عبقری اصلاح و تعلیم: امام محمد عبدہ
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
اصناف
الفصل الثاني
القرية
إذا أحاطت ألفاف الظلام ببقعة من الأرض خفيت معالمها ولم يتبين منها موضع من موضع، وخيل إلى الناظر إليها على البعد أنها خلاء بلقع، أو أنها مسكن مهجور لا يأوي إليه ديار، ولا ينبعث منه بصيص نور.
ويقترب السالك إليه فلا ينمحي أمام عينيه آية الظلام، ولكنه يرى معها شيئا غير الظلمات التي أطبق بعضها على بعض، شيئا من النور هنا وهناك؛ بين سراج ضئيل على باب دار، أو فتيلة خافتة عند زاوية جدار، أو نار تشب للهداية، أو موقد يضرم للطعام، شيئا آخر من بصيص النور غير ألفاف الظلام.
على حالة مثل هذه الحالة كانت صورة القرية المصرية في العصر المخضرم بين أواسط القرن الثامن عشر وأواسط القرن التاسع عشر: صورتها من خلال التاريخ العام ظلام وموات، وصورتها من قريب تتجلى عن شيء غير الظلام والموات، بصيص من النور ورمق من الحياة.
ينظر القارئ في صفحات التاريخ العام منذ قرون ترجع إلى ما قبل الميلاد، فلا يفرغ من قصة دولة طاغية إلا ليبدأ في قصة دولة باغية، ولا ينتهي من حكم دخيل إلا لينتقل إلى حكم أصيل، يضطرب بين الضعف والشقاق وبين العسف والجمود، وينطمس في أثناء ذلك كل ما تخلله من بريق هنا ووميض هناك، فلا تنطبق الصفحات آخر الأمر إلا على ألفاف من الظلمات، كتلك الألفاف التي تحيط بالسالك في غياهب الليل، فلا يبصر وراءها غير ظلام مطبق على ظلام.
وينتقل قارئ التاريخ العام من تاريخ القرية على حدة، فيرى شيئا آخر إلى جانب الطغيان والمذلة، شيئا من العزة هنا ومن السخط هناك، وشيئا من الشعور بغير التسليم وراء كل تسليم، ولكنه متفرق متقطع يراه الناظر إذا تبينه وفتش عنه، ولا يكاد ينكشف له من النظرة الأولى في نطاق أوسع من نطاق الآحاد منفردين متفرقين.
ومن الحق ألا يعجب قارئ التاريخ العام من هذه الصورة المختلفة للقرية المصرية في تلك الفترة، فإنه كان أحرى أن يعجب لتلك القرية أن تبقى فيها بقية من التربة المخصبة بعد جوائح القحط والجدب والاغتصاب والانتهاب، وعوارض الجفاف من سوء الزرع وسوء الري أو سوء توزيع المياه إن فاضت به مجار، فإذا كان هذا كله لم يستنفذ ذخيرة الخصب في هذه الأرض العتيقة، فلا عجب أن تبقى للنفس البشرية ذخيرة من قوة الحياة بعد أن أصابها من غوائل الزمن ما أصاب أرضها من خراب وجدب واغتصاب.
وواقع التاريخ العام - عند التأمل فيه - أنه لم يخل قط من دلائل القوة الكامنة وراء ظواهر التسليم والجمود، وإن طال الكمون والجمود أحيانا إلى أجيال وراء أجيال.
فالتاريخ العام لم يخل من ثورة المقاومة بعد مظالم بناة الأهرام، ولم يخل منها في إبان دولة الرومان، وربما كانت المسيحية المصرية شعلة من شعل هذه الثورة بما شرعته لأهلها من عقيدة تنكر عقيدة الدولة الحاكمة، وربما ساقت إليه العازفين عن الطاعة العمياء من عزلة الدير ووحدة الرهبانية ... ومن أبى تلك الطاعة العمياء من غير أهل الخير والتقوى، فلعله لم يحمل سلاح العصيان ولم يذهب مع العصب والمناسر إلا استباحة لعصيان الحاكم الظالم قبل استباحته للحرام من الأنفس والأموال.
نامعلوم صفحہ