هذا الإدراك اللوني، هو - إذن - أحد التخصصات الإدراكية، يختص به جزء معين من البدن، وهو «العين» وتخصص آخر يضطلع به جزء آخر، وذلك هو تلقي الموجات الصوتية، والعضو الخاص بذلك هو «الأذن»، وهنا كذلك تجدر الملاحظة، بأن «الصوت» ينشأ «داخل» الكائن المدرك، الذي يتلقى موجاته، فلو لم تكن «آذان» لما كان في الكون صوت، وهكذا قل في سائر الحواس، التي تتعاون معا، وتتكامل معا، في الكائن الحي الواحد، فتتلقى بمجموع تخصصاتها شتى المؤثرات التي يكون الكائن الحي المعين بحاجة إلى إدراكها عن دنياه المحيطة به، ليفيد بما يريد أن يفيد به صونا لحياته من طعام وشراب وغير ذلك، وليتقي ما لا بد أن يتقيه من أعدائه.
حتى إذا ما كان «الإنسان» كانت معه «الحياة» على صورة تذهلنا بقدراتها - لو أن الإنسان عرف كيف يستخدم تلك القدرات، فليس الاختلاف بين الإنسان وما دونه، هو مجرد اختلاف في الدرجة، بمعنى أن يدرك من محيطه كما يدرك الحيوان من محيطه، مؤثرات توجهه نحو أن ينتفع بما ينفع، وأن يجتنب ما يؤذي ويهلك، لا، بل إنه اختلاف، إلى جانب لونه اختلافا في «الدرجة» أحيانا، فهو أيضا - وهذا هو المهم - اختلاف في «النوع»؛ لأن الإنسان بعد أن تلقى عن طريق حواسه ما يتلقى، فيتلقى مرئيات بالعين، ومسموعات بالأذن، وهلم جرا، فهو ينتقل بهذه الحصيلة كلها، إلى حيث يهضمها ويعتصرها، فإذا هي عنده قوة جديدة؛ إذ هي ما يصبح عنده «علما» في حالة العلوم، «وثقافة» في حالة الثقافة يختلف ميادينها، ثم هي كذلك قوة تصبح عنده وجدانا دينيا، فإذا كان الحيوان يشارك الإنسان في إدراك الحواس، فالإنسان ينفرد دون سائر الكائنات الحية ، بقدرته على تحويل مدركاته الحسية، إما إلى «علم» وإما إلى «ثقافة» وفوق هذا وذاك، تملي عليه فطرته أن يؤمن بدين، وإنا لنلحظ في التاريخ الفكري، كيف اختلف الفلاسفة في الصفة الجوهرية، التي تجعل الإنسان إنسانا متميزا عن الحيوان، وكان أغلب الرأي في ذلك أنه «العقل»، أي ذلك الجانب من قدرات الإنسان، الذي به يصنع من مدركاته الحسية «علما»، لكن كانت هنالك آراء أخرى، فهنالك من جعلوا الصفة المميزة للإنسان جانبا آخر، هو «الإرادة» التي تتجه بحصيلة المدركات الحسية، نحو تشكيل العالم الخارجي تشكيلا جديدا، يراه صاحب الإرادة أنه أكثر نفعا له من التشكيل القائم، على أن كاتب هذه السطور وإن يكن لا يعرف فيلسوفا جعل «الدين» مميزا للإنسان، أكثر مما يميزه علم وثقافة وإرادة، أقول إن هذا الكاتب لا يعرف أحدا قال ذلك بصورة واضحة ومباشرة، في حين أنه يرى التدين أشد تمييزا للإنسان من أي جانب آخر، وأذكر أني قلت هذا فيما كتبت ذات يوم، وكانت جاءتني بعض الرسائل، يذكرني فيها مرسلوها بما ورد في الكتاب الكريم، من أن الشجر، والجبال، والنجوم، وكل كائنات السماء والأرض، تسبح لله العلي العظيم، لكنني رأيت - وما زلت أرى - أن ذلك شيء وتدين الإنسان بدينه شيء آخر، وأقل ما يقال في الفرق بين الحالتين، هو أنه بينما يعبد الإنسان ربه وهو على وعي بتلك العبادة، وعيا يجريه في لغة مسموعة عند الآخرين، مقروءة في جيله وفيما يلي من أجيال، إذا كانت العبارة من دقة النسج، ومن غزارة المضمون، ما يستحق البقاء، أضف إلى ذلك أن إيمان الإنسان بما يؤمن به من عقيدة، هو إيمان إرادي مسئول، كان يستطيع أن يستبدل به جانبا آخر، وهو لقاء الإرادة الحرة في اختيار عقيدته، يثاب على اختياره إذا وقع به على الحق، ويعاقب على اختياره إذا انحرف به عن جادة السبيل، وأما سائر كائنات الكون إذ تسبح لخالقها العظيم، فذلك إنما يكون بلسان الحال، لا بلسان المقال، فضلا عن أنه ليس مرهونا بإرادة حرة تختار، وتسأل عما اختارت.
