مقدمة
أردت في فصول هذا الكتاب أن أتعمق حياتنا لأصل إلى جذورها التي منها انبثق جذع تلك الحياة، ثم من الجذع تفرعت الفروع وأورقت وأثمرت ثمارها؛ ثم لم أقف عند الجذور، بل مضيت في الحفر لأصل إلى البذور الأولى التي فعلت فعلها في خفاء التربة، حتى أخرجت الجذور؛ بيد أني في تلك العملية التحليلية، آثرت أن أصطنع فيما أكتبه، ذلك الأسلوب الذي دأبت على اصطناعه في كثير جدا مما كتبته خلال خمسة عقود من السنين أو ما يزيد قليلا عن هذا العدد، وهو الأسلوب الذي تمتزج فيه ذات الكاتب وخبراته وآلامه وآماله، مع الأفكار التي يراد عرضها على الناس، ومثل هذا المزج هو إحدى سمات المقالة «الأدبية»؛ فللمقالة «الأدبية» سمات كثيرة أخرى، ليس هذا مكان عرضها تفصيلا، لكن حسبنا الآن أن نذكر منها هذه السمة الواحدة؛ لأنها قد تعين القارئ على تقويم ما يقرؤه في هذا الكتاب وفي غيره مما صدر لهذا الكاتب، على أن ما قد نشره هذا الكاتب في هذا الكتاب، وفي كثير غيره، من فصول تبدو متفرقة في صورة «مقالات»، وهي في حقيقتها أجزاء من موقف واحد يستهدف هدفا أساسيا واحدا؛ أقول بأن ما قد نشره الكاتب في هذا الكتاب، تتفاوت في فصوله درجات المزج بين «ذات» وخبراتها، و«موضوع» وما يشتمل عليه من أفكار يراد عرضها؛ ومع هذا التفاوت تتفق الفصول كلها في حقيقة معينة، هي أنها «أفكار» عاشها الكاتب وعاناها، وكلها يدور حول تحليل حياتنا تحليلا يردها إلى بذورها وجذورها، لتنشأ فرصة أمام أبصار المبصرين أن ترى أين تكمن القوة وأين يكمن الضعف.
فكانت البذرة الأولى، هي حقيقة «المصري» ما هي؟ من أي العناصر تركبت «هويته» على امتداد التاريخ؟ ثم كيف نرى حياته الآن من هويته تلك، وكان مختصر الجواب أن جوهر المصري هو أن يحيا حياته الدنيا زراعة، وصناعة، وفنا، وحربا، وسلما، أن يحيا تلك الحياة الدنيا بكل أفراحها وأحزانها، على أن ينظر إليها من منظور ديني يبين له أين تتعثر به الخطى وأين تستقيم؟ ولقد تغيرت عليه العقائد الدينية، لكن بقي «التدين»، يصاحبه دائما، ولب «التدين» - مع اختلاف العقائد - هو أن ينظر إلى الحياة الدنيا من حيث هي مقدمة لحياة الخلود، وهي مقدمة ضرورية؛ لأنها تهيئ للإنسان مسرح العمل الذي على أساسه يكون له في حياته الآخرة ثواب أو عقاب، فهي - إذن - حضارة أخلاقية، من عمق أعماقها، وعند هذا الأساس العميق تتلاقى مصر مع سائر أجزاء الوطن العربي الكبير، كما تتلاقى معه بعد ذلك في سائر المقومات الحضارية.
