لكن مكان القوة من هذا الجيش الصغير إنما هو كثرة الصناديد من أبطال الصحابة المشهورين فيه. فقد كان جيش المسلمين لا يجاوز في عدته نصف جيش اليمامة، ولكنه كان في عدة وافية من أفذاذ الرجال الذين يقومون بالألوف ... فهم وأعداؤهم بهذه المثابة كفؤان متناظران.
وكانا كفؤين متناظرين في صدق النية واتقاء العار من الهزيمة ... هذا تأخذه غيرة الحرم وهذا تأخذه غيرة الدين، وقد قال ابن مسيلمة لقومه وهم يتقدمون إلى المسلمين: «هذا يوم الغيرة ... اليوم إن هزمتم تستنكح النساء سبيات وينكحن غير حظيات، فقاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم.»
فليست تعوز الخصمين حرارة الخصومة، ولا شواحذ الغيرة، ولا صلابة العزم، ولا توسم الأمل في النجاح.
ولم يزل خالد يتقدم إلى وجهته على تعبئة كاملة كعادته في معظم غزواته ... وكان يتلقى الأخبار عن مسيلمة وحركاته في كل مرحلة من مراحل الطريق، ولعله استعظم القوة التي حشدها مسيلمة في عقر داره فجنح إلى الأخذ بالأحوط وكتب إلى الخليفة في طلب المدد عسى أن يحتاج إليه بعد الجولة الأولى من جولات القتال، فأمده الخليفة بجرير بن عبد الله البجلي، ولكنه التحم بجيوش مسيلمة قبل أن يصل إليه، فلقيه منصرفا من اليمامة.
ولما دنا من أرض مسيلمة مرت مقدمة جيشه في الليل بكوكبة من الفرسان بين الأربعين والستين ... عليهم مجاعة بن مرارة من زعماء بني حنيفة وأصحاب الرأي والمنزلة فيهم، وكأنه كان خارجا لاستطلاع أمر المسلمين، ولكنه أنكر ذلك وزعم أنه ذهب «لأخذ ثأر له في بني تميم وبني عامر»، فلما سئلوا عن دينهم قالوا: منا نبي ومنكم نبي، فأمر خالد بضرب أعناقهم جميعا واستبقى مجاعة عسى أن ينتفع بمنزلته في قومه أو بعمله بالحرب والمكيدة، كما قال بعض الرواة.
ونزل خالد على كثيب في مواجهة مسيلمة، ثم التحم الفريقان «وقاتلت بنو حنيفة قتالا لم يعهد مثله» واندفعت في هجمتها حتى دخلت خيمة خالد من وراء العسكر وفيها امرأته أم تميم ومجاعة بن مرارة مقيد بالأغلال ... فهم بعض الحنفيين يقتلها لولا أن حماها منهم مجاعة وأوصاهم بها خيرا وهو يقول: نعمت الحرة هذه، وعليكم بالرجال.
شوهد في كثير من المعارك بين المسلمين وأعدائهم في الصدر الأول أن الكرة الأولى غالبا ما تكون للمشركين، ولا سيما حين تجتمع لهم مزية العدد والراحة حيث يختارون مكان القتال، وهي مشاهدة لا تستغرب ولا تخالف المعهود؛ لأن «الدفعة الحيوانية» أبدا لها الوثبة الأولى مع العدد الكثير وراحة الجسد، وإنما الثبات للعقيدة التي يلوذ بها الإنسان بعد المراجعة، وللضمير الذي يثوب إليه المرء بعد الامتحان، وليس من شأن العقيدة أن تكون - كالدفعة الحيوانية - وثبة عاجلة وهجمة سوارة فاشلة، وإنما شأنها أن تحاسب النفس وتستعيد قواها وتستخرج ذخيرتها من أعماقها، فهي لهذا تنفع صاحبها في المحنة وبعد تبين الشدة، وبخاصة حين يحتاج إليها بعد الجولة الأولى.
وهذا الذي حدث في عقرباء كما حدث في وقائع شتى.
فبعد الجولة الأولى التي فازت بها «الدفعة الحيوانية» برزت العقيدة إلى الطليعة وجاءت بمعجزاتها، وهي معجزات لا يتخيل العقل أن نفسا إنسانية تقدم عليها بغير اعتقاد.
انكشف الأعراب أولا في أول صدمة، وتزلزلت أقدام أناس من الأنصار والمهاجرين من طغيان الجموع الهازمة والمنهزمة على السواء.
نامعلوم صفحہ