وبعد هذا فلننظر إلى الكثرة الغالبة مما تخرجه المطابع من مؤلفات، المفروض فيها أنها تعكس اهتماماتنا الفكرية والأدبية كما هي قائمة، فكم منها يتم عن صلة مباشرة بين المؤلف، وما تعج به حياتنا في جميع مستوياتها من مشكلات؟ وكم منها هو في مادته لم يزد على كونه تعليقا على ما قد ورد في كتب، أو إعادة لما قد ورد في كتب، أو شرحا لما قد ورد في كتب؟ وبعبارة قصيرة: كم منها قد جاء «كلاما عن كلام» بعبارة أبي حيان التوحيدي؟ إنني أزعم - وقد أكون مخطئا فيما أزعم - أن معظم ما تجري به أقلام المؤلفين عندنا، هو بمنزلة أصداء تردد أصواتا نطق بها سوانا، أقلها أصوات عبرت إلينا البحر لتنقل شيئا مما قاله أبناء الغرب، وأكثرها عبرت إلينا آماد الزمن لتنقل إلينا أشياء مما قاله الآباء الأولون، والحاصل النهائي من ذلك، هو أن أصبحت رءوسنا في واد، يصلح للنزهة العقلية والنفسية، أكثر مما يصلح للأخذ بأيدينا في حل مشكلاتنا، وأما أبداننا في واد آخر، تعاني وتكابد، ولا تجد عند صاحب الرأي إلا قليلا مما عساه أن يسهم في مواجهة تلك المكابدة والمعاناة.
وإنصافا للأدباء والشعراء، الذين يبدعون ما يبدعونه تعبيرا وتصويرا لحياتنا، كما يحسونها في أنفسهم، وكما يرونها فيما يحيط بهم، فلا بد أن نشيد بكثير مما يقدمونه إلينا ليضعوا أصابعنا على نبض الحياة الحقيقية، بما يملؤها من ألم ويأس وقهر جنبا إلى جنب مع ما تضطرم به من توثب وطموح، فلولا شعر الشعراء اليوم، لما أحسسنا إلا بالقليل مما تتأزم به صدور الشباب، وحتى حين يكون الشعر المعروض كسيح القوائم التي من شأنها - لو قويت أصلابها، واستقامت دعائمها - أن تصنع شعرا تقرؤه الأجيال القادمة كما يقرؤه هذا الجيل، أقول إنه حتى حين يجيء شعر الشعراء هزيل البنيان، فهو يشف عن كثير مما يعانيه أبناء هذا الجيل، من قنوط وإحباط وعزوف عن الحياة.
فموضع الشكوى - إذن - يكاد ينحصر في حياتنا الفكرية، وأعني بها الحياة «العقلية» التي من شأنها - لو استقامت بها الطريق - أن تبث في الناس موجهات السير، فإذا كنا قد ذكرنا فيما أسلفناه أن الحياة العملية الحرفية من زراعة وصناعات تقليدية، ينقصها أن يكون وراءها نشاط علمي، يضيء لها طريق الانتقال من أسلوب قديم إلى أسلوب جديد، فليست العلة في تلك الحياة العملية ذاتها، وإنما هي في ضعف الروح العلمية منهاجا وإبداعا، بمعنى أن الحقائق العلمية المطلوبة للنهوض قد تكون متوافرة لعلمائنا، داخل الجامعات وخارج الجامعات، لكن ربط هذه الحقائق العلمية بدنيا العمل الحرفي التطبيقي ليس على المستوى المطلوب، ثم ما هو أفدح من ذلك خطرا، وهو أن النظرة المنهجية العلمية، لم تنتقل - كما كان ينبغي لها أن تفعل - من داخل الإطار الأكاديمي الصرف ، إلى الحياة العريضة التي يعيشها الناس بمن فيهم العلماء الأكاديميين أنفسهم، الذين كثيرا جدا ما يقصرون دون أن ينقلوا معهم النظرة العلمية من داخل المعامل والمكتبات، ومراكز البحث ومعامل الأنابيب والمخابير، إلى حيث حياة الناس الجارية في البيت والشارع، بمعنى أن يشيعوا في حياتهم الخاصة أولا، وفي الحياة الاجتماعية العامة ثانيا، عادة إقامة الرأي على أسس التجربة الحسية بالواقع من جهة، وعلى مراعاة الرابط السببية الصحيحة، من جهة أخرى، ولو فعلوا لانزاحت عن حياتنا الكوابيس الخانقة، التي أحدثتها هلوسة الهواجس، مما تضطرب به جوانح شبابنا، فتذبل فيهم نضارة الشباب وطموحه وأمله في مستقبل مشرق يصنعه بقلمه وبجهده، كل ذلك تذبل نضارته في الشاب قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره.
