إهداء الكتاب
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثانى
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
إهداء الكتاب
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثانى
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
البستاني
البستاني
تأليف
وديع البستاني
إهداء الكتاب
إلى نجيب أفندي متري صاحب مطبعة المعارف ومكتبتها
إشهادا للملأ على فضله في إتقان الطباعة العربية ونشر الكتب القيمة. والعهد قريب بالعيد الفضي الذي أقامه طائفة من المؤلفين والكتاب احتفالا بمرور 25 عاما على مطبعته الفريدة - وما هذه الهدية إلا نفحة من نفحات تلك الذكرى.
وديع البستاني
مقدمة
8000 جنيه:
وذات يوم من عام 1913 اهتزت الأسلاك البرقية بنبأ تلقاه الشرق معجبا، والغرب متعجبا: شاعر هندي فاز بجائزة «نوبل» وهذا قدرها؛ ثم بوسام من جلالة ملك أسوج، ولقب «سر» من جلالة ملك بريطانيا العظمى وإمبراطور الهند. وذلك الشاعر هو «رابندراناث طاغور».
قرابين الأغاني:
وكان الكتاب الذي نال به الجائزة مجموعة صغيرة من قصائده الخيالية الروحية سماها «غيتا نجلي» أي «قرابين الأغاني»، ولا تسل عن حظه من الإقبال ونصيبه من الرواج، فإنه لم تكد تظهر طبعته الإنكليزية في إنكلترا وأميركا حتى صدرت ترجماته في فرنسا، وروسيا، وألمانيا، والنمسا، وإيطاليا، وهولاندا، وسائر الأقطار الأوروبية.
البستاني:
وكانت «شركة مكميلان الإنكليزية» الشهيرة هي السابقة إلى طبع الكتاب الفائز، وما لبثت أن أتحفت عالم الأدب بطائفة أخرى من شعر «طاغور» الغزلي أو الحبي الخيالي في كتاب أسماه «البستاني»، ما ظهر حتى نقل إلى معظم اللغات الأوروبية، وكان له من الشأن ما تتبين عظمه من النظر إلى أقوال الجرائد فيه وإليك بعضها:
هذا الشاعر يتناول الصغائر المألوفة من أمور الناس ويصنعها دررا تتألق فيها روعات السماء وجلال الحب والحياة، فهو من ذوي الرؤية وهو في الحب بصير. وما أدراك ما البصر في الحب؟ إنه القسطاس الأعلى الذي توزن فيه فطرة المرء وطبيعته.
الأوبزرفر
هذه الأشعار أزهار أبهى من طلعة الشمس، وما ندري كم عبثت الترجمة برونقها الأصلي؟ ولكنها على ما تجلت لنا في الغاية القصوى من الجمال الرائع، وأعجب بها مشاهد وفصولا - ساذجة سامية عطيرة - من رواية الحياة اليومية، ألبسها الشاعر من البيان حلة سحرية.
الدايلي ميل
إن أشعار «البستاني» تفوق حتى الأحسن والأفضل مما في «قرابين الأغاني» رقة وإبداعا.
الدايلي نيوز
الهلال:
وإذا جاز لنا حسبان «قرابين الأغاني» تسابيح روحية يرتلها الشيوخ، فترفع بهم الأرض إلى السماء، وقصائد «البستاني» أناشيد غرامية يتغنى بها الفتيان، فيستنزلوا السماء إلى الأرض، فمن للأمهات وعواطفهن، وللأطفال وخواطرهم، إلا عبقرية هذا النابغة؟ فالهلال اسم ثالث القمرين، وما هو إلا أربعون قطعة من الشعر تمثل لنا الطفولة والأمومة أيما تمثيل. وقد قالت جريدة «بال مال غازيت» الإنكليزية في تقريظه: «لقد جاءنا «طاغور» في هذا الكتاب بصور من الحقائق الوجدانية نخالها أبعد غاية، وأسمى شأوا، وأجل قدرا مما أتانا به في «قرابين الأغاني».»
شيء عنه:
وقد زرت «رابندراناث طاغور» بعد ما وقفت على كتبه ونقلت جملة طيبة من أشعاره مما في «قرابين الأغاني» و«البستاني» و«الهلال» نظما ونثرا. وعلى أثر عودتي من الأقطار الهندية كتبت عنه في مجلة الهلال الغراء غير مرة؛ وهذه فقرات من إحدى تلك المقالات:
يقول المثل: ليس الخبر كالعيان، ومن الناس من يسرك خبره، ويسوءك مخبره. أما الشاعر الروحاني النابغة «رابندراناث طاغور» فمخبره أعظم من خبره، وقد زرته وآكلته وشاربته وحادثته، فازددت بآثاره إعجابا، ولذاته إكراما، ولعبقريته إجلالا. وأيقنت أن له نفسا سامية، تنبعث من عينيه أشعة سنية، وتسيل مع صوته العذب الرخيم نغمات شجية، وتتلألأ خلال عباراته فرائد معان درية.
أما منزله الأصلي ومسقط رأسه، فهو مدينة كلكتة الشهيرة حيث يقيم بنوه وذووه، ولكنه منذ بضع سنين يقضي معظم عامه في ناحية من «بلبور»،
1
كان والده من قبله قد انتحاها صومعة ومنسكا، وثابر على انتيابها مدة ثلاثين سنة؛ طلبا للسكينة والطمأنينة؛ومواصلة للتأمل والتروي في الذات الإلهية.
وما دأبه في هذا المتقطع إلا تعهد المدرسة التي أنشأها فيه تخليدا لذكرى أبيه القديس الفيلسوف. وقد أسماه «شانتي نكتان»
2
أي «دار السلام» تيمنا بعبارتين كان والده يرددهما في تأملاته، هما الآن منقوشتان على نصبين من الرخام تجت الشجرتين الأختين اللتين كان يفيء إلى ظلهما في الهجيرة: (1) «الله هو السلام التام، هو الصلاح التام، هو الفريد الوحيد»، (2) «الله سلوة نفسي، وفرح قلبي، وسلام روحي».
وإذا علمت أن قومه وأصحابه يتبركون بلثم نعليه تحية وسلاما، وأنه في عيونهم ذو صفة علوية وعجبت لذلك، فلا بدع أن يقضي عجبك كله كونه أودع من أودعهم، وأرق وألطف من زهرات الياسمين التي يقدمونها له قرابين إخلاص ومحبة؛ فإنه أنيس لطيف، بين الدعة والتواضع، جامع بين السذاجة والسمو في زيه وعادته وحديثه وأسلوبه، وفي كل ما يأتيه من حركة أو سكنة؛ ميال إلى الطبعي الفطري، وكل مستحسن أو مفيد من الصناعي والمكتسب؛ صريح في قوله وعمله، يتوخى مجاراة الطبيعة والحقيقة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وهو من الدين على طريقة «البراهمو سماج» التي دعا إليها والده ولا وثنية فيها.
التعريب:
ولما كنت قد جعلت لكل قطعة مقدمة موجزة، وأشفعت النظم أو أردفته بترجمة نثرية، فلا حاجة بي إلى الإسهاب في هذا المقام عن الشاعر، أو عن المسلك الذي سلكته في تعريب هذه المختارات من «البستاني». وحسبي أن أقول: إنني أطلعت صاحبنا على بعض هذه القصائد وترجمت له الأبيات العربية حرفيا إلى الإنكليزية؛ لأريه مواضع التصرف الذي تجوزته، فأنست منه من الرضى عن طريقتي في النقل والموافقة عليها ما لم أكن لأحلم بمثله.
وديع البستاني
هوامش
الفصل الأول
لو شاء شاعرنا؛ وهو ابن البحبوحة واليسار، ووارث المجد التليد، وصاحب العقل الراجح، والذكاء النادر، وطلب المناصب والوظائف، لطال أعلاها ونال أسماها. ولكنه جاء خير خليفة لأبيه «دافند راناث» الذي قضى الشطر الثاني من عمره معتزلا دنياه، خاليا إلى نفسه، قانعا مما أوتيه من بسطة الجاه وسعة العيش، بشجرتين أختين، في برية موحشة، كان يفيء إلى ظلهما، ولا دأب له إلا التأمل والتفكير بحثا عن «الحقيقة».
بيد أنه على خلوه من المطامع الدنيوية، والمآرب النفسانية، لم ينهج منهج النساك المتقشفين الذين ينقطعون عن العالم ويضربون بينهم وبين الناس حجابا صفيقا، بل ذهب إلى أن لقاء «الحق» في كل مكان «أقرب إلى التقوى» وأن الحسنة يأتيها، والمعروف يأمر به، أدل على الورع من معاناة الوحدة وشظف العيش.
ثم إنه شغفته الطبيعة حبا، فهو يرى إلى الله إذ ينظر إلى محاسنها وبدائعها. وقد علمت من ذويه أنه قد يدخل الحديقة فيذهل عن نفسه، ويلبث الساعات الطوال يناجيها ويغازلها. وقد رأيته شيد معهده العلمي بين أشجار غرسها، وزهور زرعها.
وحبذا ذكر ما تقدم من أمره عند قراءة هذه النبذة الأولى التي جعلها عنوان الكتاب وديباجته:
الخادم :
رحمة بعبدك!
1
الملكة :
لقد ارفض المجلس، وانفرط عقد الأعضاء. فعلام لم تحث خطاك إلى مناك، يا هذا؟
الخادم :
إنما توانيت حزما لا عجزا، وتدبيرا تأخرت لا تقصيرا. فإذا عل الشاربون ونهلوا، وسكروا وثملوا وعافت النفس سؤرا في الكأس، فذلك السؤر هو رحيقي وسلسبيلي، وبتلك الثمالة شفاء علتي وارتواء غليلي.
أجل مولاتي، هذه ساعتي وهأنذا.
الملكة :
وماذا عسى أن يكون مطمح أبصارك من هذا القصر؟
الخادم :
إنني لأقنع بالبقية الباقية، وكعبة أمالي، وجنة أماني أن ترفعيني بأن تخفضيني، فتوليني الحديقة لا غيرها.
الملكة :
يا لحمقك يا هذا؟
الخادم :
رويدك يا ربة التاج: إنني خالع بين يديك مقاليد المناصب الخطيرة التي طوقت بها عنقي، وأثقلت كاهلي؛ فأما سيوفي فأسد بها خلل الجدران المتداعية، وأما رماحي فأغرسها في السماد. ولا يكن من عطفك علي بعد اليوم أن تنتدبيني لإقامة موازين العدل في المحاكم القاصية، ولا أن تكلفيني شن الإغارة، وفتح البلاد، وتدويخ القبائل العاصية، بل هبي لي أن أكون بستاني
2
الحديقة؛ وحسبي.
الملكة :
وكيف تخدمنا كبستاني؟
الخادم :
إذا خلت يداك من الصولجان، كنت بينهما أطوع من بنان، فإذا لاح الفجر، أو بدت طلائعه، وباكرت أختك مليكة النهار، إلى حديقة الأزهار، كان مسحب أذيالك الأرجوانية بين أعشاب ندية، تتصوب وتتصعد تأهيلا بك وترحيبا، وتتثنى وتتمايل حوليك جيئة وذهوبا، وتنشر أريجها ثناء عليك، وتترامى على مواطئ قدميك، متفانية تفتديك، تواقة إلى الموت بين عينيك.
وإذا مل جنباك الأريكة الوثيرة، ونبت لحاظك عن زبرجدها المواج، وعسجدها الوهاج، فجئت واستلقيت في الحديقة إذن، فواجباتي كبستاني ذي حظوة في عين ربة القصر، أن أناسق بين أنين الأرجوحة
3
وحفيف الأوراق، وبين ميداتها وميسات الأغصان، رحمة بالبدر الهائم في عرض السماء يناضل الظلمة والغيوم ليبعث إليك من خلال الأفنان بقبلات التجلة والوقار، وما تلك إلا ما يرتسم من بياض سناه على أهداب بردك الأنيق.
