عبقری اصلاح و تعلیم: امام محمد عبدہ
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
اصناف
وكان محمد عبده فلاحا بمولده وتربيته، ينتمي إلى قرية نشأت في ظل عهد الإقطاع، وكان مصابه ومصاب أهله من ظلم الطبقة الحاكمة أشد وقعا في نفوسهم من مصاب إخوانهم أبناء القرية؛ لأنهم كانوا بمنزلتهم الاجتماعية هدفا لأنظار الحاكم المتسلط، وحائلا في كثير من الأحيان بينه وبين أغراضه من عامة الرعية، فكان مصابهم بالظلم مضاعفا؛ لأنه مصاب في الرزق ومصاب في الكرامة، وكانت ثورته على «الراعي» الجائر ثورة من يشعر في قرارة نفسه بأنه أهل للمنازعة مع ذلك الراعي الجائر، وليس قصاراه أنه أهل للخضوع أو يسخط في صمت واستسلام، واستفادت هذه الثورة من التعليم والرياضة الروحية أنها أصبحت عقيدة من عقائد الضمير، ولم ترتهن بحدود القرية أو الطبقة، ولا بحدود المصلحة الاجتماعية أو السياسية.
وكانت حماسة النخوة سليقة في الرجل كما أسلفنا، وهي شيء غير اندفاع التطرف الذي يساور بعض ذوي الآراء، وإن التبس أمرهما أحيانا على من يحكم عليهما بالمظاهر والأشكال.
فإن تطرف الاندفاع قد يأتي من الخفة والعجلة، ولكن حماسة النخوة تأتي على الأكثر من شعور عميق وعقيدة متأصلة، وربما كانت حماسة النخوة عونا لصاحبها على الصبر الطويل، ولكن خفة التطرف قد يستثيرها الغرض العاجل أو تموت.
كذلك ينبغي أن نفرق بين الاندفاع والإقدام؛ لأنهما قد يتلاقيان أحيانا، وقد يكون الافتراق بينهما أكثر من اللقاء، فربما اندفع المندفع إلى الفرار كما اندفع إلى الإقدام، ولكن المقدم في غير اندفاع هو في الحقيقة ثابت حيث كان، وإن خيل إلى أناس أنه مدفوع إلى غير ما أراد.
وتاريخ محمد عبده في خدمة القضية القومية هو تاريخ الإقدام إلى أقصى حدوده، ولكنه لم يكن قط تاريخ الاندفاع مع الخفة والعجلة؛ لأن نظرته إلى الغرض القريب لم تعجله قط عن النظر الطويل إلى الغرض البعيد، وهو الغرض الدائم وراء جميع الأغراض.
وقد أقدم يوما على الترصد للخديو إسماعيل عند قصر النيل للقضاء عليه - أولى من الانتظار به إلى أزمة بينه وبين الدولة تزيله عن عرشه - ولو أنه أخطأه في هذه المرة وسنحت الفرصة للتفاهم مع ولي عهده على تعديل سياسة أبيه بعد عزله، لزال إسماعيل عن العرش مقتولا في أغلب الظن، ولم يزل معزولا كما أراد جمال الدين وحزبه في الساعة الأخيرة، وقد كان التآمر على العزل خطرا لا يقل عن خطر الإقدام على القتل، وليس لاندفاع التطرف مذهب وراء مذهب الإقدام على هذين الخطرين.
ولما نشبت الثورة العرابية كان حذره من السيطرة الأجنبية أشد من حذر العرابيين وحذر الخديو توفيق؛ لأنه لم يخالف العرابيين في أدوار الثورة الأولى إلا خشية الاحتلال الأجنبي الذي يجر على جالبه لعنة الأبد كما قال، ولم يؤيد الثورة كل التأييد في مرحلتها الأخيرة إلا لأن الخديو توفيق جنح إلى الدولة المحتلة وحارب جنوده بجنودها.
وفي كل أولئك كان محمد عبده أشد إقداما على الخطر من الجميع؛ كان أشد منهم إقداما في معارضة الثورة حين عارضها، وأشد إقداما في تأييدها حين أيدها، وكان أبعد منهم نظرا وأصدق منهم غيرة في كلتا الحالتين.
ولما وقع المحظور ودخل الإنجليز مصر محتلين، وبارحها محمد عبده منفيا عن وطنه، كان هذا المنفي أسبق أبناء الوطن إلى عاصمة الدولة الإنجليزية، ليعلن الحرب على الاحتلال في عقر داره، وقال لهم في صحافتهم: «إننا نرى أن انتصاركم للحرية إنما هو انتصار لما فيه مصلحتكم، وإن عطفكم علينا كعطف الذئب على الحمل، ولقد قضيتم على عناصر الخير فينا لكي تكون لكم من ذلك حجة للبقاء في بلادنا.»
وبلغ في الصراحة معهم ما لم يبلغه قائل من بعده، حيث يقول لصحيفة البال مال:
نامعلوم صفحہ