضاتها ذوي الشعر المستعار، واستعراضاتها البحرية وفرقها التي كانت تعزف النشيد الوطني الإنجليزي «فليحفظ الله الملكة». كما أن الأداء المسرحي قد لعب دورا رئيسيا في أعمال ونستون تشرشل وجون كينيدي، أستاذي التحدي والأمل المفوهين؛ وفي القرن الجديد، ربما تتحقق رؤى فون براون وكوروليف من خلال تضخيم مثل الدولية وإحيائها وتجسيدها في إطار ملموس.
ملاحظات
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
مراجع
كتب
Abel, Elie.
The Missile Crisis.
1966.
Anderson, Frank W.
Orders of Magnitude: A History of NACA and NASA, 1915-1980.
NASA SP-4403. Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1981.
Armstrong, Neil, Michael Collins, and Edwin E. Aldrin.
First on the Moon.
Boston: Little, Brown, 1970.
Baar, James, and William E. Howard.
York: Harcourt, Brace, 1960.
Barnett, Lincoln.
The World We Live In.
New York: Time, 1955.
Beatty, J. Kelly, Andrew Chaikin, and Brian T. O’Leary, eds.
The New Solar System.
New York: Cambridge University Press, vol. 1, 1981; vol. 3, 1990.
Benson, Charles D., and William Barnaby Faherty.
Moonport: A History of Apollo Launch Facilities and Operations.
NASA SP-4204. Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1978.
Bilstein, Roger E.
Stages to Saturn: A Technological History of the Apollo/Saturn Launch Vehicles.
NASA SP-4206. Washington, D.C.: U.S. Government
Bonnet, Roger M., and Vittorio Manno.
International Cooperation in Space.
Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1994.
Boyne, Walter.
Messerschmitt 262: Arrow to the Future.
Washington. D.C.: Smithsonian Institution Press, 1980. ---.
Clash of Wings: Air Power in World War II.
New York: Simon & Schuster, 1994.
Brooks, Courtney G., James M. Grimwood, and Loyd S. Swenson.
Chariots for Apollo: A History of Manned Lunar Spacecraft.
NASA SP-4205. Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1979.
Burroughs, William E.
Deep Black: Space Espionage and National Security.
New York: Random House, 1986.
Carpenter, M. Scott, et al.
We Seven.
New York: Simon and Schuster, 1962.
Chaikin, Andrew.
A Man on the Moon.
New York: Viking, 1994.
Chaisson, Eric J.
The Hubble Wars.
New York: HarperCollins, 1994.
Chapman, John L.
Atlas: The Story of a Missile.
New York: Harper & Brothers, 1960.
Clark, Phillip.
The Soviet Manned Space Program.
London: Salamander Books, 1988.
Clarke, Arthur C.
The Exploration of Space.
London: Temple Press, 1951. ---.
Future.
New York: Harper & Row, 1963.
Collins, Martin J., and Sylvia Fries, eds.
A Spacefaring Nation: Perspectives on American Space History and Policy.
Washington, D C.: Smithsonian Institution Press, 1991.
Compton, W. David, and Charles D. Benson.
Living and Working in Space: A History of Sky-lab.
NASA SP-4208. Washington, D.C.: U.S. Government
Conquest, Robert.
Kolyma: The Arctic Death Camps.
London: Macmillan, 1978. ---.
The Great Terror: A Reassessment.
New York: Oxford University Press, 1990.
Cooper, Henry S. F.
A House in Space.
New York: Holt, Rinehart and Winston, 1978.
Cortright, Edgar M.
Exploring Space with a Camera.
NASA SP-168. Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1968.
Dixon, Don.
Universe.
Boston: Houghton Mifflin, 1981.
Dornberger, Walter.
V-2.
New York: Viking Press, 1954.
Dunne, James A., and Eric Burgess.
The Voyage of Mariner 10.
NASA SP-424. Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1978.
Dwiggins, Don.
The SST: Here It Comes Ready or Not.
Garden City, N.Y.: Doubleday, 1968.
Emme, Eugene M., ed.
The History of Rocket Technology.
Detroit: Wayne State University Press, 1964.
Ezell, Edward Clinton, and Linda Neuman Ezell.
The Partnership: A History of the Apollo-Soyuz Test
NASA SP-4209. Washington, D.C.: U.S. Government
---.
On Mars: Exploration of the Red Planet, 1958-1978.
NASA SP-4212. Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1984.
Ezell, Linda Neuman.
NASA Historical Data Book.
Vol. II,
NASA SP-4012. Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1988.
Feynman, Richard P.
What Do
You
Care What Other People Think?
New York: W. W. Norton, 1988.
Fimmel, Richard O., James Van Allen, and Eric Burgess.
Beyond.
NASA SP-446. Washington, D.C.: U.S. Government
Fimmel, Richard O., Lawrence Colin, and Eric Burgess.
NASA SP-461. Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1983.
Frisbee, John L., ed.
Makers of the United States Air Force.
Washington, D.C.: Office of Air Force History, 1987.
Galloway, Jonathan F.
The Politics and Technology of Satellite Communications.
Lexington, Mass.: Lexington Books, 1972.
Gann, Ernest K.
The High and the Mighty.
New York: William Morrow, 1953.
George, David Lloyd.
War Memoirs.
Boston: Little, Brown, 1933.
Glushko, Valentin P.
Rocket Engines GDL-OKB.
Moscow: Novosti Press Agency Publishing House, 1975.
Golovanov, Yaroslav.
Sergei Korolev: The Apprenticeship of a Space Pioneer.
Moscow: Mir Publishers, 1975. ---.
Korolev: Facts and Myths.
Moscow: Nauka, 1994.
Gordon, Theodore J., and Julian Scheer.
First into Outer Space.
New York: St Martin’s Press, 1959.
Graham, Loren.
The Ghost of the Executed Engineer.
Cambridge, Mass.: Harvard University
Gray, Mike.
Angle of Attack: Harrison Storms and the Race to the Moon.
New York: W. W. Norton, 1992.
Green, Constance, and Milton Lomask.
Vanguard: A History.
Washington, D.C.: Smithsonian Institution Press, 1971.
Gump, David P.
Space Enterprise.
New York: Praeger, 1990.
Gunston, Bill.
Fighters of the Fifties.
Osceola, Wis.: Specialty Press, 1981.
Gunther, John.
Inside Russia Today.
New York: Harper, 1958.
Hacker, Barton C., and James M. Grimwood.
On the Shoulders of Titans: A History of Project Gemini.
NASA SP-4203. Washington, D.C.: U.S. Government
Halberstam, David.
The Fifties.
New York: Villard, 1993.
Hall, R. Cargill.
Lunar Impact: A History of Project Ranger.
NASA SP-4210. Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1977.
Hallion, Richard, ed.
The Hypersonic Revolution.
Wright-Patterson Air Force Base, Ohio: Aeronautical Systems Div., 1987.