ويكون من وظيفتي أيضا أن أفعم بالزيت المطيب المعطر ذلك السراج
4
المحسود الذي يحرس سريرك ويسهر عليك؛ وأن أزخرف مسند رجليك بالصندل والزعفران متفننا مبدعا ما شاء التفنن والإبداع.
الملكة :
وجزاؤك على ذلك؟
الخادم :
وجزائي أن تسمحي ليدي هاتين بضم أناملك النواضر كالنيلوفر
5
لأطوق معصميك بسلاسل الزهر؛ وأن أخضب قدميك بدم العشقة.
6
الملكة :
حاجة مقضية.
تنبيه
عساني وفقت في التعريب إلى تخير المأنوس المألوف من الألفاظ دون غريبها ووحشيها. ولذلك فقد اكتفيت في الشرح بالإشارة إلى المراد من اللفظة في مكان أخاله مظنة للالتباس، أو بالإلماع إلى العادة أو الحالة من عادات الهند وأحوالها، وما إلى ذلك، مما لم يمر به المطالع العربي، وأخاله داخلا في باب «العلم بالشيء ولا الجهل به».
هوامش
الفصل الثانى
لئن عرفت أوروبا طاغور شاعرا خياليا رائع المعاني، ناصع الألفاظ، طاهر النفس، عفيف الفؤاد، فحكم له أدباؤها بالتفوق والسبق وأنالوه جعلا من الأصفر الرنان، وأجله ملوكها، فزانوا صدره بوسام، وشرفوا اسمه بلقب سام، فإن الهند عرفته من قبل تقيا ورعا قديسا، ومعلما وواعظا إلهيا، ومغنيا وخطيبا روحيا، إذا تكلم أذاب قلوبهم بعذوبة صوته، وإذا خطب حرك نفوسهم بسحر بيانه، حتى إذا رتل قصيدته أشجاهم فأبكاهم، أو أطربهم فطار بألبابهم في سماء الخيال، فرفعوه عن مراتبهم وأنزلوه منزلة النبي الشاعر، وتخذته طائفة ملكا غير متوج على القلوب والنفوس دون الرءوس. وقد علمت من أمره أنه إذا دخل الهيكل الكبير في كلكتة ليخطب ويرتل، ضاق المقام على رحبه بالحضور، وغصت طرقاته وأبوابه بالوفود. وهو موسيقار ماهر وأستاذ، بل حجة في فن الغناء. وإذا نظم القصيدة صنع لها اللحن، فأصبحت أنشودة وأغنية معا. فإذا قلنا قصائده أردنا أغانيه، وإذا قرأناها فزنا بمعانيها وفاتتنا ألحانها. وهي إما دينية روحية تستنزل السماء إلى الأرض، ومنها المجموعة التي سماها غيتا نجلي أي «قرابين الأغاني»، أو دنيوية غرامية ترفع الأرض إلى السماء، ومنها أشعار «البستاني» هذه. وقد قال عن نفسه: إن الله أرادني شاعرا مغنيا، فهو كذلك يعبده ويسبحه طول حياته:
لقد آذنت شمسك بالمغيب، واشتعل رأسك شيبا؛ فحسبك غناء وإنشادا، بل آن لك أن تصغي وتصيخ إلى «داعي الغد» فتقول: «لبيك».
الشاعر: هو ذا المساء، وهأنذا مصغ ومصيخ؛ أتريث طارقا أفتح له. وهأنذا أرصد وأترقب، لعل قلبين هائمين يلتقيان، فأزف إليهما آي التهنئة؛ أو لعل توءمين من العيون الساجية يتسولان نغما شجيا يحرك سكونهما ويترجم عنهما. ومن للقلوب وعواطفها، وللعيون وأسرارها، إذا أنا تبوأت من ساحل الحياة صخرة صماء ولبثت شاخصا إلى أكمة الموت وما وراءها؟
تلك غرة جبين السماء تأفل وتتوارى، وذاك لهب النضد
1
يخمد شيئا فشيئا على ضفة النهر المتهادي؛ وهذه جوفة من بنات آوى تصوب أصواتها وتصعدها في عرصة الدار المهجورة، على ضياء الهلال الضئيل. فإذا اتفق أن أخا قرويا درج من كوخه، ومر هذا القبيل، ليحدق في الليل، ويتفرس فيه، ثم أطرق مصغيا إلى ثرثرة الظلام، فمن له بخل يقف به فيهمس في أذنه بأسرار الحياة، إذا أنا اعتصمت بمنزلي وأوصدت أبوابي، حتى كأني أعالج قيود البشرية وسلاسل الإنسانية لأتملص منهما وأخلص نجيا؟
وما علي إن نصلت لمتي من خضابها، ومسخت السوداء بيضاء؟ وما شأن فحمة صارت رمادا؟ وها أنا اليوم فتى وكهل معا، أصحب الصبية والشيوخ على حد سوى.
وهنالك ثغور لا تغيب عنها البسمات؛ وعيون لا يكاد يبرق لها طرف. وهنالك دموع تترقرق في عين الشمس، وعبرات تبلل أجنحة الظلام. فالمسعدون الضاحكون، والتاعسون الباكون، كلهم له في مرام أو إلي حاجة. وعز علي وقت أقضيه، أو أقتله وأقضي عليه، بالنظر إلى الموت، أو إلى ما وراء الحياة.
وإذ إنني عشت الطفولة، والشباب، والكهولة جميعا فهبني مسانا لكل ناعم الظفر، ولكل محدودب الظهر! وما علي أن «وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا».
هوامش
الفصل الثالث
خير الشعر ما اختلج في الصدر، وحرك أوتار الحس، قبل أن ينطق به اللسان أو ترسمه اليراعة فوق الطرس. ولولا ما اتفق لامرئ القيس من أمر العذارى ومداعبتهن على الغدير، لما جادت شاعريته بمعلقة أكسبته الإمارة في الشعر، ولولا ما كان من شأن ابن زريق، وبشر بن عوانة، مع محبوبتيهما، لما خلد الأول بعينيته، والثاني برائيته. وإلا فما ظنك بعنترة لولا عبلته، أو بكثير لولا عزته، وجميل لولا بثينته، أو قيس لولا ليلاه. وأجود القول ما جاء في غرض من الأغراض، فانبعث عن الشعور والوجدان. ومن نظر في شعر طاغور وكان على علم من أحواله الشخصية؛ المادية منها والأدبية، وأحوال قومه؛ الماضية منها والحاضرة، لم ير فيه إلا صورا رائعة لحالات معلومة عرضت لنفسه أو لقلبه، فأحدثت فيهما ما يرى. وكأني به لم ينظم هذه القصيدة إلا بعد ما شهد من إقبال الأدباء الأوروبيين على ما كان قد نقله إلى الإنكليزية من أشعاره، وشدة إعجابهم بها وحرصهم عليها - ذلك بعد أن كانت في أصلها البنغالي مجهولة القدر، وغير معروفة المزية، فكأنه أراد بتلك «الأشياء» التي لم ترق في عين «الحبيبة» فألقاها وأهملها، «قصائده» التي لم تحفل بها «الهند»، وبالغ في إكرامها «الأجانب» أي الأوروبيون.
وطاغور «خفيف الروح»، وغاية في التواضع، وأبعد الناس عن الافتخار والاعتداد بالذات، فإذا أراد إطراء بضاعته اكتفى بالإشارة أو كنى ولم يسم. وهذه الخلة ظاهرة في أسلوبه وحياته جميعا:
وكان صباح:
وطرحت شبكتي في البحر، وفزت بأشياء غريبة الألوان عجيبة الجمال؛ فمن شبيه بالبسمات المتلألئة في الثغور، ومحاك للدموع المتألقة في العيون، ونظير لوجنات الصبايا.
1
وكان مساء:
وتحاملت إلى البيت نائيا بأعباء يومي، وبنفسي أن أشتري راحة ليلي بتعب نهاري. وكانت الحبيبة جاثمة في قلب الحديقة، تمزق أكمام زهرة أنيقة، بأناملها الرشيقة. وقفت بها وأحجمت طرفة عين، ثم أقدمت وألقيت ما بيدي بين يديها، ولبثت صامتا ساكنا.
أما هي فحركت طرفيها ورنت إلى تقدمتي؛ ثم سلطت على شفتيها، عوامل فكرها، فتحركتا بما يأتي: «يا لهذه الغرائب! إني لا أؤنس لها معنى، ولا جدوى».
فنكست رأسي وقلت في نفسي: ويحي ثم ويحي! إنني لم أغنم تلك التحف في موقعة، ولا ابتعتها من سوق، فكانت غير الهدية التي تروقها وتليق بها.
وقضيت ليلتي تلك أسري همي، وأساور غمي، ملقيا عني بتلك الهنات على قارعة الطريق واحدة تلو الأخرى.
وكان صباح مرة ثانية:
وإذا بأجانب غرباء جمعوا شتاتها، ونظموا منثورها، وذهبوا بها غانمين.
هوامش
الفصل الرابع
هذه هي القصيدة الثامنة في الأصل. وهي مما عربته ببعض التصرف. وقد جاء نظمها العربي على وزن قليل المقاطع وعلى غير قافية ملتزمة، وإنما عفوا حصل ذلك، فكان على مقتضى الحال. والنكتة في السؤال: «أين هي» واستحياء الفتاة من الرد. وصيغته الأصلية: «هي أنا». وجمال هذه الأبيات في تمثيلها الحياء الذي ينشأ عنه الغنج والدلال من طبائع الحبيب. والمرأة الهندية على أعظم ما يكون من الحشمة والأدب، وهي لولا تملك فطرة الحياء من خلقها لما تحلت بهاتين الخلتين. والحياء وهو من أعوان العفة والأنفة، وإن كان مردودا إلى الضعف والخوف، يكون للمرأة حلية وزينة تدعوان إليها وترغبان فيها، فيصبح ذريعة تتذرع بها وقوة تنصر ضعفها على بأس الرجل وأيده. وقد قيل: أحب شيء إلى الإنسان ما منع، والمنع والتمنع في المرأة فرعان من شيمها والحياء أصلهما.
وقليل ما في الشعر العربي مما جعل على لسان المرأة حتى كأنها هي تعرف وتفصح عن عواطفها، بل لعله نادر جدا وأقل من القليل. وسترى لهذه القصيدة أخوات في هذا الباب:
لما تجلى السحر
وقبلتني الصبا
ونور خدري استتر
ومن حياء خبا
قامت طيور الغداة
بكل لحن شجي
وقمت: من للفتاة
ثرثارة الدملج!
إكليل زهر ندي
في فرعي المرسل
قلبي خلي، يدي
رنانة بالحلي
وجاء من فجره
موشحا بالصباح
في الجيد
1
من دره
أغلى ثنايا الملاح
يسأل عني أنا:
أين التي أطلب؟
فقلت: ليست هنا:
إن الحيا يكذب •••
بعد الأصيل الجميل
قبل اضطراب السراج
في ليل شعري الطويل
ضيعت بعض اللجاج
وجاء في المركبة
والشمس رهن الغروب
والخيل في كبكبة
والنقع ملء الجيوب
يسأل عني أنا:
أين التي أطلب؟
فقلت: ليست هنا:
إن الحيا يكذب •••
يا ليلتي الزاهرة
بحسن فصل الربيع
طولي - أنا ساهرة
والنوم لا أستطيع
تهفو لطاف الجنوب
إلى سراجي المنير
ببغاء خدري الطروب
من سجنه في سرير
محزونة جاثمة
وحدي على الأرض
لا أحسد النائمة
والطرف لا أغضي
أقول: عد للطلب
واسأل، فها هي هنا
إن الحيا قد كذب
ما تلك إلا أنا
هوامش
الفصل الخامس
لقد استجزت من التصرف في تعريب هذه القصيدة ما تتبين مقداره من مضاهاتها بترجمة نثرية أثبتها قبل الشرح. فليخطئني القارئ أو يلتمس لي العذر، ذلك موكول إلى ذوقه وسجيته.
