عبد الرحمن الكواكبي
عبد الرحمن الكواكبي
اصناف
كلا ... ولا كانت «الخلافة الإسلامية» أمامه هدفا يرميه ويعاديه.
وكل ما في الأمر أنه نظر إلى لقب الخلافة في بني عثمان فلم يعلق عليه مستقبل المسلمين ولا مستقبل العرب ولا مستقبل الترك أنفسهم، وهم شركاء بني عثمان في الدولة والسلالة.
ولم يمض على وفاته ربع قرن حتى كان نواب الأمة التركية في أول مجلس لهم يمثلها حق تمثيلها قد عرفوا هذه الحقيقة كما عرفها الكواكبي وسجلها في أول صفحة من صفحاته، فأعلنوا عزل الخليفة قبل نهاية الربع الأول من القرن العشرين، ثم اجتمعت وفود العالم الإسلامي من نحو خمس عشرة أمة في القاهرة بعد ذلك بسنة، وانصرفوا وهم لا يحسون أن العالم الإسلامي رهين بذلك اللقب حيثما كان.
وهذه هي المعجزة ...
هذه هي آية العبقرية التي تلهم صاحبها ما يحسب اليوم كفرا ويحسب في الغد حقيقة من حقائق الإيمان والحكمة، ومصلحة من مصالح الواقع والعيان.
كان الكواكبي في عرف قوم من الجاهلين أو المتجاهلين عدو الجامعة الإسلامية، عدوا لخليفة الإسلام، عدوا لنفسه ولقومه، عدوا لإخوانه في الدين من الترك العثمانيين.
ثم ارتفع حجاب من حجب الغيب فلم يبق أحد يخالف ذلك العدو المبين في دعوة دعاها أو في نية خفية انتواها؛ لأنه صنع المعجزة بعبقريته الملهمة، وإنما العبقرية الملهمة من آيات الله.
ولم يزل سبق الزمن كرامة العبقرية التي من أجلها استحقت الذكرى بعد زمانها، واستحقت الإعجاب من كل ذي طبع قويم وكل ذي سليقة إنسانية تحس أنها ذات نصيب من عظمة الإنسان، ولكن الإعجاب الصادق البصير يضيف إلى تحية العظيم مزيدا من العلم بمعدنه ومعدن العبقرية فيه، وما كان مبلغ القدرة في العبقرية الكواكبية أنها مجهر كبير يريه مدى السنين حيث يقصر النظر حوله عن مدى الأيام، ولا كانت قدرته كالمفتاح الذي يدير لوالب الزمن إلى الأمام عشرين درجة أو أربعين سنة أو خمسين ... هذه قدرة لو صحت على هذه الصفة لكانت إلى قدرة الصناعة أقرب منها إلى قدرة الفكر والضمير، وإنما كانت عبقرية الكواكبي ملكة نادرة تتلاقى فيها فضيلة العقل الثاقب وفضيلة الضمير الأمين.
كان مقتدرا بعقله على التمييز بين الأشكال والعناوين وبين الحقائق والأعمال، وكان خبيرا بالتفرقة بين عوامل البقاء والنهضة في الأمم وبين مراسم السمت والزينة في الدول والحكومات، وكان يدرك موقع الخطر وموقع السلامة، فلا يهوله ذهاب لقب ولا ييأس من مصير أمة تأخذ بأسباب الحياة.
وكانت هذه فضيلة العقل الثاقب في هذه العبقرية الملهمة.
نامعلوم صفحہ