إن ثبات الهوية وديمومتها، لا ينفيان التغير مع متغيرات العصور، ولقد ضربنا لذلك مثلا ذلك السماك الذي أخذت ألواح قاربه تهترئ واحدا بعد واحد، وأخذ هو كلما اهترأ واحد منها، استبدل به لوحا جديدا، حتى جاء يوم لم يعد في القارب شيء مما كان فيه أول عهده، ومع ذلك فلا خطأ في قولنا إن القارب لم يزل هو القارب الذي كان، لماذا؟ لأن «الصورة» الأساسية، أو «الهيكل» الأساسي بقي على حاله، فخلع ثبات الهيكل ثباتا على هويته، وهكذا تكون هوية الأمة، تتغير عناصر حياتها، لكنه إذا بقيت «صورة» العلاقات بين أفرادها قائمة، قلنا إن الهوية ما زالت على حقيقتها الأولى برغم ما قد تغير من عناصر حياتها.
وننظر إلى حياتنا اليوم، فلا نتردد لحظة واحدة، في أن صورة العلاقات التي تربط المواطن بالمواطن قد تغيرت في صميمها، حتى يكاد الأمر يتحول من كون الأمة أمة واحدة، إلى كونها تجمعا من أفراد، كل فرد منهم يسعى إلى الحصول على أكبر نصيب ممكن من «الغنائم»، بأقل قدر ممكن من العمل، ومن هنا كان السابقون في هذا المضمار، هم أبرع الناس حيلة ودهاء، وليس أرفعهم ذكاء وعلما وعطاء، وما يقال عن أفراد الشعب الواحد من شعوب الوطن العربي، يقال عن الشعوب العربية بعضها إزاء بعض، فلم تعد الأمة العربية أمة بينها أواصر الأمة الواحدة، بقدر ما أصبحت عددا من الشعوب يمكر شعب منها بشعب ليظفر دونه بالغنيمة، ولولا بقية جوهرية بقيت، هي أن ذلك التفكك أكثر ظهورا على صعيد السياسة منها على صعيد الثقافة، لقلنا إن الرحمن قد أوشك بنا على الفناء.
وعند هذه النقطة ننتقل إلى «البذرة» الثانية من بذور حياتنا، فلماذا فقد الفرد الواحد من المواطنين في الشعب الواحد، إحساسه «بالآخرين»؟ ما الذي غرس في صدورنا ذلك الضلال الذي شوه الرؤية عند كل فرد حتى ليحسب أنه وحده في هذه الدنيا، له أن يحصد الحصاد كله لشخصه وحده، فإذا كان هنالك «آخرون» فإنما هم «أدوات» تستغل لصالحه وتستثمر لزيادة كسبه، وذلك - بالطبع - إذا استطاع أن يحقق لنفسه ذلك الوهم الكبير؛ إذ هو قد يصطدم بمن هو أشد ضراوة وأمكر حيلة، لعل ما ساعد الأفراد على هذه الأنانية المخيفة في حياتنا الاجتماعية اليوم، هو فقدان الفكرة الموحدة بيننا عن حقيقة «الإنسان»، ما هي؟ لقد درج معظم التاريخ الماضي على أن جوهر الإنسان هو «عقله»، وحتى الديانات الكبرى، التي جاءت إلى أهل الأرض وحيا من السماء، إنما جاءت لتقول لهم إن الجانب الذي كرم به الله الإنسان هو أن وهبه عقلا، يميزه عن سائر الكائنات، ولو بقينا على هذه العقيدة في حقيقة الإنسان، لأرسينا المعاملات الاجتماعية على أسس يرضى عنها منطق العقل، وأول ما يفرضه علينا ذلك المنطق، هو أن الإنسان اجتماعي، بطبيعته، لا يتحقق له وجود إلا إذا نظر إلى نفسه من حيث هو عضو في جسم كبير، دون أن تقلل هذه العضوية من حقيقته فردا مسئولا. وانظر إلى أعضاء الكائن الحي: القلب قلب يؤدي وظيفته كاملة، لكن هذا الأداء نفسه ما كان ليكون ذا قيمة، إذا لم يقم بتلك الوظيفة ليمد سائر الأعضاء بزاد من الدم لتحيا، وهكذا قل في الرئتين، وفي الكبد، وفي المعدة، وفي كل عضو من أعضاء البدن، وتلك العلاقة هي نفسها ما يفرضها منطق الفعل، على أفراد المجتمع، لكنه جاء عصرنا هذا بما يبلبل الفكر عن حقيقة الإنسان، فمن قائل إنه كذا، ومن قائل إنه كيت، مما يندرج تحت عنوان «اللاعقل»، حتى أصبح «اللامعقول» أساسا ينافس المعقول، وقد يغلبه على أمره ليسود، ولقد ساد اللامعقول في كثير من جوانب حياتنا، فكان من نتائج ذلك أن ظن الفرد الواحد أنه يستطيع أن يغض النظر عن سائر الأفراد، كما ظن الشعب الواحد من الشعوب العربية أنه يستطيع أن يسقط من حسابه سائر الشعوب.