Harford, James.
Korolev.
New York: Wiley, 1997.
Hartt, Julian.
The Mighty Thor.
New York: Duell, Sloan and Pearce, 1961.
Heppenheimer, T.A.
Toward Distant Suns.
Harrisburg, Pa.: Stackpole, 1979. ---.
Turbulent Skies: The History of Commercial Aviation.
New York: Wiley, 1995. ---.
Air Traffic Control.
Arlington, Va.: Pasha, 1995.
Herken, Gregg.
Cardinal Choices:
New York: Oxford University Press, 1992.
Hewlett, Richard G., and Francis Duncan.
Nuclear Navy.
Chicago: University of Chicago Press, 1974.
Holloway, David.
Stalin and the Bomb: The Soviet Union and Atomic Energy 1939-1956.
New Haven, Conn.: Yale University Press, 1994.
Hooper, Gordon R.
The Soviet Cosmonaut Team.
Woodbridge, England: GRH Publications, 1986.
Howarth, David.
The Dreadnoughts.
Alexandria, Va.: Time-Life Books, 1979.
Hoyle, Fred.
Frontiers of Astronomy.
New York: Harper & Brothers, 1955.
Hudson, Heather E.
Communication Satellites.
New York: Free Press, 1990.
Hughes, Patrick.
A Century of Weather Service.
New York: Gordon and Breach, 1970.
Ishlinsky, Aleksandr, ed.
Academician S. P. Korolev: Scientist, Engineer, Person.
Moscow: Nauka, 1986.
Jackson, Robert.
Airships.
Garden City, N.Y.: Doubleday, 1973.
Johnson, Clarence “Kelly,” and Maggie Smith.
Kelly: More Than My Share of It All.
Washington, D.C.: Smithsonian Institution Press, 1989.
Johnson, Nicholas L.
Handbook of Soviet Lunar and Planetary Exploration.
American Astronautical Society, Science and Technology Series, vol. 47. San Diego: Univelt, 1979. ---.
The Soviet Reach for the Moon.
Huntsville, Ala.: Cosmos Books, 1994.
Johnson, Paul,
Modern Times: The World from the Twenties to the Eighties.
New York: Harper & Row, 1983.
Judson, Horace Freeland.
The Eighth Day of Creation: Makers of the Revolution in Biology.
New York: Simon & Schuster, 1979.
Kagan, Donald.
On the Origins of War and the Preservation of Peace.
New York: Doubleday, 1995.
Kearns, Doris.
Lyndon Johnson and the American Dream.
New York: Harper & Row, 1976.
Keldysh, Mstislav, ed.
Creative Legacy of Academician Sergei Pavlovich Korolev.
Moscow: Nauka, 1986.
Kennedy, Gregory.
Vengeance Weapon 2: The V-2 Guided Missile.
Washington, D.C.: Smithsonian Institution Press, 1983.
Kerber, L.L.; edited by Von Hardesty.
Stalin’s Aviation Gulag.
Washington, D.C.: Smithsonian Institution Press, 1996.
Khrushchev, Nikita.
Khrushchev Remembers: The Last Testament.
Boston: Little, Brown, 1970.
Killian, James R.
Sputnik, Scientists and Eisenhower.
Cambridge, Mass.: MIT Press, 1977.
Kissinger, Henry A.
Nuclear Weapons and Foreign Policy.
New York: Harper & Brothers, 1957.
Kistiakowsky, George B.
A Scientist at the White House.
Cambridge, Mass.: Harvard University
Klass, Philip J.
Secret Sentries in Space.
New York: Random House, 1971.
Koch, Scott A., ed.
Selected Estimates on the Soviet Union.
Washington, D.C.: Central Intelligence Agency, 1993.
Kohn, Richard H., and Joseph P. Harahan, eds.
Strategic Air Warfare.
Washington, D.C.: Office of Air Force History, 1988.
Koppes, Clayton R.
JPL and the American Space Program.
New Haven, Conn.: Yale University
Lasby, Clarence G.
New York: Atheneum, 1971.
Lay, Beirne.
Earthbound Astronauts: The Builders of Apollo-Saturn.
Englewood Cliffs, N.J.:
Lehman, Milton.
This High Man: The Life of Robert Goddard.
New York: Farrar, Straus, 1963.
Lehmann, Ernst.
Zeppelin.
New York: Longmans, Green, 1937.
Ley, Willy.
Rockets, Missiles and Space Travel.
New York: Viking Press, 1957. ---.
Rockets, Missiles, and Men in Space.
New York: Viking Press, 1968.
Logsdon, John M.
The Decision to Go to the Moon.
Cambridge, Mass.: MIT Press, 1970.
Lovell, Sir Bernard.
The Story of Jodrell Bank.
New York: Harper & Row, 1968.
Lovell, Jim, and Jeffrey Kluger.
Lost Moon: The Perilous Voyage of Apollo 13.
New York: Houghton Mifflin, 1994.
MacKenzie, Donald.
Inventing Accuracy: A Historical Sociology of Nuclear Missile Guidance.
Cambridge, Mass.: MIT Press, 1990.
Malia, Martin.
The Soviet Tragedy: A History of Socialism in Russia, 1917-1991.
New York: Free Press, 1994.
Manchester, William.
The Arms of Krupp.
Boston: Little, Brown, 1968. ---.
The Glory and the Dream: A Narrative History of America, 1932-1972.
Boston: Little, Brown, 1974. ---.
American Caesar: Douglas MacArthur 1880-1964.
Boston: Little, Brown, 1978.
Mansfield, Harold.
Vision: The Story of Boeing.
New York: Popular Library, 1966.
McCurdy, Howard E.
The Space Station Decision.
Baltimore: Johns Hopkins University
McDougall, Walter ...
The Heavens and the Earth: A Political History of the Space Age.
New York: Basic Books, 1985.
McPhee, John.
The Curve of Binding Energy.
New York: Farrar. Straus and Giroux, 1973.
Medaris, Major General John B.
Countdown for Decision.
New York: G.P. Putnam’s Sons, 1960.
Miller, Jay.
The X-Planes, X-l to X-29.
Marine on St. Croix, Minn.: Specialty Press, 1983.
Miller, Ron, and Fred Durant.
Worlds Beyond: The Art of Chesley Bonestell.
Norfolk, Va.: Donning Co., 1983.
Morrison, David.
Voyages to Saturn.
NASA SP-451. Washington, D.C.: U.S. Government
Morrison, David, and Jane Samz.
Voyage to Jupiter.
NASA SP-439. Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1980.
Mosley, Leonard.
Dulles: A Biography of Eleanor, Allen and John Foster Dulles and Their Family Network.
New York: Dial, 1978.
Neufeld, Jacob.
The Development of Ballistic Missiles in the United States Air Force 1945-1960.
Washington, D.C.: Office of Air Force History, 1990.
Neufeld, Michael.