نعم، إن «الحياة» في شتى صورها، من خلية «الأميبا » في أدنى السلم، وصعودا متدرجا مع مختلف الأنواع الحية، من نبات وحيوان، حتى نصل في أعلى درجات السلم إلى الإنسان، فلئن كانت الحياة في كل كائن حي آية من آيات الله سبحانه وتعالى، تستحق أن يوقف عندها طويلا طويلا، للتفكر في خلق الله، فهي في الإنسان آية الآيات؛ لأنها تضيف إلى المعجزة العضوية معجزات العقل، والإرادة، والوجدان، ونترك هذا الإنسان حينا لنتجه بلفتة سريعة إلى الحيوان، الذي هو مركب غريزي صرف، لا اختيار له فيما يفعل أو فيما يمتنع عن فعله، ومع ذلك فانظر إلى هذه الفطرة العجماء، كيف توجه نفسها في حياتها - بإلهام ربها - نحو ما يحقق لها البقاء، حتى ليخيل إلى المشاهد، أنها توجهات تخفي وراءها حكمة الحكماء وعلم العلماء في آن واحد، وأن هذا الكاتب ليستعيد الآن صورة من خبرة حياته الماضية، فقد حدث له أيام دراسته في إنجلترا، أن جاءه البريد بعددين من مجلة الثقافة التي كانت تصدرها يومئذ بالقاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، قرأ منهما واحدا وبقي الآخر بجواره فوق المنضدة، فما هو إلا أن جاء كلب تقتنيه الأسرة صاحبة البيت، والتقط بفمه عدد المجلة من فوق المنضدة، وحرصا من الكاتب على قراءته، أمسك بالعدد المقروء أمام الكلب، لعله يسقط من فمه ما فيه، وإذا بالكلب ينظر نظرة ناطقة بالحيرة الداخلية، وبسرعة البرق أسقط العدد من فمه ليضعه تحت أقدامه، ولقف بفمه العدد الثاني، فماذا يكون ذلك، إلا قدرة ذلك الحيوان على إيجاد مخرج من موقف فوجئ به، إن ما يلفت أنظارنا في أمثال هذه المواقف من حياة الحيوان، هو القدرة على التكيف لما يستحدث في مجرى الحياة من مشكلات، وإيجاد الحلول إذا استشكل عليها أمر، وروى عالم النفس «كوفكا» وهذا غير الأديب «كافكا» عن بعض مشاهداته وتجاربه، التي تدل على قدرة الحيوان فيما يشبه إدراك البصيرة الحيوانية، ومنها أن أرنبا طارده ثعلب في حقل، وكان محتوما أن يلحق الثعلب بالأرنب، لولا أن الأرنب لمح في طريقه «ماسورة» من فخار، تسعه ولا تسع الثعلب، فأسرع إليها واحتمى بداخلها، وترك الثعلب يدور حولها ناظرا بعينيه عند طرفيها، ثم انصرف عنها محبطا.
وما دمت في سياق الحديث عن الحيوان الأعجم، وقدراته على مواجهة الواقع وما يستحدث فيه من مشكلات، لا بد لي أن أذكر قصيدة للشاعر الأمريكي، «روبرت فروست» الذي هو في طليعة الشعراء المعاصرين في الولايات المتحدة الأمريكية «مات في الخمسينات على ما أذكر» والقصيدة غاية في البساطة الريفية، غاية في الروعة، ولقد تركت عندي أثرا أعمق الأثر حقا، وخلاصتها أن الشاعر إذ جلس إلى مكتبه ذات مساء، ووضع الورقة أمامه، وأنار المصباح، جاءت «هاموشة» صغيرة جدا، ووقفت على الورقة في طرفها البعيد، وما كاد الشاعر يقترب بسن قلمه من الورقة حتى فزعت الهاموشة واضطربت، لكنها عادت فسكنت سكونا حذرا كما سيظهر من سلوكها، فقد أخذ الشاعر - على سبيل التجربة - يدني قلمه من أطراف الورقة، هنا وهنا وهناك، في هدوء شديد، ليرى ماذا هي صانعة، وكلما اقترب القلم من الورقة عند أبعد أطرافها اضطربت الهاموشة، حتى إذا ما غاب القلم سكنت، وهكذا، سبحانك ربي، أين يكمن في هذا المخلوق الصغير، الذي لا تكاد تراه عين لشدة صغره، أين تكمن فيه هذه الحيطة كلها، وهذا التنبه الحاد لما يدور حولها من أحداث، قد يكون فيها خطر يهدد وجودها؟ وما أكثر ما نسمعه اليوم من روايات تقال عما هو أصغر من تلك الهاموشة، مما لا يراه الإنسان إلا وهو مستعين بالمجاهير، وأعني ما يسمونه «فيروس»، وهي روايات تخيل إليك أن هذا الكائن الضئيل، يحمل في جوفه فرقة بأكملها من رجال المباحث والمخابرات بكل ما لديها من وسائل التنكر والمخادعة لتوقع بالعدو المختفي، فنسمع أن هذا الفيروس، إذا ما أدرك أن خلايا الإنسان في موضع معين، مزودة بما يصونها من هجمة الفيروس تنكر الفيروس المهاجم بقشرة خارجية، توهم الخلية بأنها أمام فيروس آخر صديق، حتى إذا ما فتحت له أبوابها للدخول، ودخل في قلبها، خلع عن نفسه قشرة التنكر ، وفعل بالخلية أفاعيله، التي تنتهي بالقضاء عليه، وعلى الإنسان الذي هي جزء منه!