ومع هذا القصور كله في الحياة «العلمية»، فتقصيرها لا يكاد يذكر إذا قيس بضحالة العمق، والتواء السبيل، في حياتنا «الفكرية» بالمعنى العام لكلمة «فكرة»، وهو المعنى الذي يجعل «الأفكار» الأساسية الموجهة لحياة الإنسان، شيئا يختلف عن الإبداع الأدبي والفني في ناحية، كما يختلف عن «العلوم» في ناحية أخرى؛ ففي الثقافات جميعا، على اختلاف أقطارها واختلاف عصورها مجموعة «أفكار» يغلب عليها أن تكون حاملة «للقيم» في مضامينها؛ كفكرة «الحرية» أو «العدالة» أو «التعاون» إلخ إلخ، كما يغلب عليها كذلك أن تكون قد جاءت إلى الإنسان مع الرسالات الدينية، ومما تتميز به تلك المجموعة من الأفكار الموجهة للإنسان نحو الحياة المثلى، أنها عسيرة التحديد؛ إذ هي مرنة الحدود في معانيها مرونة تتيح للناس، مهما كانت منزلتهم الثقافية أن يكون لهم نصيب من استيعابها، وتمثلها في سلوكهم بدرجة لا تتناسب قدرا مع مرحلتهم الحضارية، ومن هذه المرونة جاء غموضها ووضوحها متلازمين، فهي غامضة إذا أريد تعريفها تعريفا منطقيا جامعا مانعا، وهي واضحة إذا اكتفى الإنسان بلمعة النور الهادية، والتي يكاد يدركها بفطرته بغير تعليم وتلقين.
والذي أزعمه عن حياتنا الثقافية اليوم، هو أن هذا الجانب الفكري منها الذي لا هو إبداع أدبي أو فني، ولا هو من زمرة العلوم، قد ضعفت في نفوسنا نبرته وفترت في سلوكنا دفعته المحركة الموجهة، وربما نتج ذلك بسبب ضحالة من ننعتهم «بالمفكرين» ضحالة نشأت عن أكثر من سبب واحد، فهنالك الظروف الاجتماعية والسياسية التي مالت بالناس نحو رفض عصرهم، هروبا إلى الماضي ليختاروا منه ركنا آمنا هادئا، لا يتعرضون فيه لعواطف الأقوياء الذين هم أعداؤهم ومستعمروهم، والقابضون على رقابهم بقوة العلم أولا، وقوة المال التي ترتبت على نتائج العلم ثانيا، وقوة السلاح التي نتجت عنهما معا، وبديهي أن الهارب من عصره محتميا بماضيه مضطر إلى اجترار «الأفكار» الموجهة التي أشرنا إليها، لا بكل مضموناتها الجديدة، بل بمضموناتها التي كانت لها في عصر مضى، والتي لا بد بالضرورة الحتمية، أن تكون أقل غنى في تفصيلاتها مما هي عليه اليوم، فمثلا، إذا رفعنا لواء «حقوق الإنسان» كان المعنى الذي أردناه مقتصرا على جوانب معينة دون الجوانب الأخرى، مما أصبح عصرنا يفهم «حقوق الإنسان» على أساسه، فإذا أضفنا إلى فقرنا «الفكري» هذا، هزال «التعليم» هزالا يحد من طموحنا، إلى الحد الذي نتوهم فيه أن النقل عن علوم الغرب، وعن صناعات الغرب دون مشاركة الغرب مشاركة إيجابية في التقدم العلمي والصناعي، هو نصيبنا الأوفى من عصرنا، وهو موقف مستكين هزيم مدحور، ساعد أقوياء الغرب على أن تكون لهم الغلبة والسلطان، حتى أصبحنا وكأنه من طبائع الأمور أن يعملوا هناك، وأن يعلموا وأن يبدعوا وأن يغامروا ويقتحموا المجهول، وأن نمد نحن أكفنا سائلين ما ينعمون علينا به من صدقات في هذا كله، على أن تكون صدقات ندفع أثمانها من أموالنا ومن كرامتنا معا.