The Rocket and the Reich: Peenemunde and the Coming of the Ballistic Missile Era.
New York: Free Press, 1995.
Oberg, James E.
Red Star in Orbit.
New York: Random House, 1981. ---.
The New Race for Space.
Harrisburg, Pa.: Stackpole, 1984. ---.
Uncovering Soviet Disasters.
New York: Random House, 1988.
Oberg, James E., and Alcestis R. Oberg.
New York: McGraw-Hill, 1986.
Ordway, Frederick, and Mitchell Sharpe.
The Rocket Team.
New York: Thomas Y. Crowell, 1979.
1916.
Seattle: Boeing, 1985.
The Beginnings of Satellite Communications.
San Francisco: San Francisco
Space, Earth and Communication.
Westport, Conn.: Quorum Books, 1984.
Shuttle: The World’s First Spaceship.
Harrisburg, Pa.: Stackpole, 1979.
The Man Who Kept the Secrets: Richard Helms & the CIA.
New York: Alfred A. Knopf, 1979. ---.
Heisenberg’s War: The Secret History of the German Bomb.
Boston: Little, Brown, 1993.
Wars: CIA and Pentagon Covert Operations Since World War II.
New York: Morrow, 1986. ---.
The Soviet Estimate: U.S. Intelligence Analysis and Soviet Strategic Forces.
1986.
Ramo, Simon.
The Business of Science.
New York: Hill and Wang, 1988.
Ranelagh, John.
The Agency: The Rise and Decline of the CIA.
London: Weidenfeld and Nicolson, 1986.
Reeves, Robert.
The Superpower Space Race.
New York: Plenum, 1994.
Rhea, John, ed.
Roads to Space: An Oral History of the Soviet Space Program.
New York: McGraw-Hill, 1995.
Rhodes, Richard.
Dark Sun: The Making of the Hydrogen Bomb.
New York: Simon & Schuster, 1995.
Richelson, Jeffrey.
American Espionage and the Soviet Target.
New York: William Morrow, 1987. ---.
America’s Secret Eyes in Space: The U.S. Keyhole Spy Satellite Program.
New York: Harper & Row, 1990. ---.
The U.S. Intelligence Community.
Boulder, Colo.: Westview Press, 1995.
Robinson, Douglas H.
Giants in the Sky.
Seattle: University of Washington Press, 1973.
Rockwell, Theodore.
The Rickover Effect.
Annapolis, Md.: Naval Institute Press, 1992.
Roland, Alex.
A Spacefaring People:
NASA SP-4405. Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1985.
Romanov, Aleksandr.
Spacecraft Designer: The Story of Sergei Korolev.
Moscow: Novosti
---.
Korolev.
Moscow: Molodaya Gvardiya, 1990.
Rosen, Milton.
The Viking Rocket Story.
New York: Harper, 1955.
Roth, Ladislav E., and Stephen D. Wall.
The Face of Venus: The Magellan Radar-Mapping Mission.
NASA SP-520. Washington, D.C.: NASA, 1995.
Ruffner, Kevin C., ed.
Corona: America’s First Satellite Program.
Washington, D.C.: Central Intelligence Agency, 1995.
Ryan, Cornelius.
The Last Battle.
New York: Simon & Schuster, 1966.
Sagan, Carl, et al.
Murmurs of Earth: The Voyager Interstellar Record.
New York: Random House, 1978.
Sagdeev, Roald Z.
The Making of a Soviet Scientist.
New York: Wiley, 1994.
Sakharov, Andrei.
Memoirs.
New York: Alfred A. Knopf, 1990.
Sapolsky, Harvey M.
The Polaris System Development.
Cambridge, Mass.: Harvard University
---.
Science and the Navy: The History of the Office of Naval Research.
Scarboro, C.W.
Cape Kennedy 1950-1965.
Indialantic, Fla.: South Brevard Beaches Chamber of Commerce, 1965.
Schwiebert, Ernst G.
A History of the U.S. Air Force Ballistic Missiles.
New York: Praeger, 1965.
Serling, Robert J.
Legend and Legacy: The Story of Boeing and Its People.
New York: St. Martin’s Press, 1992.
Shirer, William.
The Rise and Fall of the Third Reich.
New York: Simon & Schuster, 1960.
Siddiqi, Asif.
The Soviet Human Space Program: A History, 1945-1974.
NASA SP-4409. Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1998.
Simpson, Theodore R., ed.
The Space Station: An Idea Whose Time Has Come.
New York: IEEE
Sloop, John L.
Liquid Hydrogen as a
NASA SP-4404. Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1978.
Smith, Melvyn.
Space Shuttle.
Newbury Park, Calif.: Haynes Publications, 1985.
Smith, Robert W.
The Space Telescope.
New York: Cambridge University Press, 1993.
Solzhenitsyn, Aleksandr.
The Gulag Archipelago.
New York: Harper & Row, 1973.
Spinardi, Graham.
From Polaris to Trident.
Cambridge, England: Cambridge University Press, 1994.
Spitzer, Cary R., ed.
Viking Orbiter Views of Mars.
NASA SP-441. Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1980.
Stares, Paul B.
Space Weapons and US Strategy.
London: Croom Helm, 1985. ---.
Space and National Security.
Washington, D.C.: Brookings Institution, 1987.
Steury, Donald P., ed.
Estimates on Soviet Military Power 1954 to 1984: A Selection.
Washington. D.C.: Central Intelligence Agency, 1994. ---.
Sherman Kent and the Board of National Estimates.
Washington, D.C.: Central Intelligence Agency, 1994.
Stockton, William, and John Noble Wilford.
Spaceliner.
New York: Times Books, 1981.
Sullivan, Walter.
Assault on the Unknown: The International Geophysical Year.
New York: McGraw-Hill, 1961.
Swenson, Loyd S., James M. Grimwood, and Charles C. Alexander.
This New Ocean: A History of Project Mercury.
NASA SP-4201. Washington, D.C.: U.S. Government
Thirty Years of Rocketdyne.
Canoga Park, Calif.: Rocketdyne Division, Rockwell International Corp., 1985.
Thompson, Tina D., ed.
TRW Space Log.
Redondo Beach, Calif.: TRW Inc., vol. 27, 1992; vol. 28 1993; vol. 29, 1994; vol. 30, 1995; vol. 31, 1996.
Toland, John.
Ships in the Sky.
New York: Henry Holt, 1957.
Tuchman, Barbara.
The Guns of August.
New York: Macmillan, 1962.
Vaeth, J. Gordon.
Weather Eyes in the Sky: America’s Meteorological Satellites.
New York: Ronald Press, 1965.
Von Karman, Theodore, and Lee Edson.
The Wind and Beyond: Theodore von Karman, Pioneer in Aviation and Pathfinder in Space.
Boston: Little, Brown, 1967.
Walker, Martin.
The Cold War: A History.
New York: Henry Holt, 1993.