ألا إنها لأشبه بالملاحم الكبرى، بكل ما فيها من مهارة المحاربين ودهائهم، تلك الحياة التي يعيشها حيوان أعجم في بيئته، مترصدا لعوامل فنائه، باحثا عن عوامل بقائه ونمائه! فماذا عن الإنسان، آية الآيات في خلق الله عز وجل؟ إنه معد بكل ما أعد به الحيوان من حذر ويقظة وسعي، ثم يضيف إليها ما هو أكثر، فلئن كان الحيوان قادرا على «التكيف» لعوامل بيئته، فإن الإنسان قادر - بالإضافة إلى التكيف - على «تكييف» بيئته حتى تصبح أقرب منالا، فالإنسان هو صانع بيئته إلى حد كبير، ولا يكفيه أن يأخذ الأمر الواقع مأخذ التسليم، ثم يحاول التكيف له؛ ولذلك فإن ما قد تظنه بيئة واحدة معينة محددة بظروفها سرعان ما تراها وقد تحولت عدة بيئات، بمقدار ما يتعدد حيالها أفراد الناس، لكل فرد منهم إدراكه الخاص وخياله الخاص، فربما وقف ثلاثة أصدقاء - مثلا - عند ملتقى قناة السويس بالبحر الأبيض المتوسط عند بورسعيد، وبدوا من ظاهرهم وكأنهم ينظرون إلى ما حولهم نظرة واحدة، فإذا بأحدهم - وهو أديب روائي - قد أخذ يستلهم ما يراه رواية يكتبها عن حياة العمال المصريين، منذ سخروا في حفرها، وإلى اليوم حيث يعمل بها صنوف أخرى من العاملين، وإذا بالثاني - وهو فنان تشكيلي - قد لمح مشهدا تحركت له القوة الإبداعية، في لوحة يصور بها روح التشييد العمراني عند المصري، مقرونة بروح المقاومة التي صمد بها على امتداد التاريخ، فقريب من هنا عبر موسى عليه السلام وانشقت له مياه البحيرة التي عبرها، وقريب من هنا جاء الطفل عيسى عليه السلام مع أمه العذراء مريم، هاربة به من خطر أحاط بهما في موطنهما من فلسطين، وقريب من هنا جاء عمرو بن العاص وجنده فرفع بمجيئه لواء الإسلام، وقريب من هنا حدث، وحدث، وحدث، فأين هو الفنان الذي يقف هنا ولا تتحرك بين أصابعه أدوات التصوير والتشكيل؟ وإذا بالصديق الثالث، لا هو ممن يتمخض عنده ذلك المشهد عن رواية، ولا عن لوحة، بل هو تاجر، رأى ما رآه فلم يتخيل إلا سوقا يشارك فيها بالبيع والشراء، وتلك هي قدرة الإنسان، التي يزيد بها على تكيف الحيوان للظروف ببيئته، بأن يخلق لنفسه بيئة، يستحدثها استحداثا لتخدم خياله وطموحه وامتداد بصيرته إلى مستقبل لا يزال في مجاهل الغيب.
قف عند ملتقى طريقين في المدينة، وانظر إلى زحمة المشاة على الأرصفة، وتزاحم السيارات غادية ورائحة، لكن لا تقصر نظرتك على السطح المرئي ممن ترى من الناس، مشاة أو راكبين، بل انفذ بخيالك إلى أجواف الجماجم، وما تمتلئ به، وعندئذ يهولك ذلك التنوع الشديد، في أهداف الأفراد، وفي وسائلهم وفي شواغلهم، وفي مسراتهم وهمومهم، ولن تكون بهذا أول من اخترق بخياله جدران الرءوس، فهنالك من الأدباء - في أدب الرواية، وأدب المسرح - من تخيل أنه إذ يرى أمامه جماعة من الناس فهو في الحقيقة أمام عدة أبراج مغلقة على سكانها، وما عليه إلا أن يكشف السقف في كل برج بشري ليطل على ساكنيه، وعندئذ يرى عجبا وأعجب من العجب، فنحن في ظاهرنا أسرة واحدة، أو أمة واحدة، وأما على الحقيقة الباطنية فنحن أسر، أو أمم بعدد أفرادنا.
