وإنا لنلحظ قصورا شديدا في فهم الناس لحق «الحرية»؛ فلأننا كنا مقيدين بقيود سياسية نابعة من داخلنا، وآتية من خارجنا، ثم أشعلناها ثورات، تعاقبت ثورة بعد ثورة، خلاصا من تلك القيود، فقد رسخ في أذهاننا أن الحرية بذاتها هي عملية «التحرر» من أغلال كانت تقيدنا فحطمناها، وفاتنا المعنى الكبير للحرية في جانبها الإيجابي للبناء؛ لأنه إذا كان «التحرر» قد أزال قيودا كانت موجودة، فإنه بذلك يكون قد استوفى الجانب السلبي من الطريق، وبقي أمامه جانب الفعل الإيجابي الذي يبني، والأمر هنا شديد الشبه بخطوة إزالة الأنقاض التي هدم بها مبنى قديم، لكي تخلو رقعة الأرض لتشييد بناء جديد، فمرحلة «الحرية» تأتي بعد مرحلة «التحرير»، ويترتب على ذلك ألا تكون حرية إلا وهي مستندة إلى معرفة الإنسان الحر بما يلزم لما يريد أن ينشئه أو يقيمه أو يبنيه، ومن هنا كانت «الحرية» بهذا المعنى الإيجابي مستحيلة بغير «علم» و«خبرة» سابقين، وكثيرا ما حدث أن المستبد الطاغية الذي أمسك برقابنا في مرحلة القيود، قد سد في وجوهنا أبواب العلم الذي من شأنه أن ينتهي بصاحبه إلى «فعل»، فنحن نعلم - مثلا - كيف حرص المحتل البريطاني طوال فترة احتلاله لمصر، على أن يتجه معظم التعليم العالي إلى ما نطلق عليه اسم الدراسة «الأدبية»، وأما «العلوم» الطبيعية والمهنية فقد كان المسموح به منها لا يعدو قلة قليلة الدارسين، مع أن «الحرية» الحقيقية مستحيلة بغيرها؟ فالحر حر بما قد «علمه» من علم «ومن خبرة»، يؤديان به «فعلا» إلى تغيير وجه الأرض قليلا أو كثيرا، وأما الدراسة الأدبية، فأقصى مداها في هذا السبيل، هو أن تحدث في النفوس أثرا قد يكون فيما بعد مخاضا لولادة جديدة، إن دراسة «الآداب» كما يسمونها «وكان الأصح أن توصف بإنسانيتها»، فيقال: «علوم إنسانية» تؤدي إلى شعور الإنسان بحقوقه، فيعمل على استكمالها إذا كانت منقوصة، وذلك هو «التحرير» وأما دراسة العلوم الطبيعية فهي تؤدي إلى إقامة البناء الحضاري وما فيه «من عمران»، وتلك هي الحرية، والنظام التعليمي مطالب بأن يحفظ النسبة الصحيحة بين الدراستين، حتى يكون فيهما ما يرهف حس الإنسان بحياته وبحريته، كما يكون فيهما ما يعين على التشييد والتعمير، فينقل تلك الحقوق الإنسانية من مجرد أن تكون أدوات موقظة ومحركة، إلى مرحلة تالية تخرج فيها من «الأذهان» إلى «الأعيان»، أي أن تتحول من كونها فكرا، إلى حالة تتجسد فيها تلك الأفكار في حضارة.
كل ذلك التحول إنما هو دائما من صنع «المواهب»، حتى من تلقوا أعلى الدرجات العلمية في تخصص معين؛ كالهندسة أو الطب، فذلك وحده لا يكفل أن يكونوا من أصحاب المواهب بالمعنى المقصود هنا؛ لأنهم ربما ساروا بما درسوه على الطرق المدقوقة الممهدة بأقدام من سبقوهم سيرا على تلك الطرق، وبهذا وحده تبقى الحياة على نمطها، فلا تتغير نحو الأعلى، وإنما المواهب هي التي تستبدل بالنمط القائم نمطا جديدا، ورعاية تلك المواهب ينبغي أن تكون في استراتيجية التعلم هدفها الأخير، مرورا بإعداد المتعلمين المتخصصين الذين يديرون عجلة الحياة كما ألفها الناس.