Wells, Helen T., Susan H. Whitely, and Carrie E. Karegeannes.
Origin of NASA Names.
NASA SP-4402. Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1976.
Whitnah, Donald R.
A History of the United States Weather Bureau.
Urbana, Ill.: University of Illinois Press, 1965.
Winter, Frank.
Age: The Rocket Societies 1924-1940.
Washington, D.C.: Smithsonian Institution Press, 1983.
Winterberg, Friedwardt.
The
New York: Fusion Energy Foundation, 1981.
Wolfe, Tom.
The Right Stuff.
New York: Farrar, Straus & Giroux, 1979.
Yeager, General Chuck, and Leo Janos.
Yeager: An Autobiography.
New York: Bantam, 1985.
York, Herbert F.
Making Weapons, Talking Peace.
New York: Basic Books, 1987.
Zaloga, Steven.
Target America: The Soviet Union and the Strategic Arms Race, 1945-1964.
Novato, Calif.: Presidio, 1993.
Zinn, Walter H., Frank K. Pittman, and John F. Hogerton.
Nuclear Power, U.S.A.
New York: McGraw-Hill, 1964.
أبحاث ودراسات
Arms, W.M.
Thor: The Workhorse of Space-A Narrative History.
MDC G3770. Huntington Beach, Calif.: McDonnell Douglas, July 31, 1972.
Baker, Michael E., Kaylene Hughes, and James D. Bowne.
Redstone Arsenal Complex Chronology.
Nerve Center of Army Missilery, 1950-62.
Section A, “The Redstone Arsenal Era (1950-55)”; Section B, “The ABMA/AOMC Era (1956-62).” Redstone Arsenal, Ala.: Historical Division, 1994.
Development of a Strategic Missile and Associated Projects,
AL-1347. Los Angeles: Aerophysics Laboratory, North American Aviation, Oct. 1951.
Grimwood, James M., and Frances Strowd.
History of the Jupiter Missile System.
Redstone Arsenal, Ala.: U.S. Army Ordnance Missile Command, 1962.
McConnell, James M.
The Soviet Shift in Emphasis from Nuclear to Conventional: The Mid-Term
CRC-490-Vol. 2. Alexandria, Va.: Center for Naval Analyses, June 1983.
National Aeronautics and Space Administration.
Historical Origins of the George C. Marshall Space Flight Center.
Huntsville, Ala.: NASA, Dec. 1960.
National Aeronautics and Space Administration.
Missile and Space Project Information Manual.
MTP-MS-IS-61-4. Huntsville, Ala.: NASA, vol. 2,
Space Carrier Vehicle Firing Histories,
Dec. 1962; vol. 4,
Spacecraft,
Jan. 1963.
National Park Service.
Minuteman Missile Sites.
Denver: National Park Service, 1995.
Newkirk, Dennis, and Asif A. Siddiqi.
The FGB Core Module of the International Space Station Alpha: A Historical Overview of Its Lineage and Organizational Origins.
Charlottesville, Va.: Society for the History of Technology, Oct. 21, 1995.
Redstone Arsenal, Ala.: Army Ballistic Missile Agency, May 15, 1959.
مصنفات خاصة
Hall, R. Cargill, series ed.
AAS History Series,
18 vols. American Astronautical Society. San Diego: Univelt, 1977 to 1995. In the following list, the volume number precedes the page number.
Aircraft, rocket-powered: 7-1, p. 195; 8, p. 283; 10, p. 227.
American Rocket Society: 6, p. 141; 17, p. 209.
Apollo program: 3. p. 241; 15. pp. 243, 259; 17, p. 405.
Atlas missile: 17, p. 285.
Blagonravov, Anatoly: 14, p. 197.
British Interplanetary Society: 6, p. 209; 12, p. 37.
Collier’s
magazine: 15, p. 235; 17, p. 35.
Earth, near-space environment: 11, p. 59.
Gagarin, Yuri: 15, pp. 73, 423.
Goddard, Robert: 6, p. 57; 8, p. 317; 15, p. 181.
Guidance: 6, p. 277; 7-II, pp. 203, 219; 8, p. 23; 11, p. 7.
Heat shields: 14, p. 185.
International Astronautical Federation: 10, p. 261.
Jet Propulsion Laboratory: 6, p. 113; 7-II, pp. 153, 339, 385; 14, p. 127.
Kennedy, John F.
See
U.S. presidents.
Korolev, Sergei: 6, p. 203; 9, p. 283.
Manned spaceflight: 11, p. 147; 12, p. 125; 17, p. 421.
See also
Space stations.
Mercury program: 17, pp. 319, 341.
Moon, unmanned missions: 9, p. 261; 15, p. 417; 17, p. 197.
Oberth, Hermann: 6, p. 129.
Reaction Motors, Inc.: 10, p. 137; 11, pp. 75, 101; 12, pp. 137, 175.
Rocket engines:
Atlas: 13, p. 53.
German: 6, p. 217.
high pressure: 10, p. 165.
history of: 10, p. 191; 13, p. 155.
hydrogen-fueled: 3, p. 225; 7-II, p. 279; 9, p. 79; 10, p. 177; 13, p. 123.
See also
Rocket engines, Space shuttle.
nuclear: 12, p. 109.
propellant research: 6, p. 103; 8, p. 273; 15, p. 201.
See also
Rocket engines, hydrogen-fueled.
Space shuttle: 13, p. 69.
Thor, Delta: 13. p. 39.
Titan: 13, p. 19.
Satellites (
see also
Sputniks):
communication: 12, p. 95; 16, p. 1.
early efforts: 7-II, p. 253; 15, p. 211.
weather: 14, p. 159.
Sergeant missile: 8. p. 121.
Sounding rockets: 7-II, pp. 423, 445; 8, p. 147; 9, pp. 135, 253; 10, p. 203. See
also
Viking; V-2. Soviet Union rockets:
research, pre-1945: 6, pp. 91. 185, 247, 269, 287; 7-II. pp. 43, 79, 99; 8. pp. 67, 103; 9, p. 63; 12, p. 31.
research, post-1945: 9, p. 89; 10, p. 115; 14, p. 151.
solid propellants: 7-II, p. 59.
sounding: 7-II, p. 65; 8, p. 263; 9, pp. 191, 231.
Space stations: 14, p. 79; 17, p. 203.
Sputniks: 8, p. 207; 10, p. 159.
Tikhonravov, Mikhail: 8, p. 343; 17, p. 451.
Truax, Robert: 6, p. 295; 12, p. 57.
U.S. presidents: 3, p. 5.
Viking (1946-1954): 7-II, p. 429.
Von Karman, Theodore: 15, p. 427.
V-2: 8, p. 215: 9, p. 121: 11, p. 39; 15, pp. 335, 377.
JPRS Report: Science & Technology.
Joint Publications Research Service, U.S. Department of Commerce. Springfield, Va.: National Technical Information Service. In the following list, the publication number precedes the page number. All are in the series JPRS-USP.
