وقال أبو عبيدة: «يا معشر الأنصار! كنتم أول من نصر وآزر؛ فلا تكونوا أول من بدل وغير.»
ونادى أبو بكر القوم: هذا عمر وهذا أبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوه.
فقال عمر وقال أبو عبيدة مثل مقالته: «لا والله! لا نتولى هذا الأمر عليك، فإنك أفضل المهاجرين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة، والصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا الذي ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك.
ابسط يدك نبايعك.»
فبايعه زعيم من الأوس، بشير بن سعد، وهو يقول: «كرهت أن أنازع قوما حقا جعله الله لهم.»
وقال النقيب أسيد بن حضير: «والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم نصيبا أبدا فقوموا بايعوا ...»
وبايع عمر وأبو عبيدة فكأنما بايع المهاجرون معهما، ولم يبق للخزرج الحاضرين عزم خلاف، فتزاحموا على البيعة حتى أوشكوا أن يطئوا زعيمهم المريض، وماتت الفتنة في مهدها؛ لأنها ولدت بعلة الموت.
ولدت بعلة الموت فماتت وما اصطدمت بأكثر من ثلاثة رجال، لم يستعدوا لها بأكثر من استعداد الساعة. بل لعلهم أفلحوا في القضاء عليها؛ لأنهم كانوا أولئك الثلاثة بعينهم ولم يكونوا جمعا حاشدا من المهاجرين المناظرين فلاحوا للقوم هداة ينصحون ولم يلوحوا غزاة يقتحمون، وكان ذلك أدعى أن يستمعوا إليهم كما يستمعون إلى الضيف الناصح دون أن تثار فيهم نخوة الغاضب لذماره، المطروق عليه في عقر داره.
ولو أن سعد بن عبادة كان صحيحا غير مريض، وكان الأنصار حزبا واحدا غير منقسم، وكان المهاجرون الثلاثة متخلفين عن الموعد الحاسم، أو كانوا غير أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، أو كانوا جمعا كثيرا يحفز العداء والمقاومة، لجاز أن يتغير مجرى الأمور وأن يكون للتاريخ الإسلامي شأن غير شأنه الذي عرفناه.
ولكننا نخطئ كثيرا إذا نسينا فضل الأنصار أنفسهم فيما صارت إليه الأمور، فقد كانت لهم فيه مشيئة مستورة إن لم نقل مشيئة ظاهرة.
نامعلوم صفحہ