فالزهو المذموم فضول لا لزوم له ولا خير فيه، وهو لون خادع قد يوجد مع الضعف كما يوجد مع القوة، وقد يبدو على الجبان كما يبدو على الشجاع ...
أما هذا الاعتزاز الذي نشير إليه، أو هذه الثقة التي تظهر لنا في صورة الاعتزاز، فهي جزء من شجاعة الفارس المقاتل لا يستغني عنه ولا يزال متصلا بعمله في مواجهة خصومه، وهو عرض للقوة يساعد الفارس في إرهاب عدوه وإضعاف عزيمة من يتصدى لحربه ... مثله هنا كمثل العروض التي تعمد إليها الجيوش لإعلان بأسها، وتخويف الأعداء من الاستخفاف بها والهجوم عليها، فهو كالشجاعة أداة ضرورية من أدوات القتال لا تنفصل عنها، وليس كل ما فيها ضربا من الخيلاء يرضي به الشجاع غروره، ويتيه به في عير حاجة إلى التيه.
ولهذا تحمس الناس للفخر العسكري من قديم الزمن وعهدوه وتحدثوا به وتناقلوه، فسمحوا للفارس - بل لعلهم أوجبوا عليه - أن يروغ من خصمه بالفخر المرعب إذ يتقدم لنزاله، وأن يلاقيه وهو ينشد الأشعار في ذكر وقعاته والتهويل بضرباته والإشادة بغزواته، وعلموا أنهم - وقد احتاجوا إلى شجاعته - محتاجون كذلك إلى فخره وحماسته، وإيقاع الرعب في جنان قرنه، فشاعت قصائد الفخر والحماسة كما شاعت قصائد الحب والمناجاة، وهي أحب القصائد إلى القلوب. •••
ومن تأصل هذه العادة في الطبائع أنها تشاهد في جميع الأحياء فطرة وارتجالا بغير اصطناع ولا تعمد، فلا نرى حيا من الأحياء الناطقة أو العجماء ينازل قرنا له إلا حاول ما استطاع أن يهوله بتكبير حجمه، واستطالة قدره واتمار نظره وتنفيش ريشه أو شعره، ويقف الإنسان مثل هذا الموقف فيطيل قامته، ويبرز صدره ويدق بيده عليه ويقول بلسان حاله ما يقال باللسان، فإذا هو الفخر والحماسة وإذا هو عنوان الثقة والإقدام ...
هذه الصفة لازمة لفرسان الميدان، ولا سيما فرسان العصور الأولى الذين يقفون للقتال وجها لوجه، وينظر أحدهم إلى قرنه وهو يهجم عليه.
وكانت هذه الصفة من صفات علي - رضي الله عنه - يفهمها من يريد أن يفهم ولا يضيق صدرا بفضله، وينكرها من ينفس عليه فيسميها الزهو أو يسميها الجفوة والخيلاء، قال له قيس بن سعد بعد عزله من ولاية مصر: إنك والله ما علمت لتنظر الخيلاء ... ومر الزبير بن العوام مع رسول الله في بني غنيم، فرأى رسول الله عليا على مقربة منه فضحك له وضحك علي يحييه، فقال الزبير: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، قال رسول الله: إنه ليس به زهو، ولتقاتلنه وأنت له ظالم ...
فليس هو بالزهو المكروه، ولكنها الشجاعة التي يمتلئ بها الشجاع والثقة التي تتراءى مكشوفة في صراحتها واستقامتها؛ لأن صاحبها لم يتكلف مداراتها ولم يحس أنه يحتاج إلى مداراتها؛ ولأنه لا يقصدها ولا يتعمد إبداءها ... •••
وقد كان مدار هذا الخلق في ابن أبي طالب على ثقة أصيلة فيه لم تفارقه منذ حبا ودرج، وقبل أن يبلغ مبلغ الرجال، فما منعته الطفولة الباكرة يوما أن يعلم أنه شيء في هذه الدنيا، وأنه قوة لها جوار يركن إليه المستجير، ولقد كان في العاشرة أو نحوها يوم أحاط القروم القرشيون بالنبي - عليه السلام - ينذرونه وينكرونه وهو يقلب عينه في وجوههم، ويسأل عن النصير ولا نصير ... لو كان بعلي أن يرتاع في مقام نجدة أو مقام عزيمة لارتاع يومئذ بين أولئك الشيوخ الذين رفعتهم الوجاهة، ورفعتهم آداب القبيلة البدوية إلى مقام الخشية والخشوع، ولكنه كان عليا في تلك السن الباكرة كما كان عليا وهو في الخمسين أو الستين ... فما تردد وهم صامتون مستهزئون أن يصيح صيحة الواثق الغضوب: أنا نصيرك ... فضحكوا منه ضحك الجهل والاستكبار، وعلم القدر وحده في تلك اللحظة أن تأييد ذلك الغلام أعظم وأقوم من حرب أولئك القروم ...
علي هذا هو الذي نام في فراش النبي ليلة الهجرة، وقد علم ما تأتمر به مكة كلها من قتل الراقد على ذلك الفراش.
وعلي هذا هو الذي تصدى لعمرو بن ود مرة بعد مرة، والنبي يجلسه ويحذره العاقبة التي حذرها فرسان العرب من غير تحذير، يقول النبي: اجلس، إنه عمرو، فيقول: وإن كان عمرا ... كأنه لا يعرف من يخاف ولا يعرف كيف يخاف، ولا يعرف إلا الشجاعة التي هو ممتلئ بها واثق فيها في غير كلفة ولا اكتراث.
نامعلوم صفحہ