Accidents and fatalities: JPRS-USP-91-001, p. 66; 91-002, pp. 74, 76; 92-002, p. 48.
Babakin, Georgi: 85-003, pp. 122, 127.
Baikonur.
See
Launch centers, Tyuratam.
Barmin, Vladimir P.: 89-005, p. 67; 93-006, p. 38.
Chelomei, Vladimir N.: 85-001, p. 81; 93-005, p. 32.
design bureau of: 89-010, pp. 45, 48.
Gagarin, Yuri: 85-001, p. 85; 89-001, p. 41; 91-002, p. 65; 91-004, p. 71.
See also
Spaceflight, manned.
Glushko, Valentin: 89-005, p. 58; 90-001, p. 54.
Keldysh, Mstislav: 86-004, p. 128; 87-003, p. 146.
Korolev, Sergei: 88-001, p. 40; 90-002, p. 56; 91-004, p. 79; 93-003, p. 35.
design bureau of: 93-002, p. 28; 94-007, pp. 11, 13.
Kuznetsov, Viktor I.: 89-006, p. 73.
Launch centers: 93-002, pp. 29, 32; 93-006, p. 35.
43.
Tyuratam: 90-001, p. 49; 91-004, p. 85; 92-002, pp. 44, 51; 92-006, p. 24; 93-004, p, 31; 93-006, p. 37; 94-006, p. 31; 94-007, p. 16.
Launch vehicles and missiles: 87-001, p. 220; 88-001, pp. 38, 44; 90-003, p. 51; 90-005, p. 85; 93-002, p. 27; 93-003, p. 36.
Buran and Energiya: 89-005, pp. 32-48; 92-006, p. 24; 94-006, p. 21.
22.
Moscow Aviation Institute: 94-006, p. 30.
Mozzhorin, Yuri: 91-003, p. 29.
Nedelin’s disaster.
See
Accidents and fatalities.
87.
Rocket engines: 90-003, p. 63; 91-001, p. 62; 93-001, p. 69.
Spaceflight, manned: 89-001, p. 43; 89-005, p. 58; 89-010, p. 40; 90-002, p. 44; 91-002, p. 67.
See also
Gagarin, Yuri.
advanced projects: 92-003, special issue.
Mir space station: 90-004, p. 34; 91-004, p. 38; 93-002, p. 30.
Moon, flight to: 89-010, p. 35; 90-002, p. 45; 90-005, p. 90; 91-002, pp. 71, 73; 91-006, special issue; 92-003, pp. 9-18; 92-004, p. 95; 94-006, p. 34.
Spaceflight, unmanned:
Luna missions: 91-004, p. 77.
Mars, missions to: 90-002, p. 44; 92-004, p. 94; 92-006, p. 32.
Reconnaissance satellites: 92-004, p. 97; 93-001, p. 70; 93-005, p. 15.
Sputniks: No. 20 (1983), pp. 140, 143; 88-001, p. 48.
Space plans and management: 89-005, p. 64; 90-003, p. 60; 92-006, pp. 22, 26.
cooperation with United States: 85-005, p. 133; 90-003, p. 64; 91-001, p. 64; 92-005, p. 36; 92-006, pp. 27, 29, 30, 33; 94-006, p. 34.
Ustinov, Dmitri: 85-003, p. 136.
دوريات وصحف
Air & Space
Apollo: Special issue, June/July 1989; Apr./May 1994, p. 46.
Europe in Space: Apr./May 1996, p. 62.
Reaction Motors, Inc.: Dec. 1988/Jan. 1989, p. 76.
American Heritage
Consequences of World War I: July-Aug. 1992, p. 80.
American Institute of Aeronautics and Astronautics
Space shuttle: AIAA Paper 71-804, 71-805, 73-60, 73-62, 73-604, 73-606.
Astronautics & Aeronautics (after 1983: Aerospace America)
Europe in space: Apr. 1978, p. 12; Mar. 1980, p. 16; July 1994, p. 4.
Future plans in space: Jan. 1970, pp. 30, 62.
Global Positioning System: Aug. 1995, pp. 4, 18.
Goldin, Daniel: Nov. 1992, p. 6.
History of rockets and missiles: Oct. 1972, p. 38.
Landsat: Apr. 1971, pp. 24, 41; Sept. 1973, pp. 32-68.
Mars: Sept. 1972, p. 26.
Nerva nuclear rocket: May 1968, p. 42.
Outer planet missions: Dec. 1966, p. 26; Oct. 1968, p. 42; Sept. 1970, pp. 36-94.
Skylab: June 1971, pp. 20-77; Feb. 1974, p. 36.
Space manufacturing: Sept. 1972, p. 42.
Space shuttle: Mar. 1969, p. 24; Aug. 1969, p. 50; Jan. 1970, p. 52; Jan. 1981, p. 24.
Space station: Sept. 1994, p. 8; Jan. 1995, p. 22.
Titan IV: July 1991, p. 34.
Aviation Week & Space Technology
Air traffic control: July 31, 1995, pp. 38-53.
Commercial space processing: Special issue, June 25, 1984; Feb. 25, 1985, p. 18; Apr. 22, 1985, pp. 22, 85; Sept. 16, 1985, p. 21; Sept. 30, 1985, p. 50; Jan. 12, 1987, p. 102.
Global Positioning System: Oct. 9, 1995, pp. 50-59.
International cooperation: June 22, 1992, p. 24; May 24, 1993, p. 26; Sept. 6, 1993, p. 22; Nov 27, 1995, p. 42.
Launch vehicles: Dec. 19, 1988, p. 73; Aug. 14, 1995, p. 51; Nov. 6, 1995, p. 66; Jan. 8, 1996, p. 111.
Ariane: Nov. 20, 1995, p. 92.
Atlas: Mar. 23, 1987, p. 25; May 9, 1988, p. 17; Apr. 10, 1989, p. 24; Sept. 12, 1994, p. 55; Nov. 6, 1995, pp. 60, 65; Nov. 20, 1995, p. 35; Jan. 22, 1996, p. 59.
Long March: Feb. 6, 1995, p. 62.
90; Apr. 24, 1995, p. 40; June 19, 1995, p. 27.
Space shuttle: Aug. 28, 1995, p. 64.
Titan IV: Sept. 12, 1994, p. 54; Nov. 6, 1995, p. 61.
Missile programs: Dec. 1, 1958, p. 81.
NASA budget: Sept. 7, 1970, p. 18.
Ramo-Wooldridge: 1954: Oct. 11, p. 48. 1956: Feb. 20, p. 28. 1958: July 7, p. 28; Aug. 25, p. 24; Dec. 1, p. 77.
Rocket engines: Mar. 30, 1992, p. 21; Nov. 2, 1992, p. 25; Oct. 20, 1993, p. 29; Oct. 24, 1994, p. 25; Apr. 24, 1995, p. 46; Oct. 30, 1995, p. 26.
