قال: «لا حاجة بي إلى الطعام، ولكنني أشكو التعب؛ فقد كنت في مكان بعيد وتعبت من كثرة الركوب، ولما اقتربت من قصركم ورأيت الأنوار فيه قلق خاطري، وأتيت أقضي ساعة مع المعلم فنحاس، فصرفت الدابة والمكاري، ولا أدري إذا أردت الذهاب هل أجد دابة بقرب هذا المكان؟»
فقال حيان: «إذا كان لا بد من ذهابك فإن في الإصطبل دواب كثيرة، ولكني لا أرى حاجة إلى السرعة؛ فاسترح عندنا الليلة، وإذا شئت النوم أخذتك إلى حجرة فيها فراش.»
فقال: «ولكني لا أستطيع النوم في النور على هذه الصورة.»
قال حيان: «قد أخذنا في إطفاء الأنوار ولا تلبث أن ترى القصر مظلما.»
فقال: «إذا كان الأمر كذلك، فإنني أفضل النوم هنا على أن أذهب وأعود في الغد؛ لأني جئت إلى المعلم فنحاس بأمر فيه كسب كثير بعون الله.»
فازداد البواب رغبة في إبقائه لعلمه أن سيده يتوقع منه ذلك لكثرة جشعه للمال، بالرغم مما عنده من الثروة الطائلة. وكان فنحاس إنما يهمه كسب المال ولا يبالي بالطريقة المؤدية إلى كسبه، فكثيرا ما كان يغضي في سبيل ذلك عن أمور لا يغضي عنها الحر. وعذره أن الناس على ضلال في أمر دنياهم، فهم يتمسكون بأمور اعتبارية لا طائل تحتها يسمونها الشرف أو عزة النفس، ويبذلون في سبيلها حياتهم، أو يضيعون فيها أموالهم، ويفوتهم كثير من المكاسب الطائلة. وما كان الشرف يشبعهم إذا جاعوا، أو يدفئهم إذا تعرضوا للبرد، أو يرويهم إذا عطشوا. أما المال فهو عنده السلطان أو هو الصولجان، فمن استولى عليه كان سلطانا تطأطئ له الرءوس ويخدمه الزملاء. تلك هي مبادئ المعلم فنحاس. وكان أبو العتاهية يعرف ذلك فيه، وكثيرا ما كان يستعين به في أعمال يكسب بها الاثنان على نحو ما جاء به تلك الليلة.
فلما توسم البواب من أبي العتاهية ما يسر مولاه ألح عليه في النوم هناك، ودعاه أن يتبعه، فسار وأبو العتاهية ينصت ويتلفت لعله يعرف الغرفة التي تتوق نفسه إلى معرفة سر أهلها، ثم وقف حيان أمام باب فتحه ودعاه إلى الدخول والمشمعة بيده، فدخل وإذا هناك فراش على طنفسة لا بأس بها، فقال أبو العتاهية: «هذا فراش نظيف. جزاك الله خيرا.» وأظهر أنه يريد النوم، فتركه حيان ومضى. وكان أبو العتاهية قد عرف الجهة التي فيها أولئك الناس، فلما ذهب حيان وأطفئت الأنوار ونام أهل البيت، نزع عمامته وعباءته وتخفف بطاقية كانت على الفرش، وخرج يتلمس الحائط وركبتاه ترتجفان. وقد نام أهل القصر وساد السكون على المكان، وأصبحت معرفة تلك الغرفة أقرب من حبل الوريد، فإذا لم يدل عليها الصوت دل عليها النور المنبعث من شقوق بابها.
الفصل السادس
التلصص
فما لبث أن وصل الغرفة وهو يسمع أناسا يتكلمون همسا كأنهم يحاذرون أن يسمعهم أحد، فوقف بالباب ونظر من ثقب فيه إلى الداخل، فرأى امرأة عليها ثياب الملوك وهيبة الملائكة، جالسة على سرير في صدر المكان، وفي حجرها ذانك الطفلان وقد ضمتهما إلى صدرها، وأخذت تقبلهما وعيناها تتلألآن بالدمع، وفي ملامح وجهها مزيج من علامات السرور والحزن. فلا تدري أهي تبكي فرحا أم حزنا. وتفرس أبو العتاهية في تلك المرأة، فإذا هي بين الخامسة والعشرين والثلاثين من عمرها، وفي وجهها جمال وهيبة لم يشاهد مثلهما، بالرغم من كثرة ما رآه من الجواري الحسان في دور الخلفاء أو ولاة العهد، أو في دار جعفر البرمكي أو غيره من البرامكة، ورأى فارقا كبيرا بين ما يعرف من جمال أولئك وما في جمال هذه من الهيبة والوقار.
نامعلوم صفحہ