عبد الرحمن الكواكبي
عبد الرحمن الكواكبي
اصناف
فمن اليسير - من أجل هذا - أن نسمي دعوة الكواكبي فلسفة اجتماعية أو نسميها مذهبا فلسفيا ينتظم بين مذاهب الحكماء المصلحين؛ لأنها استلزمت من تفكير صاحبها كل ما يستلزمه مذهب الفيلسوف من التحقيق والروية والمراجعة والتوفيق بين النقائض ووجوه الاعتراض.
ولكننا لم نشأ أن نسميها فلسفة ولا مذهبا فلسفيا كسائر المذاهب التي عرفت بأسماء أصحابها أو بعناوين موضوعاتها؛ لأن الدعوة هنا عمل يزيد على التفكير، ولا ينتهي عند مجرد التفكير.
فالدعوة التي تسمى «فلسفة» تدور على البحث والنظر ثم تترك العمل على قواعدها لمن يؤمن بها ويقدر على تطبيقها، وقد يكون البحث فيها مطلقا غير محدود بزمن من الأزمنة أو بلد من البلدان، ولكنه يرسل على إطلاقه كما ترسل القوانين الرياضية لمن يخترع لها أدواتها ويوفق بينها وبين مطالبها، فهي فكرة معلقة على زمن مجهول ومجال غير محدود.
ولا نحسب أننا نسمي دعوة الكواكبي باسمها الصحيح إذا سميناها «مذهبا فلسفيا» لنقول إنها هي «مذهب الكواكبي» في الإصلاح، فإن المألوف عن المذاهب أنها طريق يقابل طريقا آخر أو طرقا متعددة لتوضيح رأي أو تنفيذ عمل، ودعوة الكواكبي قد بلغت إلى مرحلة وراء المذهب ووراء الاختلاف عليه، وجاوزت المذهب إلى القرار الذي يوضع موضع التنفيذ ولا يعوقه عنه إلا أن يتولاه العاملون.
فصاحب «أم القرى» و«طبائع الاستبداد» لا يعرض لنا فكرة معلقة على مجال مجهول، ولا يعرض لنا مذهبا نقابله بمذهب يعقب عليه، ولكنه يعرض لنا «برنامجا» يتبعه عمل، وقرارا تنتهي إليه مذاهب الخلاف. •••
إن ذلك المنهج «العملي» لهو أجدر المناهج أن ينتظر من عقل كعقل الكواكبي فيما ورثه من استعداد الفطرة وفيما تعوده بتربيته وعمله، فإنه نشأ في بيئة لم تزل من قديم الزمن ملتقى لحركات النشاط والدأب من أنحاء العالم، وتربى في أسرة تعرف الصناعة كما تعرف تكاليف الرئاسة الدينية والدنيوية، وتولى أعمال الإدارة والتنظيم في كثير من الوظائف التي يناط بها تنفيذ الخطط وإعداد المشروعات للتنفيذ، وكاد أن يكون كل تقرير كتبه برنامجا لعمل يؤديه أو «مشروعا» لبرنامج يقترح تنفيذه على غيره.
ونكاد نجزم بأنه بقي في حلب قبل هجرته الأخيرة منها؛ لأنه لم يكن قد فرغ من التفكير ولم تتقرر في ذهنه فكرة صالحة للإنجاز أو صالحة لإقناع غيره بإنجازها، فلما نضجت في ذهنه هذه الفكرة وحصل في يديه برنامج العمل لم يكن في طاقته أن يبقى بعد ذلك ولو تهيأت له في بلده أسباب البقاء؛ لأن بقاء المصلح العامل ولديه خطة محضرة للعمل خليق أن يقلقه أشد من قلق الخوف والخطر، وحبس لقواه الجياشة بالحركة أشد من حبس القيد والاعتقال، وقد يكون غريبا من رجل غير الكواكبي أن يمكث في بلده ويؤلف الكتب التي تهدده في مأمنه؛ بل تهدده في حياته، ولا يخطر له أن يعقد العزم على الهجرة إلى بلد آخر يسطر فيه ما يدور في خاطره وهو آمن على نفسه وعلى ثمرات تفكيره.
ذلك غريب من رجل غير الكواكبي قد يقنع بالتفكير ويحسب أنه لباب دعوته التي يتمم بها رسالة حياته، فإذا خطر له أن ينجو بتلك الرسالة من الخطر أو المصادرة نجا بها وهي خاطر في ذهنه قبل أن يجري بها القلم فكرة مسجلة على ورق مقروء.
أما الرجل العامل بفطرته فالتفكير عنده تمهيد لرسالته، ينتهي فينتهي معه القرار وتبدأ الحركة، وإنه ليفكر ويراجع فكره ويستطيع القرار على التفكير والمراجعة إلى أن يتحول الفكر إلى برنامج مفصل وخطة محدودة، ويومئذ لا قرار ولا انتظار.
فلما عقد النية على الهجرة خرج من بلده وفي جعبته ذلك البرنامج المحيط بكل جزء من أجزاء الدعوة وكل مقصد من مقاصد الإصلاح.
نامعلوم صفحہ