وهل تسألونني: أين إذن حق «المساواة» إذا اتجهنا بكل هذا الاهتمام إلى نفر قليل من جمهور عريض؟ والجواب يملي نفسه إملاء؛ فالمساواة بين المتسابقين متمثلة في الخط الأبيض الذي عنده يقفون جميعا على حد سواء: فإذا صفر الحكم وانطلق المتسابقون، فكل له بقدر ما تسعفه قواه.
لكن السؤال الأهم - يا أبنائي - هو هذا: إذا كان ذلك هو ما كان ينبغي علينا فعله لرعاية «المواهب»، فماذا تقولون في مجتمع جرى منذ سنوات على عرف شيطاني مخيف، وهو أن يجعل مهمته طمس المواهب وأصحابها؟!
وثبة جبارة
نزل نيل أرمسترونج ذات يوم من صيف 1969م على تراب القمر لأول مرة في تاريخ البشر، وقد تكون هي أول مرة كذلك في تاريخ الكون، تحرك فيها كائن حي على ذلك الكوكب، فلما أن خطا أرمسترونج خطوته الأولى هناك قال كلمته التي لا شك في أن تكون قد وجدت طريقها - فور النطق بها - إلى سجل الخلود؛ إذ قال: «هذه خطوة واحدة يخطوها إنسان لكنها للإنسانية وثبة جبارة.» ولقد سمعه سكان الأرض وهو يقولها، فلقد كان ملايينهم يشاهدون الشاشات الصغيرة في منازلهم - أو حيثما كانوا - وكان هذا الكاتب واحدا من هؤلاء الملايين الذين شدت أبصارهم إلى صورة الرجل على شاشة التلفاز ينزل على درجات سلم قصير من حيث كان، ليقف بقدميه على تراب القمر، ولقد بدا في ملابسه المنتفخة من عالم الأحلام، ثم سمعناه وهو يقول عبارته تلك في صوت تهدج بزهو خلطته رهبة وخشوع.
ومن ذا الذي وهبه الله شيئا من بصيرة تخترق الأحداث إلى مدلولاتها، ثم لم يستطع أن يدرك الشبه الشديد بين لحظتين: لحظة أن غامر كرستوفر كولمبس بسفينته، فشق «بحر الظلمات» (المحيط الأطلنطي)، فكان عند كل موجة من جبال الموج الذي أخذ يشيل السفينة ويحطها، كأنها لعبة من ورق بعث بها شيطان مجنون، لا يدري ماذا هو واجد عند الموجة التي تليها، ولحظة أن انتهى العد التنازلي للصاروخ الواقف في تحفز للوثوب، وإذا هو ينطلق انطلاقة المارد مخترقا أطباق السماء، وهو مصحوب بذيل من نار؟ نعم من ذا الذي لم يربط بخياله اللحظة التاريخية الأولى، عندما غامر كولمبس في مجاهل البحر، باللحظة التاريخية الثانية عندما انقذف أرمسترونج بصاروخه في مجاهل السماء؟ فلقد كانت اللحظة الأولى بداية لثورة حضارية، لا نظن أن كولمبس توقع من حقيقتها جزءا من ألف جزء، فدون أن يقصد ودون أن يدري وقع على قارة جديدة، أو قل - إن شئت - قارتين، ودون أن يقصد ودون أن يدري، شاء الله سبحانه وتعالى أن تلوذ فئة من أهل الدنيا القديمة بتلك الدنيا الجديدة، ثم توالت بعد الفئة الواحدة الصغيرة فئات كثيرة، حتى نشأت في الدنيا الجديدة أمة - أو أمم - فلم يطو التاريخ من سجله الضخم صفحة أو صفحتين، حتى بذرت بذور حضارة جديدة تقوم على علم جديد - علم جديد - اقرأ هذه العبارة الموجزة، أرجوك، مائة مرة قبل أن تستأنف القراءة.
