منها القبائل الأخرى، فبطشوا مرة بقافلة عظيمة من قوافل الفرس التي تسير في رعاية الدولة الفارسية وحراسة أناس من بني حنيفة. وفارس دولة ضخمة يهابها العرب، وبنو حنيفة قوم من المنعة والعزة بمكان. فلما استشار كسرى بعض زعماء بني حنيفة في عقوبتهم قال له: «إن أرضهم لا تطيقها أساورتك وهم يمتنعون بها، ولكن احبس عنهم الميرة، فإذا فعلت بهم ذلك سنة أرسلت معي جندا من أساورتك، فأقيم لهم السوق، فإنهم يأتونها، فتصيبهم عند ذلك خيلك.»
وكذلك لم يتمكن منهم كسرى حتى منع عنهم حاجياتهم من أرض الحضارة في سنة مجدبة، واستعان عليهم بمن يستدرجهم إلى مكان ينالون فيه ...
ولكن بني تميم على هذا كانوا مثلا من الأمثلة النادرة على عجائب الحظوظ في هذه الدنيا. فقلما ظهر للمعتبرين أن الكثرة والسعة والمنعة والوفرة تنقلب أحيانا إلى نقمة تشبه القلة والضنك والخوف كما ظهر ذلك في شأن بني تميم.
فقد كانت كثرتهم وسعة بلادهم واكتفاء كل بلد منها بمراعيه وأمواهه سببا لتفرقهم وتصدع وحدتهم وتعذر الإجماع بينهم على رئيس واحد. فتشعبوا بطونا يدين كل بطن منها لرئيس، بل بيوتا في البطن الواحد يبلغ من تنافسهم أن يتحاربوا ويتوارثوا التراث،
3
ويصبح التوفيق بينهم أعسر من التوفيق بين أحدهم والغريب الطارئ عليهم من الأعداء والأصدقاء ...
وكان هذا شأنهم يوم ظهرت الدعوة المحمدية، فلما بلغتهم خاف كل منهم أن يرفضها فيكون منافسوه الواقفون له بالمرصاد حربا عليه، فأجاب رؤساؤهم الدعوة، وأقرهم النبي على رئاستهم، ومنهم الزبرقان بن بدر على الرباب، وقيس بن عاصم على مقاعس والبطون، ووكيع بن مالك على بني حنظلة، ومالك بن نويرة على بني يربوع، وهم بيت من بيوت بني حنظلة الكبار.
وكل أولئك رجال من ذوي الرأي الراجح والقول النافذ والمناقب «الشخصية» ... ويمتاز من بينهم مالك بن نويرة بمزايا أخرى لم تتفق لواحد منهم، وهي اللباقة والظرف والفصاحة وحسن المحاضرة، مع الوسامة والصباحة وأناقة الزى والشارة، وهي في جملتها تلك الصفات التي ترشح صاحبها لمآسي البطولة في قصص الحياة، من واقع أو خيال.
كانت فيه خيلاء وجفلة، وكان متلافا لا يبقي على مال، وكان فارسا شاعرا محدثا ظريف المدخل على من يعرف ومن لا يعرف، ومن ذاك أنه كان يقصد الحي من أحياء الأعداء وله فيه أسرى يريد فكاكهم بالفدية المصطلح عليها، فلا يحدث أهل الحي هنيهة حتى يخلبهم بحديثه ويأسرهم بظرفه وحسن سمته؛ فيردوا إليه أسيرة بغير فدية، ويفترقوا وهم أصفياء.
وكان مالك هذا أول من قصدت إليه سجاح المتنبئة عند منحدرها من الجزيرة، فصرفها عنه بلباقته إلى ملاقاة البطون الأخرى من بني تميم، ولعله زين لها أن تجمعهم إليها عصبة واحدة، لعلمه باستعصاء ذلك عليها وعلى غيرها ... وأنها وشيكة أن تنتقم له منهم إن هي دعتهم إلى الالتفاف بها فلم يجيبوها.
نامعلوم صفحہ