الفصل الستون
عذر الرشيد
فلما أحس الرشيد بأن العباسة كادت تفحمه زاد غضبه، ليس لأنه أدرك وجه الحق عندها، ولا هو يتعمد أذاها ظلما وبهتانا، ولكن العادة غلبت على طباعه؛ تعود ألا يسمع غير التأمين على ما يقوله، والتنفيذ لما يريده، حقا كان أو باطلا، شأن أصحاب السلطة المطلقة، ولا سيما في تلك العصور وقد كثر المتملقون الذين يتزلفون إلى ولي الأمر بالإطراء والإغراء، لا يبالون بما قد يكون من عواقب تغريرهم، فيستبد الحاكم المطلق بأموره فكرا وقولا وفعلا حتى ينسى ميزان الحق، ويسوغ لنفسه ما لا يسوغه لسواه كأنه من طينة غير طينة البشر، ويتوهم أنه صاحب الحق دائما، وأن إرادته إذا أضيفت إلى حقه - وإن كان قليلا - تضاعف ورجحت كفته.
فلا يلام الرشيد لإصراره على خطأ العباسة وتجاهله عن سماع حجتها، وعذره في ذلك أنه شب على نفوذ الكلمة حتى صار الاستبداد طبيعة فيه تتغلب على عقله وسداد رأيه، ولا سيما في حال الغضب. فلما سمع حجة العباسة عمد إلى الاستعانة بسلطته الشخصية فقال: «ولكنني نهيتكما فعصيتماني، ومن عصى أمير المؤمنين حق قتله.»
فقالت العباسة: «إذا لم يكن بد من أن تعد عملنا عصيانا، فأنا العاصية وليس جعفر ولا.»
فقطع الرشيد قولها وانتهرها، وقال وكأنه يتحفز للوثوب: «أراك تحبينه وتتحملين التبعة عنه؟»
فتنهدت العباسة وقد هاجت أشجانها وقالت: «نعم أحبه، ولولا ذلك ما خالفت أمرك فيه. نعم، إني أحبه، وأراه أهلا لمحبتي ومحبة من هو أعظم مني؛ لأنه من خاصة الناس، وقد أتى أعمالا ترفع قدره فوق أقرانه، وليس أرفع قدرا منه غير أمير المؤمنين وحده.» قالت العباسة ذلك وقد عادت إليها الأنفة وأبرقت عيناها، واحمرت وجنتاها كأن الخجل غلب عليها. ومثل هذا التصريح عظيم من نساء ذلك العصر، ولا سيما في حضرة الخليفة.
أما الرشيد فلما سمع تصريحها ازداد استغرابا ودهشة وقال: «ويحك! أتعترفين بحبه في حضرتي، ثم أنت تفضلينه على سائر الناس حتى بني هاشم جميعا وهو عبد؟! وإذا رفعت قدره فهو مولى أعجمي. لا تجادليني في المحال؛ فإنه مقتول.»
فلما سمعت العباسة تصريحه بقتل جعفر ارتعدت فرائصها، وعاد إليها ضعفها، وهان عليها التذلل في سبيل إنقاذ حبيبها، فضلا عن ولديها، فتجلدت وأمسكت عواطفها، وعمدت إلى الملاينة فقالت: «هارون، أخي هارون، بل أمير المؤمنين، إذا كنت تنكر العباسة الآن، فتذكر أنها كانت أختك، وكنتما تلعبان معا في الصغر وتتحابان؛ فاصغ لقولها على الأقل عن ذلك الوزير؛ فإنه وزيرك، ولم يقصر في خدمتك. أتقتله لغير ذنب ارتكبه؟! إنه لم يرتكب ذنبا. وإذا لم يكن مفر من قتل أحدنا، فاقتلني أنا؛ لأني أنا المخطئة دونه.»
فقال الرشيد وهو يضحك غضبا واستخفافا: «وأنت أيضا مقتولة، وسأقتل ولديكما لأمحو أثر هذا العار من الوجود.»
نامعلوم صفحہ