فتاريخ العلم قد طال ما طال التاريخ البشري؛ إذ ماذا يكون «العلم» بمعناه المطلق، إلا أن يكون معرفة حصلها الإنسان عما حوله، بحيث استطاع أن يصوغها في عبارات تحمل أحكاما عامة، هي التي تسمى بالقوانين العلمية عندما هذبت وبلغت درجة معينة من الدقة والصواب؟! لكن العلم - مع ذلك - أخذت صورته وموضوعه يتغيران مع تعاقب العصور، فإذا زعمنا لك الآن أنه في الدنيا الجديدة ولد «علم جديد» لم يلبث أن أقيمت عليه حضارة جديدة، فنحن نعني ما نقوله، فعلم المائة والخمسين عاما الأخيرة لا يشبهه علم سبقه في عصر سابق، وكانت نقطة الاختلاف الأساسية هي العناية الشديدة بابتكار «أجهزة»، تساعد الباحث على مزيد من دقة النتائج، وكان استخدام الأجهزة في البحث العلمي قبل ذلك منحصرا في حيز ضئيل لا يكاد يستحق الذكر، فلما أصبح هو الأساس الواسع العميق المتنوع، أطلق على ذلك المنهج الجديد اسم «التكنولوجيا» «ومعناها العلم بوساطة الأجهزة»، ثم جاء الاستعمال الشعبي بعد ذلك ليطلق هذا الاسم نفسه على الناتج الصناعي، الذي ينتج بفضل منهج الأجهزة، والذي يهمنا الآن من هذا كله هو أننا أصبحنا أمام علم جديد، أدى بالناس إلى الإنتاج السريع المتلاحق لأجهزة وآلات تصنع الأعاجيب، التي لم يكن في مستطاع الأحلام فيما مضى أن تجعلها موضوعا لشطح الأوهام!
تلك - إذن - كانت اللحظة الأولى وما تولد عنها وأعني لحظة إبحار كولمبس نحو عالم جديد، وما تولد عن ذلك من علم جديد وحضارة جديدة، وسرعان ما أصبح العلم الجديد هو العصر في شرقي الأرض وغربيها، وأصبحت الحضارة المترتبة عليه هي حضارة أهل الكوكب الأرضي كله، ولكن بدرجات تتفاوت في الشعوب ما تفاوتت علما وارتقاء، فمن إذن الذي لا يرتج فؤاده أمام اللحظة الثانية، لحظة أرمسترونج وهو يخطو بقدميه فوق تراب القمر وصخوره، ليسأل: ماذا - يا ترى - قد كتب للإنسان في تلك اللحظة من علم أجد من الجديد ومن حضارة أخرى غير الحضارة القائمة؟
هكذا يقف سكان الأرض على عتبة مجهول عظيم، نستطيع أن نطير في أجوائه بجناح الخيال، مهتدين بقبس نستضيء به مما ولدته لحظة تاريخية جريئة، رأيناها وعشناها علما جديدا وحضارة جديدة، فقل لي بالله إذا كان هذا هو الموقف الإنساني الراهن وحقيقته، فبماذا تنصح والدا يريد أن يربي ولده لزمان لن يكون كزمان والده؟ لا علما ولا حضارة؟ أتنصحه بأن يلوي عنق ولده لتتجه عيناه إلى ورائه، أم تنصحه بأن يشحذ بصره وبصيرته إلى أمامه تحسبا للمصير؟ أم توصيه بأن ينظر خلفه بالقدر الذي يسدد خطاه في سيرها نحو المستقبل الموعود؟ أما هذا الكاتب فيرى في الأولى انتحارا وفي الثانية انبهارا وفي الثالثة منطق الحكماء.
نامعلوم صفحہ