وهيهات أن تتردد يومئذ عن دلال في غير موضعه، ولأسباب غير السبب الذي يمكن أن يوحي إليها ذلك التردد، ولا بد له من سبب عظيم.
ولقد كان له سبب عظيم.
بل هو أعظم الأسباب التي يمكن أن توحي إليها ذلك التردد، ولولاه لما أقدمت عليه.
وما نحسب أن شيئا حفظته الروايات التاريخية لنا عن ذكاء السيدة عائشة يدل على قوة ذلك الذكاء، كما دل عليه ترددها في ذلك الموقف العصيب.
يكفي أن نستحضر اليوم ما قيل عن الخلافة بعد النبي عليه السلام لنعلم مبلغ ذلك الذكاء العجيب في مقتبل الشباب، ونكبر ذلك النظر الثاقب إلى أبعد العواقب، ونلتمس لها العذر الذي يجمل بامرأة أحبها محمد ذلك الحب، وأعزها ذلك الإعزاز.
فقد قيل في الخلافة بعد النبي كثير: قيل فيها ما يخطر على بال الأكثرين، وما يخطر على بال الأقلين، وما ليس يخطر على بال أحد إلا أن يجمح به التعنت والاعتساف أغرب جماح.
قيل: إن وصول الخلافة إلى أبي بكر إنما كان مؤامرة بين عائشة وأبيها!
وقيل: إنه كان مؤامرة بين رجال ثلاثة أعانتهم عائشة على ما تآمروا فيه، بما كان لها من الحظوة عند رسول الله، وكان هؤلاء الرجال على زعم أولئك القائلين أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح، وهم الذين أسرعوا - من المهاجرين - إلى سقيفة بني ساعدة ليدركوا الأنصار قبل أن يتفقوا على اختيار أمير أو خليفة لرسول الله.
وقيل: إن هؤلاء الرجال الثلاثة اتفقوا على تعاقب الحكم واحدا بعد واحد: أبو بكر فعمر فأبو عبيدة؛ ولهذا قال عمر حين حضرته الوفاة: لو كان أبو عبيدة حيا لعهدت إليه؛ لأنه أمين الأمة، كما قال فيه رسول الله، وهذا زعم روجه بعض المستشرقين ولى بين القراء الأوروبيين كثيرا من القبول؛ لأنه شبيه بما عهدوه في أمثال هذه المواقف من أحاديث التدبير والتمهيد وروايات التواطؤ والائتمار.
فالسيدة عائشة مسعودة الحظ لا مراء؛ لأنها لم تخالف محمدا قط في أمر خطير، وحين خالفته أو ترددت في تبليغ كلامه في أمر من أخطر الأمور، كان هذا التردد أدل على مكانتها وفضلها وعلى استحقاقها لمنزلة الإيثار في ذلك القلب العظيم.
نامعلوم صفحہ