Russian space program: Jan. 15, 1996, p. 26.
Soviet cruise missile (1950s): Nov. 2, 1992, p. 50.
Space station: Aug. 23, 1993, p. 22; Nov. 8, 1993, p. 25.
Business Week
Commercial space processing: Apr. 28, 1986, p. 86.
Nuclear power: Sept. 15, 1956, p. 188; Sept. 15, 1962, p. 88.
Ramo-Wooldridge: Jan. 15, 1955, p. 66; Sept. 6, 1958, p. 64; Dec. 28, 1958, p. 110.
Collier’s
Space flight: Mar. 22, 1952, p. 23; Oct. 18, 1952, p. 51; Oct. 25, 1952, p. 28; Feb. 28, 1953, p. 42; Mar. 7, 1953, p. 56; Mar. 14, 1953, p. 38; June 27, 1953, p. 33; Apr. 30, 1954, p. 21.
Discover
Space shuttle: Nov. 1985, p. 29.
Economist
Europe in space: Mar. 4, 1995, p. 79; June 1, 1996, p. 77.
88.
Space station: Jan. 27, 1996, p. 73.
Forbes
Commercial space processing: Mar. 24, 1986, p. 176.
42.
Fortune
Apollo: Special issue, June 1962.
Bell Labs: Mar. 1953, p. 128; May 1954, p. 120; Nov. 1958, p. 148; Dec. 1958, p. 117.
Communication satellites: July 1961, p. 156; Dec. 1962, p. 188; Oct. 1965, p. 128.
General Dynamics: Feb. 1959, p. 87.
Missile programs: Dec. 1955, p. 138; May 1956, p. 101; Aug. 1957, p. 94; Oct. 1958, p. 119.
Nuclear power: Aug. 1955, p. 113; July 1963, p. 172.
Ramo-Wooldridge: Feb. 1954, p. 116; Feb. 1963, p. 95.
Space shuttle: Jan. 1972, p. 83.
Thiokol Chemical Corp.: June 1958, p. 106.
Thor missile: July 1958, p. 86.
IEEE Spectrum
Russian space program: Dec. 1995, p. 18.
International Astronautical Federation
Apollo fire: IAA-96-IAA.2.1.06.
Luna 3 spacecraft: IAA.2.2-93-677.
Rocketdyne engines: IAA-91-673.
Journal of Guidance. Control and Dynamics
Missile guidance: May-June 1981, p. 225; Sept.-Oct. 1981, p. 449; Mar.-Apr. 1982, p. 97.
Journal of Spacecraft and Rockets
Missile nose cones: Jan.-Feb. 1982, p. 3.
Journal of the Aero/Space Sciences
Missile nose cones: May 1960, p. 377.
Journal of the British Interplanetary Society
R-7 rocket: Oct. 1981, p. 437; Feb. 1982, p. 79.
Thor-Able launch vehicle: May 1984, p. 219.
National Journal
Space shuttle: Mar. 13. 1971, p. 539; Aug. 12, 1972, p. 1289; Aug. 19, 1972, p. 1323.
Newsweek
Apollo: 1961: May 22, p. 59; June 5, pp. 17, 84; June 19, p. 59; Dec. 11, p. 76. 1962: Mar. 19, p. 65. 1964: Dec. 21, p. 61. 1967: Feb. 6, p. 25; Mar. 13, p. 94; Apr. 24, p. 89. 1968: Dec. 30, p. 14. 1969: Jan. 6, p. 10; Jan. 13, p. 16; July 21, p. 68; July 28, p. 18; Aug. 4, p. 14; Aug. 11, p. 64; Aug. 25, pp. 20B, 73. 1970: Apr. 20, p. 71; Apr. 27, p. 21; May 4, p. 70.
Apollo-Soyuz: 1975: July 21, p. 46; July 28, p. 40.
Communication satellites: 1961: May 8, p. 84. 1962: June 25, p. 59; July 2, p. 50; July 23, pp. 13, 62. 1963: Feb. 18, p. 57; Feb. 25, p. 56; Aug. 12, p. 75. 1964: Mar. 16, p. 85; Aug. 31, p. 48. 1965: Apr. 19, p. 74; May 24, p. 70. 1969: June 16, p. 79.
Europe in space: Aug. 7, 1961, p. 47; Dec. 12, 1965, p. 66.
Gemini: 1962: Mar. 30, p. 68. 1965: June 11. p. 24; June 18, p. 20; Sept. 10, p. 64; Dec. 17, p. 62; Dec. 24, p. 32. 1965: Mar. 25, p. 38; June 17, p. 48; July 29, p. 28; Sept. 23, p. 98; Sept. 30, p. 114; Nov. 25, p. 71.
Mariner: 1962: July 30, p. 46; Sept. 10, p. 93; Sept. 17, p. 54; Dec. 10, p. 53; Dec. 24, p. 48. 1964: Dec. 7, p. 67. 1965: July 26, p. 54; Aug. 9, p. 58.
Mercury program: 1960: July 11, p. 55; Dec. 12, p. 57. 1961: Mar. 6, p. 66; May 8, p. 68; May 15, p. 27. 1962: Mar. 5, p. 19.
Missile programs: Feb. 10. 1958, p. 91.
57; Aug. 25, p. 56.
Ranger: 1962: Feb. 5, p. 18; May 7. p. 61; Oct. 29, p. 59. 1964: Feb. 10, p. 72; Feb. 17, p. 60; Aug. 10, p. 15; Aug. 17, p. 51. 1965: Mar. 1, p. 64; Mar. 8. p. 56.
Skylab: 1973: May 14, p. 64; May 28, p. 67; June 4, p. 60; June 11, p. 113; June 18, p. 109; July 30, p. 48; Aug. 6, p. 58; Sept. 24, p. 111; Nov. 12, p. 75. 1974: Feb. 18, p. 78.
Soviet nuclear weapons: 1961: Oct. 30, p. 54; Nov. 13, p. 64.
Space race: Jan. 2, 1961, p. 42.
Sputnik: 1957: Oct. 14, p. 37; Oct. 21, p. 29.
Test pilots: Aug. 4, 1958, p. 45.
Venus missions: 1961: Feb. 20, p. 62; Feb. 27, p. 64; Mar. 13, p. 60; Mar. 27, p. 65.
Vietnam War: Feb. 12, 1968, p. 23.
Vostok: 1961: Mar. 20, p. 68; Apr. 3, p. 55; Apr. 24, p. 22.
Weather satellites: Sept. 26, 1960, p. 77; June 26, 1961, p. 84; July 2, 1962, p. 50; July 8, 1963, p. 62; Feb. 24, 1964, p. 86; Sept. 7. 1964, p. 57; Feb. 1, 1965, p. 52.
Zond: 1968: Oct. 7, p. 66; Dec. 9, p. 59.
