وليس في مستطاعي الآن أن أحدد ماذا كانت أول فكرة مما أنبته رأسي، بحيث كانت نسبته إلى شخصي كنسبة الولد إلى والده، حتى وإن يكن هنالك من العوامل الخارجية ما أوحى بالفكرة؛ لأن مثل هذا الإيحاء لا ينفي صحة النسبة، بل إنه ليكاد يكون شرطا ضروريا ولازما عند كل فكرة تولد لصاحبها، لكنني مع ذلك أقول صوابا إذا قلت إن أول «حالة فكرية» عشتها عن أصالة لا أقلد فيها أحدا، هي تلك الحالة التي تبينت فيها بوضوح، كم يتفاوت الأفراد في أقدارهم من الدنيا، تفاوتا لا يستند قط على تفاوت القدرات فيما يتفاوتون فيه، بحيث يكون النصيب الأعلى للقدرة الأعلى والأصغر للأصغر، بل إنه تفاوت يقوم معظمه على عوامل أخرى، لا شأن لها بطبيعة المجال الذي يتفاوتون فيه، وذهبت بنا هذه المفارقة إلى حد يأباه كل إدراك فطري سليم، ومع ذلك فقد حدث ووقع، بحيث جاز لمن لم يكتب في حياته صفحة واحدة - أو ما يقارب من ذلك - أن يعد «كاتبا»، كما جاز لمن لم يضطلع ببحث علمي واحد أن يعد «عالما»، فكان ذلك التناقض العجيب أول ما رسخ في نفسي رسوخا ليبيض بعد ذلك ويفرخ، وهنا لا بد لي أن أذكر لك - يا صاحبي - حقيقة هامة، تعين على فهم الحياة المنتجة وكيف تنتج، وتلك هي أن الفكرة المعينة إذا ما تبلورت وتعينت حدودها في ذهن صاحبها، ولو على صورة تقريبية يشوبها شيء من غموض تتداخل به مع غيرها من الأفكار فإنها - على الأرجح - لا تثبت على حالها إلى آخر العمر، بل هي تظل تزداد وضوحا وتفرز مضمونا ، وتتسع تطبيقا كلما ازداد صاحبها مع الخبرة توضيحا لها، فقد يستخدم أحد الناس كلمة «علم» مثلا، حين يكون مدى علمه بمعناها محدودا في دائرة ضيقة هي غالبا دائرة علومه المدرسية، ثم يكبر الناشئ ليكون طالبا في الجامعة، فأستاذا بتلك الجامعة فباحثا علميا ينشر نتائج أبحاثه على الناس، وفي كل خطوة من خطوات طريقه، نرى معنى «العلم» يزداد وضوحا ودقة واتساعا، وهكذا قل في أية فكرة يفرزها ذهنه أو يتلقاها من سواه، عندما يكون في أوائل الطريق فهي تضخم عنده معنى مع الأعوام والخبرة، وتكثر عناصرها وتفصيلاتها، ويصبح أقدر على رؤيتها مجسدة في مواقف الحياة العملية، بعد أن كانت في رأسه - أول الأمر - حبيسة صورتها المجردة.
وهكذا كانت الحالة مع أوائل الأفكار التي تراءت لي منذ مرحلة الشباب مأخوذة من آخرين بالقراءة، أو مستوحاة من ظروف الحياة العملية كما تلقيتها وتأثرت بها، ولقد أسلفت لك مثلا من فكرة غامضة، جاءتني في أول الشباب محصلة من مجرى الحياة العملية التي مارستها في ميدان التحصيل العلمي والثقافي؛ إذ استخلصت لنفسي كم بنيت حياتنا في ذلك الميدان على كثير من المفارقات، التي كان محالا عليها أن تكثر كما كثرت، إلا إذا كان المجتمع الذي عشت شبابي بين جنباته، قد أقيم على غير قليل من الظلم والعدوان، بحيث أتيح لمن لا يستحق شيئا أن يملك الحصاد على حساب من كان صاحب حق، ثم خرج من جهده المبذول صفر اليدين، أو ما يقارب من هذه الحالة، ولست أعني بصفرية اليدين هنا خلاءهما من مال مكسوب، فذلك كان - وما يزال - آخر ما يسترعي اهتمامي، ولكني عنيت بصفرية اليدين تجاهل الناس للحق، من ذا يكون صاحبه وأين يكون موضعه.
