وكانت عابدة تتكلم والحاضرون ينصتون كأن على رءوسهم الطير، وقد أحسوا بإهمالهم، فنهض منهم شاب متحمس وقال: «إني أفدي الأمة بنفسي، فانتدبوني للقتل أو الفتك. إن أهلي وعشيرتي يعدون بالمئات، وهذا دمي بين أيديكم.»
وتلاه صائح بمثل قوله، وعلت الضوضاء، فوقف سعيد وقال: «لا داعي بنا إلى العجلة، سأخبركم بالوقت المناسب. لكنني أرغب إليكم أن تجعلوا نصب أعينكم أن هذه الدولة لا بأس من بقائها، وإنما العيب في أميرها، ولا نرى ولي العهد إلا مثله؛ فإن أقرب المقربين إليه خصي صقلبي هو جعفر، فإذا صارت الخلافة إليه هل يرجى منه غير ما نراه من أبيه؟ لقد أعمى عبد الرحمن الناصر أبصار الناس بالأبهة والزخارف. أعمى أبصار الناس بالقصور التي بناها لجاريته. وابنه الحكم سيكون مثله، ولا بد من النظر لمن يصلح للخلافة سواهما. على أني أشكر لهذه الفتاة التي أتتنا وبثت فينا روح الهمة والنشاط، وهي نفسها سيكون لها شأن في هذا العمل الجليل.»
وبعد قليل انفضت الجلسة، وقد أقسم كل منهم على كتمان الأمر والثبات، وعاد سعيد ومعه عابدة من حيث أتيا، حتى إذا وصل إلى منزله قال لها: «لقد أعجبتني؛ لأنك لم تذكري دولة العبيديين، ولم تقولي شيئا عن الشيعة؛ لئلا يرتابوا في أمرنا.»
فقالت عابدة: «ألم أقل لك إني أشعر كأني عضو من أعضائك، فلا أقول سوى ما توحيه إلي، ويكفي أنك تريد ذلك وإن لم تصرح به. والآن، هل تسمح لي بالانصراف؟»
قال سعيد: «موعد لقائنا يوم ذهابنا إلى الأمير عبد الله نقدم له كتاب «العقد الفريد»، وسوف أبعث إليك بالخبر في حينه.»
فحركت عابدة رأسها إيجابا، وابتسمت وانصرفت وهي تلتفت إليه، وكان خادمها الخصي في انتظارها في الخارج ليسير في خدمتها إلى منزلها.
الفصل الثامن
المناجاة
انصرفت عابدة وسعيد يشيعها ببصره، ثم وقف برهة وهو غارق في بحار الهواجس ينظر إلى الأرض، تارة يحك ذقنه بسبابته، وتارة أخرى يتشاغل بإصلاح قبعة كان يلبسها على رأسه. والخادم واقف وبيده المصباح ينتظر أمره، ولا يجسر على أن يخاطبه تهيبا مما كان يبدو على وجهه من مظاهر الاهتمام والارتباك. ثم انتبه سعيد لنفسه وسار إلى غرفة النوم، وأشار إلى الخادم أن يضع المصباح هناك وينصرف.
ثم نهض سعيد، وأغلق باب الغرفة واستلقى على فراشه، ولم يبدل شيئا من ثيابه، كأنه لا ينوي النوم في تلك الساعة لما قام في خاطره من الذكريات. وظل مستلقيا برهة وهو غارق في التفكير، ثم جلس فجأة، وأخذ يناجي نفسه قائلا: «ماذا أفعل؟ إنها تحبني كثيرا، ولكنني لا أشعر أني أحبها، بل لا أستطيع أن أحبها؛ مع أنها جميلة وذكية و... لماذا لا أحبها ويستريح قلبي من التفكير في سواها!» وضرب جبينه بكفه وصر على أسنانه، ونهض وأخذ يمشي في الغرفة، ثم وقف وقال: «مسكينة عابدة! إنها جميلة، وأديبة، وذكية، وهي تحبني، بل هي تهيم بي وتتفانى في سبيل رضاي، فلماذا لا أحبها! لماذا لا أحبها وأنزع صورة تلك القاسية القلب، الشامخة الأنف من ذهني! نعم، ينبغي لي أن أبغض هذه وأرذلها وأطرد طيفها من ذهني. آه! إني إذا فعلت ذلك فأنا سعيد البطل الحازم، وأكون أهلا للأمر الذي يحسبني هؤلاء القوم أسعى إليه، وأني إنما قمت هنا لنصرة المظلومين، ولدفع الظلم عن المظلومين. نعم، ينبغي أن يكون هذا غرضي الوحيد. نعم ، إذا طردت ذلك الخيال من ذهني؛ خيال تلك المتكبرة القاسية، إذا نزعتها من فكري وأحببت عابدة، إذا فعلت ذلك يرتاح قلبي وأتفرغ للعمل العظيم الذي يتوقعه الناس مني. نعم، هكذا يجب أن أعمل. هكذا يجب أن يكون سعيد القائد الحكيم الحازم.»
نامعلوم صفحہ