وهي كأختها التي تقدمتها موضوعة على لسان فتاة. وقد سمعناه يقول في القصيدة الثانية: ومن للقلوب وعواطفها، إذا هو لم يصفها. ولله دره فإنه آلى على نفسه أن يصور لنا الأفئدة والصدور، وما يخامرها ويختلج فيها من عاطفة وميل ونزعة، وقد فعل. ودلائل عاطفة الحياء في هذه الصورة كثيرة، ومنها تنبه الفتاة إلى خلخالها، وحسبانها إياه عذولا يلومها، وواشيا يشي بها، ونماما ينم عليها. ثم إن دليل لاعج الوجد، تخيلها أن قلبها يخفق خفوقا لم تعد تسمع معه حفيفا للأوراق ولا خريرا للماء. ومن لي بكناية ألطف وأرق من الكناية عن الحبيب بالدرة على صدرها التي لم تلف إلى سترها سبيلا:
إذا ما دنت ساعة الموعد
سريت بنجم الهوى أهتدي
إلى الريح أومئ: لا تهمسي
وأوحي إلى الطير لا تنشدي
وأعدو بيوتا كأن ذويها
تماثيل صيغت من الجلمد
ولكن حجالي
1
تنم فيندى
جبيني، ومن للجبين الندي •••
إذا ما دنت ساعة الموعد
تخذت على شرفتي، مرصدي
إخال السكينة سادت وهيها
ت من للسكينة بالسؤدد
فما من حفيف كأن التعا
نق بين الموائس لم يعهد
وفي الجدول الماء رهن الجمود
فلا شبه مرغ ولا مزبد
ولكن قلبي عدو السكون
على حده خافقا يعتدي •••
إذا ما دنت ساعة الموعد
وناولت كف حبيبي يدي
جلست إليه وبي هزة
ويا للمقيم وللمقعد
ويكسر جفني الحياء فيص
بح سيف اللواحظ كالمغمد
ويهفو النسيم، فيخبو السراج
ويدجو الظلام، فكالإثمد
ولكن على لبتي درة
تنير وتسطع كالفرقد
الترجمة النثرية
عندما أذهب وحدي ليلا إلى الموعد، فلا الطيور تغني، ولا الريح تتحرك، وتقف البيوت على جانبي الشارع صامتة ساكنة. وما تلك إلا حجالي التي يعلو صوتها كلما خطوت خطوة - فأستحيي.
وعندما أجلس في شرفتي لأستمع وقع خطاه، فلا حفيف لأوراق الأشجار؛ والماء في النهر كأنه سيف على ركبتي الحارس النائم. وما هو إلا قلبي ذلك الخافق بجنون، ولا أعلم كيف أسكنه.
وعندما يأتي حبيبي ويجلس إلى جانبي، وعندما يرتعش بدني، وتنخفض جفوني، عندئذ يظلم الليل. وتطفئ الريح السراج، وتحجب الغيوم النجوم.
وتلك هي الجوهرة التي على صدري التي تسطع وتنير. لا أعلم كيف أخبئها وأخفيها.
هوامش
الفصل السادس
وهنا أيضا تصرفت في التعريب نظما، فأردفت بالشعرية ترجمة نثرية. وقد آثرت أن أنتحل القول المعروف صدرا للبيت الثاني على أن ألتزم الأصل فأقول: «أتسمعين، إنه يهز السلسلة المشدود بها الباب». ولم أعهد في الهند سلسلة يشد بها الباب، ولكنني وجدت أهل الحديدة (في اليمن) يجعلون جلجلا (جرسا) على طرف مرس أو سلسلة، ويخرجون الطرف الآخر من جانب الباب، حتى إذا اجتذبت السلسلة من الخارج طن الجلجل من داخل البيت فتنبه صاحبه. وقد رأيت مثل ذلك في الهند أيضا.
وفي هذه الأبيات أيضا نرى طاغور قد سلك مسلكا خاصا. فإنه قد جعلها صالحة لأن يكون هو أو غيره المتكلم بها، وجعل الفتاة الموصوفة المخاطبة، بحيث يسهل على المتغني بالقصيدة أو المطالع لها أن يتصور الموقف المراد تمثيله فيقر عينا ويطيب نفسا بما يتخيله من أمر تلك الحبيبة التي تعلم أن حبيبها قد جاء، بعد ذهاب صبرها في انتظاره وترقب ساعة قدومه، ثم إنها لا تخف إلى استقباله، بل تركض إلى مرآتها؛ لتنظر وجهها قبل أن تقع عينها على وجهه، وتقضي دقائق معلومة في إصلاح زينتها، وقد يأخذها الحياء فيكون فيها غنجا ودلالا أو توانيا مجردا، فتتقاعد عن واجبة هي أحب شيء إلى قلبها، ألا وهي فتح الباب للحبيب الزائر والتأهيل به ضيفا قد أتاها مستأذنا وهو من قبل في قلبها نزيل مقيم.
الترجمة النثرية
خلي عنك العمل، يا عروس، وأصغي، فقد جاء الضيف، ألا تسمعين، إنه يهز سلسلة الباب، وإذا خرجت لاستقباله فلا يعلون لخلاخلك صوت، وتمهلي في خطواتك، ثم خلي عنك العمل، يا عروس، لقد جاءك الضيف في المساء.
وإن اقتضت الحال فحجبي وجهك، وإن غلب عليك الحياء فلا تنبتي ببنت شفة، وإذا سألك أسئلة، فإن شئت فحسبك إغضاء الجفون. ولا يكونن لأساورك من رنين وأنت داخلة به، وإن استحييت فلا تحادثيه.
ألم تفرغي بعد من عملك يا عروس؟ أصغي، لقد جاء الضيف. ألم تنيري السراج في الفناء؟ أما أعددت سلة الأزهار لأجل العبادة المسائية؟ أما وضعت علامة السعد على مفرق شعرك بعد؟ أما فرغت من زينتك؟ يا عروس اسمعي، جاء الضيف، فخلي عنك العمل الذي أنت فيه.
هلمي يا فتاة استقبليه
دعي ما في يديك وأجليه
بقرع الباب خلك كل متنا
ألا خفي إليه وكلليه
1
وإن قابلت وضاح المحيا
فالبوضاء بشرا قابليه
ومهلا لا يحلك الشوق طيرا
وحجلك بالتدلل ثقليه •••
ووجهك إن خجلت فحجبيه
2
ببرقعك الأنيق وستريه
وإن ملك الحياء عليك نطقا
فحيي بالإشارة وانظريه
وإن ألقى السؤال فلا تجيبي
وما بك بالفواتر خبريه
ولا يك للدمالج من رنين
إذا أدخلته لتخدريه •••
فتاة الخدر مكسال العذارى
أتى ضيف المساء ألا اسمعيه
ينادي من صميم القلب: من لي
بفتح الباب: يا صماء عيه
وأين الزهر قربانا: وأين ال
بشيرة أين طيبك: ضوعيه
3
فتاة الخدر ضيفك عيل صبرا
ألا قولي «السلام» وودعيه
هوامش
الفصل السابع
نظمت هذه الأبيات تعريبا لإحدى قصائد «البستاني» على سبيل التسلية والتفكه على طريقة فارسية وأوردية تقضي بتكرار كلمة أو كلمتين في آخر البيت والتزام القافية فيما دون ذلك المكرر. ومثاله من الشعر الفارسي قول عمر الخيام:
قرآن كه مهين كلام خوانند أورا
كه كاه نه بردوام خوانند أورا
در خط بياله آيتي هست مقيم
كاندر همه جا مدام خوانند أورا
ومن الشعر الأوردي:
در وديوار به حسرت سي نظر كرتي هي
خوش رهو أهل وطن هم بي سفر كرتي هي
ثم خطر لي أن أحذفها فشفع لدي في إثباتها مجيئها على تلك الطريقة وكونها أول ما نظم طبقا لها في العربية. أما من حيث المعنى، فحسبنا لفت النظر إلى مراد الشاعر من أن المبالغة في التبرج والتبهرج والتصنع على الإطلاق مما لا يستحب للنساء، ويعد امتهانا لجمالهن الطبعي الذي خلقن عليه:
هلمي هلمي يا عروس كما أنت
تعالي تعالي يا عروس كما أنت
أشعرك لم يضفر فخليه مرسلا
فداك الغوالي والنفوس كما أنت
ولا تحرجي غض النهود بصدرة
1
تهادي بأملود يميس كما أنت
على ناضر الأزهار سيري بلهفة
وهيي فقد جاء العريس كما أنت
هوامش
الفصل الثامن
لعمري ما أدري كيف استطعت لهذه الأغنية تعريبا، وأنا لا أزال أحار في معانيها غير متوثق من مغازيها. إلا أنني استلطفتها، وهزني ما أنسته بها من الطرب، فنظمت ما ترى عفوا وحسبما اتفق لي. ولذلك حق علي إنصاف الشاعر، ونقل كلماته ترجمة حرفية، حتى إذا كنت أخرجت مراده على غير وجهه كان للقارئ أن يتبينه بنفسه ويتبصر فيه.
ولا تسألني عما يعني بقوله: وإن حق عليك الجنون وهممت بالطفر إلى الموت فتعالي إلى بحيرتي. وهبه من المعاني بكرا أزفها إلى لب كل لبيب ينتجها ما يشاء. أما سائر القصيدة ففيه ما فيه من التشابيه والاستعارات الحسنة ما نكتفي بهذه الإشارة إليه. وللهنود أعياد ومواسم يخرجون فيها إلى النهر أو البحر أو الحوض العظيم الذي يكون بجانب الهيكل، ويدخلون الماء معا مئات، بل ألوفا من الرجال والنساء، ثم إن سكان القرى والفقراء من أهل المدن لا يزالون يستقون من الأنهار والغدر القريبة من العمران.
ولا يزال بنفسي أشياء من تعريب هذه القصيدة، فإنني غير راض عنها، ولعل في ترجمتها النثرية بعض الغنى.
الترجمة النثرية
إذا شاقك عمل تعملينه وشئت أن تملئي إبريقك فتعالي إلى بحيرتي. إن ماءها ليحف بقدميك ويثرثر لهما بسره. هو ذا ظل الشؤبوب العتيد الانهمار فوق الرمال، وتلك غيوم متهادية فوق أعالي الأشجار، وكأنها كثيف الشعر فوق حاجبيك. إني لعليم بوقعات خطاك؛ لأنها خافقة في قلبي. الا هلمي وتعالي إلى بحيرتي إن أزمعت لإبريقك ملئا.
وإن راقك ووددت التكاسل واللهو عن العمل وحلا لك إطفاء الإبريق على وجه الماء، فهلمي إلى بحيرتي. إن ضفتها لمخضرة بالأعشاب، وقد نبت عليها من ألوان الزهر ما لا يحصى. هنالك تنطلق أفكارك من سود عيونك كما تتطاير العصافير من وكناتها. أما حجابك فيسقط إلى قدميك. هلمي إلى بحيرتي إن لم يكن لك ندحة عن شيء من التكسل.
ثم إن بدا لك أن تغوصي في الماء، فتعالي إلى بحيرتي وهلمي إليها. أما إزارك فخليه على الشاطئ، فإن الماء الأزرق كفيل بسترك عن العيون. ويشرئب الموج ويتطاول ليقبل عنقك ويهمس في أذنيك. فهلمي إلى بحيرتي إن لم تري لك بدا من غوصة في المياه.
وإن حق عليك الجنون وهممت بطفرة إلى حتفك، فما لك إلا بحيرتي. هلمي إليها وتعالي. إنها باردة ولا يسبر لها غور. إنها لمظلمة حتى كأنها نوم بلا أحلام. والليل والنهار سيان في دركها البعيد، والغناء صمت فيه. فهلمي إلى بحيرتي إن أزمعت على حتفك غوصا.