New Yorker
Quest (first issue titled Liftoff)
Adam project: Summer/Fall 1994, p. 46.
Buran: Winter 1993, p. 49.
Manned Orbiting Laboratory: Fall 1995, pp. 4, 18.
Nedelin’s disaster: Winter 1994, p. 38.
Reconnaissance: Summer 1995, pp. 4, 22; Fall 1995, p. 28.
Salyut: Spring 1992, p. 17.
Solid-fueled rockets: Spring 1993, p. 26.
Soviet lunar program: Winter 1992, p. 16; Summer 1993, p. 32.
X-20: Special issue, Winter 1994.
Science
Aerobee: Dec. 31, 1948, p. 746.
Air Force space program: June 29, 1984, p. 1407; Mar. 22, 1985, p. 1445; May 9, 1986, p. 702; July 4, 1986, p. 15; Aug. 15, 1986, p. 717.
Challenger
disaster: 1986: Feb. 14, pp. 661-667; Feb. 28, p. 909; Mar. 7, p. 1064; Mar. 14, p. 1237; Mar. 28, p. 1495; June 20, p. 1488; June 27, p. 1596; July 4, p. 21.
Clementine: 1994: Feb. 4, p. 622; June 17, p. 1666; Dec. 16, pp. 1835-1862; 1996: Nov. 29, p. 1495.
Commercial space processing: Sept. 30, 1983, p. 1353; Aug. 24, 1984, p. 812.
Communication satellites: Mar. 18, 1977, p. 1125; Feb. 10, 1984, p. 553.
Crystal growth in space: Feb. 14, 1975, p. 527; July 13, 1984, p. 203; July 26, 1985, p. 370; Nov. 3, 1989. pp. 580, 651; Aug. 14, 1992, p. 882; Apr. 28, 1995, p. 498; Dec. 22, 1995, p. 1921.
Earth Observing System: Sept. 27, 1991, p. 1481; Feb. 12, 1993, p. 912.
Europe in space: Mar. 9, 1973, p. 984; Nov. 9, 1973, p. 562; Sept. 10, 1982, p. 1010; June 13, 1986, p. 1340; July 25, 1986, p. 411; Sept. 25, 1987, p. 1561.
Expendable boosters: May 16, 1986, p. 822; May 15, 1987, p. 766.
Heliopause: June 11, 1993, p. 1591; Oct. 8, 1993, p. 199.
Hubble Telescope: Aug. 17, 1990, p. 735; Feb. 12, 1993, p. 887.
Jupiter and Saturn: Special issues, Jan. 25, 1974; June 1, 1979; Nov. 23, 1979; Jan. 25, 1980; Apr. 10, 1981; Jan. 29, 1982.
See also
Mar. 2, 1979, p. 892.
Landsat: June 18, 1971, p. 1222; Apr. 6, 1973, p. 49; Apr. 13, 1973, p. 171; Nov. 29, 1974, p. 808; May 2, 1975, p. 434; Apr. 29, 1977, p. 511; Feb. 20, 1981, p. 781; Mar. 26, 1982, p. 1600.
Mars: Special issues, Jan. 21, 1972; Aug. 27, 1976; Oct. 1, 1976; Dec. 17, 1976.
See also
Aug. 16, 1996, pp. 864, 924; Dec. 20, 1996, p. 2119.
Mars Observer: Sept. 3, 1993, p. 1264; Jan. 14, 1994, p. 167.
Mercury and Venus. Special issues, Mar. 29, 1974; July 12, 1974; Feb. 23, 1979; July 6, 1979.
NASA administrators: Oct. 26, 1990, p. 499; Feb. 21, 1992, p. 915; Mar. 20, 1992, p. 1506; Apr. 3, 1992, p. 20; Oct. 2, 1992, p. 20.
p. 1322; Nov. 12, 1982, p. 665; Nov. 20, 1992, p. 1296; May 27, 1994, p. 1244.
Russia’s space program: June 12, 1992, pp. 1508, 1510; June 26, 1992, p. 1756; Jan. 20, 1995, p. 323; June 9. 1995, p. 1423.
Spacelab: Oct. 28, 1983, p. 405; special issue, July 13, 1984; Sept. 19, 1986, p. 1255.
Space shuttle: Mar. 21, 1971, p. 991; Jan. 28, 1972, p. 392; Apr. 27, 1973, p. 395; Nov. 23, 1979, p. 910; May 30, 1986, p. 1099; June 13, 1986, p. 1335.
engines: Mar. 11, 1983, p. 1195; Nov. 4, 1983, p. 489; July 20, 1984, p. 292; July 27, 1984, p. 395.
flight cost: Apr. 16, 1982, p. 278; July 2, 1982, p. 35; Nov. 9, 1984, p. 674; Jan. 25, 1991, p. 357.
Solar Max mission: Dec. 21, 1984, p. 1381.
Space station: 1982: July 23, p. 331; Sept. 10, p. 1018. 1983: Oct. 7, p. 34. 1984: Feb. 24, p. 793. 1986: May 30, p. 1089. 1987: Apr. 10, p. 143; July 17, p. 242. 1990: Oct. 19, p. 364. 1991: Mar. 22, p. 1421; Mar. 29, p. 1556; May 10, p. 774; July 19. p. 256. 1993: May 28, pp. 1228, 1230; June 25, p. 1873; July 2, p. 19; Aug. 6, p. 671; Nov. 12, p. 984. 1994: July 15, p. 311. 1995: Oct. 27, p. 571.
Scientific American
Challenger
disaster: Aug. 1986, p. 62.
Communication satellites: Feb. 1977, p. 58.
European strategic arms: Aug. 1986, p. 33.
Expendable launch vehicles: July 1986, p. 58; Mar. 1990, p. 34; July 1990, p. 72.
Global Positioning System: Feb. 1996, p. 44.
Hydrogen bomb: Oct. 1975, p. 106.
Jupiter and Saturn: Sept. 1975, p. 118; Jan. 1980, p. 90; Nov. 1981, p. 104; Jan. 1982, p. 100; Feb. 1982, p. 98; Dec. 1983, p. 56.
Landsat: Jan. 1968, p. 54.
Mars: May 1970, p. 26; Jan. 1973, p. 48; Sept. 1975, p. 106; Jan. 1976, p. 32; Feb. 1977, p. 30; July 1977, p. 34; Nov. 1977, p. 52; Mar. 1978, p. 76; May 1986, p. 54.
Mercury and Venus: Sept. 1975, pp. 58, 70; Aug. 1980, p. 54: July 1981, p. 66; Mar. 1985, p. 46; Feb. 1988, p. 90; Dec. 1990, p. 60.
Nuclear power: Feb. 1968, p. 21.
Dec. 1995, p. 44.
Reconnaissance satellites: Jan. 1991, p. 38; Mar. 1996, p. 78.
Soviet space program: Feb. 1989, p. 32; June 1994, p. 36.
