وقد تفرقت سرايا خالد في أثر المنهزمين تضربهم وتجمع الأسلاب والغنائم وتدعو إلى الإسلام.
فلم تمض أيام حتى كان قد فرغ من مهمتيه الأوليين، وهما: الإنذار والتغلب على الفتنة، وبقيت مهمته الأخيرة وهي القصاص والتأديب ، ولعلها كانت ألزم وأحزم من قمع الفتنة وتمزيق الجيوش؛ لأن المرتدين كانوا قد أسرفوا في التنكيل بالمسلمين الذين أصابوهم بينهم ولم يتورعوا عن مثلة من المثلات التي يتورع عنها المقاتل الكريم، وأصابوا أولئك العزل المنفردين في غير ساحة حرب وبغير نذير من قتال، فكانت أوامر الخليفة إلى خالد صريحة ألا يني في عقاب المعتدين: «ولا يظفرن بأحد قتل المسلمين إلا قتله ونكل به غيره.»
ولم يكن خالد في مواقف الصرامة والبطش بحاجة إلى توكيد وتشديد، فلم يقبل من المرتدين إلا أن يأتوه «بالذين حرقوا ومثلوا وعدوا على المسلمين.» ومثل بهم فأحرقهم بالنيران ورضخهم بالحجارة ورمى بهم من الجبال كفعلهم بأولئك الأبرياء الغافلين عن عدوانهم الذميم، وقاد رؤساءهم في جوامع الحديد إلى الخليفة ليصنع بهم ما يشاء.
وذلك درس لا شك أنه عنيف مخيف، ولكن لا شك أنه عادل في شرعة الحرب والسلم، وأنه لازم كل اللزوم في أحوال كتلك الأحوال.
وأيا كانت المثلات بالمرتدين، فهي على التحقيق لا تتجاوز المثلات التي تؤمر بها «حملات التأديب» في عصرنا هذا لمعاقبة أناس لم يقترفوا مثل ما اقترفه المرتدون، ولم يقرنوا فعالهم بجريرة الخروج على عقيدة أو شريعة، ولا بتهديد «الدولة» في كيانها وهي أحوج ما تكون إلى الأمان والضمان ...
ومع هذا وجد من كبار المسلمين من لام خالدا على الإمعان في تأديبه على النحو الذي نحاه، فقال عمر بن الخطاب للخليفة منكرا إحراق الناس: بعثت رجلا بعذاب الله؟ انزعه!
فلم يستمع إليه الخليفة؛ لأنه كان في حنقه على المرتدين لا يستعظم عليهم ضربا من ضروب العقاب.
ومهما يكن من مجاراة هذا العقاب لطبع خالد - فهذه البعثة بين بعثاته جميعا هي بعثة التنفيذ المحض الذي لا يشوبه نصيب من الاستقلال، اللهم إلا استقلال القائد الكفء بحسن القيام على ما وكل إليه ...
ومما لا غنى عنه قبل الانتقال إلى أعمال خالد المستقلة في بقية حياته أن نتحرى نصيبها من إطاعة الأمر، ونصيبها من الإقدام على العمل غير مأمور به ولا محمود عليه.
فيجوز لقائل في هذا الصدد أن يقول: إن الخليفة لم يرسم لخالد خطة القتال والمداورة في بعثة «بزاخة» وإنما أفضى خالد بهذه الخطة إلى الخليفة فأقرها ووافقه عليها.
نامعلوم صفحہ