إذا مللت الكسل
واشتقت لهو العمل
فعنك خلي الملل
وبادري بالعجل
إلى بحيرتي
الماء يهفو إلى
إبريقك البارق
والسر يلقي على
خلخالك الناطق
ها ذاك ظل الحيا
ظل الغمام الهتون
حيا فتاة الحيا
حيا ظلال الجفون
وقع الخطى خففي
فوق الربى والوهاد
أو خالفي تعرفي
فوقعها في الفؤاد •••
وإن مللت العمل
واشتقت شغل الكسل
فعنك خلي الملل
وبادري بالعجل
إلى بحيرتي
إبريقك الأصفر
يطفو على الأزرق
وعشبها الأخضر
والزهر في الرونق
تطيرين الفكر
والعين في سكرها
على جناح النظر
كالطير من وكرها
ترخين عنك الوشاح
حتى لجين الحجال
وكل شيء مباح
على عيون الخيال
وإن مللت الدعاب
فوق الحصى والتراب
فعنك فارمي النقاب
وبادري يا كعاب
إلى بحيرتي
زبرجدي الرداء
ألقيه عن خصرك
فمثل لون السماء
ماء إلى نحرك
والموج طوع الصبا
بالرفق واللطف
ينمي أسر النبا
همسا إلى الشنف •••
وإن أردت الجنون «وفي الجنون فنون»
واشتقت طعم المنون
فبادري بالسكون
إلى بحيرتي
بحيرتي باردة
ولا قرار لها
غرارة جامدة
لم تعهدي مثلها
النور فيها ظلام
نوم بلا حلم
وبدؤها والختام
جهل بلا علم
كالليل ضاع النهار
في عمقها الداجي
ودورها والقرار
سكونها الساجي
الفصل التاسع
أجل، لو كنا ننقل فصلا علميا، أو فقرة تاريخية، أو نبذة سياسية، لكبحنا من جماح القلم في التعريب، والتزمنا الأصل التزاما. ولكنها خواطر شعرية قد لا يرى بأس شيء من التصرف في تعريبها. ولعلنا جاوزنا حد المتسامح به من التصرف في تعريب هذه القصيدة وليشفع بها وبنا إردافنا إياها بترجمة نثرية طبق الأصل:
وصحبت الطريق أمشي الهوينا
ولماذا؟ والله لست لأدري •••
ربة النور آذنت بزوال
وتهادت ما بين ظهر وعصر
وتغنى في الخيزران نسيم
فانثنى الخيزران خصرا لخصر
وترامت أيدي الظلال طوالا
حول نور يهم عنها بفر
والشحارير
1
أنهكتها الأغاني
فانطوى في سكونها أي سر •••
رب كوخ بضفة النهر أرخت
فوقه الدوح ظلها ستر خدر
ضم عذراء كاعبا كلمتها
أمها فانثنت تميس لأمر
تتلاقى خمس لطاف بخمس
من يديها؛ يا حسن الطف عشر
وعلى المعصمين يروي سوار
لسوار أخبار عقد بنحر
ولدى الكوخ قمت أصغي وأشجى
ولماذا والله لست لأدري •••
كان يوم تنفس الكون فيه
عن عبير وعن أريج ونشر
وترامت من دوحة «الهمب» للأر
ض نضار ما بين نظم ونثر
واشرأبت من جانب النهر شوقا
موجة خلتها لواعج صدر
قبلت جرة النحاس فكانت
مثل ذوب اللجين أو نثر تبر
ذاك يوم ذكراه تؤنس قلبي
ولماذا والله لست لأدري •••
مالت الشمس للمغيب وطالت
وارفات الظلال من بعد قصر
والعذارى مثل السكارى حيارى
رحن يرقبنه بذاهب صبر
زورقا إن حللن فيه تثنى
عطفه حاكيا مرنح خمر
وإلى برهن أبن ظباء
فوق ماء وظلت وحدي ببري
وصحبت الطريق أمشي الهوينا
ولماذا والله لست لأدري
الترجمة النثرية
وذات يوم، بعد الظهر، صبحت الطريق - ولا أدري لماذا - وكان الخيزران يتثنى على أيدي الرياح. وكانت الظلال تتشبث بأقدام النور المسرع (إلى الغروب) والشحارير قد تعبت مما صدحت وغنت. ورحت أصحب الطريق ماشيا على غير ما هدى (ولا أدري لماذا).
وكان على ضفة النهر كوخ تظلله شجرة. وفلانة تعمل عملا، ولأساورها نغمات ترن في الزاوية. ووقفت إلى ذلك الكوخ، وما أدري لماذا.
ومنذ سنين كان يوم من شهر آذار (مارس) الذي يتنفس فيه الربيع، وكانت أزهار «الهمب» (شجرة المنجو) تتساقط على التراب. واشرأبت موجة من النهر ولثمت الإناء النحاسي الذي كان ملقى على درجة الرصيف. إنني لا أزال أذكر ذلك اليوم من شهر آذار ذي النسيم العليل، وما أدري لماذا (أذكره).
ها الظلال يشتد اسودادها وهو ذا القطيع عائد إلى حظيرته. وقد اكفهر النور فوق المرج الأخضر، وقد وقف القرويون ينتظرون الزورق (لينقلهم إلى العدوة الأخرى)، وأنا أعود أدراجي وما أعلم لماذا.
هوامش
الفصل العاشر
أما هذه الأبيات فهي على ما ترى لا تكاد تكون غريبة عن مألوفنا. ولعل الجدير بلفت النظر إليه من أمرها ما يتجلى فيها من حكمة وعبرة. أما الحكمة التي يرمي إليها الشاعر، فهي توخي القناعة والرضى في طلب السعادة. والفكرة جلية غنية عن البيان. وأما العبرة فهي بأمر الغزال المعروف بغزال المسك الذي يقال: أن له سرة تفرز غددها مادة هي المسك بعينه. وقد روى لنا بعضهم أن غزال المسك هذا يحس ألما في سرته، فيلتمس نتوءا من صخرة يحكها به فتنفجر الغدد ويخرج منها ذلك الإفراز. والمسك جليل القدر غالي القيمة عند الناس. ولكنه ليس للغزال إلا ألما وعذابا. فالإنسان يتجول في البراري ويقاسي التعب والنصب في طلب ذرة من المسك يعثر بها على صخرة أثرا بعد عين لغزال لا يعبأ بمسكه، بل يرقى الحزون ويهبط الوهاد طلبا لعشب يأكله:
يا غزال الوادي ربيب الظلال
هائما تائها طريد الضلال
بدد المسك مستطيرا شذاه
منك واطلب نجم الربى والجبال •••
جنني الليل والجنوب حدتني
ليلة لا كطولها في الليالي
فضللت السبيل أنشد مالي
لا أراه وفي يدي غير مالي •••
تتراءى آمال قلبي لعيني
راقصات مثل العذارى حيالي
وأمد اليدين أقبض ريحا
لا خيالا ولا خيال الخيال
الفصل الحادي عشر
جمال هذه القصيدة بالرقة التي تترقرق في معانيها. وقد أثبت الترجمة الحرفية حرصا على تلك المعاني. وعندي أن أمثالها مما يحسن إطلاقه من قيود الوزن والقافية وإرساله شعرا منثورا، ولكن هذا الأسلوب الكتابي لا يزال حديث العهد لم تألفه جميع الأذواق بعد. وبه يكتب «أمين الريحاني» و«جبران خليل جبران» وطائفة قليلة نهجت منهجهما ونسجت على منوالهما. وشاعرنا طاغور لا يكتب في الإنكليزية إلا به. ومما اضطرني إليه النظم، مع الحرص على مراعاة الأصل، مما لا أوده، التأليف بين أحرف أخالها متنافرة في ألفاظ البيت الخامس:
نظرات فيها المنى تتجلى
وسلام وألف أهلا وسهلا
هكذا قلبنا الغرام استهلا
وهوانا أغنية ليس إلا •••
ليلة بدرها من الزهر حال
والدراري در به يتحلى
وعبير الحناء عرف شذي
عل منه النسيم حتى أبلا
مل نايي الشجي ومعصمك الغض
نضير الأزهار والضفر ملا
وكلانا عن دأبه راح يلهو
وتخذنا تبادل اللمح شغلا
هكذا قلبنا الغرام استهلا
وهوانا أغنية ليس إلا •••
حجبي الوجه بالمعصفر عني
واتركي العين بالمعصفر ثملى
واضفري لي الإكليل من ياسمين
فشذاه كالحمد بالقلب فعلا
بسمات أردها بسمات
وحييا أغدو إذا رحت خجلى •••
يومنا يومنا يمر ويمضي
وغد مقبل رويدا ومهلا
ليس إلا ما نحن فيه ولسنا
نحسب الليلة العتيدة حبلى
إن حسنا يبدو فيخلب لبي
لا أرى خلفه خيالا وظلا
هكذا قلبنا الغرام استهلا
وهوانا أغنية ليس إلا •••
لا هذار يعلو فيتلوه صمت
إن خير الكلام قل فدلا
لا نضم اليدين حول خيال
أو إلى المستحيل ننقل رجلا
فوق ساجي القرار نطفو بلطف
لا نعاني غوصا كفى أن نبلا
إن تلاقت عين بعين وقلب
بفؤاد فحسبنا ذاك وصلا
هكذا قلبنا الغرام استهلا
وهوانا أغنية ليس إلا
الترجمة النثرية
مصافحة بالأيادي ومناظرة بالعيون - كذلك افتتح قلبانا باب الغرام. الليلة مقمرة من ليالي شهر «مارس»؛ وعبير الحناء ملء الهواء، ونايي ملقى على الأرض، وطاقة الزهر في يدك لم يتم تنظيمها. إن المحبة التي بيني وبينك هي الأغنية (بساطة وسلامة نية).
نقابك بلونه الزعفراني يسكر عيني. وإكليل الياسمين الذي ضفرته يهيج فؤادي كالحمد. وما هي إلا لعبة منح ومنع؛ وتحجيب وأسفار؛ شيء من البسمات إلى شيء من الخجل، إلى شيء من باطل المجاهدة والمعاناة. إن ما بيني وبينك من الحب هو الأغنية سذاجة (وسلامة نية).
لا غرابة ولا أسرار فيما وراء الزمن الحاضر؛ ولا محاولات ضائعة سدى في سبيل المستحيل؛ ولا ظلال وراء سحر الجمال ولا مجاولات في أعماق الظلام. إن الذي بيني وبينك من الحب لكالأغنية بساطة (وسلامة نية).
نحن لا نخرج من الكلام إلى الصمت الأبدي، ولا نتطاول لنتناول ما عز ببعده أن ينال من الآمال. حسبنا الأخذ مما نتعاطاه. ولم «نعتصر الفرح» لتخرج لنا خمرة الألم. إن الحب الذي بيني وبينك لكالأغنية بساطة (وسلامة نية).
الفصل الثاني عشر
لعل هذه الأبيات من باب:
وكل شيء رآه ظنه قدحا
وكل شخص تراءى خاله الساقي
أو:
يا أطيب الناس ريقا غير مختبر
إلا شهادة أطراف المساويك
أو:
لا أقول «السواك» من أجل أني
إن ذكرت السواك قلت «سواكا»
بل أقول «الأراك» من أجل أني
إن ذكرت الأراك قلت «أراكا»
وقد تصرفت في تعريبها تصرفا أعجب الشاعر ووافقني عليه، وكنت قد قرأتها له فطرب لرنة الوزن العربي فيها. وقرارها في الأصل (وهي أغنية كما ترى): «واسم قريتنا كنجانا، والنهر يدعى أنجانا، واسمي معروف في القرية، واسمها (أي اسم الفتاة) رنجانا.» ولنكتف بهذا القدر مثالا يغنينا عن الترجمة النثرية.