كانت الفكرة أول أمرها منصبة على أسس التعامل بين الناس، كما رأيتها وتأثرت بها، وبدأت التعبير عن تلك الصور في كتابات تأخذ صورة التحليل الموضعي آنا، وصورة الشكل الفني من آداب المقالة آنا آخر، وكانت هذه الصورة الثانية أحب إلى نفسي، ولو كان الفن الأدبي رجلا يعيش بيننا، لأعلن في الناس بأعلى صوته أن قلمي قد جرى عندئذ ببدائع ، لا أظن أن الأدب العربي يشتمل على كثير مما ينافسها إبداعا، لكن الفن الأدبي - وا أسفاه - لم يكن رجلا يعيش بين الناس لينبئهم حقيقة ما أغمضوا عنه الأعين، وليكن من أمر بذلك ما يكون، وإنما أردت أن أتعقب فكرتي عن الإنصاف أو الإجحاف في حياتنا العملية والثقافية، كيف رأيتها ثم دارت لي الأيام فالأعوام، فأخذت الصورة الفكرية الأولى تتلون وتتشكل وتتعمق وتتسع، حتى أصبحت وكأنها شيء آخر؛ وذلك أني ارتفعت بالفكرة إلى فلك التحليل العقلي، فإذا بأنسال لها تتفجر من جوفها، وكان من تلك الأنسال المتفرعة التفرقة بين «العلم» و«الهوى»، ومن الهوى ما يذهب إليه الإنسان من أحكام على الناس والأعمال والأشياء، لا عن تحقق من الواقع كما وقع، بل عن تحيز مسبق مع الشيء المحكوم عليه أو ضده، وعلى أساس هذه التفرقة المبدئية تقوم الفواصل بين ما هو «علم» يشترك في صحته أهل الأرض جميعا على معيار واحد، و«عاطفة» تميل أو تنفر، تحب أو تكره، تغضب أو ترضى، فإذا ارتقى فرد من الناس أو أمة من الأمم، عرفت كيف تفرق بين ما هو «علم» وما هو «عاطفة» بمقدار ما ارتقت، ولئن كان للعاطفة وأحكامها رخصة الجموح، اعتمادا على أنها لا تعبر إلا عن صاحبها وحده، دون أن تحمل معها دليلا على أن الشيء الخارجي هو في حقيقته على الصورة التي رآها العاطف بعاطفته، أقول: لئن كان لأحكام العاطفة رخصة الجمود والجنوح، فليس لأحكام «العقل» من رخصة يتجاوز بها حقيقة الأمر، كما هو واقع تراه الأعين، وتسمعه الآذان وتمسه الأيدي، وكما أن الاحتكام إلى العقل وقيوده كلما كان الشيء المحكوم عليه أمرا يهم الناس أن يعلموا عنه الحق، هو معيار يقاس به ارتقاء الفرد من الناس أو الأمة من الأمم، فطغيان العاطفة على الحياة بكل ما رأيناه للعاطفة من جنوح عن الحق وجموح عن العدل، إنما هو معيار كذلك لكنه معيار يقيس ما قد تردى فيه الفرد، أو ما تردت فيه الأمة من تخبط ومن جور.
