وقوبلت كلماتي بستار من صمت أول الأمر، ثم بمراوغات أو محاولات تملص، فما كان أحد ليجرؤ حينذاك أن يناقش تلك النظرية موضوعيا وإلا اتهم بأنه ينتقد الزعيم بالذات - وأن الجدران، كل الجدران، كان لها في ذلك الوقت آذان! - فلما رأيت المناقشة تتعثر وأن لا فائدة ترجى من متابعتها، تحججت بأني على ميعاد، وانسحبت.
حكم «الأجهزة السرية»
ولكن التطور الحاسم كان ذلك الذي طرأ على شخصية عبد الناصر نفسه، إيمان مطلق بأن لا خلاص لمصر من الأخطاء المحدثة بها إلا على يديه، بأن لا تقدم للبلاد إلى رخاء أو حتى كفاية إلا أن يخطط لذلك بنفسه، بأن لا مكانة دولية للمنطقة إلا أن تقفو البلاد العربية جميعا نهجه، فينغلق على أجهزة هي أدواته إلى تنفيذ مخططاته، لا يركن إلى غيرها، ولا يطمئن إلا لها.
صفاته الفطرية، بل أكاد أقول الغريزية، والتي مهدت لثورة 1952م، تأيدت. فتصاغ تلك الأجهزة وكلها امتداد عضوي لشخصيته، أعضاؤها هم صفوة «أهل الثقة»، ولكنه لا يأمن لأي منهم تماما، فإن فراسته في تقدير قيم الرجال من حوله، كانت مجبولة على التشكك الدائم؛ خشية تحول مفاجئ، فهم دائما موضع اختبار تلو اختبار، بل وتصنت على بعضهم البعض، ثم إن نجاحه المذهل في تأميم القناة دفع به إلى التوسع في استخدام تلك الأجهزة فتتقصى مواطن الضعف عند الغير، حيثما تكون، ثم حصرها وتبويبها فهي السلاح الماضي يشهر في وجه من تحدثه نفسه بمعارضة أو مناورة.
كلا! بل لا يشهر هذا السلاح بنفسه - وهذا هو السر في تزايد اعتماده على «أهل الثقة» - بل يحرك تلك الأجهزة فتنال ممن يتوسم ضرورة النيل منه، وكأنه لا علم له بما يجري.
وكان الانفصال السوري قد أدى إلى تعاظم عقدة التشكك التي جبل عليها، فالخطر كل الخطر إنما في تلك الفئات من شعب مصر التي ربما ألبت عليه الموقف من داخل، فإذا بأجهزة الدولة المنوط بها أساسا تعقب نشاطات العدو الخارجي (وأعني به إسرائيل في المقام الأول) توجه بجلة جهودها فتتسقط أي كلمة يمكن أن يتفوه بها مواطن، لعلها أن تكون الدليل على أنه يضمر بنظام الحكم شرا.
جميع مراكز القوى التي خلفها لنا كانت تأتمر بأوامره، خاضعة لتوجيهاته، والويل كل الويل لأي من أعضائها لو ألمح إلى الشخصية التي تحرك كل هذا من وراء ستار.
حكم البلاد متوخيا أساليب قريبة كل القرب من تلك التي حققت له نجاحاته السابقة، أساليب الرجل الذي لا يأمن إلا أن يتحرك من خلال أجهزة سرية، بل أجهزة قوامها خلايا سرية، يمسك هو بخيوطها جميعا دون أن تدري عن بعضها البعض إلا أقل القليل.
فلما أن حاولت مراكز القوى تلك أن تعمل لحسابها الخاص بعد وفاته، تهاوت؛ إذ فقدت خيوط التوجيه التي كانت تنسق بينها بإحكام مركزي، كأنها افتقدت السند الذي يكفل لها حماية ومداراة إذا ما جاوزت حدودها.
وإني أسوق هذا الكلام استنادا إلى تجارب شخصية كابدتها بنفسي، ليس هذا مكان الدخول في تفاصيلها، وإنما يكفيني استدلالا أن أشير إلى موضوع اعتقدت أنه مرتبط بصميم عملي كنائب لوزير الخارجية، فقد كان يقال إن صلاح سالم كان المسئول في أيام الثورة الأولى عن إذاعة صوت العرب، ولكن صلاح سالم كان قد ذهب، ومع ذلك فقد كانت تتواتر بين الحين والحين من تلك الإذاعة موجات من سباب مقذع تكال يمينا وشمالا بأسلوب حري أن يخلق لنا مشاكل دبلوماسية نحن في غنى عنها بيننا وبين بعض من دول عربية، وحاولت جهدي أن أتقصى شخصية الذي يقف وراء تلك الإذاعة بتوجيهاته، علني أن أقنع أو أقتنع اتصلت بجميع الجهات، بوزارة الإرشاد بمكاتب رئاسة الجمهورية المختلفة، ولكني لم أحظ منهم جميعا إلا بالتنصل المطلق من مسئولية توجيهها، أو بمراوغات في الإجابات، بل بصمت مطبق في أغلب الأحيان؛ طريق مسدود!
نامعلوم صفحہ