يا بلبل غن الجيرانا
عني وتفنن ألحانا
فبنيتهم سرقت قلبي
وليبق لديها جذلانا
في ظل شجيراتي «ها ها»
ترعى - ومريئا - شاتاها
وأحلها شاة يا ربي
وأنا في قلبي أرعاها
ولحقل أبيها من حقلي
تتطاير أسراب النحل
فحسدت النحلة من حبي
ووددت غريزتها عقلي
والنهر تراشق بالزهر
وأنا حمامي في النهر
والزهرة إن مرت قربي
عطرت بقبلتها ثغري
أزهار حديقتها تشرى
في السوق وتملأها نشرا
لو كنت غنيا ذا كسب
لشريت الباعة والزهرا
والقرية تدعى «أكذوبة»
والنهر يسمى «أعجوبة»
وأنا غنيت فما ذنبي
والبنت تسمى «المحبوبة»
الفصل الثالث عشر
هذه القصيدة في «نظرة» بدرت من عين فتاة وردت الماء. ولدينا في الشعر العربي الشيء الكثير من تشبيه العين بالنرجس، وهدبها بالسهام، وحاجبها بالقوس ولحظها بالسيف، وسوادها بالليل، إلى آخر ما هنالك؛ وكله حسن وجميل؛ ولكن قل من وصف لنا نظرة كهذه من نظراتها، وصفا نخاله حقيقيا وهو إنما «يشبه لنا» وقد تصرفت في النظم تصرفا يضطرني إلى إردافه بترجمة نثرية إنصافا للشاعر:
مرت بإبريقها رجراجة الردف
ترنو وترمقني مكحولة الطرف •••
يا نظرة بدرت من طي برقعها
أسمو إلى وصفها تسمو عن الوصف
هل أنت إلا نسيم هب ألطفه
على صحيفة ماء شف عن لطف
فحرك الساكن الساجي وخط على
لألائه، ماحيا، حرفا على حرف •••
هل أنت إلا عصيفير الظلام أوى
ليلا إلى حجرة مرفوعة السجف
كالسهم مر مرورا من نوافذها
ومن جناحيه صفق الكف بالكف •••
رجراجة الردف فوق الخصر حاملة
إبريقها أين عذب لوعتي يطفي
لأنت كوكبة خلف الربى احتجبت
أنا المسافر بين البحر والجرف
الترجمة النثرية
كنت ماشية على طريق النهر وإبريقك (الجرة وهي من النحاس) على خصرك. فلماذا (انثنيت بخفة ورشاقة)، وأدرت وجهك (نحوي)، ونظرت إلي من خلال برقعك المرفرف (الخافق في الهواء)؟
تلك النظرة المنيرة الخارجة من (أحشاء) الظلام، وقعت علي كالنسمة التي تمر (بصفحة) الماء المتماوج، وتذهب في سبيلها إلى الشاطئ وأشباحه. (تلك النظرة) انتهت إلي فكانت كعصفور المساء الذي يخترق غرفة لا سراج فيها، داخلا من نافذة خارجا من أختها، و(يغيب عن العيان) مختفيا في الظلام.
أنت (محجوبة) مخبوءة كنجمة من وراء الجبال؛ وأنا عابر سبيل في الطريق. ولكن (بربك) لماذا توقفت لحظة من الزمان، ورنوت إلى وجهي، من خلال برقعك، بينما كنت ماشية على طريق النهر حاملة إبريقك على خصرك؟
الفصل الرابع عشر
وهذه في «مسة» من هدب ثوب، وإليك ترجمتها الحرفية:
مسني هدب ثوبها، وهي مارة بي مسرعة في خطوها. فمن جزيرة قلب مجهولة فاجأتني نسمة حارة من أنفاس الربيع. شيء من الشعور والحس جرى بي وسرى، ولم يلبث أن اضمحل اضمحلالا؛ فقل وريقة (منتزعة) من زهرة تتلاعب بها النسمات وقعت على قلبي كتنهد من صدرها أو كهمسة من قلبها.
خطرت فمستني بهدب ردائها
فعرفت سر فؤادها المكنونا
ولبثت أنشد مطربا بل مشجيا
سرا وأرحم قلبها المفتونا •••
يا قلبها أنت الجزيرة؛ بيننا
بحر يقوم الموج فيه حزونا
نحوي زفرت بحر أنفاس الربيع
وما عهدتك ذلك المجنونا •••
يا لمسة خفق الفؤاد لها ولم
يلبث أن استحيا وحار سكونا
كوريقة من وردة لما ذوت
طارت وكانت طائرا ميمونا
وقعت على صدري فقلت تنهد
من بين نهديها أذاع شجونا
الفصل الخامس عشر
وهذه محاورة غرامية لطيفة في بابها: وإليك ترجمتها الحرفية تتأملها وتتلذذ بجمالها:
مهما جادت به يداك فإني آخذه. ولا أستزيد. - كذلك، كذلك، أنا أعرفك أيها الشحاذ المحتشم (القنوع)، إنك لتسأل كل شيء في يد الناس.
إذا كان لديك زهرة ما (ضائعة سدى) فإنني أجعلها في قلبي. - والأشواك؟ - أتحملها. - كذلك كذلك. أنا أعرفك أيها الشحاذ القنوع. - ولو أنك ترفعين ببصرك إلى وجهي ولو مرة في الزمان، فإن تلك النظرة لتهب لحياتي حلاوة ليس للموت إليها من سبيل. - وإذا لم يكن لك مني إلا نظرات قاسية؟ - فليخترقن فؤادي. - كذلك كذلك أنا أعرفك أيها الشحاذ القنوع.
جودي وما تحبو يداك به
إني لقابله مع الشكر
لله درك يا قنوع ويا
شحاذ ما أدراك بالمكر •••
إن كان عندك زهرة فأنا
في القلب أنزلها من الصدر •••
عندي ولكن شوكها إبر
لا بد من شوك مع الزهر
إن تنظري لي نظرة فبها
أجني الحلاوة من جني الصبر •••
نظرات هذي العين جارحة
ولحاظها هندية تفري
جودي بها وفدى لها كبدي
وأنا القنوع بطرفك السحري
لله درك يا قنوع ويا
شحاذ ما أدراك بالمكر
الفصل السادس عشر
وهذه محاورة غرامية أخرى - بل رواية الحب والحياة، وإليك الترجمة الحرفية:
ثقي في الحب ولو جر البلاء. ولا تختمي على قلبك (وفي الأصل لا تقفليه). - لا، لا يا صاح، كلماتك مظلمة، لا أستطيع لها فهما.
ما القلب إلا أن يجاد به (ويعطى للسوى) (بين) دمعة وأغنية، يا حبيبتي. - لا لا يا صاح، كلماتك مظلمة (معماة) لا أستطيع لها فهما.
اللذة (أو السعادة) شيء ضعيف كقطرة الندى، بينا هي تبسم إذا هي تموت (أي بينا هي تتلألأ على الزهرة إذا بها قد رشفتها حرارة الشمس فاضمحلت) أما الحزن (أو الشقاء) فإنه قوي مقيم. - لا لا، يا صاح، كلماتك معماة لا أستطيع لها فهما.
إن زهرة النيلوفر تفتح على نظر الشمس، وتفقد كل ما بها (أي من أريج وحياة وروعة جمال كانت فيها قبل أن تفتض أكمامها)، وإنها على ذلك لا ترضى أن تبقى برعمة محجوبة في ظلمة الماء الأبدية. - لا لا يا صاح، كلماتك معماة، لا أستطيع لها فهما .
الحب يا أخت مثل الشهد علقمه
ولا يحل لنا إلا محرمه
فسلمي لي فؤادا لا يسالمني
هذا فؤادي على كفي أسلمه
لا يا أخي ماذا كلامك ذا
هذا كلام معمى لست أفهمه •••
يا أخت ما القلب إلا أن نضيعه
بين الأغاني ودمع سح عندمه
إن النعيم كطل فوق نرجسة
دمع البكاء بعينيها تبسمه
إن الشقاء هو الحبل المتين ولا
خوف عليه ولا يخشى تصرمه
لا يا أخي ماذا كلامك ذا
هذا كلام معمى لست أفهمه
النوفر
1
الغض إن حيا ذكاء ضحى
افتض من كمه ما كان يختمه
أخت افتحي القلب ولتعبق عواطره
فالحب حياك أسناه وأضرمه
لا يا أخي ماذا كلامك ذا
هذا كلام معمى لست أفهمه
هوامش
الفصل السابع عشر
لعل خير شرح لهذه القصيدة تقديم الترجمة النثرية على التعريب المنظوم وإليكها:
كأن بعينيك سؤالا تسألانه. فهما ساجيتا الطرف (حزينتان)، تتوقان إلى إدراك معناي (وما بي) و(سبر غور فؤادي) كما يسبر القمر غور البحر (الهادئ الرائق).
ولقد جردت حياتي وعرضتها لديك من أولها إلى آخرها ولم أخف عنك (وجها من وجوهها) ولا ضننت بشيء منها. ولذلك لا تزالين (جاهلة بي) لا تعرفينني.
ولو أنها جوهرة، لحطمتها مائة شذرة، ثم نظمتهن في سلسلة أجعلها على عنقك.
ولو أنها زهرة لا غير، حلوة وجميلة في كمها، لاقتطفتها عن غصنها لأجعلها في شعرك.
ولكنه قلب، يا حبيبتي، أين ساحله وأين قعره؛ وما أدراك بحدود هذه المملكة، على أنك أنت ملكتها.
ولو أنها دقيقة من اللذة (السعادة) لأزهرت في بسمة ورأيتها وعرفتها في لحظة (من الزمان).
ولو أنه ألم لذاب في الدموع الصافية، وتلألأ سره صامتا.
ولكنه الحب، يا حبيبتي. لذته وألمه (سعادته وشقاؤه) لا حد لهما، وعوزه وثروته لا يعرفان نهاية.
وهو قريب منك قرب حياتك، ولكن لا تستطيعين أن تعرفيه تماما وتقفي على سره.
عيونك سكرى بالشجون فواتر
يطالعن سرا حجبته الضمائر
سناها كنور البدر يسبر أبحرا
وصدري بحر باللواعج زاخر
هتكت عذاري عن حياتي عرضتها
لديك أواليها انجلت والأواخر
ولم تعرفيني يا ذكاء قريحتي
وما أنا لولا ما أحبك شاعر •••
ولو أنه در لآثرت حطمه
وقلت إلا سلك فهذي الجواهر
ونظمتها عقدا لجيدك رائعا
يباهي به جيد الدمى ويفاخر
ولو أنه في روضة الكون زهرة
لقلت فدى عينيك زاه وزاهر
وأنأيتها عن فرعها وجعلتها
بفرعك نجما أطلعته الغدائر •••
ولكنه «قلب» خضم قراره
بعيد وشاطيه أهول وعامر
ومملكة فيحاء أنت مليكة
عليها ومن نجواك فيها الأوامر •••
ولو أن ما بي من زمان مؤبد
دقيقة أنس تجتليها الشعائر
لأنبتها في ثغر بشري زهرة
تعيش إلى أن تبتليها الهواجر
ولو أنه جرح أعالج برءه
وتنكأه سمر البلايا الخواطر
لأجريته دمعا صفيا وبينت
سرائر نفسي بالسجام المحاجر •••
ولكنه «حب» كثار سعوده
كثار بلاياه وشتى نوادر
وحاجاته كثر وكثر حظوظه
ويا لك ما أدراك والقلب طاهر
كروحك يجري في عروقك لا يرى
وكل عيون الناس عنه حواسر
الفصل الثامن عشر
لا غريب في هذه القصيدة إلا حسنها. وإليك ترجمتها النثرية زيادة بيان لذلك الحسن: وقد أذكرتني قصيدة عمر بن أبي ربيعة التي مطلعها:
وناهدة الثديين قلت لها اتكي
على الرمل في ديمومة لم توسد
حدثني، يا حبيبي، أعد لي بالكلام ما غنيت. الليل مظلم. وقد ضلت النجوم بين الغيوم، والريح تتنهد من خلال الأوراق.
أحل شعري. ويعلوني قبائي الأزرق كالليل. وأضم رأسك إلى صدري. وفي تلك الوحدة الحلوة أثرثر لقلبك. وأغمض عيني وأقبل عليك بسمعي. ولا أنظر إلى وجهك.
وإذا فرغت من الكلام جلسنا صامتين. إلا الأشجار فإنها تتهامس في الظلام.
ثم (ينصل الليل من خضابه). ويبزغ الفجر. فننظر كل في عين صاحبه ونمضي كل في طريق. حدثني، يا حبيب، واعد لي بالكلام ما غنيت.
