وهذه صورة مضللة لمن يسترشد بها في اختبار قدرة البادية على الحروب الكبيرة والمناوشات الصغيرة.
فمن الخطأ «أولا» أن تستخف بالرياضة التي يراض عليها الجيل بعد الجيل حيث تتعاقب الأجيال على أمثال هذه المناوشات، أو على ما نسميه اليوم حرب العصابات، حتى لو صح أنها كانت هي كل ما يعرفه أهل الصحراء من فنون القتال.
فالذي لا ريب فيه أن الصحراء قد تعاقبت فيها الأجيال على حروب العصابات التي تشترك فيها القبائل أبدا بين عادية ومعدو عليها، وأن البدوي قد عاش زمنا كما جاء في التوراة «يده على كل إنسان ويد كل إنسان عليه». فحصل من ذلك على ملكة مطبوعة يصح أن تسمى «حاسة الحرب»، أو أهبة الميدان الخالد التي لا تفارقه في ليل ولا نهار. فلا يزال حياته في حيطة المدافع واستعداد المهاجم ويقظة القلب للنضال، الذي يتعرض له بين مضطر مغتصب أو طائع مختار.
وهذه ملكة لا تحصل لأبناء المدن الذين يندبون للقتال بين آونة وأخرى، ويتدربون عليه كأنه عمل يؤدي في مكان العمل، ثم يطرح عن العاتق في سائر الأوقات.
ومن الرياضة التي يراض عليها الجيل بعد الجيل حيث تتعاقب حروب العصابات أنهم يتعودون الصبر على الفرار ويملكون الجأش عند الإدبار؛ لأن الفرار عندهم حركة من الحركات المألوفة في كل وقعة يخوضون غمارها، وليست هزيمة تطيش باللب وتخلع الفؤاد وتوقع في روع صاحبها أنه ضيع الأمل، ولم يبق له من أطوار القتال غير التسليم. فهو في حالة صالحة لاستئناف القتال إن أقبل وإن أدبر، وسواء طمع في النصر أو لاذ بالنجاة، وكأنه يتأخر ليتقدم في حينها أو بعد حين، ويتحول إلى الوراء كما يتحول إلى الشمال أو اليمين؛ طوعا لأمر مقصود وجريا في عنان ممدود، ومن هنا تيسر لقواد العرب في الغزوات الكبيرة أن يلموا شمل الجيش المنهزم في سويعات معدودات، وأن يتداركوا الخذلان من حيث يعسر على الجيوش المنظمة أن تتداركه قبل زمن طويل.
ولن تخلوا العصابات المغيرة - مع طول المرانة - من علم بأصول الاستطلاع والمباغتة والتبييت والمخاتلة وحسبان الحساب للرجعة والإفلات، وهي على بساطتها أصول لا ندحة عنها في أكبر الميادين وأصغرها على السواء.
هذا إن صح أن حروب العصابات هي كل ما حذقه عرب البادية من فنون القتال في تاريخهم القديم.
وذلك غير صحيح ...
فالعرب قد عرفوا في حروبهم التي وقعت بينهم تسيير الجيوش بعشرات الألوف على اختلاف الأسلحة والأقسام، وقيل: إن جيش الغساسنة الذي حارب المنذر بن ماء السماء لم يكن يقل عن أربعين ألفا بين راجل وفارس، وكان في الجيش معا راكبو الخيل، وراكبو الإبل، وحاملو السيوف، وحاملو الرماح، والضاربون بالسهام والنبال، والضاربون بالحراب والحجارة. •••
ولقد كان الغساسنة والمناذرة أصحاب ملك قائم لا يعسر عليهم تسيير هذه الألوف المؤلفة إلى الميادين القريبة، ولكن القبائل التي لم تكن على شيء من هذا الملك كانت تسوق الألوف للقاء أمثالها، وتستعد لها بالجيوش التي تساوي في عددها بعض جيوش القتال في عصرنا الحديث، فاستعدت مذحج لقتال تميم يوم الكلاب الثاني بثمانية آلاف، وجرى بين الفريقين من حيل الاستطلاع والمراوغة والهجوم والمطاردة ما هو محتو لكل عناصر الكفاح الأولي في كل زمان.
نامعلوم صفحہ