ومحمد قد اتقى رؤية طفل يموت لابنته وهو كهل غير يائس من العقب، فكيف يكون حزنه على فلذة كبده إبراهيم وهو بعده ذاهب الرجاء في الأبناء؟!
لقد كان حزنه لموته بمقدار فرحه بمولده، وكان فرحه بمولده بمقدار أمله فيه واشتياقه إليه .
وإن العطف الإنساني كله ليتجه إلى تلك النفس الزكية وهي تتوسع فرحا بالوليد المأمول ... حلق الأب المتهلل شعر وليده وتصدق بزنته فضة على المساكين، وذلك هو التوسع الذي وسعه رجل كان أقدر الرجال على وجه البسيطة، غير مستثنى فيها رؤساء ولا ملوك.
جاء بأقصى ما عنده من الفرح وأقصى ما عنده من التوسعة، ولو شاء لقد كان وزن الوليد كله درا وجوهرا بعض ما يستطيع في ذلك اليوم الأغر الميمون ... وبمقدار هذا الفرح الطهور يوم الاستقبال كان الحزن الوجيع يوم الوداع؛ خرج الرجل الذي اضطلع بأعباء الدنيا ومن فيها، وهو لا يضطلع بحمل قدميه؛ خرج يتوكأ على صديق عطوف إلى حيث يحمل الوليد آخر مرة في حجره الأبوي قبل أن يودعه حجر التراب ... وكان يستقبل الجبل بوجهه فقال: يا جبل! لو كان بك مثل ما بي لهدك، ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون ...
أي والله! ... إنها لإحدى الفواقر التي يحملها اللحم والدم ولا تحملها صخور الجبال ...
وصرخ أسامة حين بكى رسول الله فنهاه رسول الله وقال: البكاء من الرحمة والصراخ من الشيطان.
حزن كما ينبغي له أن يحزن ... أما الحزن الذي لا ينبغي له فهو الصراخ الذي نهى عنه، وهو أن تنكسف الشمس يوم موت إبراهيم فيحسب المسلمون أنها انكسفت لموته، ويقول الأب الذي انكسفت الشمس حقا في عينيه: «كلا ... إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته!»
أو تخسفان ولكن في أكباد المحزونين، وليس في كبد السماء.
أكرم الآباء
أوكان من الحتم أن يكون محمد مثال الآباء كما كان مثال الأنبياء؟ كذلك شاء القدر القادر، وكذلك رأينا محمدا مثال الأب يوم ولد له إبراهيم، ومثال الأب يوم ذهب عنه إبراهيم.
نامعلوم صفحہ