أشجيت قلبي شاديا مترنما
أقبل وطارحني الهوى متكلما •••
فالليل داج والعواذل هجع
والسحب تحجب بدرها والأنجما
ناهيك بالنسم اللطاف نواحبا
وحفيف أوراق الأراك مرخما •••
هذي الغدائر لا أحرم حلها
رفقا بعينك أن تحاذر أرقما
وأقيم من هذا الرداء سرادقا
فأريك تحت الليل ليلا أبهما
وأجيل رأسك بين نهدي كاعب
أتريد من نهدي كعاب أنعما
أصغي وألزم مقلتي تعففا
لا أجتلي من حسن وجهك مبسما
أصغي وقلبك بالخفوق مثرثر
ويجيبه قلبي الخفوق متمتما •••
وإذا قضيت من الحديث لبانتي
رمت السكينة من وصالك مغنما
فإذا تحركت الغصون فعذرها
أن النسيم لها حديثك ترجما
والليل يدبر خالعا جلبابه
والفجر يقبل بالشقيق ملثما
إذ ذاك تودعني الشجون مودعا
أختا تفضل أن تراك مسلما •••
أشجيت قلبي شاديا مترنما
أقبل وطارحني الهوى متكلما
الفصل التاسع عشر
نرى قياسا على ما تقدم وما يلي أن شاعرنا لا يطيل قصيدته، بل يخرجها للناس قليلة الكلام كثيرة المعنى، فإما دمعة أو بسمة وقل أغنية تشجينا أو أنشودة تطربنا. وحبذا الشعر من هذا الطراز. وهذه أغنية في أبيات ثلاثة فقط وقد وددتها أربعة، ولكنني عجزت عن نظم معنى في ختامها واستحسنت البيت الثالث كلاما يصح السكوت عليه، وإليك الشعر كله نثرا:
قلبي - طائر البرية - قد وجد سماءه في عينيك. هما مهد الصباح، ومملكة النجوم. وأغاني تهيم في قرارهما. فهبي لي أن أحلق في تلك السماء وأهيم في وحشتها. بل دعيني أشتق غيومها وأبسط جناحي في سنائها.
ويح قلبي من طائر في البراري
ليته بين مقلتيك يطير
بين عينيك عرش ملك الدراري
بين عينيك للصباح سرير
فدعيني في جو عينيك أسمو
أومثلي على السماء كثير؟
الفصل العشرون
وما قولك في هذه الأسئلة التي لا تسألها إلا حبيبة، ولا يجيب عليها إلا محب، ولا يكون جوابه إلا «نعم وأكثر». وقد خلت النظم لم يظلم الأصل إلا قليلا واكتفيت به؛ وإلا لألزمني حرصي على تعريف طاغور إلى قراء العربية أن أثبت الترجمة الحرفية أيضا.
أصحيح كل هذا يا حبيبي
أصحيح أنه إن أبرقت
هذه العين بلألاء عجيب
أرعدت سحب قتام جوها
صدرك المعروف بالصدر الرحيب •••
أصحيح أن في هذا اللمى
شهد ذكرى رس حب في القلوب
أن نيسان تولى تاركا
روعة الغض على عودي الرطيب
أن أرضا رن خلخالي بها
هللت كالعود في أيدي الطروب
أن عين الليل تذري دمعها
حينما أبدو لناء أو قريب
أن نور الصبح يزهو جذلا
حين يغشاني كالثوب القشيب •••
أصحيح أصحيح يا فتى
أمر حب بين جنبيك مذيب
أنه جاب دهورا ودنى
هائما يبحث عني يهتدي بي
أنه بعد ضلال وونى
فاز من ذاتي بمأمول النصيب •••
أصحيح أن سر اللانها
يات في لوح جبيني يا حبيبي
الفصل الحادي والعشرون
لهذه القصيدة من حيث التعريب مزية تنفرد بها، وهي أنني نظمت ترجمتها في سيارة ذاهبا إلى منزل الشاعر في كلكتة، وكنت أكتب بالقلم الرصاص على هامش الكتاب. وهذه ترجمتها الحرفية يقتضي إثباتها ما جمح به القلم من التصرف:
أحبك يا حبيبي. فاغفر لي حبي. أنا كالطائر ضل سبيله فأسروه. وعندما اهتز فؤادي سقط عنه حجابه وأصبح عريانا. فاستره برحمتك وشفقتك واغفر لي حبي.
وإن كنت لا تطيق أن تحبني فاغفر لي عذابي. ولا تنظر إلي من بعيد. وإلا فإني أتسلل إلى زاويتي وأجلس في الظلام. وبكلتا يدي أستر عاري العريان. أدر وجهك عني، يا حبيبي، واصفح عن عذابي.
وإن كنت تحبني، يا حبيبي، فاغفر لي فرحي. وإذا طما طوفان السعادة واحتمل قلبي فلا تبسم (ولا يضحكنك موقفي الحرج). وعندما أستوي على «سريري» (عرشي) وأحكمك بظلم حبي وعسفه، وعندما أحبوك بنعمتي كإلهة وأجود بها عليك، فحينذاك تجمل وتحمل كبري وكبريائي، يا حبيبي، واغفر لي المسرة ذنبا.
أنا أهواك يا حبيب مليا
لا تكن أنت من هواي خليا
أنا كالطير كان في الغاب حرا
حبسوه فبات يشدو شجيا •••
أنا أهواك فاعف عني ودعني
في هيامي وارحم غرامي الجنيا
فهو زهر ترويه عيناي ليلا
فتراه عند الصباح نديا •••
سقط الستر عن فؤادي لما اهتز
حبا فبات يحيا حييا
يتوارى بين الحنايا كسيرا
داميا خافقا خفوقا خفيا
أنت ألق اليدين سترا عليه
آه رفقا به وعطفا عليا •••
إن تكن لا تطيق عشقي فعفوا
عن عيوني وارحم فؤادي الشقيا
غض طرف الملام عنه فإني
لا أرى القلب بالملام حريا
وإلى مخدعي أثوب وجنح ال
ليل ستر أجيله بيديا •••
أو تكن عاشقي فصبرا ولطفا
بي واغفر ذنب المسرة فيا
وتخال الفؤاد طار ليطفو
فوق نهر المنى فذره هنيا •••
وإذا ما استويت فوق سريري
ربة فاقترب خشوعا إليا
وتحمل دلي وعجبي وغنجي
وتذلل واذر الدموع لديا
لا تنال الوصال مني رخيصا
إن تكن في الغرام ذاك الغنيا
الفصل الثاني والعشرون
وهذه تكاد تكون «طبق الأصل» لولا قليل من الزيادة لا يؤاخذ به معرب أو مترجم. وكنت قد تخذت مثالا للتصرف الذي استبحته لنفسي قولي «مثل روح الكهرباء» إذ لا أثر له في الأصل، ونبهت شاعرنا إليه، فأبدى ارتياحه وسروره واغتفره لي ذنبا. ولو أنني جعلت صدر البيت الأول من الدور الأخير «ما له ليس يعود» لكنت آتيا بترجمة الأصل حرفيا، واستقام الوزن، واستقرت القافية؛ ولكنني كرهت تكرار «ليس» النافية فنفيت تلك الصورة. وهذه الأغنية ولا أقول القصيدة من جملة ما نشر في مجلة الهلال:
قال لي همسا بلطف: «لا تغضي الطرف عني»
قلت إجهارا بعنف: «ول ما يعنيك مني» •••
لم يزحزحه كلامي
بل ثنى كلتا يديا
قلت: «لا تمثل أمامي»
فانثنى يرنو إليا •••
قرب العنق المحلى
نحو جيدي بابتسام
قلت: «هل تخجل هلا»
قال «عفوا» باحتشام •••
ثغره مر بخدي
مثل روح الكهرباء
قلت: «ماذا لك عندي
يا خليا من حياء» •••
شك في شعري زهرة
قلت: «تذوي وتموت»
قال: «هذي البنت مرة»
وتولاه السكوت •••
نزع الزهرة نزعا
عاد في خفي حنين •••
وأنا أذرف دمعا
ليته ينظر عيني •••
ليته ليت يعود
إنني أبكي عليه
مسقمي ليس يعود
ودوا قلبي لديه
الفصل الثالث والعشرون
أخاف أن تكون الصورة المنظومة لهذه القصيدة غير ممثلة للأصل، فإليك صورته النثرية:
بسمة هازئة تلوح على عينيك عندما آتي لأودعك. وكثيرا ما ودعتك (ثم عدت مسلما)؛ فأنت إذن تزعمين أنني راجع على الأثر. والحق يقال: أنا أيضا على مثل زعمك هذا.
فإن أيام الربيع تمضي وتعود (والعود أحمد)، والبدر يستأذن (ويرحل) ثم يزور (غبا)؛ وكذلك الأزهار (تذوي فتسقط) ولا تلبث أن (تعيد الأغصان سيرتها الأولى) عاما بعد عام؛ وهو من الاحتمال بمكان إنني أودعك (اليوم، لألقاك غدا).
ولكن حبذا المغالطة. فأبقي عليها قليلا؛ وحبذا الوهم، فلا تصرفيه على مثل هذه السرعة.
وعندما أقول لك «الوداع إلى الأبد» فصدقي ولتغش عينيك سحابة من الدموع لتزيدهما سوادا. ثم فابسمي (ولتبرق أسرتك) سرورا، ما شئت، متى عدت إليك (بالسلامة).
ما للحبيبة إن أتيت مودعا
بضواحك اللحظات تخفي الأدمعا
أترى ترى أم لا تراني راحلا
أم عندها أني أغيب لأطلعا •••
فصل الربيع يعود بعد صدوده
والحقل يشحب ثم يزهو ممرعا
والبدر إن هجر الكواكب زارها
غبا ولو بسحابة متلفعا
ولعلني مثل الأزاهر إن دنا
إبانها بانت - أبين لأرجعا •••
لكن ذريها في الفؤاد تعلة
تسلي إذا حبل الرجاء تقطعا •••
وإذا مضيت مودعا فتفجعي
لأرى غيوما في جفونك همعا
ومتى رجعت مسلما فتهللي
لأرى بروقا في لحاظك لمعا
الفصل الرابع والعشرون
في هذه القصيدة وأمثالها حيث تجدني تصرفت بالمعاني تصرفا أبعدني عن الأصل لم أكن على الحقيقة معربا بل ناظما متلهيا. وهي من جملة ما نظمت في «بمبي» قبلما زرت الشاعر وعزمت على نشر مختار من شعره. وقد آثرت أن أجعل لها ترجمة نثرية ألتزم فيها الأصل على أن أتعنى نظمها من جديد. وهي أيضا مما سبق لي نشره في مجلة الهلال:
الترجمة النثرية
إنني ليشوقني أن أنطق بالكلمات «العماق» التي (تختلج في صدري)؛ ولكنني أخاف (إن أنا فعلت) أن تضحكي (مني). ولذلك ترينني أهزأ من نفسي وأطير سري شظايا من النكات والإشارات. وإنني لأستخف بألمي لكيلا تستخفي به أنت.
يشوقني أن أخاطبك بأصدق الكلمات التي بودي لو أقولها لك؛ ولكنني لا أفعل، مخافة أن لا تصدقيها. لذلك ألبسها بالكذب، وأقول ضد ما أريد وأعني وأظهر كأن ألمي بلا سبب ولا علة، مخافة أن تري أنت فيه هذا الرأي.
ويشوقني أن أفوه بأثمن الكلمات التي ادخرتها لأجلك؛ ولكنني لا أفعل، خشية أن أغبن وأصفق صفقة الخسران. ولذلك أنتحل لك أسماء وكنى فظة وأفتخر بقوتي وأيدي. ثم إنني أمسك بشيء من الأذى، خشية أن تبقي لا تفقهين للألم معنى.
ويشوقني أن أجلس إليك صامتا، ولكنني لا أستطيع، خشية أن يرقى قلبي إلى شفتي. لذلك أهذر مثرثرا وأخبئ قلبي وراء الكلم. ولا أرفق بألمي مخافة أن يكون مثل ذلك منك.
