الوداع
أما جعفر فقد كان في غفلة عن كل ذلك وهو يتهيأ للرحيل في الغد، وقد صمم على السفر عاجلا بعد ما جرى من الحديث بينه وبين إسماعيل؛ مما زاد من مخاوفه. ولم يكن له بد من وداع الخليفة قبل خروجه إلى خراسان على جاري العادة في خروج العمال إلى أعمالهم. وكان قد أعد كل شيء ولم يبق غير الركوب والخروج، فلما عزم على وداع الرشيد نادى خادمه حمدان فجاء، فقال له: «إنك تعلم أننا مسافرون اليوم.»
فقال حمدان: «نعم يا مولاي. فهل أذهب إلى مولاتي العباسة فآتي بها إلى هنا، أو نوافيك إلى النهروان؟»
فاستحسن جعفر سرعة خاطره وتيقظه في خدمته، فابتسم وقال: «بل أرى أن توافياني إلى النهروان، وليس هناك ما يدعو إلى العجلة في الذهاب إليها. والأفضل أن تؤجل ذلك إلى حين عودتي من وداع الخليفة.»
فقال حمدان: «أمرك يا سيدي.»
فلما كان الضحى خرج جعفر في موكبه الحافل، وحوله الفرسان والركابية حتى أقبل على قصر الخلد، فوسعوا له، فدخل الأبواب بالأبهة والعظمة على جاري العادة وهو يقول في نفسه: «هذه آخر مرة أدخل فيها هذه الأبواب للقاء رجل أداجيه ويداجيني، فمتى صرت إلى عملي في خراسان كنت بين أهلي وأعواني، ولا نظننا نلتقي بعد الآن إلا إذا جاءني لحرب.» وما لبث أن وصل إلى دار الخاصة فترجل.
وكان الرشيد قد جلس للناس فدخلوا على اختلاف مناصبهم وانصرفوا، حتى دخل جعفر وسلم، فرد عليه الرشيد التحية بأحسن منها، ورحب به، وضحك في وجهه، وأجلسه في مرتبته - وكانت أقرب المراتب إليه - وأخذ يحدثه ويلاطفه ساعة وهو يظهر البشاشة والاستئناس. وأتوه وهو هناك بكتب وردت من النواحي فقرأها على الرشيد وأمضاها، ثم نظر إليه وهو يظهر الامتنان من احتفائه به وقال: «لقد غمرني أمير المؤمنين بنعمه، وأعلى مقامي حتى أسند إلي أعظم عمل من أعمال دولته، فوجب علي شكره.»
فضحك الرشيد ومازحه وقال: «إنك أخي، ولو قسمت هذه المملكة بيني وبينك لأنصفتك.»
فتظاهر جعفر بالخجل من هذا الإطراء، وتأدب وتلملم في مقعده وقال: «إني من موالي أمير المؤمنين، وكل ما يأتيني منه إنعام وتفضل على مولاه.» ثم قال: «وإن أقصاني أمير المؤمنين عن مجلسه، فإني عبده أبذل دمي في طاعته.»
فقال الرشيد: «بورك فيك. ولا شك أني سأشعر بافتقاري إلى رأيك بعد أن توليت أمور الدولة وتركتني لا أهتم بشيء من أمر نفسي.»
نامعلوم صفحہ