تلك - إذن - كانت «فكرة» وذيولها تعلقت بها محورا أدير عليه النظر والتفكير والفصل بين مواضع النقص ومواضع الكمال، أو ما يتجه نحو الكمال، في حياتنا، فإذا عقبت عليها بفكرة ثانية كانت هي الأخرى باكرة الظهور في حياتي النظرية، وأعني حياة الفكر المتأمل الحر، قلت إنها فكرة «العظمة» في عظماء الرجال والنساء من كان منهم، ومن هو كائن بأي العناصر تقوم، لقد رأيتها منذ البداية «فكرة» جديرة بالنظر الفاحص والتحليل الدقيق لماذا؟ لأن صورتها في الأذهان ثم إخراج تلك الصورة فيما يكتبه الكاتب، هو الموجه الذي يوجه الوالد في تربية أبنائه، ويوجه الدولة في تنشئتها للجيل الجديد، ولست أريد بذلك أن عظمة العظماء قد هانت لتصبح ملكا مباحا لأبناء الأمة جميعا، فذلك مطمع تأباه طبائع الأمور، بل أردت أن تصورنا لعظمة العظيم - فردا أو شعبا - يرسم غاية عليا من شأنها أن تعين على اتجاه السير إلى أين يكون؟ وهذا جانب لا يستهان به لمن شاء لنفسه أو لولده أو لأمته أن تهتدي في سيرها إلى جادة الطريق.
ولقد بدأت فكرة «العظمة» عندي أول الأمر - كما بدأت فكرة الخلط بين عقل وعاطفة - على كثير من الغموض، ثم جاءت خبرة السنين لتجلوها ولتزيدها غزارة واتساعا، وربما كان بيت «المتنبي» عن «العظيم» أول ما نبهني إلى أهمية الفكرة، وهو بيت يقول فيه:
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
وإني لأذكر الآن كيف امتلأت إعجابا بهذا البيت عندما وقعت عليه أول مرة، وحفظته وأخذت أعيده لأمتع سمعي بموسيقاه، لكنني في شك كل الشك في أن أكون في تلك السن الصغيرة قد أدركت أبعاد المعنى وأغواره، وأقل ما يقال في هذا الصدد هو السؤال عن «صغار» الأمور ما هي؟ وما هي «عظائم» الأشياء؟ فقد يكون أمر معين صغيرا في عين زيد، عظيما في عين خالد، فماذا يكون مرجعنا الذي نستند إليه في التفرقة بينهما على أساس صحيح؟
وإذا ألقيت سؤالا على نفسي الآن لكان لي جواب لم يكن ليخطر على ذلك الفتى الصغير وهو يردد بيت المتنبي معجبا، فمن أبرز العناصر في عظمة العظيم كما أراها أن يتمثل عصره ويمثله تمثلا وتمثيلا يعينانه على معرفة جوانب القوة وجوانب الضعف في حياة عصره. وهنا تأتي الصفة الثانية من صفات العظيم، وهي أن يحمل تبعة المصير لتلك الحياة وكأنها كلها حياته هو، فترتسم في ذهنه صورة تثبت ما هو قوة في عصره وتنفي ما هو ضعف، وعلى أساس ذلك التصوير يبدأ كفاحه وجهاده نحو التغيير والتطوير للمجتمع كله، نحو ما هو أفضل فيما كان قد رأى، وإن وسائل الكفاح والجهاد لتختلف بين العظماء باختلاف مواهبهم؛ فالقلم أداة لهذا والحرب أداة لذلك والثورة خطة لثالث، والتعليم والإعلام سبيل لرابع وهكذا.
وانظر إلى أبطال التقدم البشري على مدى التاريخ فمن هم؟ إنهم رجال تمثلوا عصورهم وكأن كلا منهم كان هو عصره، فعرف أين يقع النقص فدفعته العظمة الكامنة في جبلته أن يتبنى قضية الإصلاح، وكأنما الله سبحانه وتعالى قد خلقه بهذا الواجب الإنساني الملزم، وخير ما نقرؤه تنويرا لأنفسنا في هذا الجانب من الفكرة، هو كتاب «كارلايل» عن البطل والبطولة «وأظنه قد ترجم إلى العربية»، ولست أرى أن التركيز على عظمة العظيم إجحاف بالجمهور ودوره في حركة التقدم؛ لأن العظيم إنما امتص خبرته من معايشته لمواطنيه، بل وللإنسانية كلها متمثلة في تاريخها وتراثها.
نامعلوم صفحہ