وتساؤلات الدكتور فؤاد محيرة فعلا؛ لأنها لا تتسق مع منطقه السائد في الدراسة كلها.
فإذا كان الواقع اليومي يثبت أن التجربة الناصرية ليست «اشتراكية تقدمية»، بل رأسمالية رجعية ... فأي مبرر في رأيه يدفع اليمين إلى الهجوم الدائب والمستميت ضد هذه التجربة؟ وما معنى قوله إن «الاتجاهات اليمينية انتعشت بعد موت عبد الناصر»، متصورة أنها تستطيع أن «تعيد عقارب الساعة إلى الوراء»؟
كيف يعلن اليمين سخطه على تجربة رأسمالية رجعية، وكيف يحاول اليمين إعادة عقارب الساعة إلى الوراء إذا لم تكن تجربة عبد الناصر بإيجابياتها وسلبياتها تمثل دفعة إلى الأمام في إطار التطور الوطني والاجتماعي المستقل، وإذا لم يكن عبد الناصر وثورة يوليو قد حركا عقارب الساعة إلى الأمام؟!
لكن لندع منطق المخالفة ولنذكر شيئا عن موقف اليسار من ثورة يوليو وعبد الناصر منذ قيام الثورة إلى وفاة عبد الناصر. لقد أيدت الثورة فور قيامها بعض تيارات اليسار عن اقتناع وعارضتها تيارات أخرى عن اقتناع أيضا.
وبعد سلسلة من الصدام بين الثورة وتيارات اليسار، وبعد أخطاء متبادلة من الجميع بدرجات متفاوتة استقر رأي جميع اليساريين على أن ما حدث في 23 يوليو ليس انقلابا عسكريا ولكنه ثورة وطنية بأسلوب غير تقليدي، لا بد أن يعمل اليساريون مع بقية الفئات الوطنية على تأييدها، دون أن يحرمهم هذا من حقهم الطبيعي في انتقادها من موقع المساندة؛ من أجل التقدم بالثورة الوطنية نحو الأفضل.
ثم إن عشرين عاما من ثورة يوليو وقيادة عبد الناصر لم تكن مرحلة واحدة من حيث تطورها وتجاوبها مع مطامح الفئات الشعبية والمطالب الاجتماعية؛ ولذلك فلم يكن موقف اليسار من الثورة واحدا في كل مراحلها.
فبينما اتسمت الفترة منذ قيام الثورة عام 1952م حتى بدايات سنة 1955م بالتخبط من كل الأطراف، كان تأييد اليسار للثورة واضحا بعد الموقف الحاسم من حلف بغداد وصفقة الأسلحة التشيكوسلوفاكية (أو السوفيتية) وتأميم قناة السويس وتمصير المصالح الأجنبية وغيرها. ورغم الحملة المعروفة من جانب الثورة ضد اليسار عام 1959م والتي انتهت باعتقال المئات، لم يتغير موقف غالبية اليساريين في المعتقلات من تقييمهم لطبيعة الثورة الوطنية، ذلك أن اليساريين، كما يعلم الدكتور فؤاد زكريا، لا يغيرون مواقفهم المبدئية بسبب ما ينالهم من اضطهاد أو حظوة شخصية.
وفي داخل المعتقلات ازداد اليساريون تأييدا للثورة عندما أممت بنك مصر والبنك الأهلي وما تلاه من إجراءات التأميم الكبرى عام 1961م، والتي انتهت بالميثاق كوثيقة تؤكد الرغبة في اتباع الاشتراكية «العلمية» كطريق وحيد للتنمية في مصر لصالح الغالبية العظمى من الشعب.
ولعل أكثر الأمور اعتسافا في دراسة الدكتور زكريا هو محاولته استخدام هذه المسألة بالتحديد لكي يثبت أن الإفراج عن اليساريين بعد عامين ونصف عام من قرارات التأميم «التي ربما لم يخطر ببالهم التفكير فيها» لم يكن بسبب اقتراب قرارات التأميم مما ينادي به اليساريون!
ومرة أخرى لم تكن مسألة الاعتقال أو الإفراج هي الفيصل في موقف اليسار الأساسي من أي نظام ... وإلا فهل ينفي عدم اعتقال الحكومة الإنجليزية لأعضاء الحزب الشيوعي البريطاني صفة الرجعية أو الاستعمار عن مثل تلك الحكومة؟!
نامعلوم صفحہ