تلك - إذن - هي بعض عناصر الموقف الراهن، نلخصها في سطرين بقولنا: إنه إذا كانت مكونات البناء الثقافي، لأي شعب من شعوب البشر، هي على وجه الإجمال، دعامتان بينهما وسط؛ فأما أولاهما فهي دعامة «العلم» بكل فروعه، على أن نفهم العلم فهما صحيحا يشترط فيه أن يكون «المنهج» الخاص الذي يمارسه الباحثون العلميون - هو المميز له عن الدعامة الثانية - وأما هذه الدعامة الثانية فهي طريق الإبداع الأدبي والفني، وأما الوسط الذي بين الدعامتين فهو «الأفكار » حاملة القيم وموجهة الإنسان في حياته، وأغلب تلك الأفكار قد جاء مع الرسالات الدينية؛ ففي دنيا العلوم نرى أن موقفنا هو موقف المعتمد اعتمادا تاما ومطلقا على ما ينتجه الغرب، والحمد لله على ذلك؛ إذ كان يمكن أن نترك الغرب في علومه لا ننقل عنه شيئا منها، فتكون الطامة طامتين، وفي دنيا الفن والأدب قد أخذنا عن الغرب بعض أشكاله الفنية والأدبية؛ كالتصوير، والنحت، والعمارة، والرواية، والمسرحية. ولقد وفقنا - بحمد الله - إلى ملء تلك الأشكال جميعا بمضمونات من واقع حياتنا، فكان لنا فن وكان لنا أدب يستحقان الإشادة بهما؛ لأنهما كانا وسيلتين نافذتين لتصوير حياتنا من الداخل، مما أدى بنا - دون أدنى شك - إلى الإحساس بأنفسنا إحساسا جديدا، يمازجه قلق يحفزنا إلى ضرورة التغيير نحو ما هو أكمل وأقدر على مواجهة العصر ومشكلاته.
وبقي الوسط القيمي الذي يتوسط الدعامتين، فها هنا نجد أخطر مواضع النقص في حياتنا، إن هذا الوسط الفكري مفروض فيه أن يمد أطرافه إلى يمينه حيث دعامة الفن والأدب وإلى يساره حيث دعامة العلوم؛ لكي يغذيهما معا بالقيم والأهداف، التي بغيرها تكون تلكما الدعامتان كالسفينة السابحة على سطح المحيط، وليس فيها ربان يوجهها نحو ميناء الوصول، ووجه النقص عندنا فيما يختص بالوسط الفكري، هو أننا نحفظ أسماء الأفكار القيمية حفظا جيدا، فأيسر اليسر لأي ناشئ - ودع عنك الراشدين الدارسين - أن يكر أمامك كرا سريعا، أسماء «الحرية» و «العدالة» و«الكرامة» و«التعاون» إلخ إلخ، وأن يضيف إلى القائمة حاشية لا ينسى ذكرها في فاتحة القائمة وفي خاتمتها، وهي أن تلك القيم جميعا عرفناها نحن منذ أقدم القدم قبل أن تعرف الدنيا سائر الأمم، أما أن تسري في تلك القيم المحمولة في جوف الأفكار التي ذكرناها، دماء الحياة تتحول من كونها قائمة محفوظة بالذاكرة ومكرورة على اللسان، إلى أن تكون عادات سلوكية، نسلكها في حياتنا اليومية، حتى دون أن نتذكر أسماءها، فذلك شيء آخر لا مكان له عندنا، ويكاد يكون كذلك إلا على سبيل الادعاء.
