وآداب الفروسية هي تلك الآداب التي نلخصها في كلمة واحدة وهي: النخوة ...
وقد كانت النخوة طبعا في علي فطر عليه، وأدبا من آداب الأسرة الهاشمية نشأ فيه، وعادة من عادات «الفروسية» العملية التي يتعودها كل فارس شجاع متغلب على الأقران، وإن لم يطبع عليها، وينشأ في حجرها؛ لأن للغلبة في الشجاع أنفة تأبى عليه أن يسف إلى ما يخجله ويشينه، ولا تزال به حتى تعلمه النخوة تعلما، وتمنعه أن يعمل في السر ما يزري به في العلانية.
وهكذا كان علي - رضي الله عنه - في جميع أحواله وأعماله: بلغت به نخوة الفروسية غايتها المثلى، ولا سيما في معاملة الضعفاء من الرجال والنساء، فلم ينس الشرف قط ليغتنم الفرصة، ولم يساوره الريب قط في الشرف، والحق أنهما قائمان دائمان كأنهما مودعان في طبائع الأشياء، فإذا صنع ما وجب عليه فلينس من شاءوا ما وجب عليهم، وإن أفادوا كثيرا وباء هو بالخسار.
أصاب المقتل من عدوه مرات فلم يهتبل الفرصة السانحة بين يديه؛ لأنه أراد أن يغلب عدوه غلبة الرجل الشجاع الشريف، ولم يرد أن يغلبه أو يقتص منه كيفما كان سبيل الغلب والقصاص ...
قال بعض من شهدوا معركة صفين: «لما قدمنا على معاوية وأهل الشام بصفين، وجدناهم قد نزلوا منزلا اختاروه مستويا بساطا واسعا، وأخذوا الشريعة - أي: مورد الماء - فهي في أيديهم ... وقد أجمعوا على أن يمنعونا الماء، ففزعنا إلى أمير المؤمنين فخبرناه بذلك فدعا صعصعة بن صوحان، فقال له: ائت معاوية، وقل له إنا سرنا مسيرنا هذا إليكم ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، وإنك قدمت إلينا خيلك ورجلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك وبدأتنا، ونحن من رأينا الكف عنك حتى ندعوك ونحتج عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها إذ حلتم بين الناس وبين الماء، والناس غير منتهين أو يشربوا فابعث إلى أصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء، ويكفوا حتى ننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا له وقدمتم له ...»
ثم قال راوي الخبر ما معناه: إن معاوية سأل أصحابه، فأشاروا عليه أن يحول بين علي وبين المورد غير حافل بدعوته إلى السلم، ولا بدعوته إلى المفاوضة في أمر الخلاف، فأنفذ معاوية مددا إلى حراس المورد يحمونه ويصدون من يقترب منه، ثم كان بين العسكرين تراشق بالنبل، فطعن بالرماح، فضرب بالسيوف حتى اقتحم أصحاب علي طريق الماء وملكوه.
وهنا الفرصة الكبرى لو شاء علي أن يهتبلها، وأن يغلب أعداءه بالظمأ كما أرادوا أن يغلبوه به قبيل ساعة ... وقد جاء أصحابه يقولون: والله لا نسقيهموه، فكأنما كان هو سفير معاوية وجنده إليهم يتشفع لهم، ويستلين قلوبهم من أجلهم، وصاح بهم: «خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى عسكركم وخلوا عنهم، فإن الله - عز وجل - قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم.»
ولاحت له فرصة قبل هذه الفرصة في حرب أهل البصرة، فأبى أن يهتبلها وأغضب أعوانه إنصافا لأعدائه؛ لأنه نهاهم أن يسلبوا المال ويستبيحوا السبي وهو في رأيهم حلال. قالوا: أتراه يحل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم؟ ... فقال: «إنما القوم أمثالكم، من صفح عنا فهو منا ونحن منه، ومن لج حتى يصاب فقتاله مني على الصدر والنحر.» وسن لهم سنة الفروسية أو سنة النخوة حين أوصاهم ألا يقتلوا مدبرا، ولا يجهزوا على جريح، ولا يكشفوا سترا، ولا يمدوا يدا إلى مال.
ومن الفرص التي أبت عليه النخوة أن يهتبلها فرصة عمرو بن العاص، وهو ملقى على الأرض مكشوف السوأة لا يبالي أن يدفع عنه الموت بما حضره من وقاء، فصدف بوجهه عنه آنفا أن يصرع رجلا يخاف الموت هذه المخافة التي لا يرضاها من منازله في مجال صراع، ولو غير علي أتيح له أن يقضي على عمرو لعلم أنه قاض على جرثومة عداء ودهاء، فلم يبال أن يصيبه حيث ظفر به، ولا جناح عليه. •••
لقد كان رضاه من الآداب في الحرب والسلم رضا الفروسية العزيزة من جميع آدابها ومأثوراتها.
نامعلوم صفحہ