ولم تمض برهة حتى سمعا لغطا ورأيا الخصيان في حركة، فعلم الفقيه ابن عبد البر أن الخليفة عبد الرحمن الناصر قادم، فتهيب وظهرت الدهشة على وجهه، فأدرك سعيد ذلك، فالتفت إليه وقال : «أظن أن مولانا أمير المؤمنين قادم؟» فأومأ الفقيه ابن عبد البر برأسه أن: «نعم.»
ثم رأياه مقبلا وقد تزيا بزي الخلفاء، فنظر سعيد إلى الفقيه كأنه يستفسره، فقال له بصوت خافت: «لو دخلت على أمير المؤمنين منذ بضع عشرة سنة لرأيت ملابسه تختلف عنها الآن، ولم تر هذا القضيب بيده، فإنه قضيب الخلافة، ولم يكن خليفة إلا منذ ذلك الحين؛ ولذلك تراه الآن يلبس العمامة المرصعة بالجواهر ويحمل القضيب بيده، وهذه بردته مثل بردة سائر الخلفاء، لكنه جعلها بيضاء تشبها بملابس أقربائه بني أمية بالشام، وترى تحت البردة قباء من الوشي، وهي من ملابس الأمويين في أيام دولتهم بالشام.»
كان الفقيه ابن عبد البر يتكلم بصوت منخفض يحذر أن يسمعه أحد؛ لخلو القاعة من الناس وهدوء المكان، وسعيد شاخص ببصره إلى عبد الرحمن الناصر يتبين ملامحه ويستطلع فراسته، فرآه أبيض اللون مشربا بحمرة، أزرق العينين، وعلى محياه هيبة وقوة، وقد مشى وبيده قضيب الخلافة، والجلال يتجلى في جبينه والذكاء ينبعث من عينيه، وقد وخطه الشيب، وشغل سعيد على الخصوص بما على عمامته من الجواهر، والتفت نحو الفقيه فرآه يبالغ في الانزواء خوفا من وقوع بصر الخليفة عليه، فقال له: «إن أمير المؤمنين فوق ما كنت أتصور، ويظهر لي مع أن والدته أمة نصرانية أن هيبة الخلفاء لم تنقص شيئا.»
الفصل الثالث عشر
استقبال الرسل
فقال الفقيه ابن عبد البر لسعيد: «لا أظنك تجهل أن أكثر الخلفاء في الدولتين، الأموية والعباسية، أمهاتهم من الإماء، وبعضهن من الجواري. أما أم مولانا عبد الرحمن الناصر فهي نصرانية جميلة، وكان اسمها مرية.»
1
وفي أثناء هذا الحديث كان الخليفة قد جلس على السرير في صدر البهو فوق عرش مرتفع، ووقف بين يديه جماعة من كبار الفتيان يتلقون أوامره، وعليهم ملابس تأخذ بالبصر، لما فيها من الطراز المذهب، والألوان الزاهية، وسعيد لا يرفع بصره عن عبد الرحمن الناصر، وقد شغله أمره كثيرا.
فرآه ينظر إلى باب البهو ويبتسم ويشير برأسه مرحبا، فالتفت سعيد فرأي الحكم ولي العهد داخلا وعليه ملابس فاخرة ونضارة الشباب تتجلى على وجهه، وقد فاحت منه رائحة المسك، ومن رآه يعرف أنه ولي العهد؛ لأنه كان يلبس القلنسوة الخاصة بذلك، فلما اقترب من أبيه استدعاه وأجلسه إلى يمينه وهو يبتسم له.
ثم دخل ابنه الثاني الأمير عبد الله، وكان البهو قد تكاثر فيه الناس، فلم يعد الفقيه يخشى أن يسمع صوته، فلما دخل الأمير عبد الله، لفت نظر سعيد إليه وقال: «هذا مولانا الأمير عبد الله كيف تراه؟»
نامعلوم صفحہ