وعند هذا التنافر الحاد بين الأفراد في الشعب الواحد، وبين الشعوب في الأمة العربية الواحدة، ننتقل إلى البذرة الثالثة وهي خاصة بالثقافة والمثقفين في حياتنا القائمة، فإذا أبعدنا عن المعاني الكثيرة التي تفهم بها كلمة «ثقافة» ذلك المعنى الذي يجعلها مجموعة العناصر كلها، التي من تركيبها في نسيج واحد، ينشأ نمط الحياة التي تحياها مجموعة معينة من الناس، بقيت لنا عدة معان أخرى، تريد ب «الثقافة» أن تشير إلى خصائص نوعية تتميز بها مجموعة من أفراد الشعب لا تشمل إلا نسبة قليلة من أبنائه، هي تلك القلة التي توجه اهتمامها - إبداعا أو استقبالا للمبدعات - نحو الأدب، والفن، والفكر، والقيم الضابطة للسلوك، والرؤية العامة التي على أساسها ينظر الإنسان إلى الكون وإلى الحياة بصفة عامة، وإلى حياة الإنسان في أركانها الأساسية بصفة خاصة.
وهذه المعاني النوعية للثقافة هي التي نقصد إليها بحديثنا هذا، وليس على واحد معين منها إجماع؛ إذ نجد الرأي في ذلك قد تفرق بين أعلام المفكرين في عصرنا هذا، فضلا عما اختلف به في العصور الماضية، فمن هو «المثقف» في حساب عصرنا؟ قائل يقول إنه ذلك الإنسان الذي يتميز بحب الكشف عن سر الحياة في شتى صورها، وفي صورتها الإنسانية بصفة خاصة، فهو لا يكتفي بالوقوف عند أسطح الكائنات وظواهرها، بل يريد أن ينفذ خلال تلك الأسطح الظاهرة ليرى دوافعها وجوهرها من باطن، فهكذا يفعل الشاعر في البحث عن دخائل النفوس، وهكذا يفعل الروائي والمسرحي والفنان التشكيلي والموسيقي، كل بالمادة الوسيطة التي يستخدمها، وهكذا أيضا يفعل المتلقي لهذه الأشياء جميعا، فهو وإن لم يكن قد أبدعها بالدرجة الأولى، يحاول أن يعيد إبداعها في نفسه حيث يتلقاها بالدرجة الثانية، وسواء أكان صاحب الاهتمام مبدعا أم كان متلقيا، فإنه في أعماق نفسه يبحث عن وسيلة تجمع له كل الرؤى وجميع المبدعات في العصر الواحد تلتقي في هدف واحد، هو غاية أبناء ذلك العصر، فإذا لم تكن هناك غاية معلومة قد أضمرت فيما يبدعه المبدعون ويتلقاه المتلقون، لم نجد في دنيا الثقافة إلا هشيما أعوزه أن يكتمل في كيان حي موحد.