وليس هذا الذي أقوله شطحة شطح بها كاتب على جناح خياله، بل هو الحقيقة الواقعة بعينها وعين عينها، وإن شئت فخذ أي موقف تختاره لجماعة من الناس، تحسبهم من ظاهرهم - بل ويحسبون أنفسهم، بإزاء حقيقة موضوعية معينة، ولنقل إنها مسرحية تمثل وجلس المشاهدون على مقاعدهم صفوفا ينظرون ويسمعون، الست تقول للوهلة الأولى، إن تلك المجموعة من الأفراد المشاهدين، إنما يرون مشاهد معينة يشترك الجميع في رؤيتها على السواء، ويسمعون حوارا يدور بين الممثلين، بحيث يتساوى في السمع زيد وعمرو وخالد؟ لكن دقق النظر في الوهلة الثانية، تجد بين النظارة اختلافات، يختلف بها كل فرد منهم عن كل فرد، وذلك على مستويات ثلاثة: أولها تفاوت الحواس في قوتها، فذو بصر حاد إلى جاره ذي البصر الضعيف المحدود، بل ربما كان مكفوف البصر، وذو سمع قوي لا تفوته نبرة واحدة مما يقال على خشبة المسرح، ويجاوره ذو سمع ضعيف لا تصل إليه الأصوات إلا خافتة مبهمة الحدود والفواصل، إذن فلا هم سواء فيما يرونه، ولا هم سواء فيما يسمعونه.
ذلك - إذن - هو أول أنواع الاختلاف في إدراك الأفراد للشيء الواحد الذي وضع أمامهم ليشاهدوه ويسمعوه، وأما المستوى الثاني لما ينشأ بينهم من اختلاف فيما يدركونه عن ذلك الشيء الواحد المشترك، فهو «نفسي»، بعد أن كان الاختلاف عند المستوى الأول «حسيا» أي خاصا بالحواس وإدراكها، فبعد أن يتلقى الحاضرون في المسرح ما يتلقونه من مرئيات ومسموعات تأتيهم من خشبة المسرح، فإن تلك المعطيات المرئية والمسموعة لا تكاد تصل إلى الأذهان،
فرد حياته الماضية وذكرياتها، وعند كل فرد تتداعى تلك الذكريات المتصلة بما هو مرئي ومسموع، ولكل فرد طريقته في الحكم على ما قد رآه وسمعه؛ ولهذا كله يصبح من المرجح أن يخرج كل فرد بحالة ذهنية نتجت له عما قد شهده، مختلفة كثيرا أو قليلا عن الحالة الذهنية التي خرج بها أقرانه، فإذا قلنا عن النوع الأول من ضروب الاختلاف الذي نشأ عن تفاوت البصر والسمع عند مختلف الأفراد، إنه «فسيولوجي»، فهذا النوع الثاني الذي نضب عنه اختلاف الأفراد على الحالة الذهنية التي نشأت عند كل فرد منهم، «سيكولوجي».
ثم يجيء المستوى الثالث في اختلاف الأفراد بعضهم عن بعض، حتى حين يكون الموضوع المطروح للرؤية والسمع والتفكير، شيئا بعينه يشتركون فيه جميعا، وذلك المستوى الثالث «فزيائي»، أي أنه موضوعي متصل بالجسم المادي ذاته، الذي هو ملتقى الرؤية والسمع والتفكير عند مختلف الأفراد، وشرح هذا الجانب المادي هو أن كل فرد ممن جلسوا في المسرح، إنما يرى ما يراه، ويسمع ما يسمعه من «زاوية» خاصة، تختلف - حتما - عن جميع الزوايا التي يرى فيها الناظرون ويسمع منها السامعون، فلو أننا وضعنا على مقاعد المسرح آلات تسجل الصورة والصوت، بدل أجسام الأفراد البشرية، لحصلنا على أشرطة، كل شريط فيها يسجل ما دار على خشبة المسرح صورة وصوتا، ولكنه محال على شريطين أن يتساويا تساويا كاملا في زوايا الصور الملتقطة، وفي درجة الصوت المسجل؛ لأن الزوايا تختلف، والأبعاد عن خشبة المسرح تتفاوت.
نامعلوم صفحہ