وأكبرت المرأتان العطوفان حبه لصديقه ونبيه، فأمهلتاه حتى هدأت الرجل وسكن الناس، وخرجتا به يتكئ عليهما ولا يقدر على حمل نفسه. ثم دخلتا به على رسول الله وهو بتلك الحالة فانكب عليه يقبله، ورق الرسول لصديقه وصفيه رقة شديدة، فقال الصديق الصفي: بأبي أنت وأمي! ليس بي إلا ما نال الفاسق من وجهي، هذه أمي برة بوالديها فادعها إلى الله! وادع لها عسى أن يستنقذها بك من النار.
ولبث بين المشركين يستهين بالخطر على نفسه، ولا يستهين بخطر يصيب النبي قل أو كثر حيثما رآه واستطاع أن يذود عنه العادين عليه، وإنه ليراهم آخذين بتلابيبه فيدخل بينهم وبينه وهو يصيح بهم: «ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟» فينصرفون عن النبي وينحون عليه يضربونه ويجذبونه من شعره فلا يدعونه إلا وهو صريع.
ولما أذن له النبي في الهجرة إلى الحبشة بعد ما ابتلي به من عنت المشركين غضب لرحلته الأكرمون من القوم ولحق به ربيعة بن فهيم المعروف بابن الدغنة فقال له: إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج. إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار. ارجع واعبد ربك ببلدك.
وطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش يبلغهم أنه أجار أبا بكر فعرفوا له جواره وقالوا له: مره فليعبد ربه في داره يصلي فيها ويقرأ ما يشاء، ولا يؤذينا ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
إلا أن أبا بكر بنى بفناء الدار مسجدا يصلي فيه ويرتل القرآن، ويستمع له النساء والأطفال فيجتمعون إليه. منهم من يسخر ومنهم من يعجب ويسأل عن الخبر. ففزع المشركون وطلبوا إلى ابن الدغنة أن ينهاه أو يسترد منه ذمته، فأبى أبو بكر أن ينتهي عن الجهر بالصلاة والقراءة، وقال لابن الدغنة: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل!
وبقى بمكة طوال مقامه بها يعمل لدينه ولنبيه ولا يعمل لنفسه إلا ما ليس عنه غنى من طلب المعاش، يدعو وجوه الناس ويعرض الأمر على القبائل، ويغني في الدعوة بصلاح سيرته ورجاحة قدره ويقين الناس باستقامة قصده، ما قل أن يغنيه دليل العقل أو نقاش الجدل والملاحاة. وكان يتعرض للأذى فلا يعنيه أن يتقيه كما يعنيه أن يقي منه النبي وسائر المسلمين. فكان يعين الفقراء ويعتق الموالي الذين يسامون العذاب في سبيل الله، أو يحمل المغارم ويهيئ لمن أراد الهجرة وسائلها، ولا يكون عمل من الأعمال ينفع الدين الجديد وينفع أهله إلا وله سهم فيه.
ثم كانت هجرته إلى المدينة فكانت أخطر هجرة أقدم عليها مسلم من أهل مكة؛ إذ كان كفار قريش يقيمون لكل مهاجر من الأرصاد والعيون كفاء قدره، وكانت أرصادهم وعيونهم على النبي أكثر ما استطاعوا من عدة وكيد وحيطة. فكانت الهجرة في صحبة النبي شرفا من شرفين، لا يدري المرجح بينهما أيهما أحق بالإعظام: إما مجازفة بالحياة، وإما يقين لا يخامره الريب أن النبي ناج في حماية ربه، ولو كان في الهجرة ما فيها من فراق الموطن أو الهجوم على فراق أرهب منه وأقسى، وهو فراق الدنيا.
فتلقى أبو بكر الإذن بهذه الهجرة كما يتلقى البشارة بالسلامة. قالت بنته عائشة رضي الله عنها: «ما شعرت قبل ذلك أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي حين أذن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بصحبته.»
نامعلوم صفحہ