ونام الجيش تلك الليلة نوما عميقا هادئا، ثم استيقظ على نفخ الأبواق عند صراخ الديكة.
واستأنف مسيره شرق أرسينة في جلبة وعظمة، وما زالوا في حل وترحال حتى لاح لهم عن بعد السور الكبير الذي يبتدئ جنوبا من خليج هيروبوليس وينعطف شرقا راسما قوسا عظيما، فانعطف الجيش ناحية الشمال، ومال قليلا نحو الشرق، ثم ألقى أثقاله وعسكر في موضع لا تصل إليه سهام المحاصرين.
واستطاعوا - من معسكرهم - أن يشاهدوا متانة بنيان السور، وأن يروا الحراس الذين يعتلونه والقسي في أيديهم، استعدادا للذود عن حياضهم ضد الجيش المغير.
واتفق رأي ددف والضباط على أن الانتظار لا يجدي في حالتهم، كما قد يجدي في حصار مدينة بتجويع سكانها، واجتمعت كلمتهم على وجوب البدء بمناوشات خفيفة ليختبروا بها قوة عدوهم.
وكان من الخطر أن تهجم العربات في أول المعركة خشية أن يخسروا جيادهم المطهمة ، فتقدم بضع مئات من الجنود المدرعين حاملي القسي في شبه نصف دائرة، يفرق بين الواحد ورفيقه عشرات الأذرع من الخلاء، حتى إذا بلغوا موضعا ظن العدو أنه صائبهم فيه أطلق عليهم سهامه فقابلوه بمثلها، وابتدأت أول معركة بين الفريقين، وكانت السهام تنطلق جماعات كثيفة كسحب الجراد، ولكن كان أكثرها يضيع هباء لبعد المسافة.
وكان ددف يرقب المعركة باهتمام شديد، ويشاهد بإكبار مهارة الجنود المصرية في الرماية التي أكسبتهم شهرة تقليدية لا مثيل لها، ورأى فيما رأى باب السور الكبير، فقال لسنفر: يا له من باب عظيم كأنه باب معبد بتاح!
فقال له الضابط المتحمس: عسى أن يتسع لعرباتنا التي ستخترقه بعد حين!
ولم تذهب المناوشة سدى؛ فقد لاحظ ددف أن رجال القبائل لم يبنوا على السور أبراجا تقي رماتهم سهام المهاجمين، فلا يستطيعون أن يرموا عن قسيهم إلا إذا تعرضوا لخطر القتال، فوضحت له فائدة الهجوم بالدروع الكبيرة المعروفة بالقباب ... وكان الدرع من هذه الدروع أشبه ما يكون بالمحراب المجوف في حيطان المعابد، وهو لكبر حجمه يمكن أن يخفي الجندي من الرأس إلى القدم، ولسمك جسمه يستطيع أن يرد السهام، فلا تنفذ منه إلا إذا أصابت منافذ صغيرة في أعلاه يصوب منها حامله.
وقد أصدر ددف أمره بأن يتقدم بضع مئات بهذه الدروع لقتال حرس السور، فاصطفوا جميعا خلف دروعهم في شبه نصف دائرة واسعة، ثم تقدموا نحو السور لا يبالون وابل السهام المتساقط عليهم، ثم وضعوا القباب على الأرض وراشوا سهامهم، وبدأت بينهم وبين عدوهم معركة عنيفة دموية، تطايرت فيها رسل الموت من الجانبين، وكان رجال القبائل يتساقطون بكثرة، ولكنهم أبدوا جلدا غريبا وشجاعة نادرة المثال، فكانوا كلما سقطت منهم طائفة حلت محلها أخرى، وكانوا رغم امتناع المصريين بدروعهم الغريبة يصيبونهم خلل المنافذ الصغيرة، فسقط من المصريين قتلى وجرحى كثيرون.
وما زالوا في قتال عنيف حتى تخضب الأفق الغربي بدم الشفق، وصدرت الأوامر إلى المصريين بالتقهقر فرجعوا القهقرى، وقد نال منهم التعب كل منال.
نامعلوم صفحہ