عبد الرحمن الكواكبي
عبد الرحمن الكواكبي
اصناف
وكتب «ألفييري» مقالاته عن الاستبداد
Della Tirannide ، فظهر فيها أثر اطلاعه على «روسو» و«منتسكيو» وعلى «مكيافلي» من قبل، ولم يظهر فيها مذهب خاص يجيز للناقد أن يصفه بالفيلسوف كما وصفه القائلون بأن الكواكبي نقله بحروفه واعتمد عليه في تفصيل آرائه.
والتشابه بين رءوس الموضوعات باد من النظرة العابرة إلى صفحات الكتابين، فقد كتب ألفييري في تعريف الاستبداد وتعريف المستبد، ثم كتب عن الخوف والتملق والطموح، ووزراء المستبد، ثم كتب عن الانحلال والدين والمقابلة بين الاستبداد القديم والاستبداد الحديث، وعن الشرف المزيف والمجد الكاذب، وعن نفوذ الزوجات في عهود الاستبداد، وعن وسائل المقاومة للاستبداد، وعن الشعوب التي لا تحس الطغيان، وعن الحكومات التي تركن إليه، ونظر في جميع هذه الموضوعات إلى أطوار الأمم الأوروبية على خلاف منهج الكواكبي في النظر إلى الأمم الشرقية والتعمق في وصف أحوالها، مما يجيز لنا أن نقول: إن مؤلف أم القرى كان خليقا أن يكتب آراءه عن الاستبداد ولو لم يطلع على الرسالة الإيطالية.
ويتساءل الأستاذ أحمد أمين: كيف وصلت الرسالة الإيطالية إلى علمه؟ وهو سؤال لا جواب له غير الحيرة إن لم تكن للكواكبي وسيلة أخرى للعلم بألفييري غير العلم بلغته، إلا أننا نعلم من «طبائع الاستبداد» أن ألفييري كان مشهورا عند الكواكبي في زمانه، ونعلم أن هذه الشهرة لا تستغرب مع كثرة الإيطاليين في حلب ورغبة الكواكبي في الاستفادة من معلومات أصحابه الأوروبيين المثقفين وهو كثير الاتصال بهم، وهو يلقونه على الدوام في أعماله وأعمالهم، وقد كان اسم «إيطاليا الفتاة» على كل لسان بين طلاب الحرية العثمانيين، ومنهم جماعة «تركيا الفتاة» الذين استعاروا اسمهم من اسم الجماعة الإيطالية، وقد كان الإيطاليون يسعون في تلقين دعوتهم ولا ينتظرون من يسألهم عنها، وكانوا ينتشرون في سواحل البحرين الأبيض والأحمر وينشرون فيها أنديتهم السرية التي تنتمي إلى طوائف الفحامين، وتحاول أن تزاحم في ميادين السياسة طوائف الماسون - أو البنائين الأحرار - التي غلب عليها في الشرق نفوذ الإنجليز والفرنسيين. ومن تاريخ الكواكبي بعد الهجرة من حلب نعلم أنه كان يلتقي بوكلاء الحكومة الإيطالية في شواطئ بحر العرب، وينتقل على إحدى السفن الإيطالية بإذن من أولئك الوكلاء، فليس بالعسير بعد ذلك أن يعرف الكواكبي شيئا عن الكاتب الإيطالي «المشهور» كما وصفه في كلامه، وأن يلم برءوس الموضوعات التي طرقها في رسالته عن الاستبداد وهو مشغول بمكافحة الاستبداد منذ صباه، وأن يعارض تلك الرسالة بما يقابلها معارضة الشاعر للشاعر في القصيدة المأثورة لديه، ولا ينقل منه شيئا بهذه المعارضة غير الوزن والقافية، أو غير العنوان والمناسبة.
