وقد أعان أسلافه الثلاثة برأيه وعمله، وجاملهم مجاملة الكريم بمسلكه ومقاله، ولم يبدر منه قط ما ينم على كراهية وضغن مكتوم ... ولكنه كان يأنف أن ينكر هذه الكراهية إذا رمي بها كما يأنف العزيز الكريم، وفي ذلك يقول من خطاب إلى معاوية: «ذكرت إبطائي عن الخلفاء وحسدي إياهم والبغي عليهم، فأما البغي فمعاذ الله أن يكون، وأما الكراهية لهم فوالله ما أعتذر للناس من ذلك.»
وأولى أن يقال: إن دلائل وفائه في حياتهم، وبعد ذهابهم، كان أظهر من دلائل جفائه، فإنه احتضن ابن أبي بكر محمدا وكفله بالرعاية ورشحه للولاية، حتى حسب عليه وانطلقت الألسنة بانتقاده من أجله، وقد سمى ثلاثة من أبنائه بأسماء الخلفاء الذين سبقوه، وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان ...
ويخطئ جدا من يتخذ فتواه في مقتل الهرمزان دليلا على كراهيته لعمر أو نقمة منه في أبنائه ... فقد أسرع عبيد الله بن عمر إلى الهرمزان، فقتله انتقاما لأبيه، ولم ينتظر حكم ولي الأمر فيه ولا أن تقوم البينة القاطعة عليه، فلما استفتي في هذه القضية أفتى بالقصاص منه، ولم يغير رأيه حين تغير رأي عثمان، فأعفاه من جريرة عمله ... لأنه هو الرأي الذي استمده من حكم الشريعة كما اعتقده وتحراه، وبهذا الرأي دان قاتله عبد الرحمن بن ملجم، فأوصى وكرر الوصاية ألا يقتلوا أحدا غيره لمظنة المشاركة بينه وبين رفقائه في التآمر عليه.
وإنك لن تجد إنسانا أعرف بالعهد، ولا أصون له ممن يتذاكره في حومة الحرب، ويرى أن التذكير به ينزع السلاح من الأيدي، ويعود بالخصمين المتناجزين إلى الصفاء والإخاء ...
فما حارب علي عدوا له سابقة مودة به إلا أن يذكره بتلك السابقة، ويستنجد بالصداقة الأولى فيه على العداوة الحاضرة.
ومن ذلك موقفه مع الزبير وطلحة في وقعة الجمل، وهما ملحان في حربه وإنكار بيعته ...
فخرج حاسرا لا يحتمي بدرع ولا سلاح، ونادى: يا زبير، اخرج إلي ... فخرج إليه شاكا في السلاح، وسمعت السيدة عائشة فصاحت: وا حرباه! ... إذ كان خصم علي مقضيا عليه بالموت كائنا ما كان حظه من الشجاعة والخبرة بالنضال.
فلما تقابل علي والزبير اعتنقا، وعاد علي يسأله: «ويحك يا زبير ما الذي أخرجك؟ ...»
قال: «دم عثمان.»
قال: «قتل الله أولانا بدم عثمان.»
نامعلوم صفحہ