عبد الرحمن الكواكبي
عبد الرحمن الكواكبي
اصناف
2 •••
ويؤخذ من جملة الشروح والمساجلات في كتابي «أم القرى» و«طبائع الاستبداد» أن الكواكبي يهتم أشد الاهتمام بإغلاق الباب على طوائف الوسطاء المحترفين في المسائل الدينية؛ إذ لا منفذ لوساطة الوسطاء في دين يعرفه المجتهدون من أتباعه في كل زمن، ويعرفه المقلدون على بساطته الأولى مع السؤال عن الدليل الواضح عند التباس الأمر عليهم بين المباح والممنوع.
ولكن هؤلاء الوسطاء يكثرون ويتشعبون حيث يحاط الدين بالخفايا والأسرار، ويتوارى خلف حجب الغموض والتهويل، ويمتنع فيه الاجتهاد بالدليل والسند المعلوم، ومن ثم تنجم الحاجة إلى الوسطاء من أشباه الكهان وأدعياء الخوارق والكرامات ، ممن يستغلون الدين لخدمة أنفسهم أو لخدمة الحاكمين المسخرين لهم على سنة التبادل في المنفعة والتعاون على التضليل وقيادة الرعية المستسلمة بالتمويه والتضليل.
قال الأستاذ من فصل الاستبداد والعلم: «إن العوالم يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل، فإذا ارتفع الجهل زال الخوف وانقلب الوضع؛ أي انقلب المستبد رغم طبعه إلى وكيل أمين يهاب الحساب ورئيس عادل يخشى الانتقام.»
واستغلال الجهل على ضروب تتسع فيها الحيلة لطوائف شتى من المشعوذين والدجالين وأصحاب السحر والتعاويذ ممن تروج بضاعتهم مع الغفلة والرهبة وتنكشف حقيقتهم مع الفهم والحرية، ومنهم علماء السوء وأدعياء التصوف والعبادة وأشباههم من المدلسين الذين يسمون أنفسهم بأهل الباطن، ويعنيهم أن يجعلوا السحر حكرا؛ ليستأثروا بتجارته ويساوموا عليه في أسواق المطامع والدسائس مساومة الغبن والخداع.
قال من فصل الاستبداد والدين في طبائع الاستبداد: «إن قيام المستبدين من أمثال أبناء داود وقسطنطين في تأييد نشر الدين بين رعاياهم، وانتصار مثل فيليب الثاني الإسباني وهنري الثامن الإنجليزي ... والحاكم الفاطمي والسلاطين الأعاجم المنتصرين لغلاة الصوفية والبانين التكايا لم يكن ذلك كله إلا بقصد الاستعانة بالدين أو بأهل الدين على ظلم المساكين.»
ويرى الكواكبي أن المتشددين من رجال الدين مسئولون كالحكام المستبدين عن شيوع التصوف الفاسد بين العامة وأشباه العامة من المسلمين المتقدمين والمتأخرين؛ لأنهم جعلوا الدين حرجا ثقيلا على النفوس، فمهدوا الطريق لمن يبيحون المحظورات باسم العلم «الباطن» والمعرفة الخفية التي ترفع التكليف عن الواصلين إلى الهداية من غير طريق الشريعة الظاهرة، ولولا العنت المرهق من أولئك المتشددين لما راجت سوق التصوف المكذوب ... قال بلسان الشيخ السندي: «فبناء على هذا التضييق صار المسلم لا يرى لنفسه فرجا إلا بالالتجاء إلى صوفية الزمان الذين يهونون عليه الدين كل التهوين، وهم القائلون: إن العلم حجاب، وبلمحة تقع الصلحة، وبنظرة من المرشد الكامل يصير الشقي وليا، وبنفخة في وجه المريد، أو تفلة في فمه، تطيعه الأفعى وتحترمه العقرب التي لدغت صاحب الغار عليه الرضوان ، وتدخل تحت أمره قوانين الطبيعة، وهم المقررون بأن الولاية لا ينافيها ارتكاب الكبائر كلها إلا الكذب، وأن الاعتقاد أولى من الانتقاد، وأن الاعتراض يوجب الحرمان؛ أي إن تحسين الظن بالفساق والفجار أولى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك من الأقوال المهونة للدين والأعمال التي تجعله نوعا من اللهو الذي تستأنس به نفوس الجاهلين.»
قال: «على أن الناس لو وجدوا الصوفية الحقيقيين - وأين هم؟ ... لفروا منهم فرارهم من الأسد؛ إذ ليس عند هؤلاء إلا التوسل بالأسباب العادية الشاقة لتطهير النفوس من أمراض إفراط الشهوات، وتصفية القلوب من شوائب الشره في حب الدنيا، وحمل الطبائع بوسائل القهر، والتمرين على الاستئناس بالله وبعبادته عوضا عن الملاهي المضرة؛ طلبا للراحة الفكرية والعيشة الهنية في الحياة الدنيا، والسعادة الأبدية في الآخرة، وأين التهوين السالف البيان لصوفية الزمان من هذه المطالب التهذيبية؟» •••
على أن مصلحنا العامل قد نجا به إيمانه من تلك النظرة الضيقة التي تغلب على كثير من المصلحين الواقعيين الذين يقصرون نظراتهم إلى الإصلاح الديني على الشعائر وظواهر العبادات، كديدنهم في الاهتمام بما تقع عليه المشاهدة ويحصره الحس والاكتفاء به عما وراءه من طوايا النفس وكوامن الضمير.
فلم يكن «الكواكبي» مصلحا دينيا على هذا النحو الضيق المحدود؛ بل كانت عنايته بالشعائر والظواهر المحسوسة سبيلا إلى تصحيح جوهر الدين في أصوله التي انطوت عليها الطبائع الإنسانية، وكان إيمان الضمير عنده هو قوام الدين كله، وفضيلة الإسلام في اعتقاده أنه دين الإيمان على خلاف أديان المراسم والتقاليد التي أفسدتها الوثنية وبقاياها، فأوشكت أن تصبح كلها أشكالا وصورا مجردة من روح العقيدة وهداية الإلهام.
نامعلوم صفحہ