ونحن نرجح هذا الاحتمال على قول بعض المعاصرين إن الكواكبي اطلع على ترجمة تركية لطبائع الاستبداد من عمل كاتب من أحرار الترك المهاجرين إلى سويسرة يسمى «عبد الله أمين»، فإننا نشك في ذلك؛ لأن مثل هذه الترجمة لا تطبع يومئذ في البلاد العثمانية، وإذا طبعت في مصر فلا بد أن تكون متداولة معهودة بين العثمانيين أصحاب الكواكبي، فلا يهمل ذكرها ولا يختلف الباحثون في أمرها عند السؤال عن مصدرها، ولا يخفى حقيقة هذا الأمر على مختار باشا الغازي وهو وكيل الدولة العثمانية المسئول عن أخبار هذه المنشورات التي تراقبها الدولة.
وأصاب السيد رشيد رضا إذ قال: إن مباحث طبائع الاستبداد لا يكتبها قلم أوروبي ولا يقتبسها شرقي من المراجع الأوروبية، ونزيد على هذا أن «ألفييري» نفسه لا يستطيع أن يصور عناصر الاستبداد كما صورها الكواكبي من وحي تجاربه وتأملاته في البلاد العثمانية وفي بلده وإقليمه بصفة خاصة؛ لأنه يحمل «مصورة» تريه ما يقع عليه حسه ولا تريه ما لم يشهده بعينيه.
فإذا كان جهل الكواكبي بالإيطالية يبعث على استغراب علمه بألفييري، فإن جهله بهذا الكاتب خاصة هو الغريب من رجل يعاشر الإيطاليين ويسمع بثورتهم ويسمع أن ثوار الترك يستعيرون منهم تنظيم حركتهم، ويسألهم ولا شك عن كاتبهم «المشهور» أو يتلقى منهم البيان عنه بغير سؤال.
وما كانت الشبهة أن اتصال الكواكبي بالإيطاليين قليل لا يسمح بهذه المعرفة، وإنما الشبهة أنها كانت تزيد على اللازم لهذه المعرفة، حتى خطر لبعضهم أنها تمتد من الصحبة إلى «التواطؤ» على السياسة الخفية، فلولا المصادفة التي وقعت على الرغم من الكواكبي، ولم تقع باختياره ولا بتدبيره لاستعصى على المدافع عنه أن يدحضها بغير حسن الظن وصدق الفراسة. «حدث في يوم ما أن قنصل دولة إيطاليا في حلب - السنيور أنريكو ويتو - بينما كان راكبا عربته، مارا في محلة الجلوم، التي هي محلة السيد عبد الرحمن الكواكبي؛ إذ وقع على ظهره حجر عائر صدمه صدمة عنيفة تألم منها جدا، بحيث اضطرته أن يعود إلى منزله وأن يرسل إلى الوالي تقريرا يطلب فيه منه البحث عن الضارب وإجراء العقوبة القانونية ... هذه الحادثة فتحت للوالي بابا يلج منه إلى إلصاق هذه الجناية بالسيد الكواكبي، لا سيما وقد كانت الحادثة في محلته وعلى مقربة من داره، وفي الحال أوعز إلى بعض شياطينه بأن يرفع إليه تقريرا فحواه أن الكواكبي منضم إلى عصابة أرمنية - وكانت ثورات الأرمن في تلك الأيام كثيرة - وأنه قبل يومين أغرى بعض الناس فرشق على قنصل إيطاليا حجرا أصاب ظهره، محاولا بذلك إحداث ثورة بين الأرمن والمسلمين بحلب ... وفي الحال أصدر الوالي أمره بإلقاء القبض على الكواكبي وزجه في السجن، وما أسرع ما أخرج من السجن مخفورا وأجلس على كراسي المحكمة لإصدار الحكم عليه.»
1
ويستوي اتهام الكواكبي في هذه القضية وبراءته منها في تكذيب الوشاة الذين رجموا بالظن فجعلوه صنيعة الإيطاليين، فإن الصنيعة لا يسلمه حماته المزعومون إلى الموت وهم ينظرون!
نامعلوم صفحہ