ويشوقني أن أذهب عنك، وما أستطيع إلى الفرار سبيلا؛ مخافة أن يظهر لك جبني ووجلي. لذلك أرفع برأسي وأشمخ بأنفي وأمثل بين يديك غير مبال ولا مكترث؛ وتلك الطعنات التي تصيبني من عينيك تجدد ألمي حتى الأبد.
وختام القصيدة في التعريب الذي ظهر في الهلال:
قضى الحب جرحي لا يطيب على المدى
وفي عينك النجلاء سهم من الهدب
ولعله أقرب إلى الأصل. وعلى كل حال فإن في الترجمة النثرية كل الغنى.
يهم لساني أن يترجم عن قلبي
ويثنيه معهود ازدرائك بالحب
فأهزأ من نفسي وسري أذيعه
نكاتا وقد تكفي الإشارة ذا اللب •••
أود التزام الصدق في سرد قصتي
وأخشى التباس الصدق عندك بالكذب
فقولي شيء والحقيقة عكسه
وإن شئت حصلت الحقيقة بالقلب
وأظهر علات لدائي توافها
لأنك تخفين اختبارك في طبي •••
وعندي من اللفظ الأنيق جواهر
أضن بها أن لا تباع على كسب
فأدعوك يا «عنقاء» يا «غول» معجبا
بفظ كلامي يا لعجبي من عجب
أذيقك شيئا من عذابي لتعلمي
بأن عذاب الصب ليس من العذب •••
أتوق إلى صمت وما أستطيعه
ويقتلني صمتي وأنت إلى جنبي
أحس كأن الصدر يلفظ مهجتي
وقلبي يجتاز الترائب بالوثب
فأنطق تخفيفا عن القلب منزلا
عليه من التهذار آيا من الحجب •••
أحاول بعدا عنك حينا وأرعوي
مخافة أن أدعى الجبان أخا الرعب
لذلك غبا بعد غب بعزة
وكبر أسوم القلب قربا على قرب
ولحظك نبال ورب كنانة
وأسهمه ما في الجفون من الهدب
الفصل الخامس والعشرون
أما هذا الشعر فلا تسأل المعرب عن معناه ومغزاه، أنه لا يفسر. وقد أخبرني أحد الأساتذة الذين في معهد شاعرنا العلمي أنه ليس من جميع الأوروبيين الذين قرءوه في الترجمة الإنكليزية - والأصل بنغالي كما تعلم - من فهمه وأحاط بحقيقة المراد منه؛ وذلك أنه خيال لا حقيقة. وقد رأيته في الأصل البنغالي فإذا هو في صدر الكتاب وأولى القصائد بالتقدم وبإزائه رسم خيالي يمثل شبحا في غلالة من دخان البخور. وكنت قد عربته فقرأت لمحدثي ومن حضر الأبيات العربية وترجمتها لهم بالإنكليزية - وهي أداة التفاهم بيننا - صدرا صدرا وعجزا عجزا فطربوا كل الطرب وهنئوني، ونموا الخبر إلى الأستاذ الإلهي أي صاحبنا طاغور فاستعادنيها وتلطف بكلام أدخل السعادة على نفسي: (1)
حلني أطلق سراحا
لأسير في يديكا
رد لي قلبي تجده
طار مرتدا إليكا
1 (2)
لا يقبل فوك ثغري
أسكرتني خمر فيكا
ضاق عن قلبي صدري
من بخور يحتويكا
افتح الباب لفجر
نوره يكمل فيكا
أنا من ضم ولثم
ضعت: أنى التقيكا
منك عوذني فإني
لا أرى فيك شريكا •••
أنا مسلوب فهبني
ما أنا واسلب وشيكا
هوامش
الفصل السادس والعشرون
وهنا أيضا سلكت مسلك الصوفية ونقلت الأصل بتصرف راعيت معه أساليبهم، وقد حق علي إذن إثبات ترجمة حرفية - إليكها:
أيها الحب. قلبي يشتاق ليلا ونهارا إلى الاجتماع بك، إلى ذلك الاجتماع الذي كالموت لا يبقي ولا يذر.
فاعصف علي زعزعا؛ وخذ كل ما بيدي؛ واسط على نومي واسلب أحلامي؛ واسلبني دنياي.
ويوم تجتاحني، وتتجرد روحي (من العلاقات) لنكن واحدا في الجمال يا لشوقي (أعانيه) عبثا. وأين أمل الاتحاد هذا إن لم يكن فيك يا الله.
يا حب كم يشتاقك القلب
واصل فؤادا هائما يصبو
كن زعزعا واعصف على كبدي
واسلب حياتي حبذا السلب
كن لص نومي واسترق غلسا
أحلام قلبي ييقظ القلب •••
واحرمني الدنيا وزينتها
فيك العذاب لمهجتي عذب •••
وإذا غدت نفسي مجردة
وعن الشعور أميطت الحجب
فاسمح بوصل فيك يعدمني
ومتى فنائي فيك يا حب •••
يا رب كم أشتاقه عبثا
بل أنت من أشتاق يا رب
وقد رأيت أن أتبع هذا الغزل (الهندي) بغزل (فارسي) مما عربت من شعر الحافظ، كما سبقت الإشارة:
أأطيع التقوى وأعصي الخمارا
أنا منذ الآزال بين السكارى
بعد طهري في نبعة الحب كبر
ت على الكون أربعا فتوارى
أي إنه بعد ما اغتسل في ماء الحب الطاهر - كأنه ميت يغسل - قال: «الله أكبر» أربع مرات وتوارى كما يوارى الميت في القبر؛ أي: قطع كل علاقة مع هذا العالم فبات كأنه مات عنه. ولعل في هذا التفسير عونا على إدراك البيتين اللذين دون الأخير من تعريب شعر طاغور. وتتمة العزل الحافظي:
من حبيبي ومن سجاياه خمري
أسكروني واستطلعوا الأسرارا
ذرة النمل ذروة الطور فاشرب
يا نديمي واسترحم الغفارا
بي أفدي وجها كطاقة زهر
جل فيها من أبدع الأزهارا
كل عين إلا النراجس مما
تحت هذي السماء تقذي مرارا «حافظ» عاشق وملك سليما
ن لديه أن ترشفيه العقارا
الفصل السابع والعشرون
لعل في ما تقدم لنا من إشفاع التعريب المنظوم بالترجمة النثرية القدر الكافي لتبين مواضع التصرف وكيفيته.
وليس في هذه القصيدة شيء يستوجب عناية خاصة بعد ما أسلفناه من شرح وتفسير للسوابق من أخواتها:
ودعتني والشمس في السمت
والقلب يصلى لوعة الوجد
فقضيت حاجاتي وفي صمتي
وحدي جثمت بشرفتي وحدي •••
وسرت نسيمات الرياض إلى
خدري وفاح بعطرها خدري
وتساجلت في الباسقات على
هام الغصون حمائم القصر •••
ومن الحقول نحيلة وفدت
برسالة الأزهار والبشرى
فترنمت بنشيدها وشدت
أخبارها ضواعة نشرا •••
والحر أثقل أعين الناس
فسرى الكرى بين الورى ظهرا
وحفيف أوراق بمياس
ما كاد يسمع مرة أخرى •••
وأنا سهدت لأرصد الجلدا
وجعلت أرسم في السماء اسمك
وزفرت لا صبرا ولا جلدا
وحسبت روحي صاحبت جسمك •••
شعري المبعثر ظل مضطربا
مثل الفؤاد بلوعة الصد
وإذا النسيم جرى به لعبا
ورماه حيات على خدي •••
ودعتني والشمس في السمت
والقلب يصلى لوعة الوجد
فقضيت حاجاتي وفي صمتي
وحدي جثمت بشرفتي وحدي
الفصل الثامن والعشرون
ولما كنت قد نظمتها على سبيل التسلية، شأني في بعض أخواتها، فقد فاتني شيء من الإحكام والإتقان أعوضه بهذه الترجمة النثرية، داعيا القارئ إلى تأمل معانيها والتبصر فيها: وهي لسان حال فتاة أو عروس زفت وخرجت من عهد إلى غيره:
الترجمة النثرية
كنت واحدة بين كثير من النساء، منعكفة على الواجبات المنزلية مستترة فيها. فلماذا أفردتني وأخرجتني من ذلك الملجأ الشائق (الذي لا أزال أحن إليه) حيث كنت وأترابي معا.
إن الحب (المكتوم) الذي لم يعلن بعد لهو مقدس. إنه يتألق كالجواهر في ظلمات القلب المحتجب. وإذا تبدى (لعيان) النهار «الفضولي» فيا لمنظره الكئيب.
أنت هتكت حجاب قلبي واجتررت حبي المرتعد حياء إلى فرجة مكشوفة للعيان، وخربت تلك الزاوية التي كانت (عامرة وآهلة) به وبعشه.
أما أترابي فلا يزلن على ما أعهدهن. لم يطل بعد من أحد إلى دخيلة كونهن؛ وهن أنفسهن لا يعلمن ما بهن من الأسرار المطوية. فتراهن يتبسمن، أو يبكين، ويلهون، ويعملن عملا، وكل ذلك عفوا وعلى غير ما علم وهدى. وكل يوم يذهبن إلى الهيكل، ويوقدن مصابيحهن ويردن النهر ليستقين.
وكنت آمل لحبي نجاة وخلاصا من هذا العار الذي يقشعر له اقشعرارا (بعد ما بات مفضوحا)، ولكنني أراك معرضا عني هائما على وجهك.
أجل، أنت سراحك مطلق، وطريقك أمامك، ولكنك قطعت علي خط الرجعة (كما يقال) وتركتني مسلوبة منهوبة عريانة بين الناس، وعيونهم التي كأنها لا جفون لها، لا تني تحدق في ليلا ونهارا.
كنت بين الصواحب الأتراب
والعذارى وناضرات الشباب
أتلهى معهن في البيت أقضي
واجب البيت في سياق الدعاب
أنت أفرزتني وأفردتني من
عقد شمل الكواعب الأتراب
كامن الحب سره سر قدس
وشغاف الفؤاد كالمحراب •••
كامن الحب في ظلام الحنايا
جوهر ساطع بجنح غرابي
إن تبدى في رائعات نهار
كوثرا خيل لمعة من سراب
تزهد العين في الجلي لديها
وتصابى لما وراء الحجاب •••
كان حبي في حبة القلب يهفو
خافقا كالوجوب والاضطراب
وشققت الشغاف عنه اعتسافا
ثم أبرزته بمحض اغتصاب
يا لعش الغرام في قفص الصد
ر أحطمته؟ ويا للكعاب •••
لا فتاة من ناهدات العذارى
أنست لذتي وذاقت عذابي
لم يكاشف قلوبهن حبيب
بخطاب فصل وفصل خطاب
هن يجهلن ما بهن من الأس
رار جهل الختام سر الكتاب
يتبسمن كالأزاهر حينا
ويرقن الدموع حين اكتئاب
يتجاذبن والحديث شجون
لسؤال أهداب ألف جواب
كل يوم يعبدن يذهبن للهي
كل سربا يا حسن ذاك الذهاب
وقبيل الغروب يفعمن سرج ال
بيت طيبا من خالص الأطياب
وإلى النهر بالقوارير يصبحن
ويرشفن من قراح الشراب •••
بحيائي استعذت من عري حبي
حين جردته من الأثواب
وا حيائي وا خجلتي وا شقائي
يا فتى صد بعد شر اقتراب
أنت تمضي كل الفجاج سبيل
لك لكن أنا فقدت صوابي
أنا عريانة صباحي مسائي
تتلهى العيون حسب الهوى بي
الفصل التاسع والعشرون
لم يقل لنا الشاعر متى نظم هذه القصيدة أو تلك، ولكن المعنى ينبئ بعض الأنباء، وإليك الترجمة النثرية بما تسوغناه من التصرف في التعريب:
جنيت زهرتك، أيتها الدنيا. وشددت بها إلى قلبي فنفذ في شوكها. ولما انقضى عمر النهار وأظلمت، ألفيت الزهرة قد ذبلت، أما الألم فلم يزل باقيا.
