إلا أننا نسمي عمر مؤسسا للدولة الإسلامية بمعنى آخر غير معني السبق في أعمال الخلافة؛ لأننا «أولا» لا نجد مكانا في التاريخ أليق به من مكان المؤسسين للدول العظام؛ ولأننا من جهة أخرى لا نربط بين التأسيس وولاية الخلافة في إقامة دولة كالدولة الإسلامية؛ إذ الشأن الأول فيها للعقيدة التي تقوم عليها وليس للتوسع في الغزوات والفتوح. وعمر كان على نحو من الأنحاء مؤسسا لدولة الإسلام قبل ولايته الخلافة بسنين، بل كان مؤسسا لها منذ أسلم فجهر بدعوة الإسلام وأذانه وأعزها بهيبته وعنفوانه ...
إلى أن قلنا: ... إنه كان في يوم إسلامه آخذا في تشييد هذا البناء الذي تركه وهو بين دول العالم أرسخ بناء.
والذي قلناه عن عمر في تأسيسه بناء الدولة الإسلامية قبل خلافته يصدق على أبي بكر بهذا المعنى منذ يوم إسلامه قبل سائر الصحابة وسائر الخلفاء.
ويكفي من ذلك أن نذكر الذين أسلموا على يديه من عظماء القوم وضعفائهم على السواء. فقد كان لإسلامه أثر بالغ بين السادة، كما كان له أثر بالغ بين العبيد والأتباع، وما هو إلا أن علم الوجوه والعلية من فضلاء قريش أن أبا بكر رضي الإسلام دينا حتى كان للقدوة به حجة عندهم، أقوى من حجة البيان والإقناع.
إن الدين الذي يرتضيه رجل كأبي بكر في مروءته وصلاحه وشرفه واستغنائه واستقامة قصده وسلامة صدره لدين جدير بالاستماع إليه والنظر في دعوته، وإن النظر في دعوته وفيما بينها وبين عقائد الجاهلية من البون الشاسع لكاف وحده لكسب القلوب وتحويل الأذهان، ولا سيما عند من خلا من الغرض في دوام العقائد الجاهلية وإحباط الدعوة الجديدة أو كل دعوة جديدة كائنا ما كان حظها من الخير والفلاح.
فأسلم على يديه رهط من أكبر السادة وأكبر القادة في الإسلام، أسلم على يديه عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن مظعون، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عبد الأسد أبو سلمة، وخالد بن سعيد، ومنهم من أسلم وهو يفع أو شاب ناشئ كسعد والزبير، فكانا فتوة للإسلام حين جد الجد واشتدت سواعده بسواعد فتيانه الأبرار.
واشترى نفرا من العبيد المرهقين: منهم بلال بن رباح مؤذن النبي عليه السلام. وكان سيده يخرجه في حمارة القيظ؛ فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ويلقي بصخرة عظيمة على صلبه ويدعه وهو يقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد. فلا يزيد على أن يقول: أحد، أحد، ويرددها حتى يوشك أن يغيب عن وعيه من ألم العذاب. اشتراه أبو بكر أو استبدله بما يساوي خمس أواق ذهبا فقيل له: لو أبيت إلا أوقية لبعناك! وقال: ولو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته، ومضى في شراء العبيد والإماء بما يطلبه سادتهم من ثمن يغالون فيه ليعجزوه ويدخلوا الندم على نفسه. وهو لا يبالي ما يبذل من ماله وجهده لينقذ أولئك المساكين من أيدي المشركين ويريحهم من قسوة السادة المتجبرين؛ فكان كسبه لقلوب الضعفاء أربح للإسلام وأجدر بسمعته ورحمته من كسبه قلوب العلية الأعلام وأبلغ في التدين والفضيلة من إقناع بنافذ الحجة وإبلاغ بصادق الكلام. ولعل الدعوة الجديدة كسبت بين الأمم بهذه الرحمة أضعاف ما كسبته بهداية الشرفاء الذين اقتدوا به وذهبوا إلى النبي من طريقة.
ولم يزل في كل عمل من أعماله منذ أسلم إلى أن تولى الخلافة مؤسسا لهذا البناء الشامخ الذي كان هو أول من قام عليه بعد بانيه. فالدعوة الصريحة إلى الإسلام في المسجد بمسمع من قريش، والهجرة مع النبي من داره، وبذل المال في البعوث وغير البعوث، وتيسير القدوة للمقتدين بإسراعه إلى التلبية والتصديق كلما التبس الأمر واضطربت الأفكار، ومحاربته قريشا بعلمه واطلاعه على الأنساب كما حاربهم بماله وسلاحه ومشورته ورأيه بل كل ما عمل منذ أسلم إلى أن تولى الخلافة، فهو في جملته ركن من أركان الدولة الإسلامية يجعله بالحق مؤسسا لها مشاركا في بنائها، بسلطان العقيدة قبل سلطان الحكومة والكلمة المسموعة. •••
ثم كانت البيعة بالخلافة.
وكانت بعثة أسامة بن زيد، وكانت حروب الردة، وكانت بعوث العراق والشام، فقام على هذه المآثر الثلاث التي لا تقضي حقها من الإكبار كل ما قام بعد ذلك من بناء.
نامعلوم صفحہ