وبعد أن فرغت من كتابة ما قد أسلفته، تركت القلم، وظللت أنظر إلى الأوراق المكتوبة بعين سارحة وبذهن شارد؛ إذ أحسست كأنما ضاعت مني النتيجة التي كنت أزمعت انتزاعها من هذا الذي قدمته، وهكذا لبثت في فراغ فعلي مخيف فترة ربما اقتربت من ساعة كاملة، وفجأة كما حدث لأرشميدس، حين نزل بجسمه حوض الحمام وذهنه مشغول بمسألة تاج الملك الذي أراد الملك من أرشميدس أن يبحث له عن طريقة يعرف بها إن كان التاج من ذهب خالص أم خلطه صانعوه بمعادن أخرى، أقول إنه كما حدث لأرشميدس حين لمع رأسه بالحل المطلوب لحظة أن نزل بجسمه في ماء الحوض وارتفع الماء نتيجة الجزء الذي تغطس فيه من جسمه، فأدرك أرشميدس طريقه إلى الحل، فصاح كالمجنون: وجدتها! وجدتها ... حدث لي أن وجدت النتيجة التي كنت أبحث عنها، فإذا كان السؤال المطروح أمامنا هو: ما علة قصورنا الفكري؟ لماذا لبثنا طويلا نتبع سوانا ولا تكون لنا الريادة أو بعضها؟ فكان أن انبثق لي جواب مما قدمته بين يديك، وهو أن حياة الفكر بل حياة البنيان الثقافي بكل أجزائه مرهونة بالوشائج الحميمة، التي تربط ذلك البنيان بدنيا الواقع إلى دنيا الأشياء والأحداث، وبمقدار ما يتحقق ذلك الرباط تتحقق الحياة، ولنبدأ النظر من العام ثم ننزل به إلى الخاص، فمعلوم لنا بصفة عامة أن أوروبا حين نهضت من عصورها الوسطى، كان سر نهوضها هو أن خرجت من بطون الكتب التي غرقت في صحائفها إلى قمة رأسها، خرجت إلى عالم الأشياء، إلى دنيا الواقع تقرأ كتاب الكون لتضيفه - ولا أقول ليحل محل الكتب - بل أقول لتضيفه علما جديدا إلى علم قديم، وهنا وقف العالم العربي مكانه من الورق وما كتب عليه، ترك أوروبا لتنفرد وحدها بكتاب الطبيعة، فكان ما كان لها من وثبات في فض الأختام عن كثير من أسرار العالم، ثم كان ما كان للأمة العربية من وقوفها تعيد ما كانت قد بدأت وفرغت منه، ثم تعيده كرة ثانية وثالثة، إذن فهذه واحدة بينهم وبيننا، إذا انتقلنا من عموميتها إلى تفصيلات بنائنا الثقافي، بأجزائه الثلاثة التي حدثتك عنها وهي دعامتان: للأدب والفن دعامة وللعلوم دعامة ثانية، وبينهما وسط موصول بهما هو مجموعة الأفكار الكبرى الموجهة للإنسان، وجدنا أننا تقدمنا في تلك الأجزاء بخطوات غير متساوية ولا متزامنة، وكان الأساس في ذلك هو نفسه الأساس العام الذي فرق في سرعة التطور بين الغرب وبيننا، فحيثما التحم الجانب المعين من جوانب البناء الثقافي بدنيا الواقع، انتفض بالحياة وسار على الطريق، وحيثما عزل نفسه عن الواقع قانعا بعبارات من هنا وهناك، يحفظها ويرددها، أجمدت فيه الحركة ووقف حيث كان، ولقد أسلفت لك أن حياتنا الفنية والأدبية، جاءت من الغرب بأشكال جديدة وملأتها بمضمون حي من حياتنا، فتقدم الأدب والفن بمقدار ما تحقق ذلك، ثم اكتفينا في دنيا «العلوم» بالنقل عن الغرب، فكان منا «المتعلمون» ولكن لم يكن منا «العلماء» بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، الذي هو الإضافة الجديدة المهمة التي ما إن تحدث حتى يسرع العالم كله إلينا ليأخذ عنا.
وبقي عالم «الأفكار» التي تحمل معايير السلوك في مضمونها، وتعين الإنسان على التمييز بين ما يصلح أهدافا وما لا يصلح، فأزعم أن موقفنا من تلك الأفكار هو موقف الحفظ والتسميع، دون أن نغفل إلا قليلا مما يفرض فيها أن تفعله، فلا نحن وفقنا إلى السلوك الصحيح المثمر، ولا نحن عرفنا كيف نحدد أهدافنا على هدى، فكان أن عاشت الدنيا المتقدمة مع «الأشياء» تعالجها، وتخرج منها علما وحياة علمية تستقيم بالقيم الإنسانية، كما أصبح العصر يفهمها وقنعنا نحن بالعيش في ظلال تلك الحقائق، وكأننا في غفوة من هواجس الحالمين.
لولا اخترقنا هذا الجدار
نامعلوم صفحہ