عبد الرحمن الكواكبي
عبد الرحمن الكواكبي
اصناف
ما وجد من مخلوقات الله من نازع الله في عظمته، فالمستبدون من الإنسان ينازعونه فيها، والمتناهون في الرذالة قد يقبحون عبثا لغير حاجة في النفس، حتى وقد يتعمدون الإساءة لأنفسهم.
الإنسان في نشأته كالغصن الرطب، فهو مستقيم لدن بطبعه، ولكنها أهواء التربية تميل به إلى يمين الخير أو شمال الشر، فإذا شب يبس، ويبقى على أمياله ما دام حيا؛ بل تبقى روحه إلى أبد الآبدين في نعيم السرور بإيفائه حق وظيفة الحياة، أو في جحيم الندم على تفريطه. وربما كان لا غرابة في تشبيه الإنسان بعد الموت بالإنسان الفرح الفخور إذا نام ولذت له الأحلام، أو بالمجرم الجاني إذا نام فغشيته قوارص الوجدان بهواجس كلها ملائم وآلام.
ولم تخل مقالة من مقالات طبائع الاستبداد من مثل هذا التنقيح أو مثل هذه الزيادة على قلة في بعض المواضع وكثرة في غيرها، إلا أنه فارق بين النسختين كالفارق بين المسودة المعدة للتذكير والتحضير والنسخة التي فرغ منها عمل التأليف.
على أن العبرة بروح الكتابة وما نسميه «نفس الكاتب» في كلتا النسختين، ولم تكن هذه «الروح» في المقالات ولا في الطبعة الأولى بأخفى منها في الطبعة التي ظهرت بعد وفاة المؤلف؛ بل نرى أن روح الكاتب كانت في «مسوداته ومذكراته» أبرز منها في طبعته الأخيرة، كما يتفق أحيانا في الكتابة التي تمليها السجية عضو الخاطر والكتابة التي يدخلها التنقيح وتعمل فيها المراجعة، أو كما يتفق أحيانا بين الكتابة «المركزة» المتجمعة وبين كتابة التبسيط والإفاضة، وقد أحسن السيد محمد رشيد رضا حين شبه المقالات في الحالتين بالأديم الممدود، فقال في المنار: إن «الكتاب كان مقالات مختصرة نشرت في المؤيد ثم مدها صاحبها من الأديم العكاظي وزاد عليها، فكانت كتابا حافلا ينجلي له علمه الأول بصورة أوضح وأجلى».
نعم، أوضح وأجلى، ولكن الأديم هو الأديم، ولعله قبل مده كان أوثق وأقوى.
وسرعان ما تداول القراء مقالة بعد أخرى من هذه «المذكرات» التي هيأها صاحبها للنشر في الصحافة حتى أحسوا أنها طبقة في النقد الاجتماعي لم يعهدوها لعامة الكتاب في الصحف، وعلموا من مطلعها أنها بقلم رجل من رجال الدين فخطر لهم أنها لا تكون لغير رجل من رجلين: الأستاذ الإمام محمد عبده أو السيد محمد رشيد رضا تلميذه ومريده، ولسنا نحسب أنه خاطر يخطر لمن يعرف أسلوب الرجلين ويحسن التمييز بينه وبين أسلوب تلك المقالات، فإن بضعة أسطر من المقالات كافية للجزم بأنها أسلوب من الكتابة غير أسلوب الإمام وتلميذه الرشيد، ولكن شيوع هذا الخاطر يدل على المنزلة التي قدرها جمهرة القراء لصاحب تلك المقالات، فلن يكون في تقديرهم إلا علما من أعلام الرأي والإصلاح.
ولم تنقطع الظنون عند وقوف المطلعين على سر مقالات المؤيد، فقد كان من اليسير على الكثيرين أن يفهموا أن محمد عبده وتلميذه الكبير لا يتسع لهما صدر «المؤيد» مع ما بينهما وبين القصر الخديوي من الجفوة والقطيعة، ولم يكن من اليسير على قراء ذلك العهد أن يفهموا كيف يتسنى هذا البحث لكاتب شرقي عرفوا أنه لا يعلم من اللغات غير اللغات الشرقية، ولا يحسن القراءة في غير لغته واللغتين التركية والفارسية.
قال السيد رشيد: «كنا على وفاق في أكثر مسائل الإصلاح، حتى إن صاحب الدولة مختار باشا الغازي اتهمنا بتأليف الكتاب عندما اطلع عليه.»
ثم قال: «وقد زعم زاعمون أن معظم ما في الكتاب مقتبس من كتاب لفيلسوف إيطالي، ومن كان له عقل يميز بين أحوال الإفرنج الاجتماعية وأحوالنا، وذوقهم في العلم وذوقنا؛ يعلم أن هذا الوضع وضع حكيم شرقي يقتبس علم الاجتماع والسياسة من حالة بلاده حتى كأنه يصورها تصويرا ...»
وقال الأستاذ إبراهيم سليم النجار: «سبق لي أن قرأت في شبابي كتاب (الكوانترا-سوسيال)؛ أي العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، ثم انقطعت عن الرجوع إليه، فلما قرأت كتاب طبائع الاستبداد أعاد إلى ذاكرتي كتاب الكاتب الإفرنسي العظيم، ولو كان الشيخ العربي يعرف ولو قليلا اللغة الفرنسوية لاعتقدت أنه أخذ عنه أو احتذى حذوه، ولكن الحقيقة أن العقول النيرة والقلوب الكبيرة نيرة وكبيرة مهما اختلفت لغاتها وبلادها وأقاليمها ...»
نامعلوم صفحہ