ولن تعدمي أزهارا ذوات عبير وكبر، أيتها الدنيا. أما أنا فقد انقضى زمني. وعهد أجمع فيه الزهر، وقد أمسيت في ليلة طويلة، وقد عدمت وردتي، ولم يبق لي غير الألم.
جنيت الزهرة الزهرا
ء يا دنياي في فجري
شددت بها على قلبي
فشك الشوك في نحري •••
ولما جنني ليلي
وأسدل حالك الستر
بكيت نضيرها الذاوي
بكيت عبيرها العطري
وقلت ألا سوى ألم
لحسن الزهر من ذكر •••
فيا دنياي بالأزها
ر عينا بعدنا قري
فروضك منبت منهن
ذات النفح والنشر
وذات الزهو والإدلا
ل بين العجب والكبر
مضى يومي وقد أزمعت
إدلاجا إلى قبري
وحادي الموت يشجيني
برنان من الشعر
غدا صدري بلا ورد
وشوك الورد في صدري
الفصل الثلاثون
ولهذه القصيدة ذكرى حلوة في نفسي؛ لأنني رأيت الشاعر ذات صباح وقد جاء المائدة، وإذا بسلسلة من زهر الياسمين على عنقه زاهية نضيرة كعقد من اللؤلؤ فريدته وواسطته وردة حمراء - ولا يزال لعذب صوته صدى يتردد في قلبي إذ قال: «وهذه أيضا هدية من الصبية التي قلت فيها قصيدتي المعهودة»، وكنت قد قرأت له تعريبها: وإليك الترجمة النثرية:
وذات صباح وأنا في حديقة الأزهار جاءت صبية عمياء وقدمت لي سلسلة من الزهر قد جعلتها في ورقة نيلوفر.
فألقيت السلسلة على عنقي ، واغرورقت عيناي بالدموع، ثم قبلتها وقلت: أنت عمياء والأزهار عمياء.
أنت نفسك لا تعلمين ما أجمل هديتك هذه.
رب صبح ألقت على بستاني
ربة النور حلة الأرجوان
وازدهت بالندى الأزاهر حتى
خلت أكمامها ثغور الحسان •••
أقبلت بنت أمها وأبيها
ظبية لا بأعين الغزلان
بنت عشر وبعضهن تهادى
في حياها وحيرة العميان
ويديها مدت بسلسلة الزه
ر وغض النيلوفر الريان •••
قلت: «أحسنت» ثم حليت جيدي
بشذي من نفحة الإحسان
وتجارت دموع عيني على العق
د سجاما من رأفة وحنان •••
هي مثل الأزهار عمياء لا تب
صر شيئا من حسنها الفتان
الفصل الحادي والثلاثون
ليت شعري ما ظن المرأة بقول شاعرنا فيها، أتراها تنكره؟ وإليها الترجمة الحرفية، ثم هي وشأنها في الحكم:
أيتها المرأة، ما أنت صنع يد الله فقط؛ بل إن للرجال في عملك ليدا. إنهم لا يفتئون يحبونك بجمال من قلوبهم.
فالشعراء ينسجون لك من الخيال الذهبي كل جميل رائع؛ والمصورون يهبون لشكلك خلودا متجددا.
والبحر يفيض عليك دره، والمعادن ذهبها، وحدائق الصيف أزهارها، لتزينك وتسترك، وتزيدك قيمة.
ثم إن الصبوة التي في قلوب الرجال هي التي ألبست شبابك تلك الروعة المجيدة أنت «نصف» امرأة و«نصف» حلم.
إيه حواء لست كلك صنع الله
بل أنت ما أحب الرجال
أنت حسناء في العيون ولكن
من هبات القلوب ذاك الجمال
كم لآل تزهوك وهي معاني الش
شعر صيغت تاجا عليك يخال
ولكم أبدعوك رسما وكم حو
واء تفنى ويخلد التمثال
درة البحر، زهرة الغصن، كل ال
حسن يهدى إليك أنت المآل
روعة المجد في شبابك شوق
وصباء والشوق فيك دلال
بعض ما أنت مرأة، لا مراء
ثم بعض حلم؛ وبعض خيال
الفصل الثاني والثلاثون
وما قولنا في هذه الأغنية، وهي عتاب غريب في بابه، عجيب في مآله:
ذلك هو نداؤك من جديد؟ لقد خيم الظلام. وقد تعلق بي الونى وأخذني من تلابيبي، فكأنما يدا حب ممدودتان للسؤال والتوسل. أتلك دعوتك من جديد؟
وكنت قد وهبت لك نهاري بطوله، أيتها الحبيبة الظالمة ، فما بالك تشائين أن تسلبيني ليلي أيضا؟ لكل شيء حد، ولكل بدء ختام، ووحدة الظلام ملك لا ينتزع.
ألم يكن هنالك بد لصوتك من اختراق حجاب الظلام والانتهاء إلي؟
ألا يسمع للمساء شيء من أنغام الوسن على باب داركم؟ أو ليست النجوم التي لا صوت لأجنحتها تحلق في السماء فوق برجكم الشامخ المتعالي؟ ثم أولا تتساقط الأزهار مائتة في حديقتكم؟
ألم يكن لك بد من أن تناديني، أنت يا من لا يقر لك قرار؟ إذن، فلتسهر عبثا عينا الحب ولتبكيا. وليضطرم السراج في ذلك البيت المنفرد الموحش. وليرجع الزورق بالعمال إلى بيوتهم. ثم إنني مخلف أحلامي ورائي وقادم إليك تلبية لندائك.
قد دجى الليل والأنام نيام
أنا وحدي نومي علي حرام
أنت ذات العذاب عين العنا لي
أفبعد الوداع فورا سلام
الونى هام بي وضيع عزمي
بعد ما ضيع الفؤاد الهيام
ما كفاك الصباح والظهر والعص
ر وصالا حتى يزاد الظلام
كل شيء له ختام ولكن
بدء حبيك ضل عنه الختام
وحدة الليل للفتى ملك عين
وهو وقف في شرعنا لا يسام
أو لا يعرف الكرى لك جفنا
أم عيون تلك التي لا تنام
أو لا تذبل النراجس يوما
في مغانيك أو يموت الخزام
لا أرد الرسول مثل حنين
خائبا إنني كمثلي الكرام
فالبثي في انتظار خلك حتى
تتهامى من مقلتيك السجام
وتسلي عني بنور سراج
مثل قلبي له عليك اضطرام
إنني عائد إليك بشوقي
وفداك الهجوع والأحلام
الفصل الثالث والثلاثون
وهذه رواية الناسك في نشيد واحد؛ وقد تقدم لنا الإلماع إلى أن شاعرنا لا يرى فضلا كبيرا في الانقطاع عن الناس زهدا ونسكا، بل يرى الفضل في معاشرتهم بالمعروف ومعايشتهم على مقتضى الفضيلة وخوف الله. وقد كانت الهند فيما انقضى من عهودها طبقات أربعا، إحداهن طبقة البراهمة، أي رجال الدين؛ وكان ابن البرهمي برهميا، ولا يكون بنوه إذا رزقهم إلا على شاكلته. وكذلك كان حال الجندي في طبقته، وكان الملوك معتبرين فيها. فأما رجال الدين فقد قام بينهم من الفلاسفة والحكماء والشعراء الروحيين من إليهم ينتمي الفضل في الطرائق الدينية والآراء الفلسفية التي تنسب إلى الهند وتؤثر عنها. ومن هؤلاء كان الزهدة المتقشفون والنسكة القانتون، الذين ذهبوا في الإماتة ومعاناة الشظف، وعشق الألم، مذاهب نعيذ القارئ من وصفها، لما في تصور بعضها من العبث بالقلب وتفطير الكبد. ونكتفي بالقول أن التنسك كان لرجال الدين، وربما جاراهم عليه بعض الأمراء والملوك من طبقة الجنود.
وفي خلال القرن الأخير الذي أخرج اليابان من الظلمة إلى النور، ومن زاوية النسيان إلى صدر الوجاهة، لم تعدم الهند رجالا قاموا فيها بدعواتهم الصالحة يهيبون بها من السبات الذي طال عليها أمده، ويحطمون قيود التقاليد وسلاسل العقائد وأغلال الأساطير، التي كانت ترسف فيها، فلا تستطيع للزمان مجاراة ولا لجيرانها مباراة. فبعدما كان رجال الدين يحرمون مخالطة الأجنبي ومعاشرته، ولو للتعلم منه والأخذ عنه، فلا يسمح الوالد لولده بالسفر إلى أوروبا في طلب علم أو صناعة، إذا بهم قد أصبحوا لا يرون في التغرب بأسا، بل يبالغون في الحض عليه والدعوة إليه، بحيث كثر عدد الراسخين في العلوم الحديثة والمتضلعين منها. ولا تسل عن الثورة الفكرية التي التهبت نارها من قبس العلم الصحيح، فكانت نورا للبصائر وهديا للنفوس. وما ظنك بالشاب ذكي الفؤاد إذا درس التاريخ الطبيعي ووقف على مذهب النشوء والارتقاء، وألم بعلم الكيمياء، وعلم الحياة، وما إليها مما تبهر حقيقته العقل، ولا يستطاع إلى إنكاره سبيل، أتراه يعود فيسجد لصنمه - اللهم إلا تقية - أم يحمله يقينه الجديد على الشك فيما كان يخاله يقينا من قديم الأساطير والترهات. على أن الواقع هو أن النشء الجديد من بني الهند ممن تثقفت عقولهم وتهذبت نفوسهم على ما ينبغي، قد وقفوا بين الطيب الصالح من تمدنهم القديم، والخبيث الفاسد من المدنية العصرية، وانتهجوا لهم منهجا قصدا بين الطريقتين، فكانوا أهدى سبيلا.
فقد أصبح عقلاؤهم اليوم يعانون أولي الأمر وذوي الحل والعقد في الأحكام على مقاتلة آفات التعصب الأعمى، والخزعبلات الواهية التي فشا داؤها في النفوس والأذهان، وكان عضالا قتالا للأمة ومللها. ومما آل إليه انبثاق نور العلم انقشاع غياهب الجهل الذي كان مخيما على الألباب ليلا طويلا تنطلي فيه حيل الشعوذة وتخفى أباطيل الدروشة، وتجوز أكاذيب النسك وخرافاته. وليس لنا أن نذم الزهد والنسك والقنوت وقد عرفنا مزاياها ومحامدها الجوهرية. وإنما نريد أن التشبه بالنسكة الأقدمين ممن روت الأساطير أخبارهم، وجعلتهم في مراتب الآلهة، لم يعتم أن انفتحت أبوابه لغير أهله فاختلط الحابل بالنابل، والغث بالسمين. وأمسى النسك نقمة قومية بعدما كان نعمة لا يدركها إلا من هدى ربك سبيل الرشاد.
عاف دنياه منية ومراما
ورأى الزهد للحياة ختاما
قام في حالك من الليل ينعى
سالف العمر حيث ضاع إثاما
قال: يا بيتي الوداع فإني
أبتغي الله بغية والسلاما
ليت شعري من غرني فيك يا بيت
م مقاما وقد تعست مقاما؟ «أنا» قال الله المهيمن، لكن
صم نضو التقوى وضل وهاما
امرأة مرضع وطفل على الثدي م
حبيب نامت إليه وناما
زوجه وابنه ولم يدر حتى
ساءل الجهل عنهما والظلاما
قال: من ذانك اللذان بعيني
زيناها دنيا وكانت حطاما؟
فأجاب الصوت الخفي: «هما الله»
ولكن لم يسمع الإلهاما •••
ذعر الطفل فارتمى فوق صدر
الأم والطفل يرهب الأحلاما
أمر الله: يا أباه إليه:
ولماذا غادرتها وإلى ما؟
يا لعبدي يمضي ليبحث عني
أتراه يرى الوراء أماما
نامعلوم صفحہ