وقد حدث مثل ذلك للزعيم الذي أخذ على عاتقه هذه المحاكمة؛ أعني نيكيتا خروشوف، الذي أعيد تقييم سياسته هو الآخر وكان من نتيجة إدانته أن قضى الجزء الأخير من حياته مهملا، وعندما مات لم يحضر جنازته إلا عدد من أقربائه يعد على الأصابع، وامتنع المسئولون؛ كبارهم وصغارهم، عن حضورها.
تلك وقائع أردت أن أسردها لا لكي أبدي فيها رأيا بالقبول أو بالرفض، بل لكي أبين أن اليسار قد اتخذ في تلك الحالات موقفا يبدو من الوجهة الأخلاقية مفرطا في قسوته، ويبدو بعيدا كل البعد عن صفات المروءة والشهامة والوفاء لذكرى الراحلين، ولكن وجهة نظره هي أن مبادئ الحياة السياسية تختلف عن مبادئ الحياة الشخصية، وأن الاعتبارات الأخلاقية التي تحكم تصرفاتنا الشخصية لا ينبغي أن تكون أساسا للحكم على تصرفات الحكام السياسيين، بل يتعين علينا أن نتوخى «الموضوعية الثورية» في أحكامنا السياسية، ونترك العواطف جانبا حين يكون الأمر متعلقا بمصائر الشعوب.
إنني - بالطبع - لم أكن أهدف، من اختيار الأمثلة السابقة، إلى أن أصدر حكما مسبقا بتشبيه دور جمال عبد الناصر في الثورة المصرية بدور جوزيف ستالين في الثورة السوفيتية، وإنما أردت أن أقارن بين رد فعل اليسار على عملية إعادة التقييم في كلتا الحالتين: ففي حالة ستالين كانت الكتلة الرئيسية من اليسار العالمي، وضمنها اليسار المصري، مؤيدة لمبدأ توجيه الاتهام إلى ذكرى ستالين، على الرغم من إنجازاته الضخمة التي لا يمكن أن يغفلها التاريخ. أما في حالة جمال عبد الناصر فإن اليسار المصري يتخذ موقف الرفض التام لأي نوع من إعادة التقييم، والهجوم الشديد على كل من يتصدى للعهد الناصري بالنقد، وكأن هذا العهد كان فوق مستوى الخطأ.
ومن العجيب حقا أن كثيرا من اليساريين الذين يعتبرون أنفسهم حماة لذكرى العهد الناصري، يلجئون في هجومهم على نقاد ذلك العهد إلى سلاح الأخلاق، ويتحسرون على الشجاعة المفقودة التي جعلت هؤلاء النقاد لا يفتحون أفواههم إلا بعد رحيل الزعيم ، ويترحمون على معاني الوفاء والإخلاص لذكرى الأموات، أقول إن هذه ظاهرة عجيبة، لا لأني غير معترف بقيم الشجاعة والوفاء، بل لأن اليساريين هم أنفسهم أصحاب مبدأ «الموضوعية الثورية»، وهم الذين يؤكدون أن الأخلاق بناء فوقي وأنها ناتج وحصيلة لظروف موضوعية تنتهي إلى بنية المجتمع الأساسية، وبالتالي فإن تقييم السياسات على أسس أخلاقية هو في الواقع نزعة «مثالية» لا يصح أن يكون لها مكان في أية نظرة علمية إلى الظواهر الاجتماعية.
والأمر المؤكد في نظري هو أنه، عندما يكون الأمر متعلقا بمصير أمة مرت بتجربة معينة في الحكم دامت قرابة عشرين عاما، فلا ينبغي أن نمتنع عن التقييم الموضوعي الصارم مراعاة للعواطف و«الشهامة» والنخوة، ولا يجب السكوت عن الخطأ لمجرد أن مرتكبه قد مات، وخاصة إذا كان هذا الخطأ متعلقا بحياة الشعب بأسره، وإني لأتساءل: كيف نستطيع أن نرسم خطوط مسيرتنا في المستقبل إذا لم نستوعب دروس الماضي كاملة، إذا لم نحكم عليها بموضوعية ونزاهة، دون عاطفية كاذبة أو ولاء ساذج؟
حافز المبدأ وحافز المصلحة
الآن لنحاول أن نحلل موقف اليسار المصري من القضية التي تثار في هذه الأيام على نطاق واسع، في العالم العربي عامة، وفي داخل مصر بوجه خاص، وأعني بها قضية تقييم التجربة الناصرية.
إن اليسار - أو على الأقل الفئة البارزة فيه، التي تعبر عن نفسها في وسائل الإعلام - يتخذ موقف الدفاع المطلق عن التجربة الناصرية. ولهذا الدفاع المطلق في تصوري سببان رئيسيان:
أولهما:
أن الأصوات التي ترتفع من اليمين، في هذه الأيام تهدد بالفعل بالقضاء على كل العناصر ذات المسحة الاشتراكية في التجربة السابقة. فلو بحثت عن الأهداف الحقيقية لأصحاب هذه الأصوات، لوجدت أنها إلغاء القطاع العام كلية وعودة القطاع الخاص إلى الاستحواذ على الاقتصاد القومي، وإلغاء التأميمات وإعادة المصانع والبنوك إلى أصحابها القدماء، وربما إلغاء الإصلاح الزراعي ذاته وعودة الملاك الكبار بصورة أو بأخرى. هذه الأهداف لا يعلن عنها، طبعا، بمثل هذه الصراحة ولكنها واضحة كل الوضوح في الخلفية الفكرية لكثير من نقاد التجربة الناصرية . وهكذا يجد اليسار المصري لزاما عليه أن يتخذ الموقف المضاد، موقف الدفاع المطلق عن هذه التجربة؛ لأنه بذلك إنما يدافع أيضا عن عناصر أساسية من عناصر البناء الاشتراكي الذي يسعى إلى إرساء قواعده ويقطع الطريق على دعوات الردة التي تستهدف إعادتنا إلى نمط اقتصادي تمتزج فيه إقطاعية القرون الوسطى برأسمالية القرن التاسع عشر.
نامعلوم صفحہ