Space station: Jan. 1986, p. 32.
Weather satellites: July 1961, p. 80; Jan. 1969, p. 52.
Spaceflight
CIA estimates: July 1993, p. 224; Aug. 1995, p. 256.
Glushko, Valentin: Mar. 1991, p. 88.
Korolev, Sergei: Apr. 1978, p. 144.
Luna spacecraft: Oct. 1992, p. 318.
R-7 rocket: Nov.-Dec. 1980, p. 340; Apr. 1981, p. 109; Aug. 1995, p. 260.
Soviet launch failures: Nov. 1995, p. 393.
Soviet organization, missiles and space: Aug. 1994, p. 283; Sept. 1994, p. 317.
Thor launch vehicles: June 1970, p. 240.
Space Frontiers
3.
Threshold (Rocketdyne)
Rocket engines: Summer 1988, p. 34; Spring 1989, pp. 3, 35; Summer 1991, p. 14; Spring 1992 p. 34; Summer 1993, p. 18.
history of: Dec. 1987, p. 17; Summer 1991, p. 52; Spring 1992, p. 20; Summer 1993, p. 40.
nuclear: Fall 1992, p. 2.
Time
Apollo: 1961: June 2, p. 11; Dec. 8, p. 88. 1962: Aug. 10, p. 52. 1967: Feb. 3, p. 13; Feb. 10, p. 18; Apr. 14, p. 86; Nov. 17, p. 84. 1968: Nov. 22, p. 62; Dec. 6, p. 90; Dec. 27, p. 8. 1969: Jan. 3, p. 9; Jan. 10, p. 40; Jan. 17, p. 45; July 18, p. 18; July 25, p. 10; Aug. 1, pp. 11, 18; Aug. 8, p. 20; Aug. 22, p. 10. 1970: Apr. 20, p. 52; Apr. 27, p. 12; May 4, p. 82.
Apollo-Soyuz: 1975: July 21, p. 53; July 28, p. 34.
Atlas: 1957: Dec. 30, p. 12. 1958: Jan. 20, p. 76; Dec. 8, p. 15; Dec. 29, pp. 7, 31.
Cape Canaveral: Mar. 17. 1958, p. 22.
Communication satellites: 1960: Aug. 22, pp. 11. 44; Oct. 17. p. 47. 1963: Aug. 2, p. 49; Aug. 9, p. 70. 1965: Apr. 9. p. 92; Apr. 16, p. 64; May 14, p. 84.
Europe in space: Apr. 25, 1960, p. 26; Jan. 8. 1965, p. 25; Mar. 14, 1969, p. 42.
Gagarin, Yuri.
See
Vostok spacecraft.
Gemini: 1962: Mar. 30. p. 68. 1965: June 11, p. 24; June 18, p. 20; Sept. 10. p. 64; Dec. 17, p. 62; Dec. 24, p. 32. 1966: Mar. 25. p. 38; June 17. p. 48; July 29, p. 28; Sept. 23, p. 98; Sept. 30, p. 114; Nov. 25, p. 71.
Luna program: 1959: Jan. 12, pp. 19, 64; Jan. 19, pp. 20, 54; Sept. 28, p. 68; Oct. 12, pp. 22, 67; Nov. 9, p. 71.
Mariner: 1962: Sept. 7, p. 59; Dec. 21, p. 47. 1963: Jan. 4. p. 36; Mar. 8, p. 76. 1964: Dec. 11. p. 76. 1965: July 23, p. 36; Aug. 6, p. 58.
Mercury program: Apr. 20, 1959, p. 17; Feb. 10. 1961, p. 58; May 12, 1961, pp. 10, 52; Mar. 2, 1962, p. 11; Mar. 9. 1962, p. 22.
Minuteman: Mar. 10, 1958, p. 16; Jan. 25. 1960, p. 48.
Mir space station: July 10. 1995, p. 54.
Missile gap: 1959: Feb. 9, p. 12; Feb. 23, p. 22. 1960: Jan. 18. p. 12; Feb. 1, p. 9; Feb. 8, pp. 16, 18; Apr. 18, p. 22; May 9, p. 17. 1961: Feb. 10. p. 16; Feb. 17. p. 12.
Missile guidance: Apr. 29. 1957, p. 60.
Missile nose cones: June 20, 1960, p. 70.
Missile programs: May 21, 1951, p. 84; Jan. 30, 1956, p. 53; Jan. 20, 1958, p. 18.
North American Aviation: June 29, 1953, p. 82.
15, p. 41. 1959: Mar. 16, p. 60. 1960: Mar. 21. pp. 13, 71; Mar. 28, p. 44; July 18. p. 52.
p. 15; Nov. 28, p. 21.
Ramo-Wooldridge: Apr. 29, 1957, p. 84.
Ranger: 1962: Feb. 9, p. 67. 1964: Feb. 7, p. 58; Feb. 14, p. 70; Aug. 7, pp. 17, 39. 1965: Feb. 26, p. 58; Apr. 2, p. 48.
Reconnaissance: 1958: Dec. 15, pp. 15, 41. 1959: Apr. 27, pp. 16, 65; May 4, p. 15. 1960: Feb. 8, p. 48; Mar. 7, p. 80; June 6, p. 56; Aug. 22, p. 45; Aug. 29, p. 41. 1961: Feb. 10, p. 59.
Saturn rocket: Aug. 11, 1958, p. 38; Nov. 2, 1959, p. 10.
Schriever, Gen. Bernard: Apr. 1, 1957, p. 12.
Skylab: 1973: Apr. 23, p. 58; May 28, p. 94; June 4, p. 53; June 11, p. 67; June 18, p. 57; June 25. p. 59; July 2, p. 39; July 9, p. 44; July 30, p. 43; Aug. 20, p. 50; Oct. 8, p. 61. 1974: Feb. 11, p. 74: Feb. 25, p. 63.
Sputniks: 1957: Oct. 14, pp. 27, 46; Oct. 21, pp. 21, 50; Oct. 28, pp. 17, 77; Nov. 18, pp. 19, 91.
Test pilots: Apr. 18, 1949, p. 64; Apr. 27, 1953, p. 68.
Transit program: 1960: Apr. 25, p. 53; July 4, p. 52.
Van Allen, James: May 4, 1959, p. 64.
Vanguard program: Dec. 16, 1957, pp. 9. 12.
Vietnam War: Feb. 9, 1968, pp. 16, 22.
Von Braun, Wernher: Feb. 17, 1958, p. 13.
Vostok spacecraft: 1960: May 30, p. 56; Aug. 29, pp. 11, 40; Dec. 12, p. 24. 1961: Mar. 31, p. 52; Apr. 21, pp. 15, 46.
Weather satellites: 1960: Apr. 11, p. 62; Aug. 1, p. 56; Dec. 5, p. 75.
Zond: 1968: Sept. 27, p. 64; Oct. 4, p. 73.
نامعلوم صفحہ