يرجع تاريخ هذه القصة - إذا جاز أن نسميها قصة - إلى ذلك العهد الذي كان فيه القلب شابا، والعقل غلاما، وكنت يومئذ ساكنا، وادعا كالسمكة في الثلاجة. كذلك كانت تقول عني زكية، بنت ابن خال ابن عم أبي ... قريبتي والسلام، وإن كانت حواء - فيما يبدو لي الآن - أقرب إلي، وأشبه بي، وأرحم أيضا، وكانت يتيمة؛ فهي تقيم مع خال لها، ولكن اليتم لم يفل لها عزما، ولم يصدها عن الجرأة، ولم يضعف ثقتها بنفسها ... ثقتها بنفسها؟ إنه ليخيل إلي أن موسوليني وهتلر لا بد أن يكونا قد تلقيا عليها دروسا في الثقة بالنفس، والاعتداد بالذات - بالمراسلة - ولم يكن أبغض إلي من خالها هذا، وأحسب - بل أنا واثق - أن الكراهية كانت متبادلة، وكان السبب من ناحيته أنه يعتقد أني مجرم بالفطرة، أو بعبارة أدق «خفيف اليد».
أما الداعي إلى كرهي له فذاك أنه كان قاضيا، فاتفق يوما أن أقامت الجمعية الخيرية الإسلامية حفلتها السنوية في حديقة الأزبكية، وكانت تزين سور الحديقة بمصابيح توقد فيها الشموع، وكنا لفيفا من الطلبة، فلما قضينا كل حاجة داخل الحديقة، دار في نفوسنا جميعا خاطر واحد، هو أن نخرج، وندور بالسور، فنطفئ الشموع، وندس منها في جيوبنا ما تتسع له ... شقاوة تلاميذ، لا أكثر ولا أقل، ولكن سوء الحظ أبى إلا أن يرانا الشرطي ... ولا أطيل. كان من سوء الحظ بعد ذلك أن يكون القاضي خال زكية! فهل تدري بماذا حكم علي هذا الرجل ذو الوجه السلحفائي، لولا شارباه المفتولان؟ غرمني مائة قرش! تصور مائة قرش يغرمها تلميذ في سنة 1905؟ لقد كانت ثروة! وكان يكفي في زجرنا عن مثل هذه الشقاوة أن يمط بوزه، ويزوي ما بين عينيه، ويقول: «عيب يا ولد أنت وهو ... امشوا اخرجوا، ولا تعودوا إلى هذا مرة أخرى!» بل كان ينبغي أن يؤنب الشرطي الذي جرنا إلى «القسم» وأن يفهمه أن هذا لعب أطفال، ولكنه كان فظا غليظ الكبد، ولعله كان يتوهم أن هذه الغرامة ستكون من نصيبه! وقد بقيت «محجوزا» حتى جمع المال! فهل من يلومني إذا قلت: إن كرهي له كان ينمو في قلبي كالسرحة أو كشعر رأسي، في ذلك الزمن؟
ولا أحتاج أن أقول إني كنت أتقيه، وأني كنت، إذا اضطررت أن أذهب إلى بيته، أحس كأني مسوق إلى المشنقة، ولكن زكية لم يكن يزجرها عن زيارتنا ما كان يزجرني عن بيت خالها، وكنت أحس - وهي عندنا - أن في البيت إعصارا، وكانت لا تتركني حتى تورطني في أفاعيل يسأل من مثلها السلامة، وقد أغرتني مرة بأن أقص لقريب لنا، ضيف علينا، أحد شاربيه، وهو نائم ... ومن السهل عليك أن تتصور ما حدث بعد ذلك ... أي بعد أن خرج الرجل لشأن له ولاحظ أن كل عابر سبيل يضحك منه، وأن الجالسين أمام الأبواب أو الدكاكين وفي المقاهي يتغامزون عليه ويشيرون إلى وجهه ...!
ولا أدري كيف كان يحدث هذا كله، ولكن الذي أدريه أني كنت حين أراها أتجهم لها، وأصمم على رفض كل ما تتوجه إلي به من رجاء، وأقول لنفسي: «كن حجرا صلدا. لا تعرها أذنا، ولا تعبأ بها، ولا حتى بدموعها»، ثم تتقشع السحب، وتصفو السماء، وإذا بها قد حملتني على مكروهي! فالحق أن شمشون كان معذورا فيما وقع فيه بفضل دليلة!
وقالت زكية يوما: «اسمع. أريد منك أن تذهب إلى دكان ... فإن فيه «فنيارا» ظريفا تحدثني نفسي أن أشتريه، ولكني أريد رأيك فيه قبل أن أفعل، فإنه غال. تأمله ... جسه ... افحصه جيدا ... ثم عد إلي برأيك ...»
ولم أر في هذا بأسا فذهبت إلى الدكان. ولكن من تظن أني رأيت فيه؟ خالها من فضلك! وقد تحب أن أزيدك بيانا، فاعلم إذن أنه كان يفحص «الفنيار» الذي وصفته! وقد أصرت على أن هذه مصادفة ليس إلا، ولكني لا أصدق، وكنت قد دخلت الدكان كالقنبلة، فلما وقعت عيني على الخال الفاضل وقفت كأنما صدني حائط، ودار رأسي، وتخلخلت ركبتاي، وخفت أن أهوي إلى الأرض، فمددت يدي لأتكئ على شيء، ووجدت شيئا - لا أدري ماذا، فقد كانت عيني على الخال وعقلي معه - فاستندت، وجاهدت أن أتشدد، وفكرت في التقهقر والهرب، وإذا بالخال يدور فيراني، فيقطب، ثم يقول: «ماذا تصنع هنا؟»
فأقول متلعثما: «إ... لا شيء.»
فيقول: «هل كففت عن السرقة؟»
فأتشجع وأقول: «لم تكن هذه سرقة، ثم إن ...»
فيقاطعني ويقول: «لقد كان حقك السجن ... ولكني رحمتك.»
نامعلوم صفحہ