ومثل هذا الهشيم هو الذي نراه في حياتنا الثقافية اليوم؛ فقد تجد أعمالا مفردة كثيرة لكل منها قيمته في ذاته، لكنه يتعذر عليك أن تستخرج غاية مشتركة يستهدفها المثقفون في ضمائرهم، وإن لم يروها ظاهرة في الوعي المباشر. وكيف نطمع في مثل هذه الغاية الموحدة، إذا نحن اختلفنا أولا على طبيعة «الثقافة» ذاتها، واختلفنا ثانيا على هدفها، فطبيعتها تتنازعها آراء، منها ما أسلفنا ذكره، وهو أن يتجه المثقف باهتمامه إلى مجرد الكشف عن دوافع الإنسان، ومنها ما يترك الإنسان وغموضه ليحصر انتباهه في «لغته»، وهنا سيجد غموضا شديدا في فهم الناس للمدركات الأساسية التي تدور حولها رحى الحياة، وعندئذ تكون المهمة الأولى للمثقف أن يزيل ذلك الغموض، تارة بالتحليل المنطقي للمعاني، وطورا بتجسيد تلك المعاني الكلية في أفراد روائية أو مسرحية أو شعرية، ومرة ثالثة تجد من يريد بالثقافة «تنويرا»، ويراد بالتنوير هنا أن تزداد معارف الناس عن دنياهم بصفة عامة، وأن ترسخ عندهم النظرة «العقلية» لأمور حياتهم بصفة خاصة، وقد كنا نتمنى لحياتنا الثقافية أن تأخذ بما شاءت من تلك المعاني؛ لأنها جميعا تؤدي إلى الغاية، لكننا لا نجد شيئا من هذا، وهنا نبحث عن «الغاية» من حياتنا كما تريدها لنا حياتنا الثقافية، فإذا هي غائبة؛ إذ تتقسمها وجهات نظر متناقضة فتمزقها، وحسبنا أن بعضنا يجد غايته في الرجوع القهقرى، وبعضنا الآخر يراها في استباق مستقبل مأمول.
وهنا نلقط الخيط من أيدي الداعين إلى العيش مع الأسلاف في ماضيهم، فنجد أنفسنا أمام البذرة الرابعة من بذور حياتنا الثقافية، وهي «التراث» وما نثيره حوله من ضجة تصم الآذان فلا تصغي ولا تسمع؛ لأن هذا الاسم إنما يشير إلى مسمى هو أوسع جدا وأعمق جدا من أن ينحصر في موضوع واحد يتيح لنا التحدث عنه متفقين أو مختلفين، فإذا نحن حصرنا لكل فئة منا ميدانها أو ميادينها التي تهمها من عالم التراث، ثم دققنا النظر بعد ذلك، وجدنا أنه إذا ما عاد أحدنا إلى الموروث في ميدان اهتمامه، فهو - أولا - قد لا يجد نفسه غريبا، لما يربطه بذوق أسلافه في مذاق مشترك، وهو - ثانيا - يجد أن مشكلات أسلافنا وإن اختلفت عن مشكلاتنا اليوم من حيث الموضوع، فهنالك جانب مشترك يربطنا بهم، ولقد طبق كاتب هذه السطور التجربة على نفسه، وعاد ليعيش لحظة مع أصحاب الفكر الفلسفي في مشكلة عرضوها واختلفوا في أمرها، فوجد نفسه منسجما معهم في جوهر الموقف؛ لأن المشكلة كانت عندهم هي هذه: أيأخذون عن فلاسفة اليونان منطقهم؟ أم أن الأمر في المنطق مرتبط باللغة، وبالتالي لا يكون المنطق اليوناني صالحا للغة العربية؟ فلم يجد هذا الكاتب عندئذ فرقا جوهريا بين سؤالهم وسؤالنا، فما زال السؤال واردا يحتمل اختلاف الرأي؛ إذ نسأل اليوم: أنأخذ عن فلاسفة الغرب؟ أم أن هؤلاء الفلاسفة يفلسفون حياة ليست هي حياتنا؟
نامعلوم صفحہ