فقال سعيد: «إن ذلك من حسن حظي يا مولاي.» وتركه وانصرف إلى ناحية من المنزل تطل على النهر، وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل، فرأي الناس في الزوارق عائدين من استقبال رسل القسطنطينية، وعرف من حديثهم أن الرسل قد وصلوا إلى الربض، ونزلوا في منية الحكم فوقف برهة صامتا واستغرق في تأملاته حتى نسي موقفه، ولم ينتبه حتى ناداه جوهر الخادم، فالتفت إليه، فإذا هو يشير له أن يأتي، فأسرع نحوه وهو يقول والدهشة بادية على وجهه: «إن ياسرا فتى أمير المؤمنين.» وتلعثم لسان جوهر من الدهشة.
الفصل الثالث
ياسر كبير الخصيان
فتعجب سعيد لمجيء ياسر في ذلك اليوم، وكان قد سمع بخروجه، هو وتمام الفتى الآخر، لاستقبال رسل الروم مبالغة في إكرامهم؛ لأن ياسرا، وتماما، كانا كبيري الخصيان في القصر، بما يشبه «الباش آغا» في ذلك العهد، وكان للخصيان في ذلك العهد أيضا سطوة ونفوذ؛ لأنهم أصحاب الخلوة مع الخليفة عبد الرحمن الناصر وحرمه، وبيدهم القصر السلطاني، فإرسال كبيري الخصيان لاستقبال هؤلاء الرسل يعد من المبالغة في الإكرام.
وكان ياسر طويل القامة، أبيض الوجه؛ لأنه من الصقالبة البيض، أزرق العينين، غائرهما، عريض ما بينهما، بارز الوجنات، أجرد الوجه مثل سائر الخصيان.
فاستقبله سعيد ورحب به، فرأي على وجهه انقباضا، فتجاهل وقال له: «أهلا بالأستاذ ياسر!» ودعاه للدخول إلى قاعة المطالعة للاستراحة.
فرد ياسر التحية لسعيد بصوت رفيع كصوت الأطفال مثل أصوات سائر الخصيان، ولم يبتسم كعادته، ولكنه أطاع سعيدا ومشى معه حتى جلس على مقعد قدمه له، فجلس وهو يتلفت، فقال له سعيد: «هل يلزم مولاي شيء من الكتب أو الورق فأحضره؟»
قال ياسر: «لا، ولكنني حسبت الفقيه محمد بن عبد البر دخل هذا المكان!»
قال سعيد: «نعم يا سيدي، وهو يطالع في الغرفة الأخرى. هل أدعوه؟»
قال ياسر: «كلا، دعه في عمله.»
نامعلوم صفحہ